الشريعة

كل مراجعة تاريخية لذلك العصر تنتهي من جانب البحث السياسي، أو جانب البحث الاقتصادي، أو جانب البحث الاجتماعي، أو الديني، أو الثقافي إلى نتيجة واحدة: وهي أنَّ ضحايا البذخ، والرياء قد بلغوا فيه من كثرة العدد، وسوء الأثر حدًّا يفوق احتمال عصر واحد، فلا يطيق أنْ ينتقل بها إلى العصر الذي بعده دون أن يطرأ عليه طارئ، ولن يكون ذلك الطارئ غير طارئ انقلاب شامل.

بلغ فيه ضحايا البذخ والرياء غاية ما يبلغونه في عصر واحد، وقد يقال إنَّهم ضحايا الرياء بألوانه الاجتماعية والنفسية، فما كان البذخ إلا ضربًا من الرياء الاجتماعي؛ لأنَّه مُعلَّق في جميع أحواله بفخفخة الظهور. وسيان ولع النفوس بفخفخة الظهور الأجوف، وولعها بالرياء.

وفي عصر كذلك العصر تلزم الرسالة.

لكنَّها لا تلزم لتأتي العالم بمزيد من الشريعة، ولا بمزيد من تطبيق الشريعة، فقد تكون المصيبة كلها في تطبيق الشريعة إذا جرت على سُنَّةِ الرياء، وغلب فيه النِّفاق على الصدق والإنصاف.

إنَّما تلزم الرسالة في أمثال ذلك العصر؛ لتُعطي العالم ما يحتاج إليه، وتنقذ ضحاياه.

والآداب الإنسانية هي الحاجة العظمى حين ينخر السوس باطن العرف والشريعة، وضحايا الرياء هم أول من يتلقف تلك الآداب الإنسانية، ويشعر بتلك الحاجة العظمى.

إنَّها رسالة قلب كبير يشعر فيجذب إليه كل شعور، ولا سيما شعور الضحايا والمظلومين.

ويوشك مع الظلم أنْ يكون كل متهم مظلومًا؛ لأنَّ الجريمة كلها في جانب الحاكم لا في جانب المحكوم عليه.

وحيث يكون الظلم هو الآفة، فالمتهمون هم أولى النَّاس بالرحمة والعطف والإنقاذ.

وقد كان المتهمون هم أولى الناس بالرحمة والعطف والإنقاذ في أحضان الدعوة الجديدة؛ أحضان الرسول المبشر بالخلاص والنجاة.

طوبى للحزانى، طوبى للمساكين، طوبى للجياع والظماء، طوبى للمطرودين في سبيل البر، طوبى للودعاء والرحماء، «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقلين، احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني، فتجدوا راحة لنفوسكم؛ لأنَّ نيري هين، وحملي خفيف.

أما الويل فهو ويل الشباعى الذين لا يعلمون أنَّهم جائعون، والأغنياء الذين لا يعلمون أنَّهم معوزون، والمتجبرين الذين لا يعلمون أنَّهم مساكين، والمتكبرين الذين لا يعلمون أنَّهم منكسرون.»

•••

واستجاب ضحايا الرياء لصيحة الرسول الكريم على قدر شوقهم إلى العزاء، وعلى قدر ما يحملونه من أوقار الشريعة العمياء، والتقوى المزيفة، وربما كان الأصح أنَّ الرسول الكريم بذل عطفه لضحايا الرياء على قدر حاجتهم إليه، وشعورهم براحته ورحمته، وعلم أنَّ الشكران على قدر الغفران، وأنَّ الأمل في التوبة على قدر الكرم في المحبة، «مدينان، على أحدهما خمسمائة دينار، وعلى الآخر خمسون، ليس لهما ما يوفيان، فأجزلهما شكرًا من سومح في الدين الكبير.»

وكانت ضحية الضحايا في ذلك العصر المرأة؛ لأنها لم تزل ضحية الضحايا في كل عصر يطغى عليه البذخ من جانب، ويطغى عليه الحرمان من جانب، ويعم الرياء في كلا الجانبين، ولم تزل في كل عصر كذلك العصر تبوء بشقاء الفتنة على ألوانها: فتنة الغواية، وفتنة الأسرة المنحلة، وفتنة الحيرة التي تعصف بالثقة. والطمأنينة ألزم ما يلزم المرأة في كل زمان.

ونظرت تلك الفريسة التي لاحقتها اللعنة أحقابًا بعد أحقاب، وأطبقت عليها الفتنة في ذلك العصر خاصة أكامًا فوق آكام، فإذا حنان طهور يغمر ضعفها، ويُجبر كسرها، ويمسح اليأس من قرارة وجدانها، ويشيع الأمل في رحمة الله بين جوانحها، فعلمها درسٌ من دروس الحب القدسي ما لم تتعلمه من دروس العقاب في شريعة المنافقين، وموازين المقسطين، وبرزت على صفحة الزمن في ساعة من ساعات ذلك العصر المريج صورة مشرفة زالت شرائع الهيكل، وزالت شرائع رومة، وهي باقية عالية، صورة الغفران ماثلة في شخص الرسول الكريم، وصورة التوبة ماثلة في شخص فتاة منبوذة جاثية على قدميه، تسكب عليهما الدمع والطيب، وتمسحهما بغدائر رأسها.

والتفت السيد إلى تلميذه، وإلى المتعجبين من حوله، يتساءلون: كيف يزعم أنَّه نبي، ويجهل أنها امرأة خاطئة؟ فقال: «أتنظر إلى هذه المرأة! إنِّي دخلت بيتك، فلم يكن لقدمي فيه مسحة من ماء، ولكنَّها غسلتهما بالدموع، ومسحتهما بشعر رأسها، ولم تمنحني قُبْلة، وهي منذ دخلت لا تكف عن تقبيل رجلي، ولم تدهن رأسي بزيت، وهي قد دهنت رجلي بالطيب، ومن أحب كثيرًا غفر له الكثير من خطاياه.»

توبة صادقة، ورحمة مستجيبة لا غرو على الشريعة الكاذبة فرائسها، وتخشى التقوى الزائفة على فخرها وكبريائها، وويل لمن يفتح بابًا للتوبة والرحمة، ولا يبالي الأبواب التي فُتحت للنقمة والعقاب.

•••

منذ الخطوة الأولى التي خطاها السيد المسيح في التبشير برسالته، أخذ على نفسه أن يعتزل «السلطة»، ويتنحى لها عن ميدانها، فلا يتصدى لها بإبطال أو بإنقاذ؛ لا يبدلها، ولا يدعي لنفسه ولايتها، وحق لكل معلم قادر أن يسلك تلك الخطة في زمنه، فإنَّه — كما تقدم — قد نشأ في دنيا تشكو الكظة من الشرائع والأوامر والنواهي والحكام والمتحكمين؛ ما فاض من رومة الشرائع تملؤه مراسم الهيكل وشعائره ومحللاته ومحرماته، وما فاض من رومة ومن الهيكل ملأته سيطرة هيرود وأبنائه وأذنابه وتابعيه، ولا حاجة إلى مزيد من الأحكام مع فساد الحُكَّام، فإذا وجب إصلاح بعضها، فالخير من إصلاحه لا يُساوي جهد الحرب التي تشنها طائفة ضعيفة على دولة الرومان، وعلى دولة الهيكل، وعلى الدويلة الأدومية اليهودية التي تشايع الدولتين، وتعمل لحسابها بعد حساب هاتين القوتين، ومن المحقق أنَّ الشرَّ الذي ينجم من ذلك الجهد أخطر وأفدح من الخير الذي يتأتى من ورائه، إن تَأَتَّى، وقد يُدرك بإصلاح الضمائر، وتهذيب الآداب الإنسانية، وتعليم الآحاد أمثلة من الأخلاق تهدي أصحابها حيث تضلهم الشرائع والقوانين.

إلا أنَّه بهذه الحيدة عن طريق السلطة قد ترك ميدانها فلم تترك له ميدانه، وسرعان ما أقبلت عليه الجموع حتى أحست السلطة — سلطة الدِّين قبل كل شيء — بالخطر المقبل من ذلك الداعية المحبوب، وكل داعية محبوب خطر على سلطة التقاليد والجمود.

جاءوا في ميدانه بعد أنْ تَرَك لهم ميدانهم، ووقع الاشتباك الذي لا بد منه بين سلطة شعارها المبالغة في الاتهام، والبحث عن المخالفات والعقوبات، وبين دعوة شعارها تيسير التوبة للخاطئين، وتمهيد سبل الرجاء في الغفران.

كان التَّبشير بالغفران والتوبة أكبر ذنوب الداعي الجديد؛ لأنَّ الخطايا والعقوبات بضاعة السلطان القائم، وهي على كونها مصلحة مريحة، باب للفخر والكبرياء.

فجاءوا يسوقونه إلى حيث أبى أن يُساق، وكان همهم الأكبر أن يُثبتوا عليه أن يبطل شريعة، أو يتصدى لتنفيذ ذريعة، فأعنتوا عقولهم في البحث عن المشكلات والألغاز التي يُفتي فيها بما يخالف الشريعة الدينية، أو القوانين السياسية، أو يُفتي فيها بما يخالف آداب الرحمة، ووصايا السماحة والصلاح.

برز له مرة واحد من جموع السامعين، فقال له: أيها المعلم! مر أخي يقاسمني الميراث. وظن أنَّه يتولى هنا سلطة التقسيم بحق الكرامة على تلاميذه ومستمعيه، فما زاد على أنْ قَال: أيُّها الإنسان، من أقامني عليكما قاضيًا أو حسيبًا؟!

وتعمدوا وهو في الهيكل أنْ يضطروه إلى موقف الحكم، أو إنكار الشريعة، فاقتحم عليه الكتبة والفريسيون دروسه ومعهم امرأة يدفعونها إلى وسط الحلقة، وراحوا يتصايحون: أيُّها المعلم، هذه امرأة أخذت وهي تزني، وقد أوصانا موسى أن نرجم الزانية، فماذا تقول أنت؟

ماذا يقول هو؟ ما بالهم يسألونه ويستأذنونه، وهو لا يملك أن يمنعهم، لو ذهبوا بها إلى قضاتها؟ إنَّ الشَّرَكَ مكشوفٌ على وجه الأرض، وليس منه مخرج فيما حسبوا وخمنوا، إنْ قال: ارجموها! فذلك حق الولاية يدعيه، وإنْ قال: أطلقوها! فتلك شريعة موسى يُنكرها في قلب الهيكل، فكيف الخلاص من جانبي الشَّرَكِ، ولو أنَّه مكشوف معروف.

سبق إلى ظنهم كل خاطر إلا أنَّه ينتهي من القضية إلى حل لا يدَّعي به السلطة، ولا ينكرها، ولا ينساق فيه إلى مجاملة الرياء بالدين والكبرياء بالتقوى، ولبثوا يترقبون، ولا يدرون كيف يخرج من المأزق الذي دفعوه إليه، وهو يستمع إليهم ويخط بأصبعه على الأرض، حتى فرغوا من جلبتهم وسؤالهم، فوقف قائمًا ورد عليهم رياءهم في وجوههم، وكَسَر الشَّرَكَ بقدميه من كلا طرفيه، وهو يقول لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم وليرمها بحجر.»

لا ينقض شريعة موسى، ولا يدعي تنفيذها، ولا يجامل رياءهم، بل يدعهم هم يحاولون الخلاص من الحيرة والخجل بالروغان!

وبقيت المرأة المسكينة واقفة وحدها أمامه، فسألها سؤال العارف: أين المشتكون منك؟ أما دانك أحد؟ فقالت: لا أحد أيها السيد. فأرسلها وهو يقول: ولا أنا أدينك، فاذهبي ولا تُخطئي.

نعم، لا يدينها، ولا يحسب عليه أنَّه لا يدينها في تلك القضية، ولو كان هو قاضيها؛ لأنَّ القاضي لا يدين بغير شكوى، وبغير شهود وبغير بينة!

وتناول مسألة الزواج والطلاق، وقد بلغ من سهولتهما في ذلك العصر أن تتصدع الأسرة، وأن تصبح الزوجة أضيع من الخليلة في عرف قومها، فقال إنَّ الزوج والزوجة جسد واحد لا يفصلهما الإنسان، وقد جمعهما الله، «ومن طلق امرأته إلا لعلة الزنا دفعها إلى الزنا، ومن تزوج مطلقة فإنَّه زانٍ.»

ولم تحدث مناوشة قط من هذا القبيل بينه وبين المتفيقهين من متخذي العلم صناعة وأحبولة إلا ارتدوا منها مفحمين، وخرج منها مجيبًا أحسن جواب بل أكرم جواب.

فلم يصعب عليه أن يحطم «الشَّرَك السياسي» الذي نصبوه له ليسمعوا منه إشارة بإعطاء الجزية، أو بعصيان الدولة، وأراهم أنَّهم يتعاملون بنقود قيصر، ويكنزون منها الثروة والمال، فلماذا لا يعطون ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟

ولم يصعب عليه أن يُسكتَ الصدوقيين والفريسيين معًا، والأولون ينكرون البعث، والآخرون يؤمنون به جسديًّا وروحيًّا على السواء، فلما قيل له إنَّ شريعة موسى توصي الأخ أن يبني بزوجة أخيه المتوفى حفظًا للأسرة، وسألوه: لمن تئول في يوم القيامة زوجة تعاقبها سبعة إخوة؟ خُيِّلَ إليهم أنَّه لن يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال جوابًا يُرضي الصدوقيين، أو يُرضي الفريسيين، فكان جوابه مفحمًا لهؤلاء وهؤلاء؛ لأنَّ الأحياء في العالم الآخر لا يتزاوجون زواج هذا العالم، ولا يتناسلون!

والحق أنَّ الأناجيل لا تروي لنا من هذه المساجلات إلا ما نشهد أمثاله اليوم في كل درس من الدروس العامة يتصدى فيه المتعالمون المتفيقهون لتعجيز المعلمين والوعاظ، وإن اختلفت المقاصد من أسئلة السائلين في كل حلقة على حسب الموضع والموضوع.

والحق أنَّ قدرة السيح المسيح على الردود السريعة والأجوبة المُسكتة لهي دليل آخر إلى جانب أدلة كثيرة على «الشخصية» التاريخية، والدعوة المتناسقة؛ لأنَّها قدرة من وراء طاقة التلاميذ والمستمعين، بل هم يروونها، ولا يفطنون إلى أهم البواعث عليها في سياسة الرسالة المسيحية، فإنَّ هذه الرسالة قائمة على اجتناب التشريع، واجتناب التعريض له بالإبطال أو الإبدال، ووجهتها على الدوام أنَّها لا تدعي سلطة من سلطات الدنيا والدين، وأنَّ مملكة المسيح من غير هذا العالم، وليست من ممالك الدول والحكومات، كذلك قال لكهان الهيكل، وكذلك قال لبيلاطس حاكم الرومان، وعلى ذلك جرى أسلوبه في كل أمر وفي كل موعظة، فهو أسلوب الآداب والمثل العليا، وليس بأسلوب النصوص والقوانين، وكلامه عن زنى المطلق، وعن زنى العين التي تُقلع إذا نظرت نظرة اشتهاء، وعن خطيئة اليد التي تُقطع إذا وقعت في العثرات؛ لا يحمله أحد على محمل التشريع، وليس في مسلك المسيح كله في رسالته ما يُجريه مجرى الإلزام، ومع هذا غلب على الرواة من يحسبه تشريعًا مقصودًا بحروفه، وقلَّ من الرواة من فرَّق في فهمه بين أسلوب الشريعة المقصودة بحرفها وأسلوب الآداب الإنسانية التي ترتفع إلى الأكمل فالأكمل، وتنفذ إلى المعاني من وراء الألفاظ، ويرجع الأمر فيها إلى ضمير يُحاسب صاحبه، ولا يرجع إلى قاضٍ يسمل عينًا، أو يدخل في الصدور ليتتبع فيها بواعث الاشتهاء، ولو خلصت هذه المعاني إلى سامعيها جميعًا كما عناها السيد المسيح، لما ثبتت له كما ثبتت من اختلاف الفهم والتأويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤