توت عنخ آمون

ومن تلك المقابر التي ظفرت بعناية شوقي وإبداعه مقبرة توت عنخ آمون، وما وجد فيها من آثار ظفرت بإعجاب العالم أجمع عندما كشف عنها.

وقد نظم شوقي فيها عدة قصائد: منها تلك القصيدة التي بدأها بمناجاة الشمس وسؤالها عما حدث في القرون الماضية لأنها رأت مصارع الأمم وسقوطها، فجدير بها أن تروي الأخبار وتعرف أنساب الناس وهي التي تلد ثم تأكل ما ولدت، وفي ذلك يقول شوقي:

قفي يا أختَ يوشَعَ خبِّرينا
أحاديث القرون الغابرينا١
وقُصِّي من مصارِعِهم علينا
ومن دُوَلاتِهم ما تعلمينا٢
فمثلك من روى الأخبارَ طُرًّا
ومن نسب القبائل أجمعينا٣
نرى لكِ في السماء خضيبَ قَرْنٍ
ولا نُحصي على الأرض الطعينا٤
مَشَيْتِ على الشبابِ شواظ نارٍ
ودُرْتِ على المشيب رحًى طحُونَا٥
تُعينين الموالدَ والمَنايا
وتبنين الحياة وتهدمينا
فيا لكِ هرَّةً أكلت بنيها
وما ولدوا، وتنتظر الجنينا

وهذه المناجاة مناسبة كل المناسبة لحديثه عن هذا الملك المصري القديم، فهو — كما زعموا — ينحدر من الشمس من ناحية، وقد شاهدت الشمس ملكه وملك آبائه ومن جاء بعده من ناحية ثانية.

وينتقل شوقي من مناجاته للشمس واهبة الحياة والموت إلى حديثه إليها أُمًّا لملوك مصر القديمة، مباهيًا بهؤلاء الملوك، ممتلئ القلب إعجابًا بأمجادهم؛ فقد رآهم ملوكًا جديرين بالملك، أناروا الأرض بحضارتهم، حينما كانت الدنيا في ظلام دامس، وكان الناس يعيشون في ضلال مبين، أخذت روما من حضارتهم، واقتبست أثينا من نور علمهم؛ إذ يقول:

أأمَّ المالكين بني أمون
ليَهْنِكِ أنَّهم نزَعوا٦ أمونا
ولدتِ له المآمين الدَّواهي
ولم تلِدِي له قطُّ الأمينا٧
فكانوا الشُّهْبَ حينَ الأرضُ ليلٌ
وحين الناسُ جِدُّ مضلَّلينا
مشَتْ بمنارِهِم في الأرضِ روما
ومن أنوارهم قبست أثينا

ويمضي شوقي مليئًا بالفخر يتحدث عن هؤلاء الملوك الذين اتخذوا قبورهم في وادي الملوك، محجبين كما كانوا في حياتهم محجبين بالجلال. إنهم اليوم مقيدون في حياتهم تُساق لهم الملوك أسرى في القيود والأغلال. وتنطلق صيحة إعجاب من شوقي بهم، فيرى أن أعمالهم المجيدة خارقة للسعادة كأنها السحر، ويرى من مظاهر هذا السحر أنهم ينطقون الحجر الأصم بما يقومون به من إتقان تنطق بما يراد منها. لقد أغرموا بالخلود، فعمدوا إلى بناء الآثار الخالدة التي تقوم على دعائم من الخلق المتين، وإتقان ما يصنعون، وأن الخلد لا ينال في سهولة ويسر؛ لأنه يحتاج إلى الهمم الكبيرة، والعبقرية الخارقة التي يمجدها التاريخ، وتدع الدنيا لسان ثناء، وأذنًا تصغي إلى مجد الخالدين:

ملوك الدهر بالوادي أقاموا
على وادي الملوك محجبينا
فرب مُصَفَّدٍ منهم، وكانت
تُساقُ له الملوكُ مصفدينا٨
تقيَّد في التراب بغير قيد
وحلَّ على جوانبه رهينَا
تعالى الله كان السِّحْرُ فيهم
أليسوا للحجارة مُنطِقينا؟!
عدَوْا ينبون ما يبقَى، وراحوا
وراء الآبداتِ مخلَّدينا
إذا عمدوا لمأثُرةٍ أعدُّوا
لها الإتقانَ والخلق المتينا
وليس الخلدُ مرتبةً تُلَقَّى
وتؤخذُ من شِفاهِ الجاهلينا
ولكن منتهى هِمَمٍ كبار
إذا ذهبت مصادرها بقينا
وسرُّ العبقرية حين يسري
فينتظمُ الصنائعَ والفنونا
وآثار الرجال إذا تناهت
إلى التاريخ خيرِ الحاكمينا
وأخذُك من فمِ الدنيا ثناءً
وتركُكَ في مسامعها طنينَا

ويعقد شوقي موازنة بين شباب اليوم وشباب الأمس فيرى شباب اليوم قانعين بالكلام دون العمل، ويغالون في تقدير ما يفعلون وإن كان ضئيلًا فيسخط شوقي ويقول:

فغالي في بنيك الصِّيد غالي
فقد حُبَّ الغلوُّ إلى بنينا
شبابٌ قُنَّعٌ لا خيرَ فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا

ويعود إلى الفخر بعرش مصر القديم الذي كان أخًا لعرش الشمس، وكان يتحلى بالعزة والجلال، ويقوم على دعائم من القوة في البر والبحر ويكلأ أمجاد ملوكه من أمثال رمسيس وخوفو ومينا الذين ارتفعت رءوسهم عزة وكبرياء وأبوا أن يخضعوا وأن يذلوا:

فناجيهم بعرش كان صِنوًا
لعرشكِ في شبيبته سَنِينَا٩
وكان العز حليته، وكانت
قوائمه الكتائبَ والسفينا
وتاجٍ من فرائده ابن سيتى
ومن خَرَزاته خوفو ومينا١٠
علا خدًّا به صعرٌ، وأنفًا
ترفَّع في الحوادث أن يدينا١١

ويتعرض شوقي للدفاع عن هؤلاء الملوك، ويرد على من زعم أنهم ظلموا الرعية، وعسفوا بالعمال وجلدوا الخدم في سبيل إقامة هذه الآثار؛ وذلك أننا في أيامنا التي نعيش فيها ناقصون فلا يليق بنا أن نطالب الأولين بالكمال، وليس أدل على هذا النقص من سجن الباستيل بفرنسا؛ فقد كان يخفي وراء جدرانه سجناء أكل الحديد أجسامهم، ومن هذه البِيَع التي ارتفعت على أكتاف الظلم والسخرة، وكم ارتُكبَ في بنائها من ألوان القسوة، برغم أنها شيدت لرسول الحب والحنان:

ولستُ بقائل: ظلموا، وجاروا
على الأُجَرَاء، أو جلدوا القطينا١٢
فإنا لم نُوَقَّ النقص، حتى
نُطالب بالكمالِ الأوَّلينا
وما البستيل إلا بنت أمسٍ
وكم أكل الحديدُ بها سجينَا
ورُبَّةَ بيعَةٍ١٣عزَّت، وطالت
بناها الناس أمسِ مسخَّرينا
مشيَّدَةً لِشافي العُمْيِ عيسى
وكم سمل١٤ القسوسُ بها عيونَا

وبعد حديثه إلى اللورد كارنارفون الذي كشف عن قبر توت عنخ آمون، وتسجيله ما ذاع من أخذ بعض كنوز هذا القبر، يأتي الحديث عن قبر الملك الدفين فيخصه بالتحية، ويرى القبر لحسنه وطيبه تكاد حجارته تضيء، ويكاد طيبه تنتشر له رائحة زكية، ويخيل لرائيه أن حجارته لقداستها قد اقتُطعت من جبل طور سيناء، الذي تجلى الرب عنده لموسى.

لقد كان نزيله يدعى ملكًا، فصار اليوم يسمى كنزًا ثمينًا، لكن ذلك لا يحول دون الهتاف له كما كان بنو شعبه يهتفون، إذ لم ينقص له مقدار، فلا تزال له مهابته وجلاله الذي استمر برغم مرور القرون الأربعين التي مرت منذ عهده، بل إن جلال الملك أيام تنقضي، ولا ينقضي جلال الخالدين.

ويرحب شوقي بالملك القادم، ويُحيِّي مقدمه المبارك، ويهدي إليه السلام يوم مات، ويوم كشف قبره. لقد ظهر إلى الوجود كما ظهر عيسى، عليه جلالة ووقار، وأخذ اسمه يجوب أرجاء العالم سهوله وجباله:

خليليَّ، اهبطا الوادي، وميلا
إلى غرَفِ الشموس الغاربينا
وسيرا في محاجرهم١٥ رويدًا
وطوفا بالمضاجِع خاشعينَا
وخَصَّا بالعَمار وبالتَّحايا
رُفاتَ المجدِ من توتنخَمِينا
وقبرًا كادَ من حُسْنٍ وطيب
يُضيء حجارةً، ويضوعُ١٦ طينَا
يُخالُ لروعة التاريخ قُدَّت
جنادله العُلا من «طور سينا»
وكان نزيلُهُ بالملْكِ يُدعى
فصار يلقَّب الكنز الثمينا
وقُومَا هاتفين به، ولكن
كما كان الأوائل يهتفونا
فثم جلالة قرَّت، ورامت١٧
على مرِّ القرون الأربعينا
جلالُ الملكِ أيامٌ وتمضي
ولا يمضي جلالُ الخالدين
وقولا للنزيل: قدوم سعدٍ
وحيَّا الله مقدمك اليمينا١٨
سلامٌ يومَ وَارتْك المَنايا
بواديها، ويوم ظهرتَ فينَا
خرجتَ من القبور خروج عيسى
عليك جلالة في العالمينا
يجوبُ البرقُ باسمك كلَّ سهلٍ
ويخترقُ البخارُ به الحُزُونا١٩

ويسأل شوقي توت عنخ آمون عن فراقه لهذه الحياة الدنيا: أكان قصيرًا كأنه سنة نوم، أم طال فاستغرق السنين الطوال؟ وكيف قطع في ظلام القبر ليلًا طويل الأمد، لا يصل المرء إلى صبحه إلا بعد عناء وضنى؟ ويسأله عن سر الاحتفاظ بالجسد بعد موته، وهل ذلك لأن النفوس تبقى ما دامت أجسامها باقية، وتفنى إذا فنيت هذه الأجسام.

ويسأله عن قباب هذا القبر، وكيف ظلت مجهولة طول هذه القرون. إنها قباب ملساء يظنها الرائي برجًا مدفونًا في باطن الأرض، امتلأ بالأثاث فصار كأنه القصر، وتغطى بالصور فبدا كأنه المعبد.

ويعجب شوقي من حرص الملك على أن يدفن العرش معه، فهل ذلك لأنه يؤمل عودة إلى الحياة، ويكون له حينئذٍ مُلك ودَولة، أو لأنه سيبقى لكن وهو جالس على عرشه في حين يلقاه الناس مترجلين؟

ويعجب من الطعام وقد ظل ذا رائحة طيبة ومذاق طيب كما تركته أيدي صانعيه، لقد كان الملك لا يصبر عن الطعام يومًا، فكيف صبر هذه المئين من الأحقاب؟

ثم يقول للملك: لقد حدث ما كان قومك يخافون؛ لأن الإنسان يحب أن ينبش أخاه حيًّا وهالكًا، وها أنت ذا قد أُخرجت من القبر يوم البعث، وسوف يأتي اليوم الذي تُبعث فيه حقًّا إذا كان بعثك ليس بهذا البعث الموعود.

وما قيمة صيانة جسمك بعد الموت؟ إنك لا تحس بأذًى بعد أن تفارق الحياة، ولا تشعر بألم، وإنما يشعر بذلك الأحياء. ولننصت إلى هذه المفاجأة الرائعة إذ يقول شوقي:

تعالَ اليومَ أخبرنا: أكانت
نواكَ سِناتِ نومٍ أم سنينا؟٢٠
وماذا جُبْتَ من ظُلُماتِ ليلٍ
بعيدِ الصُّبح يُنْضي المُدلجينا؟٢١
وهل تبقى النفوس إذا أقامت
هياكلها، وتَبْلى إن بلينا؟
وما تلك القبابُ وأين كانت
وكيف أضل حافرُها القرونا؟
ممرَّدةَ٢٢ البناء تُخالُ بُرجًا
ببطنِ الأرض محطوطًا دفينَا
تَغَطَّى بالأثاثِ، فكان قصدًا
وبالصُّوَرِ العِتاقِ، فكان زُونَا٢٣
حملتَ العرشَ فيه، فهل تُرَجِّي
وتأمُلُ دولةً في الغابرين؟٢٤
وهل تلقى المهيمنَ فوقَ عرشٍ
ويلقاه المَلا مترجِّلينا؟
وما بال الطعام يكاد يُقْدَى٢٥
كما تركته أيدي الصانعينا؟
ولم تكُ أمس تصبر عنه يومًا
فكيف صبرتَ أحقابًا٢٦ مئينَا
لقد كان الذي حذر الأوالي
وخاف بنو زمانك أن يكونا
يحب المرء نبش أخيه ميتًا
وينبشه، ولو في الهالكينا
سُلِلْتَ من الحفائر قبل يوم
يَسُلُّ من التراب الهامدينا
فإن تكُ عند بعث فيه شَكٌّ
فإن وراءه البعثَ اليقينا
ولو لم يعصموك لكان خيرًا
كفى بالموت معتصمًا حصينَا
يُضَرُّ أخو الحياةِ، وليس شيءٌ
بضائره إذا صحِبَ المنونَا

ثم يحدث الملك بأن الحكم المطلق قد انقضى، وحل مكانه حكم الشعب لنفسه، وأصبح الملوك ينزلون على حكم رعاياهم، وهكذا لم ينسَ شوقي وهو في غمرة الفخر تلك اللمحة إلى ما حدث في الحكم من تطور وتجديد؛ وذلك إذ يقول:

زمانُ الفردِ يا فرعون ولَّى
ودالت٢٧ دولةُ المتجبرينا
وأصبحت الرُّعاة بكل أرضٍ
على حكمِ الرعيةِ نازلينا٢٨

أما القصيدة الثانية فقد تحدث فيها عن توت عنخ آمون، وهو في مجال ذكرى مكتشف قبره: «كارنارفون»، وهو في هذه القصيدة يتحدث عن أوبة الملك المصري القديم، وأنها ليست أوبة البعث، ويرجو أن يُترك حيث هو في قبره بعيدًا عن مظاهر الحكم والسلطان، لا أن يُحمل، كما كان يُحمل في حياته، فوق الرقاب؛ لأن الحاكم المستبد يطاق في قبره لا فوق عرشه:

ما آب جبَّارُ القُرونِ، وإنما
يومُ الحسابِ يكون يومَ إيابه٢٩
فذروه في بلد العجائب مُغمدًا
لا تُشهِروه كأمسِ فوقَ رقابه٣٠
المستبدُّ يطاقُ في ناووسه
لا تحت تاجَيه، وفوق وِثابه٣١
والفردُ يؤمَنُ شرُّه في قبره
كالسيف نام الشرُّ خلف قِرابه٣٢

ويستبعد الشاعر في هذه القصيدة أن يكون توت عنخ آمون قد تقمصت روحه بعوضة حقيرة لدغت كارنارفون وقتلته؛ لأن الملك المصري وفيٌّ لصحبه، ولا يمكن أن يكون ذلك جزاء من كشف عن قبره، وعرف الناس به:

هل كان «توتنخ» تقمَّص روحُهُ
قُمُصَ البَعوضِ ومستَخَسَّ إهابه٣٣
أو كان يجزيك الردى عن صحبةٍ
وهو القديمُ وفاؤه لصحابه٣٤
تالله، لو أهدى لك الهرمين من
ذهبٍ لكان أقلَّ ما تُجزى به
أنت البشيرُ به، وقيِّمُ قصره
ومُقَدَّمُ النُّبلاءِ من حُجَّابه٣٥
أعلَمتَ أقوامَ الزمانِ مكانَه
وحشدتهم في ساحِه ورحابِه
لولا بنانك في طلاسم تُرْبِهِ
ما زاد في شرفٍ على أترابه٣٦

ويصف الشاعر ما قام به اللورد الراحل من جهود، فقد فض الختم فأرانا أزمانًا متطاولة، ونقلنا إلى فجر التاريخ، وكرَّ راجعًا إلى العصور القديمة حتى انتقل إلى فرعون في حياته العادية بين الطعام والشراب، متخذًا عرشه من عود المندل الطيب الرائحة، ومحليًا ثيابه باللؤلؤ الباهر الضياء، وكأنما الفاكهة قد جناها الجاني صباح اليوم لم يصبها تغير. لقد حوى القبر ما لم يستطع قصر غمدان أن يحويه، يقول شوقي:

أفضى الحِمامُ على أبيهِ همَّةِ نفسِه
في المجدِ والباني على أحسابهِ
أفضَى إلى خَتْمِ الزمانِ ففضَّهُ
وحبا إلى التاريخ في محرابه
وطوى القرونَ القَهْقرَى، حتى أتى
فرعونَ بين طعامهِ وشرابه
المَنْدلُ الفيَّاحُ عودُ سريره
واللؤلؤُ اللمَّاحُ وَشيُ ثيابه٣٧
وكأن راح القاطفين فرغن من
أثماره صبحًا، ومن أرطابه٣٨
جَدَثٌ حوى ما ضاقَ «غمْدان» به
من هالة المُلكِ الجسيمِ وغابهِ٣٩
بنيانُ عُمرانٍ، وصرحُ حضارةٍ
في القبر يلتقيان في أطنابه٤٠
فترى الزمانَ هناكَ قبل مشيبه
مثلَ الزمانِ اليومَ بعد شبابه
وتحسُّ ثم العلمَ عند عُبابه
تحت الثرى، والفن عند عجابه٤١

والشاعر هنا معجب بما في القبر من آثار، ويراها مظاهر عمران وحضارة باذخة لا تقل عن هذه الحضارة التي نعيش اليوم فيها، وتريك هذه الآثار أنها ثمرة علم ناضج متبحر، وفن تجاوز غاية الإعجاب.

ويؤكد هذا المعنى في القصيدة نفسها فيقول:

أخرجت من قبرٍ كتاب حضارةٍ
الفن والإعجاز من أبوابه٤٢

وخص شوقي توت عنخ آمون وحضارة عصره بقصيدة مطولة أخرى، بدأها بالحديث عن هذا الكنز الذي مضت عليه القرون، فازداد بمضيها قدرًا وقيمة. إنه كالسيف قد مضى الزمان عليه في غمده؛ حيث يقيم في مكان كأنه الغيب المكنون لا تصل إليه الظنون، حتى جاء العلم فكشف سره المصون، وأهل العلم كأهل بدر حلال لهم كل ما يصنعون.

لقد كشف العلم عن حضارة رائعة، وفن رفيع، واندس العلم يزيح الظلام عن أسرار هذه المخبآت وتلك الحفر المظلمة، وهذه الحُجر التي تشبه المعاقل المرتفعة، والحصون العالية التي لا تهتدي إليها الريح العاصفة، ولا الغيث المدرار، وقد لجأ إليها الملك يستأمنها على نفسه وثروته، فخانت هذه الأمانة يوم باحت بسرها الدفين.

درَجت على الكنز القرون
وأتت على الدَّنِّ السِّنون٤٣
خير السُّيوفِ مضى الزما
نُ عليه في خير الجفون٤٤
في منزل كمحجَّب الـ
ـغيبِ استسرَّ عن الظنون٤٥
حتى أتى العلمُ الجسو
رُ، فغضَّ خاتَمَهُ المصُون
والعلمُ «بدري» أُحِـ
ـلَّ لأهله ما يصنعون٤٦
هتك الحِجالَ٤٧ على الحضا
رةِ، والحذورَ على الفنون
واندسَّ كالمصباحِ في
حُفَرٍ من الأجداث جون٤٨
حجَرٌ ممردةُ المعا
قلِ في الثَّرى شُمُّ الحصون٤٩
لا تهتدي الريحُ الهَبو
بُ لها، ولا الغيثُ الهتون٥٠
خانت أمانةَ جارها
والقبرُ، كالدنيا، يخون

وينتقل شوقي إلى مناجاة للملك المصري، ويبدو في هذه المناجاة الحب والإعجاب؛ إذ يرى المصريين القدماء قد انفردوا بين العالم كله بحب الخلود، فربَّى ذلك في نفوسهم خلقًا يتميزون به من بين الناس جميعًا هو إتقانهم لكل ما يصنعون، ورغبتهم في إحسان ما يعملون.

وإذا كان الهدف الذي يسعون إليه هو الخلود، فإنهم ليسوا كالناس يبعثون بعد موت. ويسألهم شوقي أيسبقون العالم يوم القيامة كما كانوا السابقين في هذه الحياة الدنيا؟

ويبدو إعجاب شوقي بالغًا عندما يجعل المصريين القدماء أصل الحضارة، والمحسنين في إشادة أركانها، والمتقنين الذين نالوا الخلود بسبب هذا الإتقان.

وتلمسُ الحبَّ العميق والإعجاب البالغ عندما يقول شوقي مناجيًا توت عنخ آمون:

يا ابنَ الثواقبِ من «رَعٍ»
وابنَ الزواهِرِ من «أمون»
نَسَبٌ عريقُ في الضُّحى
بذَّ٥١ القبائل والبطون
أرأيت كيف يئوبُ من
غَمْرِ القضاءِ المغرَقون٥٢
وتدولُ آثارُ القرو
ن على رحى الزَّمَنِ الطحون
حبُّ الخلود بنى لكم
خُلُقًا به تتفردون
لم يأخذ المتقدِّمو
نَ به، ولا المتأخِّرون
حتى تسابقتم إلى الإحـ
ـسانِ فيما تعملون
لم تتركوه في الجليـ
ـل، ولا الحقير من الشئون
هذا القيامُ فقل لنا: الـ
ـيَومُ الأخيرُ متى يكون؟
البعثُ غايةُ زائلٍ
فانٍ، وأنتم خالدون
السَّبقُ من عاداتكم
أتُرى القيامةَ تسبقون؟
أنتم أساطينُ الحضا
رةِ والبُناة المحسنون
المتقنون، وإنما
يُجزَى الخلودَ المتقنون

وبعد هذا الحب والإعجاب بالحضارة المصرية القديمة، يتحدث عن قبر توت عنخ آمون، فيتساءل أهو قبر أم هو حجرة عرش الملك؟ إنه يبدو من قبور الموتى ومن قصور الأثرياء المتوفَّين، فليس هناك مظهر من مظاهر الحضارة إلا قد حواه ذلك المكان؛ فالملك الدفين تحيط به مظاهر الحياة، وكل آيات المدنية في عصره دينية ودنيوية، حتى انبهر أمام روعتها الزمن وأهله المعجبون بحضارتهم الراهنة، وظنَّت «باريس» أن ذلك المجد من صنع أبنائها، يقول شوقي:

أنزلتَ حفرةَ هالكٍ
أم حجرة الملك المكين؟
أم في مكان بين ذ
لك يدهشُ المتأمِّلين؟
هو من قبور المتلَفِـ
ـن، ومن قصور المترفين
لم يَبْقَ غالٍ في الحضا
رةِ لم يَحُزهُ، ولا ثَمين
مَلْكٌ تحيط به الحيا
ة زمانهُ معه دفين
وذخائرٌ من أعصُرٍ
ولَّتْ، ومن دنيا ودين
حملت على العجَبِ الزما
نَ، وأهله المستكبرين
فتلفَّتت «باريس» تحـ
ـسَبُ أنها صُنْعُ البنين

ويفصل شوقي بعدئذٍ ما عثر عليه في ذلك القبر من ذهبٍ لم تذهب السنون ببريقه الوهاج، وقد صنعت أيدي القيون من هذا الذهب صفائح وسبائك وتوابيت متوهجة لا يتخذها الموتى. ولو أنهم فطنوا لهذه النواويس لمضوا ينبشون عنها، وحاول كل واحد أن تكون له. وقد فصل الكفن برقائق من الذهب، وقد لفَّه في رفق مُحنِّط رزين رفيق، كما يلف الطبيب الضماد في حنان، كما تحنو الكمائم على أوراق الورد.

وبدا القبر مزخرفًا بالصور والصحف والتماثيل الرائعة، فيخيل إليك أنك في معبد للأصنام، وترى الصور تمثل لك الحركة، وتعبر لك في وضوح عما تريد، وقد مرت عليها عصور تلو عصور، ودهانها غض برغم الزمن المتطاول، حي لم تُمِتْه القرون. لقد خدع العيون فظنته حديث العهد، ومضت الأيدي تتلمسه لتتأكد من حياته وغضارته.

إن مظاهر الحياة تحيط بالملك في قبره، فصُوَر غلمان القصر تجسِّمهم أمام أعيننا كأنهم لا يزالون يزاولون الصيد ويناولونك السهام، وكأن البوق يدوي صوته في الفضاء، والسهام والأقواس ترنُّ، وكلاب الصيد تلهث لطول جريها، والخيل تجري في جنون، والوحش ينفر بين يديك يجري في السهول، وحينًا يثب الجبال، والطير يئِنُّ من جراحه.

وكأن الناس قد اجتمعوا إليك من كل فج، وكأننا لا نزال نعيش في عهد الفراعنة. ولنُنصتْ إلى هذا الشعر الذي يصور في قوة وروعة تلك الآثار الدفينة في هذا القبر، فيقول:

ذهبٌ ببطن الأرض لم
تذهب بلمحته القرون
استحدثت لك جَندلًا
وصفائحًا منه القُيون٥٣
ونواوسًا وهاجة
لم يتخذها الهامدون٥٤
لو يفطُنُ الموتى لها
سرحوا الأنامل ينبشون
وتنازعوا الذهب الذي
كانوا له يتفاتنون
أكفانُ وَشيٍ فُصِّلت
برقائقِ الذهبِ الفتين٥٥
قد لفَّها لفَّ الضِّما
دِ مُحَنِّط آسٍ رزين٥٦
وكأنهن كمائمٌ٥٧
وكأنك الوردُ الجنين
وبكل ركنٍ صورةٌ
وبكلِّ زاويةٍ رقين٥٨
وترى الدُّمى فتخالها انـ
ـتثرتْ على جَنَباتِ زون٥٩
صورٌ تُريك تحرُّكًا
والأصلُ في الصور السكون
ويمرُّ رائعُ صمتها
بالحسِّ كالنُّطقِ المُبين
صحبَ الزمانَ دِهانُها
حينًا عهيدًا٦٠ بعد حين
غضٌّ على طولِ البِلى
حيٌّ على طول المَنون
خَدَعَ العيونَ، ولم يزل
حتى تحدَّى اللامسين
غِلمانُ قصرِك في الرِّكا
بِ يناولون ويَطْردون٦١
والبوقُ يهتف، والسِّها
مُ ترنُّ، والقوسُ الحنون
وكلاب صيدِكَ لُهَّثٌ٦٢
والخيلُ جُنَّ لها جنون
والوحشُ تنفِر في السهو
ل، وتارة تثب الحزون
والطَّيرُ ترسُفُ٦٣ في الجرا
حِ، وفي مناقِرِها أنين
وكأن آباء البريَّـ
ـة في المدائن مُحضَرون
وكأن دولة «آل شمـ
ـسٍ»٦٤ عن شِمالكَ واليمين

ويناجي شوقي الملك ويسميه ملك الملوك، ويحييه تحية ولاء وحب، ويسجِّل في شعره أنه مغرم بالوقوف عند آثار المجد، والاستغراق فيما توحي به من عظمة وجلال، ويرى أن هؤلاء الفراعنة مثلٌ عليا تُرفع أمام الشباب ليقتدوا بهم، ويعملوا على أن يكونوا مثلهم في حب الخلود، والغرام بالإتقان، ويؤمن بأن تاج مصر إنما استقر على جبين ملوكها معتمدًا على ما كان لمصر من قوة حربية مستعدة، فتسمعه يقول:

ملك الملوك تحيةً
وولاء محتفظ أمين
هذا المقام عرفتُه
وسبقتُ فيه القائلين
ووقفتُ في آثاركم
أزِنُ الجلالَ، وأستبين
كنتُم خيالَ المجدِ يُرْ
فَعُ للشبابِ الطامحين
تاجٌ تنقَّلَ في الخيا
لِ، فما استقرَّ على جبين
خرَزاتُه السَّيفُ الصقيـ
ـل يشدُّه الرمحُ السَّنين٦٥

وهنا تثور في نفس شوقي آلام مُمضَّة عندما يوازن بين القوة الحربية القديمة لمصر، وبين ما كانت عليه مصر من الضعف عندما كُشف قبر توت عنخ آمون. ويبدو الألم البالغ في قول شوقي:

قل لي: أحين بدا الشَّرى
لك، هل جزعتَ على العرين؟٦٦
آنست ملكًا ليس بالشَّا
كي السلاح ولا الحصين
البرُّ مغلوبُ القَنا
والبحرُ مسلوبُ السَّفين
لمَّا نظرتَ إلى الديا
رِ صدفت٦٧ بالقلب الحزين
لم تَلْقَ حولَكَ غير «كر
تَرَ» والنِّطاسيِّ المعين
أقبلتَ من حُجُبِ الجلا
لِ على قبيل مُعرِضين
والله يعلمُ لم يروْ
هُ من قرونٍ أربعين

وتبدو لوعة شوقي بالغة في هذا الجزء من القصيدة على ما وصلت إليه مصر من الضعف في ذلك الحين، فقد أحس بالملك المصري القديم حزينًا أشد الحزن عندما فتح عينيه على وطن ألفه قويًّا بالغ القوة، عزيزًا راسخ العزة، فوجده على غير ما اعتاد أن يراه، رآه بلدًا أعزل، لا سلاح يحمي برَّه، ولا أسطول يدافع عن بحْرِه؛ فلا غرابة إن أعرض عن الديار بقلب متألم حزين.

ولِمَ لا يحزن وهو لم يرَ حوله أبناءه المصريين هم الذين اهتدوا إلى قبره، بل وجد وجهًا غريبًا، وسحنة لا تمت بصلة إليه؟!

ولِمَ لا يحزن وهو يرى قومه لا يسهمون في بناء الحضارة وإشادة المجد، كما كان هو يساهم في ذلك بحظ وفير؟!

ولكن الشاعر برغم تمجيده للملك المصري وحضارة عصره لا يقبل حكم الفرد، ولا يرضى عن حكم الجمهور نفسه بديلًا، ويرى أولئك الذين يقبلون حكم الفرد متخلفين في التفكير، متأخرين لا يعيشون في عصرهم. واستمع إلى شوقي إذ يقول:

قسمًا بمن يحيي العظا
مَ، ولا أزيدُك من يمين
لو كان من سفرٍ إيا
بُك أمس أو فتح مُبين
أو كان بعثك من دبيـ
ـبِ الروحِ أو نبضِ الوتين٦٨
وطلعت من وادي الملو
كِ عليك غارُ الفاتحين
الخيلُ حولَكَ في الجلا
لِ العسجدِيَّةِ ينثنين٦٩
وعلى نجادك هالتا
ن من القَنا والدَّارعين٧٠
والجندُ يدفعُ في ركا
بك بالملوكِ مصفَّدين٧١
لرأيتَ جيلًا غير جيـ
ـلك، بالجبابر لا يدين٧٢
ورأيتَ محكومين قد
نَصَبوا،٧٣ وردوا الحاكمين
إن الزمان وأهله
فَرَغَا من الفردِ اللعين
فإذا رأيتَ مشايخًا
أو فِتْيَةً لك ساجدين
لاقِ الزمانَ تجدهمو
عن رَكبِه متخلفين
هم في الأواخرِ مولِدًا
وعقولُهُم في الأولين

وتبدو نظرة شوقي الحزينة أيضًا في أرجوزة أخرى ناجى بها توت عنخ آمون؛ حيث ثار على الضعف الذي كان عليه الوطن، فتخيل الملك المصري كما كان، قائدًا مغوارًا يقود جيشًا يملأ السهل والجبل، يمضي به فاتحًا منابع النيل.

ويحدثه عما اكتسبه وادي الملوك من الشهرة والازدهار يوم كُشف عن قبر هذا الملك، الذي أعاد إلى الأذهان ذكرى دولة الفراعنة، الذين أبلت آثارهم قوى الدهر وفلَّت سطوته.

وظلت آثار الملك الراحل تسافر عبر القرون، حتى انقضى أربعون قرنًا، حتى إذا عاد إلى وطنه وجد به إنجلترا وجيشها ومندوبها مقيمين فيه مسلولي السيوف؛ لتُحمَى الهند، وتُفصل السودان، وتقتطع قناة السويس. يقول الشاعر للملك المصري القديم:

قم سابقِ «الساعة»،٧٤ واسبِق وعدَها
الأرضُ ضاقت عنك، فاصدَع غمدَها
واملأ رماحًا غورها ونجدها
وافتح أصول النيلِ واستردَّها
شلَّالها، وعذبها، وعِدَّها٧٥
واصرف إلينا جَزْرها ومدَّها
تلك الوجوه لا شكونا فقدها
بيَّضت القربى لنا مُسوَدَّها
سُلِلتَ من «وادي الملوك» فازْدَهَى
وألقت الشمس عليه رَأدَها٧٦
واسترجعت دولته إفرندها٧٧
أبيض ريَّانَ المتون وَردَها
أبلى ظُبى الدَّهرِ، وفلَّ حدَّها
وأخلقَ العصور واستجدَّها
سافر أربعين قرنًا عدَّها
حتى أتى الدار فألفَى عندها
إنجلترا، وجيشها، ولوردها
مسلولة الهنديِّ تحمي هندها
قامت على السودان تبني سدها
وركزت دونَ القناةِ بندها٧٨

وكانت هذه المفاجأة التي فوجئ بها الملك المصري مذهلة محزنة، فقال في حسرة: ليتني ظللت في القبر مختفيًا وراء جدرانه، ولم أنتبه من رقدتي. حدثني أيها الشاعر المصري القديم عما حدث بعدي من لَعِب مصر واستهتارها، ونسيت جلال الآباء والأجداد، ولم يَصدَّها عن هذا الاستهتار جلال الموت، ولا هيبة من ماتوا، يقول شوقي على لسان ملك مصر:

فقال والحسرة ما أشدَّها
ليت جدارَ القبرِ ما تدَهدَها٧٩
وليت عيني لم تُفارق رقدها
قُم نبِّني يا بنتئور،٨٠ ما دَهَا؟
مصرُ فتاتي لم توقِّر جدَّها
دقت وراء مضجعي جازبندها
قد سحبت على جلالي بُردها
ليت جلالَ الموتِ كان صدَّها

وهنا يمجد شوقي الملك المصري القديم، ويمجد ملوك مصر القديمة بعامة إذ يقول:

فقلتُ: يا ماجدَها وجعدَها٨١
لو لم تكُ ابنَ الشَّمسِ كنتَ رِئدَها٨٢
لحدُك ودَّته النجوم لحدَها
أريتنا الدنيا به وجِدَّها
سلطانها وعزَّها ورَغدها
وكيف يُعطَى المتقنون خُلْدَها
آثاركم يخطي الحسابُ عدَّها
انهدَم الدَّهر، ولم يهدَّها

ولم يكن الشاعر هنا برغم احتلال الإنجليز للوطن المفدَّى متشائمًا، بل كان يرى مصر قد بلغت حدًّا من الرشد يبشر بمستقبل سعيد، وكانت ثورتها المباركة سنة ١٩١٩ دليل يقظة ورشد، فأرسلت وفدها إلى أوروبا، وأقامت البرلمان تستقبل فيه نواب البلاد، ولعل ذلك كان نقطةً لبدء العمل الجليل لبناء مستقبل رشيد:

مصرُ الفتاةُ بلغَت أشُدَّها
وأثبت الدَّمُ الزَّكيُّ رشدَها
ولعبت على الحبال وحدها
وجرَّبت إرخاءها وشدَّها
فأرسلت دُهاتَها ولُدَّها٨٣
في الغربِ سدوا عنده مسدَّها
وبعثت للبرلمانِ جُندَها
وحشدَت للمهرجان حشدَها٨٤

ويختم هذه الأرجوزة بالدعاء لمصر أن يقوي الله يدها، ويشد أزرها، وأن يفتح أمامها السبل ولا يسدها، وأن يجعلها تقدِّر لكل خطوة ما بعدها، وأن يبعدها عن صغار الأمور، ويوجهها إلى العظائم، حتى لا تذهب دماء الضحايا هدرًا، وأن يكبح هوى النفوس ويكسر أحقادها، ويجمع القلوب على حب مصر الأم الرءوم، وأن يجعل النبوغ من حظ أبنائها، وألا تخلق بيديها من يستبد بأمورها.

ولعل الكشف عن آثار توت عنخ آمون، وقيام الثورة المصرية المباركة، وفتح البرلمان أبوابه لاستقبال نواب البلاد هو الذي أثار هذه الأماني الطيبة في صدر شوقي عندما قال:

يا رب قوِّ يدَها، وشدَّها
وافتح لها السُّبل، ولا تسُدَّها
وقِس لكلِّ خُطوةٍ ما بعدها
وعن صغيراتِ الأمورِ حُدَّها
واصرِف إلى جِدِّ الشُّئونِ جدَّها
ولا تُضِع على الضحايا جُهدَها
واكبح هوى الأنفس، واكسر حقدها
واجمَع على الأمِّ الرَّءوم وُلْدها
واملأ بألبانِ النبوغِ نَهْدَها
ولا تدَعْها تُحْيِ مُستَبِدَّها
وتنتَحِت براحتَيْها فردها

وهو هنا، كما سبق في شعره، يكره حكم الفرد ويمجِّد الشورى، وهكذا كان الكشف عن آثار توت عنخ آمون مثيرًا لخواطر متنوعة في شعر شوقي، فحينًا هو فخور بالمجد المصري القديم، تيَّاهٌ بهذه الحضارة الرفيعة التي دل عليها كشف ذلك القبر، وحينًا يصف هذا الكنز الثمين، وحينًا يوازن بين الماضي والحاضر، وحينًا يتفاءل بمستقبل مزدهر لهذا الوطن العزيز، ولكنه في جميع الحالات لا يطمئن إلى حكم الفرد، ولا يرتاح إلى استبداده.

ومن كل ما عرضناه يبدو تبريز شوقي في وصف الآثار المصرية؛ مما يجعلنا نشعر بصدقه يوم افتخر بسيفه في ميدان الوقوف عند آثار مصر والإشادة ببُناتها فقال:

هذا المقام عرفته
وسبقت فيه القائلين
١  أخت يوشع: الشمس. يشير إلى قصة يوشع بن نون؛ فتى موسى، الذي كان يقاتل الجبارين، فلما أدبرت الشمس للغروب خاف أن تغيب قبل فراغه منهم، فدعا الله فردَّ له الشمس حتى فرغ من قتالهم، والقرون الغابرين: الأجيال الماضية.
٢  مصارعهم: مهالكهم، ودُوَلاتهم (بضم ثم فتح): دواهيهم.
٣  نسب القبائل: ذكر أنسابهم.
٤  الخضيب: الملون بالخضاب، والقرن: حاجب الشمس، والطعين: المطعون.
٥  الشواظ: دخان النار.
٦  نزعوا: أشبهوا.
٧  المآمين: جمع مأمون، والشاعر يشير إلى الخليفتين الأمين والمأمون.
٨  مصفدين: مقيدين.
٩  الصنو: الأخ، السَّنين: مَن يكون في سنك.
١٠  ابن سيتى: رمسيس الثاني.
١١  الصعر: الكبد، ويدين: يخضع.
١٢  القطين: الخدم.
١٣  البيعة: معبد النصارى واليهود.
١٤  سمل عينه: فقأها.
١٥  المحاجر: ما يجمع الملوك حول منازلهم.
١٦  يضوع: تنتشر رائحته الطيبة.
١٧  رامت: دامت.
١٨  اليمين: المبارك.
١٩  يجوب: يقطع، والحزون: جمع حزن؛ وهو ما غلظ من الأرض.
٢٠  نواك: بعدك، والسِّنات جمع سنة؛ وهي: النعاس.
٢١  يُنْضي: يهزل، والمُدلج: السائر من أول الليل.
٢٢  ممردة: ملساء.
٢٣  العِتاق: القديمة، والزون: موضع تجمع فيه الأصنام.
٢٤  الغابرين: الباقين.
٢٥  يقدى: تطيب رائحته وطعمه.
٢٦  الأحقاب: جمع حقب؛ وهو: ثمانون سنة أو الدهر.
٢٧  دالت: انقلبت من حال إلى حال.
٢٨  الشوقيات ١: ٣٣٤.
٢٩  آب: رجع.
٣٠  ذروه: اتركوه، وبلد العجائب: الأقصر، ومغمدًا: متروكًا في قبره كالسيف في غمده، ولا تشهروه: من شهَر السيف إذا سلَّه.
٣١  ناووسه: قبره، ووثابه: سريره.
٣٢  قراب السيف: غمده.
٣٣  تقمص روحه قمص البعوض: لبسها، والقُمُص: جمع قميص، والمستخس: الخسيس، والإهاب: الجلد.
٣٤  الردى: الهلاك.
٣٥  قيم القصر: القائم بأمره، والحجاب: جمع حاجب.
٣٦  الأتراب: جمع ترب، وهو: مَن ولد معه.
٣٧  المندل: عود طيب الرائحة، الفياح: شديد انتشار الرائحة، واللماح: شديد اللمعان، والوشي: النقش.
٣٨  الراح: جمع راحة؛ وهي الكف، والقاطفون: من يجنون الثمار، والأثمار: جمع ثمر، والأرطاب: جمع رطب، وهو ما نضج من البلح.
٣٩  غمدان: قصر كان مشهورًا بناه أحد ملوك اليمن، والهالة: دارة القمر، والغاب: جمع غابة.
٤٠  الأطناب: جمع طنب، وهو الناحية هنا.
٤١  العباب: ارتفاع السيل، والعجاب: ما جاوز حد العجب.
٤٢  الشوقيات ١: ٧٩ وما يليها.
٤٣  الدَّنِّ: وعاء الخمر.
٤٤  الجفن: غمد السيف.
٤٥  استسرَّ: توارى.
٤٦  رُوي أن أهل بدر قد غُفرت لهم ذنوبهم.
٤٧  الحجال: جمع حجلة؛ وهي ستر العروس.
٤٨  الأجداث: القبور، وجون: سعيد.
٤٩  ممردة: مصقولة ملساء، والشُّمُّ: العالية.
٥٠  الهتون: المتتابع المطر.
٥١  بذَّ: غلب.
٥٢  يئوب: يرجع.
٥٣  الجندل: الحجارة، والصفائح: جمع صفيحة؛ وهي الحجر العريض، والقيون: الصُّناع.
٥٤  النواوس: التوابيت، والهامدون: الموتى.
٥٥  الفتين: المذاب بالبوتقة ليبين الجيد من الرديء.
٥٦  الضماد: خرقة يُشدُّ بها العضو المجروح، والآسي: الطبيب.
٥٧  الكمائم: جمع كمامة؛ وهي غطاء الزَّهر.
٥٨  الرقين: الرقيم: الكتاب.
٥٩  الزون: معرض الأصنام.
٦٠  العهيد: القديم.
٦١  يطردون: يصطادون.
٦٢  لهث الكلب: أخرج لسانه من التعب.
٦٣  رسف: شيء يشبه القيد.
٦٤  آل شمس هم الفراعنة.
٦٥  السَّنين: المَسنون.
٦٦  الشرى: مأسدة، والعرين: مأوى الأسد.
٦٧  صدفت: أعرضت.
٦٨  الوتين: عرق في القلب يجري منه الدم إلى العروق كلها.
٦٩  الجلال: جمع جل؛ وهو للدابة كالثوب للإنسان.
٧٠  النجاد: جمع نجد؛ وهو المكان المرتفع من الأرض، والهالة: دارة القمر، والدراع: من عليه درع.
٧١  مصفدين: مقيدين بالأغلال.
٧٢  دان بكذا: آمن.
٧٣  نصب الشيء: رفعه وأقامه، أو وضعه وضعًا ثابتًا، ونصب له الحرب: أقامها عليه.
٧٤  الساعة: يوم القيامة.
٧٥  العد: الماء الجاري الذي له مادة لا تنقطع.
٧٦  رأد الضُّحى: ارتفاعه.
٧٧  الإفرند: جوهر السيف ووشيه.
٧٨  البند: العلم.
٧٩  تدهده: انقضَّ وتدحرج.
٨٠  بنتئور: شاعر مصري قديم.
٨١  الجعد: الكريم.
٨٢  الرئد: القرن في السن.
٨٣  اللدُّ: الأشداء في الخصومة.
٨٤  الشوقيات ١: ١٩٧ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤