الفصل الأول

قوة دافعة أم شعور بالواجب؟

تقدمه السيدة الفاضلة ميشال باشيلي
وكيل الأمين العام والمدير التنفيذي، هيئة الأمم المتحدة للمرأة

علمتني التجربة أنه لا حدَّ لما يمكن أن تنجزه المرأة، ويدفعني إحساسي بالواجب إلى الإيمان بالممكن. إن السعي إلى السلام وحقوق الإنسان والكرامة والمساواة — الذي تهتدي به منظمة الأمم المتحدة وهيئة الأمم المتحدة للمرأة في عملهما — يُكسب ملايين النساء والرجال حول العالم الشعور بالواجب. وثمة قضية مشتركة تجمعنا؛ وهي قضية الحرية والعدالة.

ينظر القائد دومًا إلى المستقبل. ولا يعني هذا نسيان الماضي، بل على النقيض، تُستمد الحاجة إلى إقامة مجتمع أفضل من الدروس التي تعلمناها في الماضي. وعند بناء أمة ديمقراطية، يؤسس المرء البنيان على أساسات الماضي، ويمضي قدمًا وهو يحمل بداخله شعورًا بالواجب حيال مستقبل يشمل كل فرد، ويضمن الحقوق والفرص للجميع.

عندما كنت أشغل منصب وزيرة الدفاع في شيلي، قبل أن أتولى الرئاسة، كانت مهمتي تحقيق مزيد من الإصلاح في قطاع الدفاع، والاستمرار في العمل لضمان سيادة القانون. إبان الحكم العسكري، انتُهكت حقوق الإنسان، وكان الجيش رمزًا للخوف بالنسبة إلى الشعب. وعن طريق التعامل مع هذا الواجب بأمل لا بسخط، صار من الممكن دعم الشعب والقوات المسلحة لإحراز تقدم بروح من الهوية الوطنية والإصرار. كان يحفزنا شعور مشترك بالواجب للتغلب على السلطوية عن طريق تشكيل مؤسسات تُعلي قيم الديمقراطية.

الديمقراطية متأصلة في السلم والعدالة، والإصلاح الديمقراطي يستلزم قيادة عن إيمان راسخ.

من بين اللاتي يقُدنَ بإيمان راسخ نساءٌ ستتعرف عليهن في هذا الفصل: مارينا بيسكلاكوفا، وحفصة أبيولا، وأنيل تاونسند، ودياز كانسكو، وسونيتا كريشنان، والدكتورة حواء عبدي. إنهن قادرات على تحقيق إنجازات استثنائية، بل ويحققنها بالفعل. وكما أقول دومًا، بيت القصيد عدم الاستسلام؛ فالديمقراطية والعدالة والسلام تتطلب مشاركة المرأة الكاملة على قدم المساواة مع الرجل، فالعدالة تعهُّد طويل الأمد.

خلال حياتي، حظيت بشرف العيش في خدمة أهداف مشتركة متمثلة في الديمقراطية والمساواة والعدالة، من أجل وطني شيلي في المقام الأول، والآن من أجل نساء عالمنا؛ وذلك من خلال هيئة الأمم المتحدة للمرأة؛ وهي أول هيئة تابعة للأمم المتحدة تكرِّس جهودها للنهوض بتمكين المرأة والمساواة بين الجنسين.

وأواصل مسيرتي يحدوني الأمل.

***

كان عليَّ الذهاب! في أغسطس من عام ١٩٩٥، لم يسعني التفكير إلا في مؤتمر الأمم المتحدة الدولي الرابع المعني بالمرأة في العاصمة الصينية بكين؛ ذلك المؤتمر الذي توقَّع كثيرون أن يكون أكبر تجمُّع للقيادات النسائية والناشطات في التاريخ. كان من المنتظر أن تَفِدَ النساءُ إلى المؤتمر من كل حدب وصوب؛ ليمثلن مختلف الأجيال والأديان والثقافات والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والمهن. كان يجمعهن هدف مشترك: تحسين وضع المرأة في عالمنا.

كنت حينها في الحادية والعشرين من عمري؛ حيث بلغت سن الرشد في عالم لا ينفك يزداد ارتباطًا. كانت تحدوني رغبة قوية في فهم موقعي في هذا العالم كامرأة أمريكية. ادخرت واقترضت نقودًا، واشتريت أرخص تذكرة طيران أمكنني إيجادها، لأضطر إلى التوقف المؤقت أربع مرات قبل أن أحط في بكين. وكما تبين لي بعد ذلك، كان شراء التذكرة هو الجزء السهل في هذه القصة.

بعد أن أرسلت بالبريد استمارات تسجيلي، وصورتي الشخصية، ورسم طلب تأشيرة لحضور المؤتمر مقداره ٥٠ دولارًا، رفضت اللجنة الصينية المنظمة منحي تأشيرة المؤتمر. ولمدة أسبوعين متواصلين، توجهت إلى القنصلية الصينية في لوس أنجلوس كل صباح، طالبة منهم تفسيرًا لما حدث. علمت في وقت لاحق أن أكثر من ثلثي مَن سجلوا لحضور المؤتمر لم يحصلوا على تأشيرة. رأف بحالي ضابط صيني شاب بالقنصلية، أو ربما ضاق ذرعًا من زياراتي، واقترح عليَّ أن أتقدم بطلب للحصول على تأشيرة سياحية، وأن أخبرهم بأنني طالبة مسافرة. وظن أنه بمجرد أن تطأ قدماي الصين سيكون بإمكاني دخول المؤتمر نفسه.

لما حصلت على تأشيرة السياحة، حجزت ليلتين بفندق في بكين لم أكن أقدر على سداد ثمنهما، وكنت أقول لنفسي إنني سأتوصل لحلٍّ ما عندما أصل إلى هناك. فكرت في أنها ستكون مغامرة وتجربة مغيِّرة لحياتي؛ رغم أنني لم أكن أعلم ذلك حينها.

بالنسبة إليَّ، بدأ المؤتمر مباشرة بمجرد أن استقللت الطائرة المتجهة إلى بكين. كانت الطائرة حافلة بالسيدات اللاتي سيحضرن المؤتمر، وفيهن السيدة الجالسة بجواري، التي جاءت من جنوب أفريقيا وكان اسمها جيرترود فستر. كانت فستر؛ الناشطة في مجال حقوق الإنسان، شخصية عطوفة يملؤها الحماس. بدت في غاية التفاؤل والحماس، وأدركتُ سبب ذلك، فيما بعدُ، عندما تنامى إلى علمي أنها كانت قد أُلقي القبض عليها وسُجنت نحو ثلاث سنوات بسبب جهودها في مكافحة الفصل العنصري.

تتبعتْ جيرترود مؤتمرات الأمم المتحدة العالمية المعنية بالمرأة منذ الاجتماع التأسيسي في مكسيكو سيتي عام ١٩٧٥. أخبرتني كيف أن قضية العنف الأسري لم يكن معترفًا بها حينذاك. كان يُنظر إليها على أنها قضية خاصة لا ينبغي مناقشتها خارج المنزل، لكن النساء حول العالم كن يتحدثن عن «المشكلة التي لا تحمل اسمًا». وفي مؤتمر الأمم المتحدة الثالث في نيروبي، بكينيا عام ١٩٨٥، ضغط مناصرو القضية من أجل إدراج العنف الأسري ضمن الوثيقة الرسمية الصادرة عن المؤتمر. أوضحت جيرترود قائلة: «عادت كلٌّ منا إلى وطنها مشيرة إلى أن حكومتنا، وتقريبًا كل دولة أخرى في العالم، اعترفت بأن القضية تمثل مشكلة. ومن موقع السلطة ذاك، بدأنا الضغط من أجل سَنِّ تشريعات لتجريم العنف الأسري.»

كان من المزمع أن يكون مؤتمر بكين المؤتمر الرابع ضمن سلسلة من المؤتمرات. وقد علمت من جيرترود أن الوفود الرسمية اعتزمت المشاركة في توقيع «برنامج عمل» لتحسين حياة النساء في اثنتي عشرة منطقة خطرة، بدءًا بالوضع الصحي مرورًا بالوضع الاقتصادي ووصولًا إلى المشاركة السياسية. وفي الوقت نفسه، كان ثمة اجتماع مزمع لعدد كبير يربو على أربعين ألفًا من القادة غير الحكوميين والمناصرين والنشطاء لحضور منتدى المنظمات غير الحكومية الموازي في هوايرو؛ وهي ضاحية تقع في شمال الصين وتتَّسم بالهدوء.

كلما زاد مقدار معرفتي، زاد إيماني بأن هذا التجمُّع سيكون تجمعًا تاريخيًّا بحق، لكنني كنت أعلم أن مشاركتي غير مضمونة. أفضيت إلى جيرترود بما حدث بشأن التأشيرة ومخاوفي من أن أُطرد، فقالت لي مسندة ظهرها إلى مقعدها بثقة: «يمكننا علاج هذه المسألة.»

ونحن نغادر الطائرة ونلتقط حقائبنا، كانت زمرة من الطلاب المتحمسين يحملون لافتات عليها شعار المؤتمر يرشدون السيدات إلى الحافلات المتجهة إلى هوايرو. حاولت أنا وجيرترود الصعود على متن الحافلة، لكنني لم أتمكن من ذلك؛ فعند الباب كانت تقف شابة تبدو عليها علامات الانفعال. كانت تتفحص جوازات السفر. وجدتها تنبه رئيستها التي أخبرتني بأنني لن أستطيع الانضمام للمجموعة؛ لأنني لا أحمل تأشيرة مناسبة. ومن باب التضامن الأخوي، نزلت جيرترود من الحافلة هي الأخرى، كما لو كانت تقول لي: لا تقلقي سنجد حلًّا لهذا معًا. ركبنا سيارة أجرة إلى فندق في بكين لقضاء الليلة، وخططنا لخطوتنا القادمة. وفي اليوم التالي، عُدنا للمطار تفحَّصنا قافلة الحافلات مرة أخرى.

هذه المرة انعطفنا واتجهت جيرترود صوب الطريق تجرُّني جرًّا أنا وحقيبتها. سارت بي نحو ربع ميل لنبتعد عن أنظار المسئولين، وسرعان ما لمحنا حافلة تتجه صوب المؤتمر، ودون سابق إنذار قفزتْ جيرترود إلى الطريق لتعترض طريق الحافلة القادمة.

صاحت: «توقف! إننا جميعًا أخوات!»

توقفت الحافلة وإطاراتها تطلق صريرًا عاليًا. انفتح بابها وركبناها؛ ما أثار دهشة الوفد الروسي داخلها. حيَّت جيرترود كلًّا منهم بقولها: «شكرًا جزيلًا!» وهي تتجه إلى بعض المقاعد الشاغرة في المؤخرة. من جيرترود تعلمت كيف أنجز الأمور.

كان قرار الحكومة الصينية بنقل اجتماع القائدات غير الحكوميات المغلق من بكين إلى الريف مدفوعًا — جزئيًّا — برغبة الحكومة الصينية في حماية مواطني العاصمة مما ظنَّت أنه تجمُّع للنشطاء والراديكاليين. اكتشفت لاحقًا أن سائقي سيارات الأجرة عبر بكين احتفظوا معهم بملاءات بيضاء طوال فترة انعقاد المؤتمر في حالة — حسب ظني — قررت أيٌّ من الحاضرات خلع ملابسها والتظاهر عارية في الشوارع.

استغرقنا قرابة الساعة للوصول إلى هوايرو. اصطف مزارعو البلدة وأسرهم على جانبي الطريق لمشاهدة القافلة القادمة إلى البلدة. وأخيرًا، برز للعيان سلسلة من المهاجع أشبه بثكنات بُنيت على عجل. بلغت حافلتنا مبنى التسجيل. كانت تلك لحظة المكاشفة. وأنا أنتظر في الصف كي أحصل على شارة تعريفي، كان قلبي يخفق بقوة، واضطررت إلى التقاط أنفاسي لمجرد أن أقول للسيدة الشابة اسمي. فحصت جواز سفري، ولارتباكها طلبت مساعدة أحدهم. وبعد بضع دقائق عادت إحدى زميلاتها وقالت لي: «عليك العودة إلى بكين والتسجيل هناك.»

رددت: «لقد كنت هناك.» (كان قد أخبرني أحد أصدقائي بالقنصلية في لوس أنجلوس أن السلطات لن تحبذ تسكع ناشطة نسوية مطرودة بالشوارع لعشرة أيام؛ وأنه من المتوقع أن يسمحوا لي بالدخول فورًا لتجنُّب المزيد من الاحتجاجات.) واستطردت: «قالوا لي إنه ينبغي لي المجيء إلى هنا والتسجيل والحصول على شارة تعريفي.» بعدها بدقائق قليلة، عادت السيدة الشابة ومعها بطاقة تعريفي تحمل صورتي التي كنت قد أرسلتها مع أوراق التسجيل.

اجتمع شملي وجيرترود مجددًا، والتي لم تقلَّ سعادتها عن سعادتي، عندما رأتني أحمل شارة تعريفي الثمينة، وقالت: «أحسنتِ يا عزيزتي! أحسنتِ!» ألقتْ إحدى صديقاتها نظرة واحدة على المهاجع وقررت المكوث في مكان آخر. انتهزت جيرترود الفرصة وجذبت استمارة المسكن من يديها لتضعها في يدي وقالت: «والآن أصبح لك مكان تبيتين فيه ليلتك، يا عزيزتي.»

قررت اللجنة الصينية المنظمة تقسيم السيدات حسب المنطقة؛ فنساء شرق أوروبا بعضهن بصحبة بعض، وسيدات أمريكا اللاتينية معًا، وكانت هناك مجموعة أخرى من المباني للسيدات من الشرق الأوسط. ونتيجة للأوراق التي أحملها، وجدت نفسي في مهجع صغير مع سيدتين أفريقيتين.

نما إلى علمي أن إحداهما من إريتريا والأخرى من أثيوبيا؛ وهما بلدان كانا في حالة حرب لعقود. ورغم الاختلافات بينهما في الخلفيات ووجهات النظر، سرعان ما بدأتا في البحث عن نقاط الاتصال والارتباط؛ أطفالهما وأسرتيهما وعملهما. كانت رؤيتهما معًا أمرًا يثير الإعجاب.

بعد العشاء، استقلت مئات السيدات الحافلات للتوجه إلى بكين لحضور مراسم الاحتفال بافتتاح المؤتمر. تضمنت تلك المراسم كلمات لمتحدثين وعروضًا من كافة أنحاء العالم. ارتدت السيدات الأفريقيات أردية مطرزة مصنوعة يدويًّا بألوان نابضة بالحياة، بعضها مزخرف برمز حمامة سلام الأمم المتحدة ورمز المرأة العالمية متعانقَين. كانت حافلتِي مجرد واحدة من بين مئات من الحافلات المليئة بالناشطات. فجأة، شعرت بضآلتي. لم تأتِ هؤلاء النسوة إلى بكين من أجل فهم موقعهن في العالم، بل أتين للكفاح من أجله.

•••

تجاذبت السيدات الأفريقيات أطراف الحديث على الإفطار صبيحة اليوم التالي. كان من المزمع أن تلقي أون سان سو تشي الخطاب الرئيسي الافتتاحي. لعلها أشهر سجينة سياسية بعد نيلسون مانديلا، وقد أطلق النظام الديكتاتوري العسكري سراحها مؤخرًا بعد ما يقرب من ست سنوات من الإقامة الجبرية. ورغم أنها لم تعد محتجزة، فإنها لم تتمكن من المخاطرة بمغادرة بورما دون تصريح بالسماح لها بالعودة مرة أخرى؛ لذا تم تهريب شريط فيديو يحمل خطبتها إلى بكين.

كان والد سو الجنرالُ العظيم أون سان بطلًا في كفاح بورما من أجل الاستقلال. وفي عام ١٩٤٧، عندما كانت سو في الثانية فقط من عمرها، اغتيل والدها على يد خصوم سياسيين. وفي مراهقتها، انتقلت أسرتها للهند؛ حيث شغلت والدتها منصب سفيرة بورما. وفي وقت لاحق أثناء دراستها بجامعة أكسفورد، التقتْ مايكل أريس؛ وهو باحث بريطاني، وتزوجته، وأثمر زواجهما عن إنجاب ولدين. ونادرًا ما كانت تعود إلى بورما إبان تلك السنوات إلَّا لقضاء العطلات. لم تستطع سو نسيان شعبها، وكثيرًا ما كانت تقول لزوجها إنها في يوم من الأيام ستعود إن احتاج إليها شعبها. وجاء ذلك اليوم عام ١٩٨٨.

كانت سو في بورما تسهر على والدتها المحتضرة في الوقت الذي اندلعت فيه الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية. بعد ستة وعشرين عامًا في السلطة، تنازل الجنرال ني وين عن رئاسة حزب البرنامج الاشتراكي في بورما. قمع الجيش، بوحشية، المظاهرات الحاشدة المطالبة بالديمقراطية، وقُتل ما يقرب من أربعة آلاف من الشعب البورمي.1 وأمام حشد قُدِّر بنحو مليون مواطن بورمي بمعبد شويداجون في يانجون، اعتلت أون سان سو تشي المنصة، وطالبت بإقامة حكومة ديمقراطية جديدة. ولما كانت ابنة رجل ذي تاريخ، فقد اجتذبت انتباه الأمة بأسرها.

إلا أن نظامًا عسكريًّا جديدًا استولى على السلطة الشهر التالي. وفي ردٍّ على ما تسبب فيه الجيش من عنف وطغيان، أُسس حزب الرابطة الوطنية الديمقراطية، وتولت أون سان سو تشي منصب الأمين العام. وعلى خطى أبيها، طمحت سو إلى مساعدة شعبها في تحقيق «استقلال ثانٍ» — وهذه المرة من حكم عسكري — لكنها كانت عازمة على إحداث التغيير عبر وسائل سلمية.

في عام ١٩٨٩، اعتُقلت أون سان سو تشي بموجب قانون الأحكام العرفية دون تهمة أو محاكمة. وحتى في معتقلها، تواصلت مع شعب بورما الذي كان متعطشًا للديمقراطية ولإقامة مجتمع عادل ومنصف. عندما سمح النظام بإجراء الانتخابات في عام ١٩٩٠، فاز حزب الرابطة الوطنية الديمقراطية بنسبة ٨١ بالمائة من المقاعد في المجلس الوطني، حتى مع وجود زعيمة الحزب رهن الإقامة الجبرية.2 أبطل النظام العسكري نتائج الانتخابات ورفض تسليم السلطة. وعُرضت على أون سان سو تشي حريتها إن وافقت على مغادرة بورما. رفضت سو العرض رغم أن رفضها يعني عدم استطاعتها رؤية أبنائها أو زوجها مرة أخرى.
واجهت المعاملة التي حظيت بها أون سان سو تشي إدانة دولية. وفي ١٩٩٠، مُنحت جائزة رافتو التذكارية وجائزة سخاروف لحرية الفكر، وفي عام ١٩٩١ أصبحت ثامن سيدة تفوز بجائزة نوبل للسلام. وقد صرَّح الأمين العام للجنة جائزة نوبل قائلًا: «أون سان سو تشي توقظ أفضل ما فينا. نشعر أننا في أمسِّ الحاجة إلى من هم على شاكلتها كي نستعيد إيماننا بالمستقبل. وهذا ما يمنحها مثل هذه القوة كرمز؛ لذا فأي إساءة معاملة تصيبها نراها انتهاكًا لما نقرُّه في قلوبنا.»3

•••

رغم أن شريط الفيديو في بكين كان مشوشًا، ورغم أن الصوت كان مكتومًا بعض الشيء، كانت رسالة سو واضحة. تحدثت عن التسامح والاندماج، وكيف تُحيي النساء هاتين القيمتين في العالم من جديد. وألقت الضوء على قدرة النساء على نزع فتيل النزاعات من خلال الحوار بدلًا من اللجوء إلى الانتقام والعنف. وكذا تحدثت عن مسئوليتها المتمثلة في النضال من أجل إطلاق وعودة الذين لا تزال معاناتهم مستمرة من أجل بلوغ مستقبل ديمقراطي أسهمت هي في الدفاع عنه.

بوصفي مناصرة شابة لحقوق المرأة، أذهلتني قوتها الهادئة. كان تركيزها منصبًّا على رؤيتها لمستقبل بورما، وبدا أنه لا يمكن لشيء أن ينتقص من إحساسها بالواجب، أو يسلبها إيمانها الراسخ. تكلمت بوضوح وتركيز، وألهمت الآخرين كي لا يتخلوا عن الأمل.

كانت تلك المرة الأولى التي أستمع فيها لحديث عن القيادة القائمة على الشرعية الأخلاقية لا السلطة الرسمية. كانت أون سان سو تشي الزعيمة المنتخبة لبلدها، ومع ذلك أمضت السنوات الخمس الأخيرة رهن الإقامة الجبرية بمنزلها. ورغم أنها جُردت من حريتها، فضلًا عن قدرتها على الحكم، كانت سو لا تزال أقوى من النظام العسكري؛ لأنها امتلكت شيئًا ما كان لهم أن يملكوه: قلوب وعقول الشعب.

عندما تحدَّث كبير الأساقفة ديزموند توتو؛ الحائز جائزة نوبل للسلام أيضًا، عن السيدة سو قال: «ليست الشعوب غبية؛ إنهم يعرفون من هم قادتهم الحقيقيون. يمكنكم رميهم بالسجون، يمكنكم تكميم أفواههم، يمكنكم نفيهم، لكن الشعوب دائمًا ستقول: «هؤلاء هم قادتنا الحقيقيون».» وبالتأكيد علم شعب بورما قادته الحقيقيين. بدأت السيدة سو حركة أيقظت الأمل في قلوب شعبها لأكثر من عقدين.

وإضافة إلى افتتاني بكلمات سو، كنت مدركة تمام الإدراك لردود الأفعال من نساء العالم من حولي. بدا عليهن جميعًا أنهن يتمتعن بشعور بالواجب، وبتركيز وبإصرار لا يتزعزعان أكسباهن القوة رغم الصعاب. كانت تلك صفات سمَتْ بسهولة فوق الثقافة والجغرافيا، وبدت لي كحجر الأساس للقيادة النسائية. وقريبًا، رأيت نموذجًا من بلدي يثبت صحة هذا المبدأ.

•••

في اليوم الأخير من المؤتمر، استيقظت قبل الفجر وانضممت للآلاف غيري اللاتي توجَّهن إلى المسرح المدرج؛ حيث كان من المقرر أن تخطب السيدة الأولى هيلاري رودام كلينتون. لم يخفَ على أحد أن كثيرين لم يكونوا راضين عن مشاركة السيدة الأولى في مؤتمر المرأة في بكين ومنتدى المنظمات غير الحكومية الموازي؛ فلأشهر قبل المؤتمر، تناظر مسئولو الحكومة الأمريكية حول إن كان من «المناسب» أن تخطب السيدة الأولى بمؤتمر لحقوق الإنسان في الصين، وضعًا في الاعتبار السجل السيئ لهذا البلد فيما يتعلق بحقوق الإنسان؛ ومن ذلك معاملة النساء والفتيات؛ فعلى سبيل المثال، كان قتل الأطفال الرضع أو الإجهاض حسب جنس الجنين ممارسة منتشرة نتيجة لسياسة الطفل الواحد التي تتبناها الدولة؛ إذ «فُقدت» ١٠٠ مليون طفلة وليدة من السكان.4
عندما كُلفت السيدة هيلاري كلينتون لتكون الرئيسة الشرفية لوفد الولايات المتحدة إلى المؤتمر، أصبح حضورها موضع شجب في الحملة الرئاسية عام ١٩٩٦. وفي سياق هذا الشجب، صرح السيناتور الجمهوري بوب دول أنه لا يرى أي «غرض مفيد» من رحلتها، لا سيما أن الصين تحتجز ناشطًا حقوقيًّا أمريكيًّا؛ وهو هاري وو، كسجينٍ سياسي.5 حتى داخل فريق الرئيس كلينتون نفسه، لم يتمكن المسئولون من الاتفاق على أنه ينبغي للسيدة الأولى الذهاب للمؤتمر. الشخص الوحيد الذي بدا متأكدًا من نتائج الرحلة كان السيدة الأولى نفسها. وكما كتبت لاحقًا في سيرتها الذاتية «التاريخ الحي»: «تعاطفت مع قضيتهن، لكن خاب أملي مجددًا لأن الشواغل الملحة للمرأة قد يُضحَّى بها.»6

في اللحظات الأخيرة، أُطلق سراح هاري وو من السجن، ووافق البيت الأبيض على رحلة السيدة الأولى. توقع الخبراء مقايضة دبلوماسية في الدقائق الأخيرة؛ يوافق فيها الصينيون على إطلاق سراح وو إن توقفت السيدة هيلاري كلينتون في المستقبل عن انتقاد الحكومة الصينية، لكن الأمر لم يكن كذلك. أوضحت السيدة هيلاري كلينتون أنه لن يمنعها شيء عن هدفها من زيارة بكين: قول الحق بشأن حقوق المرأة بكل مكان في العالم.

وأنا أقف في الساعات المظلمة الأولى من الصباح، تنامى طابور السيدات اللاتي ينتظرن هيلاري كلينتون. لم يستوعب المسرح سوى بضع مئات من الحضور، لكني كنت واقفة قرب المقدمة، وكنت متأكدة من أنني سأتمكن من الدخول، لكن مرت الساعات ولم أتمكن أنا وحَشْد السيدات إلا من مشاهدة وصول عدد من أعضاء وفد الولايات المتحدة، ثم عدد من الإعلاميين، تبعهم مسئولو الحكومة الصينية. لم يُسمح إلا لعدد صغير من الحضور بالدخول قبل أن يعلن مسئول اللجنة الصينية المنظمة أن مقاعد المسرح كافة قد امتلأت.

أغلب النساء بالمؤتمر لم يرَين السيدة هيلاري كلينتون على المنصة. قلة محظوظة، كنت من بينها، تمكنت من سماع ملاحظاتها من فمها مباشرة، في غرف بجانب المسرح؛ حيث كان الصوت ينساب إليها، لكن حتى في فترة سابقة على شبكات التواصل الاجتماعي، انتشرت رسالة السيدة الأولى كانتشار النار في الهشيم. كانت خطبتها في بكين محركة للمشاعر من فرط تركيزها وقوتها. فباستنادها إلى يقين أخلاقي، تجاوزت غموض اللغة الرسمية، راسمة طريقًا يفضي إلى مشاركة كاملة للمرأة غيَّر من قواعد اللعبة لجميع اللاعبين.

تحدثت كلينتون عن طرق محددة لتجمع النساء وتبادلهن الأفكار، وتحدثت كيف أن العمل الذي تؤديه النساء كثيرًا جدًّا ما يُغفل ولا يؤخذ في الحسبان في كلٍّ من الأوساط العامة والخاصة، ثم صرحت: «لم يعد من المقبول الحديث عن حقوق المرأة بمعزل عن حقوق الإنسان.»

فُغرت الأفواه على قولها اندهاشًا، في الصين وفي واشنطن وفي جميع أنحاء العالم. في وقت كانت فيه فكرة الإقرار بأن النساء بشر مثلهن مثل الرجال وجديرات بالتقدير فكرة ثورية، أو شيئًا لم يُقرر بعد، أو غير معترف به، كان تصريح السيدة هيلاري كلينتون دعوة واضحة؛ كان بمثابة مناشدة سجَّلت بدقة مشاعر النساء بالمؤتمر. لا ينبغي للنساء التضرع من أجل حقهن في الشعور بالأمن والأمان، في التمتع بحرية التعبير وتكافؤ الفرص؛ فالنساء — بوصفهن بشرًا — يحق لهن الحصول على هذه الحقوق الأساسية. وعندما تصنِّف الحكومات التحديات غير الاعتيادية التي تواجهها النساء على أنها فئة خاصة من الحقوق «الإضافية»، فذاك سبيل للتقليل من قيمة هذه التحديات بذريعة أنها تتعلق بأصحاب مصلحة خاصة.

بيَّنت السيدة كلينتون ذلك الرياء في التعامل مع المسألة على مرأًى من كل حكومة ممثلة بالمسرح. تحولت كلماتها إلى دعوة للحشد بين الناشطات المجتمعات. أخبرني عشرات السيدات منذ ذلك الحين أنهن عُدْن لبلدانهن وهن يتسلحن بعبارة: «حقوق المرأة هي حقوق الإنسان»، وتشد من أزرهن القوة الكامنة وراء تلك الكلمات.

من وجهة نظر الصين، كانت رسالة السيدة الأولى خرقًا محرجًا للبروتوكول؛ إذ لفتت الانتباه إلى انتهاكات حقوق الإنسان في البلد المضيف. وفي وطنها، انتُقدت السيدة الأولى لإدلائها بتصريحات على مستوى السياسة الخارجية تتجاوز السلطة المخولة إليها، لكن بالنسبة إلى من سافرن إلى بكين منا، كانت السيدة الأولى منارة يُهتدى بها. لقد حددت بدقة الصراعات التي تواجهها المرأة وأعلنتها بوضوح أمام العالم أجمع، مطالبةً إياه بأن ينتبه لها.

رغم أن السيدة الأولى حينها لم تكن مسئولًا منتخبًا، أدركت أنها تقف على منبر سيُسمع منه صوتها، وأنها في موقع لا يمكن تجاهله. لقد فطنت إلى قوة تأثير صوتها، واستخدمته للتعبير عمن كُمِّمت أصواتهن.

•••

كل السيدات اللاتي تركن انطباعات لا تُمحى لديَّ في بكين — من جيرترود وزميلتيَّ الأفريقيتين بالغرفة، إلى أون سان سو تشي وهيلاري كلينتون — كن قائدات تحركهن قضية، وتمتعت كلٌّ منهن برؤية لما أرادت تحقيقه، وبالتزام لا يتزعزع بهذه الرؤية. لقد سافرن إلى بكين لإيجاد سبل جديدة لاستنهاض تلك الرؤى، وقد كن مصدر إلهام لكل حلقة حوار وخطبة ومحادثة بتوجه واضح ومركَّز.

في مقابلاتي الشخصية مع جيرترود وزميلتَيَّ بالغرفة، أذهلني كيف أنهن مثَّلن بعضًا من السمات المشتركة في قيادة المرأة؛ القدرة على الارتقاء بالأخريات وتجاوز الحواجز التي تفرق بيننا. أثناء استماعي إلى أون سان سو تشي، انبهرت باستعدادها للتضحية بحريتها وأمنها مقابل ما آمنت بأنه الصواب. لقد تجاوز نظرها المخاطرة الشخصية والاضطهاد والإذلال لتُدافع عن مبادئ اللاعنف والمساواة الديمقراطية والعدل. كانت متمسكة بإيمانها بمستقبل أفضل، وكانت على علم بأن عالمًا قائمًا على أساس من الظلم لا يمكن أن يدوم. عندما أتأمل في مشاركة السيدة كلينتون في مؤتمر بكين، لا يسعني سوى الإعجاب بثقتها، فحتى قبل أن تتأكد من إمكانية سفرها، كانت قانعة قناعة راسخة كالجبال بضرورة سفرها. وعندما أملى عليها البروتوكول اختيار كلماتها بحرص، خالفت ذلك وتحدثت بأمانة عن سجلات حقوق الإنسان المتردية. عندما كان العالم يستمع إليها، انتهزت الفرصة كي تُثني على الإسهامات المتواصلة للنساء في كل قرية وبلدة ومدينة حول العالم وتسلِّط الضوء عليها. كانت تعلم ما ينبغي لها فعله هناك بالضبط، واستخدمت تأثيرها للارتقاء بالأخريات وتمكينهن.

تعلمت من تجربتي في بكين دروسي الأولى في القيادة التي كان من شأنها أن تغير مسار حياتي؛ فقد تعلمت أن القائدة الحق تمتلك إيمانًا راسخًا وهدفًا نبيلًا؛ فهي تستمد العزيمة من داخلها لإحداث تغيير في العالم من حولها.

في منظمة أصوات حيوية نطلق على هذه البوصلة الداخلية «القوة المحركة». بالنسبة إلى البعض هي بيان شخصي بالرسالة. إنها السبب الذي يدعونا للنهوض بعد أن نسقط. إنها تلهمك وتعلمك التواضع في الوقت نفسه، وتوفر لك التركيز في مواجهة المشقة الجمة والنجاح الباهر. إنها قوة تبلغ من الشدة ألا يستطيع أي شيء أو أي شخص تشتيتك أو إثناءك عن طريقك.

القيادات النسائية أمثال أون سان سو تشي كثيرًا ما يَبدون وكأن القيادة مُقدَّرة لهن، لكن معظم القادة لا يكونون قادة بالفطرة، وإنما تصنعهم الفرص والخبرة. وإحصائيًّا، في كل بلدان العالم تقريبًا، تتبوأ النساء مواقع القيادة في مراحل متقدمة من العمر مقارنة بالرجال،7 فالسيدات كثيرًا ما يكتشفن أنفسهن كقائدات من خلال سلسلة من الأحداث والخبرات التي تغير من نظرتهن للعالم. بالنسبة إلى بعضهن، ربما تشكلت قوتهن الدافعة في لحظة حاسمة واحدة كانت بالنسبة إليهن دعوةً إلى التحرك، وبالنسبة إلى الأخريات ربما كانت قوتهن الدافعة حادثًا عصيبًا استطعن تحويله إلى قوة تصب في مصلحتهن، وبالنسبة إلى فريق ثالث منهن، ربما كانت قوتهن الدافعة سلسلة من الأحداث البسيطة التي تراكمت بمرور الزمن لتصبح شيئًا عظيمًا غيَّر مسار حياتهن، لكن بحلول الوقت الذي تصل فيه أكثر السيدات فعالية إلى مواقع القيادة يكنَّ قد اكتسبن بالفعل إيمانًا راسخًا وعميقًا، فهن يصبحن قائدات لأنهن يعلمن ما يتعيَّن عليهن فعله، ويشعرن بأن الواجب يحتم عليهن القيام به.

حقيقةً، إن أغلب القائدات اللاتي تتعاون منظمة أصوات حيوية معهن، مثل السيدات الملهمات في الأمثلة التالية، يصفن قوتهن المحركة بأنها شيء استحوذ عليهن تمامًا فلم يجدن بدًّا من قبوله وتتبعه أينما أمرهن بذلك.

مارينا بيسكلاكوفا

روسيا

أفكر في نفسي قائلة إنه لا توجد لحظة بعينها في حياتي يمكنني أن أشير إليها وأقول تلك هي اللحظة التي أدركت فيها أنه ينبغي لي أن أكرِّس حياتي لهذا الهدف. بصراحة، لقد حدث ذلك بالصدفة. أتت سيدة إلى مكتبي في موسكو وقالت: «أخشى أن يقتلني زوجي ولا يعلم أحد بجرمه.» لم يكن يوجد مصطلح العنف الأسري في روسيا حينذاك؛ فالنساء كن يعانين في صمت؛ فلم يكن يُلتفت إليهن أو يُسمع لهن.

figure

عندما أفكر في الأمهات اللاتي أسسن منظمة أصوات حيوية، تخطر ببالي مارينا بيسكلاكوفا. في ١٩٩٧، كانت مارينا واحدة من أعضاء الوفد الروسي المكوَّن من سيدات اختارتهن السفارة الأمريكية في موسكو بعناية لحضور المؤتمر الأول لمبادرة أصوات حيوية من أجل الديمقراطية المنعقد في العاصمة النمساوية فيينا. لم يكن قد مضى على انهيار الاتحاد السوفييتي وقت طويل، وكانت الديمقراطية واقتصادات السوق الحرة بصدد الترسخ. تجولت صاحبة الرؤى الفريدة سواني هانت؛ التي كانت تشغل منصب السفيرة الأمريكية بالنمسا آنذاك، في كافة أنحاء المنطقة؛ حيث رأت التغيرات تتكشف أمامها، وخطرت لها فكرة. على خطى السيدة كلينتون، آمنتُ أن الديمقراطية لن تقوم لها قائمة إن لم تُسمع أصوات النساء؛ ولذا قررتُ جمع قيادات نسائية صاعدة من أنحاء الكتلة السوفييتية السابقة مع قيادات نسائية من أوروبا والولايات المتحدة. ألقى المؤتمر الذي كان برعاية الحكومة الأمريكية الضوء على التكلفة الباهظة التي تم تكبدها نتيجة لإقصاء النساء من النمو الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في أنحاء المنطقة.

قدِمت المُشارِكات في المؤتمر الأول من بلدان شتَّى يحملن ثقافات متنوعة وقضايا كثيرة؛ مثل: المشاركة السياسية، والتنمية الاقتصادية، وحقوق الإنسان. عُرف عن مارينا بيسكلاكوفا بذْلها جهودًا كبيرة في التصدي لمشكلة العنف الأسري المتفاقمة في روسيا، والتي وفق تصريحات الشرطة الروسية لا وجود لها.

بدأ عمل مارينا عام ١٩٩٣ أثناء شغلها وظيفة باحثة في الأكاديمية الروسية للعلوم. كانت مهمتها تقييم الشواغل الرئيسية لدى المرأة في البلاد. ومن بين آلاف الردود على الاستقصاء الذي صممته، تلقَّتْ خطابين من سيدات يصفن قضية لم تتمكَّنَّ من تصنيفها. أدركت مارينا أنهن يصفن ما نطلق عليه اليوم العنف الأسري، لكن آنذاك لم تكن هناك كلمة تصف ذلك في اللغة الروسية.

تحدثت مارينا عن معضلتها مع سيدتين كانت تقابلهما كل يوم أثناء توصيل ابنها إلى المدرسة، وقد اعترفتا أنهما أيضًا ضحيتان للعنف الأسري؛ وهو أمر لم يخطر ببالها قط. وسرعان ما أدركت أنها مشكلة ضخمة تقبع أسفل قشرة المجتمع الخلوق. كانت النساء يتكتمن على الانتهاك بدافع من الخجل والشعور بالذنب، أو من أجل حماية أطفالهن.

ذاع خبر استقصاء مارينا في محادثات خافتة بين النساء، وقبل مضي وقت طويل كانت تتلقى مكالمات من جميع أنحاء البلاد. تعترف مارينا أنها في ذلك الحين لم تكن تعرف ما هي بصدده، أو كيف يمكنها مساعدتهن، فأدركت أنها في حاجة إلى دعم وتوجيه.

سافرت مارينا إلى السويد كجزء من عملها بمعهد الأبحاث التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، وهناك طلبت من زملائها السويديين أن يمكنوها من الاتصال بالباحثين المهتمين بقضية العنف الأسري. وهكذا قابلت ريتفا هولمستورن؛ مديرة مركز المرأة لإدارة الأزمات في جوتنبرج. أطلعتها مارينا على ما توصلت إليه من بيانات ضخمة عن نساء يتعرضن لاعتداءات أسرية. تقول مارينا: «أتذكر أنني أخبرت ريتفا التي تترأس المركز بأنني عندما أعود إلى روسيا سأحاول أن أقرر ما إذا كنت سأستطيع مساعدتهن حقًّا.» فنظرت ريتفا إليها وقالت: «هل تظنين أنك تملكين الخيار؟ تدركين أن عليك القيام بذلك، وستقومين به.»

وهكذا في مكتب من غرفة واحدة وهاتف واحد، بدأت مارينا أول خط ساخن لمكافحة العنف الأسري في روسيا، والذي أصبح فيما بعد المركز الوطني لمكافحة العنف. عملت هناك وحدها طيلة ستة أشهر؛ تتلقى المكالمات وتستشير الأفراد، وسرعان ما بدأت استقبال حالات.

لم يمضِ سوى بضعة أشهر قبل أن تتلقى مارينا تهديدات من الأزواج أو الشركاء الذين يمارسون العنف ضد نسائهن اللاتي كانت تساعدهن. أدركت أنها لن تصل لشيء بإبلاغها الشرطة؛ فالعنف الأسري كان يُعتبر مسألة أسرية شخصية. وبوصفها أمًّا عزباء، كانت مارينا مرعوبة — إذ كانت لا تنفك تزن سلامتها وسلامة ابنها مقابل أصوات هؤلاء النساء — لم يساورها الشك قط في أنها لا يمكنها التخلي عن رسالتها. ومع نمو المركز الوطني لمكافحة العنف، ما فتئت مكالمات النجدة تنهال عليها. شعرت أنها فتحت على نفسها أبواب الجحيم وفكرت: «لن يُكتب لهذا الأمر الاستمرار؛ بالنسبة إليَّ وبالنسبة إلى هؤلاء السيدات.» كانت في حاجة إلى شيء أكبر.

كانت استراتيجيتها الأولى الضغط من أجل تمرير قانون مناهض للعنف الأسري. لقد نجح الأمر في بلدان أخرى، لكن في ظل المناخ السياسي في روسيا اكتشفت أن النجاح مستبعد؛ لذا غيرت وجهتها وشرعت في الاتصال بجهات إنفاذ القانون في إطار القانون القائم؛ لتبدأ تدريبات مع الشرطة ووكلاء النيابة والقضاة.

رغم أن رجال الشرطة لم يستوعبوا مسألة تفاقم العنف الأسري على هذا النحو، فإنهم كانوا قد عانوا من عواقبه — المتمثلة في قضايا القتل والاعتداءات والشكاوى — التي لم يقرُّوا بها بوصفها أنماطًا للانتهاك. جمعتهم مارينا بالمستشارين بمركز إدارة الأزمات، وحددت ضباط الشرطة ووكلاء النيابة والقضاة المهتمين بالقضية والمتعاطفين معها الذين سيشكلون حلفاءً ومدربين. خطوة بخطوة، تعاونوا معًا لبناء الثقة والالتزام المتبادل لمكافحة العنف ضد المرأة.

لكنه حتى مع نمو الحركة، كانت مارينا بالكاد تخلد للنوم، ومهما عملت بجد، لم تتمكن من التغلب على المشكلة. كل ساعة تموت سيدة في روسيا على يد أحد أقاربها،8 وخلف كل اسم قصة، وغالبًا ما تكون قصة سيدة تواقة لتكون زوجة وأمًّا مثالية. النظرة السطحية الشائعة لهن كانت تتمثل في أنهن سيدات مخطئات بطريقة أو بأخرى ويستحققن التأديب. أدركت مارينا أنها في حاجة إلى تبديل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى القضية، وإلى زيادة الوعي بالعنف الأسري بوصفه مشكلة اجتماعية في روسيا.

في عام ١٩٩٧، دشن المركز الوطني لمكافحة العنف الأسري حملة توعية وطنية أُطلق عليها «لا تبرير للعنف الأسري». أوضحت الحملة أن العنف الأسري ليس شاغلًا شخصيًّا، وإنما مشكلة عامة. تواصلت مارينا مع الناجيات من العنف الأسري، وقدَّمتْ لهن الخطوط الساخنة والملاذات الآمنة التي يمكنهن اللجوء إليها عند وقوع العنف. كانت المرة الأولى التي شاهدت فيها ضحية للعنف الأسري تتكلم بصراحة في لقاء تليفزيوني حول تجربتها. كانت تلك نقلة نوعية في القضية بالنسبة إلى مارينا. لم تغطِّ السيدة وجهها، ولم يوجه لها الجمهور اللوم. كان التوجيه العام يؤتي ثماره.

بحلول عام ١٩٩٩، كانت مارينا قد أنشأت أحد عشر مركزًا لإدارة الأزمات في مختلف أنحاء روسيا، وشبكة من خمس وثلاثين منظمة مكرَّسة لمكافحة العنف الأسري. ومع تعاون وزارة الشئون الاجتماعية الروسية مع المركز الوطني لمكافحة العنف الأسري في إطار شراكة، بدأت الوزارة هي الأخرى افتتاح ملاجئ ومراكز لإدارة الأزمات، وشكَّل المركز الوطني لمكافحة العنف الأسري شبكة أكبر لم تتضمن منظمات غير حكومية وحسب، وإنما منظمات تديرها الدولة كذلك. واعتبارًا من ٢٠١٢، ضمت تلك الشبكة أكثر من ١٦٠ منظمة. وتخطيًا لحدود روسيا، مدت الحركة النسائية الدولية يد العون كذلك. كانت القوانين الدولية، مثل منهاج عمل بكين واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) بمثابة أدوات مهمة، وكذا المنظمات الدولية مثل رابطة المحامين الأمريكيين.

عندما بدأت مارينا عملها، كان هدفها مساعدة امرأة واحدة، وبعد مضي قرابة العقدين، ساعد مركزُها وشبكة شركائه أكثر من مائتي ألف سيدة. قالت مارينا: «أُدرك الآن أنني إن قررت التوقف، أو ربما التقاعد، فإن العمل لن يتوقف، بل سيستمر، وأتخيل نفسي أُلقي بجلمود صخر من أعلى تلٍّ، وذات يوم يبدأ الجلمود في التدحرج من تلقاء نفسه. وهذا ما أراه نجاحًا.»

حتى في تلك الأيام المبكرة في عام ١٩٩٤، كانت هناك قوة داخلية تدفع عمل مارينا؛ إذ تقول: «كانت قوتي الدافعة دومًا هي إعلاء صوت المحجوبين. استحوذت عليَّ هذه القوة، وكما حُذرت، لم أكن أملك الخيار. لقد كانت رسالة أحاول إثبات أهليتي لها طيلة تلك السنوات.»

حفصة أبيولا

نيجيريا

لا زلت أتذكر اللحظة التي أُلهمت فيها الفكرة. كنت أسير في ساحة جامعة هارفرد عام ١٩٩٦، وكان مجموعة من الطلبة يجمعون التوقيعات من أجل شيء ما. فكرتُ: «ما الخطب هذه المرة؟ ربما يناضلون من أجل الحق في المشي حفاة في ساحة الجامعة؟» لكن عندما تحدثوا معي، أدركت أنهم يجمعون التوقيعات من أجل تحرير رئيس منتخب في أفريقيا من السجن. كانوا يتحدثون عن أبي.

figure

في عام ١٩٩٣، انتُخب والد حفصة أبيولا، ويدعى مسعود أبيولا؛ وهو رجل أعمال عصامي ناجح؛ رئيسًا لنيجيريا بناء على برنامجه الانتخابي «أمل ١٩٩٣: وداعًا للفقر». كان أبيولا ابنًا لمزارع فقير، وكان أول من كُتب له البقاء على قيد الحياة بعد مرحلة الرضاعة بين أطفال أبيه السبعة عشر. وإذ عُرف عنه شخصيته الكاريزمية، وأنه رجل الشعب، كان رائدًا في الأعمال الخيرية، وآمن بأن أفريقيا ينبغي أن تكون مكانًا يوفر الفرص للجميع.

عاشت نيجيريا تحت وطأة الحكم العسكري لقرابة الثلاثين عامًا، لكن في عام ١٩٩٣ قرر المجلس العسكري الحاكم عقد انتخابات ديمقراطية، وفاز بالانتخابات مسعود أبيولا فوزًا ساحقًا، مُحدثًا حراكًا مناصرًا للديمقراطية لم يتوقعه الجيش قط، وسرعان ما أبطل المجلس نتيجة الانتخابات واعتُقل والد حفصة لإعلانه أنه الفائز بالانتخابات. حينها لم تكن حفصة مهتمةً بالسياسة. كانت تسعى للحصول على الدكتوراه من جامعة هارفرد ثم تعود إلى نيجيريا لتقوم بما قامت به أمها: تتزوج وتنشئ أسرة، لكن تغير كل شيء عام ١٩٩٣.

عندما سُجن والد حفصة، دشَّنت والدتها، خضيرة أبيولا، حملة للمطالبة بإطلاق سراحه. تتذكر حفصة عودتها مسرعة من محاضراتها لتُجري مكالمات هاتفية يومية بوالدتها التي تكرِّس جهودها لإبقاء الأمل حيًّا في الديمقراطية وممارسة الضغط على الجيش لإطلاق سراح مسعود، وكانت حفصة تسألها: «ماذا بوسعي عمله لمساعدتك؟» ودائمًا ما كانت ترد والدتها: «أفضل ما يمكنك عمله الآن هو المواظبة على دراستك.»

بعد الظهيرة، تحدث أولئك الطلاب مع حفصة، التي أدركت أنه ربما يوجد شيء ما بوسعها القيام به. كان انطباعها عن الأمريكيين، حتى حينه، أنهم لا يعرفون الكثير عن أي شيء يجري بالبلدان البعيدة عنهم، لكن ما فاجأها وجود أمريكيين مهتمين بالخَطب الذي ألمَّ بوالدها هناك؛ في النصف الآخر من العالم.

أسرعت عائدة إلى مهجعها للاتصال بوالدتها، وقالت لها: «أمي، يوجد بعض الطلبة هنا بالحرم من منظمة العفو الدولية. إنهم ينظمون حملة لإطلاق سراح والدي، ويريدون مني الانضمام لهم والحديث إلى بعض الناس عن الموقف. أمي، أعتقد أن هناك ما بوسعي القيام به هنا لمساعدتك.»

على مدار الأسابيع القليلة اللاحقة، وجَّهت خضيرة ابنتها عبر الهاتف، وساعدتها على اكتشاف نفسها وإيجاد الشجاعة للتحدث أمام الناس. كانت كلتاهما ترتقب حفلَ تخرُّج حفصة، عندما سترى كلٌّ منهما الأخرى للمرة الأولى بعد مضي عام. لكن ذات يوم، لم تهاتف خضيرة ابنتها كما اعتادت أن تفعل. تذكرت حفصة قائلة: «أدركت أن شيئًا ما لم يكن على ما يرام، لكنني افترضت أنها مريضة أو أنها مستغرقة في عملها السياسي ذلك اليوم.» لكن جاءتها مكالمة عاجلة من أصدقاء لعائلتها أطلعتها على الحقيقة المروعة؛ لقد اغتيلت خضيرة؛ أُطلق عليها الرصاص عقب إضراب عمالي شاركت في تنظيمه.

مع وفاة والدتها واستمرار اعتقال والدها، شعرت حفصة أنه لا خيار أمامها سوى مواصلة مهمتهما، تقول حفصة: «أدركت أنه وجب عليَّ أن أسير على خطاهما. شرعت في السفر في أنحاء الولايات المتحدة كي أتحدث إلى الجماعات الكنسية وتجمعات الطلبة والسياسيين ورؤساء الشركات، وأي شخص سيستمع لي وسيساعدني في قضيتي؛ إطلاق سراح والدي واحترام الديمقراطية.»

لقد التقيتُ بحفصة عبر صديق مشترك في عام ١٩٩٧. حينها كنت أعمل بوزارة الخارجية، وكانت حفصة تضغط من أجل لقاء مسئولي وزارة الخارجية؛ لتحظى بدعمهم لها في دعوتها لإطلاق سراح والدها. أصبحت حينها مدافعة متمرسة ومثيرة للإعجاب عن الحقوق، وخطيبة مفوهة ومقنعة تمتعت بإمكانات مذهلة لإحداث التغيير في بلدها، لكن ما أدهشني أكثر من غيره كان صمودها، حتى بعد مرورها بمثل هذه المأساة في سن صغيرة. واعتمادًا على بأسها الهادئ، ركزتْ طاقتها على إحداث التغيير في نيجيريا.

في عام ١٩٩٨، سافر كلٌّ من توماس بيكرينج؛ وكيل وزارة الخارجية، وسوزان رايس؛ مساعدة وزيرة الخارجية، إلى نيجيريا للقاء والد حفصة في السجن، ولحثِّ الجيش على السماح بإجراء انتخابات ديمقراطية. وفي عشية اليوم المحدد لإطلاق سراحه، سقط مسعود أبيولا على الأرض في حضور بيكرينج ورايس. تعتقد حفصة وأسرتها أن مسعودًا دُسَّ له السم، رغم أن سبب الوفاة الرسمي الذي أُعلن عنه كان أزمة قلبية. ومن غير إبطاء أعلنت الحكومة العسكرية إجراء انتخابات ديمقراطية في غضون تسعة أشهر، وحينها قالت حفصة: «لم يشهد والداي قط مجيء الديمقراطية إلى نيجيريا. لقد قضيا نحبهما من أجل هذه القضية.»

بعد وفاة والديها، سأل كثيرون حفصة إن كانت ستستكمل إرثهما السياسي؛ فقد جسدت بجلاء رؤية آل أبيولا وشخصيتهما الكاريزمية والتزامهما، إلا أن منهجها كان قائمًا على رؤية استراتيجية أعمق؛ فقد أخبرتني: «لسنا بحاجة في نيجيريا إلى زعيم عظيم أو زعيمين عظيمين فحسب؛ نحن بحاجة إلى تغيير جذري.»

كانت ثلاثة عقود من الحكم العسكري قد عززت من نظام قيادة ديكتاتوري في نيجيريا. شرحت حفصة الموقف بقولها: «أصبح اسم حكومتنا مرادفًا لسرقة الموارد العامة. لم يُعرف مصير ١٢ مليار دولار من عائدات النفط من عام ١٩٨٨ إلى عام ١٩٩٤،9 ومن المرجح أنها وُزِّعت على القلة التي تملك مقاليد السلطة.» ورغم ثروة نيجيريا الطبيعية، أصبحت نيجيريا واحدة من أفقر بلدان العالم؛10 ففي عام ١٩٩٩، نبهت الأمم المتحدة إلى أن ثلثي سكان نيجيريا البالغ عددهم أكثر من ١٠٠ مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر.11 وانخفض متوسط العمر إلى خمسة وثلاثين عامًا، وهو ما يقل عن متوسط العمر بالنسبة إلى البلدان النامية بعشر سنوات،12 وكان ما يقرب من نصف السكان لا يحصلون على مياه شرب نظيفة أو صرف صحي.13 كتب جينجا أديفاي؛ محرر جريدة «فانجارد» المستقلة الصادرة في لاجوس: «نأمل أن نجمع شتات حياتنا بعد رحيلهم.»14

ترى حفصة أن المرأة النيجيرية، التي حصلت على أقل القليل ودفعت في المقابل أكبر ثمن في ظل الحكم العسكري، تقدم إمكانية قوية للتغيير. لقد حافظت على ثقافة توافق الآراء والقيم الإيجابية والشراكة. وهي بذلك تحتل موقعًا فريدًا يتيح لها تفكيك التقاليد السياسية العنيفة التي تعترض سبيل الديمقراطية. وللأسف، نادرًا ما تُتاح للمرأة النيجيرية الفرصة لتولي مناصب القيادة السياسية.

تقول حفصة شارحة: «سوء القيادة سحق إمكانات بلدي، وأفضل سبيل لإيلاء إرث والدي حقه هو أن أكون جزءًا من خلق هذا التغيير الجذري؛ خلق واقع جديد.» في عام ١٩٩٩، أسست «مبادرة خضيرة من أجل الديمقراطية» لتخليد ذكرى والدتها بمساعدة الآلاف على توصيل أصواتهن. ولما يزيد على عقد من الزمان، دربت شابات على لعب دور قيادي في تشكيل مستقبل بلدها؛ تقول: «القيادة معناها البحث عن البقاع التي تُنتهك فيها الإنسانية، والإسهام في تشكيل الوسيلة التي تخرجنا من المستنقع الذي سقطنا فيه.»

تُدرِّب «مبادرة خضيرة من أجل الديمقراطية» الشابات على تحمل مسئولية حياتهن الشخصية والمهنية، كما تدربهم على المشاركة في السياسة وصنع القرار على المستويين المجتمعي والوطني. ورغم أن المتخرجات لا يزلن في سن صغيرة، فإنهن ينخرطن في قضايا المجتمع بدءًا من الجهود الرامية إلى إيقاف العنف ضد المرأة، وضمان تفعيل نسبة مشاركة المرأة السياسية البالغة ٣٠ بالمائة، إلى تشجيع مبادرات الأعمال الحرة وغيرها من استراتيجيات التخفيف من حدة الفقر.

تقول حفصة عنهن: «أراهن يسِرْنَ على نهج خضيرة ليكنَّ مِثْلها في المستقبل. إنهن نساء رائدات في الحياة السياسية في نيجيريا. إنني أعمل على إذكاء شعلة في قلوب جيل جديد من النيجيريات اللاتي يقلن: «يمكن لنيجيريا أن تعود إلى سابق عهدها. بمقدورنا هذا».»

وتصف حفصة القوة الدافعة خلف ثقتها الهادئة وصمودها وقوتها: «لدينا ما يكفي، وأعدادنا كافية. تلك الكلمات التي أعيش عليها. لدينا ما يكفي من الموارد لكل شخص، وستزيد بتشاركنا إياها. ولأن أعدادنا كافية؛ فإننا نمتلك القدرة على حل كافة المشكلات التي تجتاح عالمنا.»

أنيل تاونسند دييز-كانسيكو

بيرو

عندما أعيد انتخابي بأغلبية ساحقة لعضوية الكونجرس، لم أعتبر هذا جائزة بل تحديًا لإيصال أصوات الناس عبر أروقة الحكومة.

figure
إبان تسعينيات القرن العشرين، عانت بيرو، مثل كثير من بلدان أمريكا اللاتينية، من انتشار الفساد والجريمة المنظمة. وقد قُدِّرَت التداعيات الاقتصادية للفساد — تهريب المخدرات، واستغلال العمالة، والتهرب الضريبي، وعمليات الشراء غير القانونية في قطاع الدفاع — بنحو مليار دولار. وبموازاة ذلك، تدهورت جودة البرامج والمؤسسات الاجتماعية مثل المستشفيات والمدارس، وعاش أربعة وخمسون بالمائة من شعب بيرو تحت خط الفقر.15

خلال تلك السنوات، استخدم النظام الحاكم أساليب الترهيب ضد خصومه. ولما كانت أنيل تاونسند صحافية تعمل من أجل كشف الفساد، كان يُتنصَّت على مكالماتها الهاتفية، وكثيرًا ما كانت تتم مراقبتها، كما كان ابنها يتلقى تهديدات. حينها بدا أنه لا مخرج مما تعانيه. لكن السياسة كانت تجري في عروق أنيل مجرى الدماء؛ فقد كان والدها سياسيًّا مرموقًا حارب من أجل زيادة شفافية الحكومة. وفي أوائل تسعينيات القرن العشرين، بينما كانت تسافر في أنحاء البلاد لإعداد تقارير إخبارية عن الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، بدأت تشعر أنه لم يعد بوسعها إعداد التقارير وحسب عن مشكلات بيرو؛ كانت بحاجة للعمل على حلها.

في عام ١٩٩٥، انضمت أنيل إلى حملة خافيير بيريز دي كويار الرئاسية ضد رئيس بيرو ألبرتو فوجيموري. بعدها ببضعة أشهر، طلب منها الحزب أن تخوض الانتخابات كمرشحة برلمانية. وأدركت أنه سيتعين عليها الالتزام بالتغيير السياسي والاجتماعي أكثر من أي وقت مضى. قالت أنيل عن ذلك: «كنت مدركة أن تكريس حياتي المهنية بالكامل لمكافحة الفساد ومحاربة من لا يريدون إفساح مساحة سياسية للمرأة ستكون بالنسبة إليَّ بمثابة معركة مستمرة.»

في بيرو، أظهرت نتائج الاقتراع أن الشباب من الجنسين كانوا في عزلة عن الحياة السياسية؛ إذ لم تكن لديهم ثقة في الساسة. وبوصفها قائدة جديدة، أرادت أن تستعيد ثقتهم ومشاركتهم. أصبحت أنيل أحد أقوى الأصوات المطالبة بالتغيير. وأثناء إحدى خطب فوجيموري أمام الكونجرس، التي بثها التليفزيون الوطني، اقتربت أنيل — التي كانت حينها عضوة جديدة بالكونجرس — من منصة الرئيس ووضعت أمامه ماعونًا فارغًا. جذبت جرأةُ ورمزيةُ لَفْتَتِها الانتباهَ، إذ مثَّلت وعود فوجيموري الخاوية، وأوضحت أن شعب بيرو يموت جوعًا.

في نوفمبر عام ٢٠٠٠، اتُّهم الرئيس فوجيموري بالإخلال بمنصبه وعُزل منه؛ إذ طالته فضيحة فساد ولاحقته احتجاجات قوية ضد انتهاكات حكومته لحقوق الإنسان. ومع شروع بيرو في الانسلاخ من حكم أوتوقراطي سيطر على الأعمال ووسائل الإعلام والنظامين القضائي والقانوني، والاتجاه في الوقت ذاته نحو مكافحة الجريمة المنظمة، رأت أنيل فرصة لخلق حكومة أكثر شفافية وأقل مركزية؛ أي التأسيس لديمقراطية حقيقية في بيرو.

في رحلتي الأولى إلى بيرو في فبراير ٢٠٠٣، تناهى إلى مسامعي أن عضوة كونجرس شابة شديدة البأس فازت بأكبر عدد من الأصوات مقارنةً بأي عضو آخر بالكونجرس داخل البلاد. كرَّست أنيل جهودها لمكافحة الفساد، فتعاونت مع زملائها لكشف الروابط بين الفساد والعنف الناجم عن المخدرات، ولإقرار أن الحكومة يجب أن تفصح عن الميزانيات وغيرها من المعلومات من أجل الرقابة العامة.

رتبت السفارة الأمريكية في بيرو لقاء جمعني بأنيل في مقهًى صغير بوسط مدينة ليما خلال تلك الزيارة الأولى. كانت تتكلم عن إيمان راسخ وبإيقاع سريع وواثق. أخبرتني أنيل أنها عُيِّنت لتوِّها وزيرة لشئون المرأة، وأنها تخطط للتركيز على إقامة حوار بين الحكومة والمنظمات غير الحكومية لتعزيز الشفافية وإقامة شراكات جديدة. كانت تتوقف بين الحين والآخر وقد غلبها الإلهام تقريبًا أو ربما لتلتقط أنفاسها. إنها حالمة وصاحبة رؤية، لكنها تركز بالمثل على قضيتها ولا تلين. أخبرتني كيف أنها اتخذت المبادرة بالفعل لعرض مشروع تشريع جديد من أجل حماية حقوق المرأة في المنزل، وفي العمل، وتمكنت من عرضه على الكونجرس. وبالتعاون مع المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، تمكنت من إقناع لجنة الشئون الدستورية بالكونجرس بإدخال تعديل على الدستور ينص على أن الدولة يجب أن تحترم المساواة بين الجنسين وتشجع عليها في المشاركة السياسية.

ربما كانت أنيل واحدة من النساء القلائل اللاتي فُزنَ بعضوية الهيئة التشريعية بكونجرس بلدها، لكنها لم ترهب الدفاع عن مساواة المرأة؛ فبالنسبة إليها، المساواة ليست تفضيل جماعة على أخرى، بل مساعدة بلدها بأكمله، وقد قالت في هذا الشأن: «النساء هن العمود الفقري لمجتمعاتنا؛ فلسنوات طوال قُمنَ بالعمل الذي لم تقُم به الحكومة؛ فكن ينظمن المراكز المجتمعية والبرامج التعليمية، ويوفرن الطعام للجائعين والرعاية الصحية للمرضى. الأمر الوحيد الذي يبدو مناسبًا هو أنه مع تطبيق اللامركزية على سلطة الحكومة، ينبغي أن يزداد عدد النساء اللاتي يتقدمن لشغل المناصب الجديدة في المجالس المحلية والوحدات الإدارية.»

في عام ٢٠٠١، عملت أنيل على تمرير قانون يفرض حصة مخصصة للنساء تبلغ ٣٠ بالمائة في قائمة مرشحي كل حزب لانتخابات الكونجرس. ومنذ ذلك الحين، تصدى المزيد من السيدات لمناصب القيادة السياسية على المستويين المحلي والوطني. وتثق أنيل في أنه بزيادة عدد المواطنين — النساء والرجال على السواء — الذين يؤدون دورًا نشطًا في العملية السياسية، سيستمر انخفاض معدل الفقر في بيرو وسيزدهر اقتصادها. استمرت أنيل في التشجيع على المساواة بين الجنسين والشفافية العامة في بيرو وأمريكا اللاتينية؛ إذ عملت مستشارة لمنظمات مثل: مصرف التنمية للبلدان الأمريكية، واللجنة النسائية للبلدان الأمريكية التابعة لمنظمة الدول الأمريكية، إضافة إلى البنك الدولي.

بمقدور أنيل أن ترى التغيير يشق طريقه على مَهلٍ عبر بيرو والمنطقة بأكملها، وهي تعتقد أن المجال أمام أصوات المرأة في السياسة يتفتح أخيرًا في أمريكا اللاتينية، تحت قيادة قلة من السيدات اللاتي تحدين «مُسلَّمات» السياسة التقليدية كما فعلتْ هي. انتُخبت ميشال باشيلي؛ وزيرة الدفاع السابقة؛ رئيسة لشيلي في ٢٠٠٦، وبوصفها أول رئيسة دولة في أمريكا اللاتينية فقد حملت شعلة جديدة، وحوَّلت رؤية المنطقة بشأن ما تعنيه القوة. وأصبحت ديلما روسيف رئيسةً للبرازيل في عام ٢٠١١، وأعلنت خلال خطابها التأسيسي أنها ستحارب من أجل حقوق المرأة بحيث يكون انتخاب القيادات النسائية «أمرًا من الأمور الطبيعية.» ومنذ انتخابها، نزلت معترك السياسة في البرازيل موجة غير مسبوقة من النساء فيما أُطلق عليه في وسائل الإعلام «تأثير ديلما». لا يزال أمام بيرو تصعيد سيدة إلى أعلى منصب بالبلاد، لكن كل امرأة تتصدى للقيادة على نحو أخلاقي وشفاف، مثل أنيل، تُدني هذا الاحتمال أكثر قليلًا من الحدوث. إن قوة أنيل المحركة هي: «النساء سيصنعن التغيير، ومهمتي إيصال أصواتهن.»

سونيتا كريشنان

الهند

لم تكن أميتا تتجاوز الأعوام الثلاثة من عمرها عندما خدع متاجرون بالبشر والدتها. لقد وعدوها بأن ابنتها ستنال فرصة لحياة أفضل، إلا إنهم باعوا أميتا، وعندئذٍ التمست والدتها المساعدة، مستميتة في إيجاد ابنتها. خاطرنا معًا بحياتنا؛ واجهنا المتاجرين وأنقذنا أميتا، والآن بعد مرور ثلاثة عشر عامًا، غدت أميتا يافعة، وتطمح في أن تكون طبيبة. إنها الأولى على فصلها بالمدرسة.

كرَّست سونيتا كريشنان حياتها لكسر دوامة العنف المتمثلة في الاتجار بالبشر بغرض الاستغلال الجنسي، وتجارة الرقيق، وتفشي فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز في الهند. ورغم أنها تتعدى بالكاد الأربع أقدام طولًا، فقد اضطلعت بمهمة ضخمة؛ إذ أسست منظمة براجوالا — الشعلة الأبدية — وهي منظمة غير حكومية تنقذ الأطفال مثل أميتا من أوكار الدعارة، وتساعدهن على إعادة بناء حياتهن.

figure

استرجعت سونيتا ما حدث قائلة: «كانت أميتا مصدر إلهام؛ لأنه حتى بعد إنقاذها ظلت معرضةً للخطر؛ إذ لم يكن يوجد مكان يوفِّر لها الأمان ويشعرها بالحماية. منذ ثلاثة عشر عامًا، قررت أن أبني ملجأً، وبنيته من أجل أميتا.»

كانت قوة سونيتا كريشنان المحرِّكة نابعة من صدمة تعرضت لها هي نفسها؛ فعندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها تعرضت لاغتصاب جماعي على يد ثمانية رجال. عقب هذا الهجوم، وجدت سونيتا صعوبة شديدة في استيعاب ما حدث لها. رفضت أن تعتبر نفسها ضحية، بل حوَّلت ألمها إلى التزام متَّقد؛ إذ تعهدت بأن تلعب دورًا في وضع حد للاستغلال الجنسي للنساء والأطفال.

عندما قابلتُ أميتا لأول مرة، أطلعتني على أن أكثر من ٩٠ بالمائة من الأطفال بملجئها مصابون بفيروس نقص المناعة البشرية. ظننت أنها تعني أن الفيروس انتقل من الأمهات إلى أطفالهن، لكنها شرحت قائلة: «لا! جميع الأطفال بالملجأ ناجون من الاتجار بالبشر بغرض الاستغلال الجنسي. إنهم أطفال أُنقذوا من الاستغلال في المواد الإباحية والسياحة الجنسية والدعارة. لقد اختُطفوا أو خُدعوا بوعود العمل الكاذبة، أو باعهم آباؤهم، أو سقطوا في استرقاق الدائنين.» حينها لم تكن تتجاوز سن أصغر طفل في الملجأ ثلاثة أعوام ونصفًا.

تعمل منظمة براجوالا على خمس ركائز: الوقاية، والإنقاذ، وإعادة التأهيل، وإعادة الدمج، والمؤازرة، وكلُّ ركيزة تؤدي دورًا متممًا في استراتيجية وضعتها سونيتا مع شركائها وطاقم العمل على مدار خمسة عشر عامًا.

يأتي في مقدمة هذه الركائز الوقايةُ. ومن أجل منع الاستغلال الجنسي لأغراض تجارية قبل أن يقع، تدير منظمة براجوالا شبكة مكوَّنة من ثماني عشرة مدرسة ابتدائية في ولاية أندرا براديش. تفتح المدارس أبوابها لأطفال النساء المشتغلات بالدعارة وغيرهم من الأطفال الذين يعيشون بالمناطق المحيطة بأوكار الدعارة. والهدف هو تسليح هؤلاء الأطفال بالمهارات والمعرفة اللازمة كي يحيوا حياة مختلفة عما يشاهدونه بالمنزل. المدارس بمثابة مكان آمن يمكث به الأطفال نهارًا، كما أنه يبعدهم عن مالكي أوكار الدعارة والمتاجرين بالبشر. تقود سونيتا جهودًا قائمة على العمل المجتمعي بالعشوائيات والقرى والمدارس والكليات؛ حيث يسعى فريقها للتعرف على النساء والأطفال المعرَّضين للخطر ويتواصل معهم. إنهم يعملون بمبدأ الوقاية خير من العلاج.

الركيزة الثانية هي الإنقاذ. بالتنسيق مع الشرطة، تقوم فرق الإنقاذ والتعافي بمنظمة براجوالا بالتسلل إلى أوكار الدعارة التي تخالف القانون؛ لقد تمكنوا بداية من ديسمبر ٢٠١١، من إنقاذ أكثر من ٦٤٣٦ سيدة وطفلًا. العديد من عضوات فريق براجوالا كنَّ مشتغلاتٍ بالجنس في السابق قبل أن يتم إنقاذهن. هن حاليًّا يساعدن الشرطة في تمييز الضحايا عن الجانيات المختبئات بينهن، كما أنهن يستطعن التواصل مع الضحايا بحنوٍّ خالص وتفهُّم صادق.

إعادة التأهيل عمل بطيء. كثير ممن يجري إنقاذهم أُعطوا مخدرات لحدِّ الإدمان، وجُرِّدوا من إنسانيتهم، وجرى غسيل أمخاخهم. إن قدرتهم على الثقة بإنسان آخر معدومة تقريبًا، ويمكن أن يكون التعافي عملية طويلة ومؤلمة. وفي ظل رعاية الأخصائيين الاجتماعيين والطواقم الطبية ودعم الأقران، يتحول الضحايا شيئًا فشيئًا إلى ناجين بمرور الوقت. يواصل كثير من هؤلاء حياتهم وهم يحملون فيروس نقص المناعة البشرية. ويتعين عليهم أن يتغلبوا على تحديات بدنية ونفسية واقتصادية شديدة الصعوبة، ويواجهون تهديدات مستمرة من المتاجرين بالبشر، ويوصمون من قبل المجتمع.

كثيرًا ما ينبذ المجتمع ضحايا الاتجار بالبشر. وعملية إعادة الإدماج هي أكبر التحديات في عمل سونيتا. لقد وضعت برنامج براجوالا للتعافي الاقتصادي الذي يوفر خيارات مستدامة وسانحة لسُبل المعيشة وخدمات إعادة الإدماج. يتلقى مئات الناجين تدريبًا ليكونوا عاملي لحام، أو نجارين، أو بنَّائين، أو حرَّاس أمن، أو سائقي تاكسي، أو مصورين، أو طباعين. ويوفر الشركاء من المؤسسات تدريبًا إضافيًّا وأماكن توظيف تدفع رواتب تفوق متوسطات الرواتب الوطنية.

المؤازرة هي الركيزة الخامسة والأخيرة. تدرك سونيتا وفريقها أن عملهم وحده لن يكفي؛ لذا يتعاونون تعاونًا وثيقًا مع شركاء من قطاعات مختلفة، وتعمل مع السلطات الحكومية على صياغة سياسات لمكافحة الاتجار بالبشر من شأنها أن تساعد الناجين على الوصول لخدمات إعادة التأهيل والتعويض المادي. وفي عام ٢٠١٠، تبنت ولاية أندرا براديش سياسة تقدمت سونيتا بمقترحها، تحدد المعايير الدنيا للرعاية التي يجب أن تستوفيها الملاجئ ومقدمو الخدمات.

تقول سونيتا: «لم يكن الطريق سهلًا. كان عليَّ دفع ثمن باهظ.» فالاتجار بالأشخاص تجارة مربحة، وثمة كثيرون سيودُّون إسكات سونيتا. فقد هُوجمت بوحشية مرات عديدة بسبب عملها، وكثيرًا ما تتلقى تهديدات بالقتل، لكنها دائمًا ما تتوجه لعملها في اليوم التالي؛ لأنها تريد إيصال رسالة قوية: «أنا لست ضحية. إنهم لا يرهبونني. لا يمكنهم إيقاف جهودي.»

تَشكَّل هذا الالتزام منذ سنوات، تقول سونيتا: «عندما تعرضت للانتهاك كان من الممكن أن أعتبر نفسي ضحية. كان هذا هو المخرج السهل. الْتمست المساعدة من الآخرين لانتشالي من الظُّلمة التي شعرت بها، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك. أحسست بالعزلة والخزي. تساءلت إن كان ما حدث خطئي، لكنني حينها نظرت داخلي.» ما وجدته سونيتا بداخلها كان نبعًا من القوة أكسبها حماسًا.

تعترف قائلة: «أعايش كثيرًا جدًّا من الألم، كثيرًا جدًّا من المعاناة. أحيانًا يفوق الأمر حد الاحتمال، لكن ثمة قوة عظيمة يستشعرها من يمر بالألم، وأومن بأنه يجب على المرء أن يستفيد من القوة الكامنة في الألم؛ تلك هي القوة المحركة لحياتي.»

حواء عبدي

الصومال

إن توقفتُ عن العمل؛ فلن يكون هناك مكان للنساء يذهبن إليه. إن النساء عنصر أساسي في تحقيق الاستقرار.

منذ قيام دولة الصومال عام ١٩٦٠، أتت الحرب على الأخضر واليابس فيها، وخلَّفت عقودٌ من الفقر والاضطرابات آثارًا لا تندمل، وقَوَّضتِ النزاعات الجهوية والقبلية أيَّ شكل من أشكال السيطرة المركزية على البلاد. والنتيجة خليط من المناطق الذاتية الحكم تشرف عليها العشائر، التي كوَّنت كلٌّ منها حكومتها الخاصة. ونتيجة للعنف المستمر، أُجبر قسم كبير من الحكومة المركزية على العمل خارج الصومال في دولتي كينيا وجيبوتي المجاورتين.16 ورغم أن الانتخابات التي جرت سلميًّا في عام ٢٠٠٩ منحت قدرًا من الأمل في التقدُّم، فلا تزال الأعمال العدائية بين العشائر مستمرة، ولا تزال حالة عدم الاستقرار قائمة، إلى جانب الفقر المتفشي في البلاد. وفي حين أن هناك انعدامًا شبه تام للبيانات الرسمية، فإنه من المعلوم أن العنف ضد المرأة والاغتصاب والعنف الأسري هي أمور شائعة في البلاد.17 وتقدِّر منظمة اليونيسف أن ٩٨ بالمائة من النساء يخضعن لختان الإناث؛ الأمر المفضي غالبًا إلى مضاعفات صحية خطرة.18
figure

في كثير من بقاع الصومال، الرعاية الصحية بدائية في أفضل الأحوال. في سن مبكرة، شاهدت حواء عبدي أمها وهي تموت أثناء المخاض، فقطعت على نفسها عهدًا بأنها يومًا ما ستدعم الاحتياجات الطبية للمرأة الصومالية. في سن السابعة عشرة، نالت منحة لدراسة الطب في أوكرانيا. وبعد تلقيها التدريب الذي يؤهلها للتخصص في طب النساء والتوليد، عادت الدكتورة حواء عبدي إلى الصومال لتكون أول طبيبة متخصصة في طب النساء والتوليد في البلاد.

تزوجت الدكتورة حواء في الصومال، وأنجبت ثلاثة أطفال، وعملت في مستشفيات حكومية. ولما كانت على درجة كبيرة من الوعي بتبعات المجاعة والحرب على النساء والأطفال، التمست إذن محمد سياد بري، الرئيس آنذاك، لافتتاح عيادة من غرفة واحدة في شبيلي السفلى؛ وهي قرية خارج مقديشيو؛ لمساعدة البدويات أثناء مخاضهن. في عام ١٩٨٣، فتحت العيادة أبوابها بمزرعة عائلتها البالغة مساحتها ٩٨٠ فدانًا. كانت مقتنعة أنه كي تتقدم الصومال، يجب أن يوجد أناس على الأرض يشجعون على التغيير.

في عام ١٩٩١، انهارت الحكومة الصومالية، وضربت المجاعات أطناب البلاد، وفرت مجموعات الإعانة الأجنبية من البلاد خشية العنف الناشئ، لكن الدكتورة حواء مكثت، وبدلًا من سحب خدماتها قامت بتوسيع نطاقها. تحولت مزرعة أسرتها إلى مستشفًى ومدرسة ومخيمٍ للاجئين؛ حيث وجد ٧٨ ألف شخص الملاذ والرعاية الطبية لإصابات الحرب وسوء التغذية الشديد والأمراض.

تحولت العيادة التي كانت مكوَّنة في وقت من الأوقات من غرفة واحدة إلى مستشفى حواء عبدي؛ حيث تعمل الدكتورة حواء مع ابنتيها؛ أمينة وديقة محمد. يضم المستشفى ثلاث غرف عمليات، وستة أطباء، وثلاثًا وأربعين ممرضة، وأربعمائة سرير، ومدرسة تستوعب ثمانمائة طالب، ومركزًا لتعليم الكبار يقدم دروس القراءة والكتابة والمعلومات الصحية للنساء. تشمل المناهج الدراسية النهي عن ختان الإناث. شَعْبها في أمسِّ الحاجة إلى التزامها؛ فحتى سنة ٢٠١١، في بلد يبلغ تعداده قرابة عشرة ملايين نسمة، لم يكن هناك سوى ٣٦٥ طبيبًا.

في بعض الأحيان، كان هذا الالتزام يعني مخاطرتها بحياتها؛ ففي مايو ٢٠١٠، اجتاح المخيم مئات من المقاتلين الإسلاميين، واحتُجزت الدكتورة حواء كرهينة لأسبوع، وبدلًا من الإذعان لمُحْتجزيها، صمدت وسألتهم: «ماذا صنعتم من أجل المجتمع؟» وتحت ضغط من الأمم المتحدة وغيرها من المناصرين الدوليين، تراجع المعتدون في النهاية وغادروا القرية، واستأنفت الدكتورة حواء عملها فورًا.

رغم أننا كنا نتتبَّع جهود الدكتورة حواء عبدي لسنوات، جمعني لقائي الأول بها في ٢٠١٠، عندما شاركت منظمة أصوات حيوية مجلة «جليمور» لتكريمها هي وابنتيها بجائزة سيدة العام، التي تمنحها مجلة «جليمور»، عن جهودهن التي لا تفتر لإنقاذ حياة النساء في الصومال وتحسين ظروف معيشتهن. لم تكن الشراكة في مجرد الاسم وحسب؛ فقد أنشأت منظمة أصوات حيوية ومجلة «جليمور» معًا صندوقًا يستفيد منه مباشرة مستشفى حواء عبدي. وعقب مقال كتبه نيك كريستوف عن الدكتورة حواء عبدي ونُشر بصحيفة «نيويورك تايمز» عام ٢٠١١، جمعنا ما يقرب من ٢٠٠ ألف دولار في غضون أيام لمساعدة الدكتورة حواء على توفير الملجأ والعناية الطبية والتعليم لنحو ٧٨ ألف محتاج من الصوماليين.

تَلفتُ الدكتورة حواء الانتباه مرارًا وتكرارًا إلى أن مخيمها ليس من أجل تقديم الاحتياجات العاجلة وحسب، بل من أجل خلق نموذج جديد. جيل من الصبية الذين نشئوا في المخيم تعلموا احترام المرأة بوصفها ندًّا لهم، كما أنهم يخدمون ضمن قوة أمنية لحماية المخيم. تم حظر العنف الأسري وختان الإناث بالمكان، ويوجد به زنزانة للرجال المتورطين في أعمال عنف ضد المرأة.

القوة المحركة للدكتورة حواء عبدي هي «إيجاد بصيص من الأمل في حالة اليأس والأزمات»، والإيمان بأنه لا خيار أمامها سوى القيادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤