الحالة السياسية والاجتماعية في عصر الميلاد

فُتحت سورية وفلسطين للدولة الرومانية على يد القائد الكبير «بومباي» الذي قضى على ثورة العبيد الثالثة بقيادة «سبارتاكوس» المشهور.

وقد حسبت هزيمة «سبارتاكوس» من العظائم التي أضافت إلى مجد بومباي، وخلدت ذكره بين أبطال الرومان، ولكنَّ هذه العظائم تضفي على الأبطال والدول مجدًا لا ينطوي على خير كبير، فمن دلائل القوة أنْ تستطيع الدولة قمع فتنة كتلك الفتنة الجبارة التي لم يعرف لها مثيل في ثورات العبيد الأقدمين، ولكنَّها ولا ريب دلائل القوة التي تقابلها دلائل الضعف من جانب آخر، فلو لم يكن في بنية الدولة صدع مخيف، لما استطاع عبد أن يجمع سبعين ألف عبد ويقهر بهم جيوش رومة زهاء ثلاث سنوات، ولولا خلل في كيان المجتمع، لما اشتمل على أضعاف هذا العدد من الأرقاء المسخرين الذين ينظرون إلى مجد رومة نظرة الحقد، ويجازفون بالحياة؛ ليهبطوا بها إلى الحضيض.

وقد كان سبارتاكوس من أهل تراقية، ولم يكن أول «عبد» شرقي ثائر على الدولة الرومانية، بل سبقه رقيق آخر من البلاد الشرقية إلى الثورة في صقلية سنة (١٤٣ قبل الميلاد)، واستطاع أن يُقيم له عرشًا استقر في الجزيرة عشر سنين، وهذه هي الثورة التي تجلى قائدها «أونس» لأتباعه في صورة النبي المرسل، وفي شارة الملك المتوج بيد الله، وكان أصله في سورية وكثير من أتباعه شرقيون.

وقد سبقت ثورة أونس السوري، ولحقت بها ثورات من قبيلها لم تبلغ مبلغها من العنف، ولم تخل إحداها من صبغة دينية فيما تدعيه لقادتها، وكانت واحدة منها في آسيا الصغرى تنشئ لها حكومة تسميها حكومة «الشمس»، رمزًا إلى عبادة النور والحرية، وتقيم هذه الحكومة والثوار المنهزمون في صقلية يعلقون بالألوف على أخشاب الصلبان.

ولم يكن هذا الخطر الكمين خافيًا على المصلحين من ساسة الرومان في الأجيال القريبة التي سبقت ميلاد السيد المسيح، فأرادوا إصلاح العيوب الاجتماعية بالرجعة إلى الشريعة التي تقيد المواريث، وتحرم زيادة الميراث على خمسمائة فدان، وظن كايوس جراشس Gracchus أنَّه يُعالج الآفة بإنشاء طبقة جديدة من الصيارفة والتجار، يحد بها من نفوذ النبلاء وأصحاب الضياع المتبطلين، واضطر هو وأخوه إلى تموين المعوزين بأغذية تبيعها الدولة بأقل من تكاليفها، ولكن عوامل الخراب كانت في تلك الأجيال أعمق وأفعل من عوامل العمار والصلاح، فلما حاول يوليوس فيلبس في سنة (١٠٤ قبل الميلاد) أن يُنظِّم الإقطاعات بتشريعاته الزراعية قال في خطابه «التفسيري» كما روى شيشرون: «إنَّ مُلاك الأرض في مدينة رومة لا يزيدون على ألفين.» وازدادت هذه الحالة سوءًا في عصر أوغسطس المجيد كما يُوصف في التواريخ، فآلت المستعمرة الأفريقية إلى قبضة ستة من المتبطلين، وفيها ألوف من الأرقاء المسخرين.

وعصر أوغسطس المجيد هذا هو عصر الميلاد الذي قال فيه السيد المسيح في رواية الحواري مَتَّى: «إنَّ للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكارًا، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه.»

•••

والواقع أنَّه كان عصرًا مجيدًا بقوة السيف، دون كل قوة أخرى من القوى الإنسانية، وقد أخذت رومة من قوة السيف كل ما تُعطيه: فتوح واسعة، وسطوة تصد الأعداء، وتقمع الثائرين، وألقت رومة بكل اعتمادها على هذه القوة، فأصبحت لها سندًا لا غنى عنه، وانتهت بها الحاجة إلى تلك القوة أنَّها ألقت بنفسها على مذبحها، فباعتها حريتها وكرامتها، وضيعت الجمهورية في سبيل القيصرية المطلقة، بل رفعت القيصر إلى مقام الربوبية المعبودة، فخلعت على القيصر أوغسطس لقب إله، وقررت عبادته مع الآلهة، ورصدت له شهرًا في السنة لا يزال معروفًا باسمه إلى اليوم، وتابعت بعده عهود القياصرة العسكريين من أمثال طراجان وهادريان وغيرهم من المتشبهين بهم، حتى عزَّ عليها آخر الأمر أن تجد القياصرة العسكريين.

وكان القانون والنظام فخر رومة الأول، فضاع القانون مع السلطان المطلق، وضاع النظام مع التفاوت البعيد بين الحاكمين والمحكومين: ثروة وترف وطغيان من ناحية، وفقر وضنك وهوان من ناحية، ولا نظام للدول مع اختلال التوازن في المجتمع، بل لا نظام للحياة نفسها، ولا قيمة لها مع إفراط النعيم حتى السأم من الحياة، وإفراط الشقاء حتى النقمة على الحياة، فصدق في رومة كلها وصف السيد المسيح لذلك الرجل الخاسر الذي كسب العالم وضيع نفسه، فضاع وأضاع.

ولم يستقر الأمر للدولة الرومانية في فلسطين دفعة واحدة على أثر افتتاحها؛ لأنَّ التنازع بين الرومان والفرس لم يترك للبلاد قرارًا في مدى عشرين سنة، وانقسم الرأي في فلسطين بين الدولتين: منهم من يشايع الفرس، ومنهم من يشايع الرومان، واشتد التناحر بين الفريقين اشتدادًا خرج بهم إلى ضراوة الوحشة في مناصب الدين فضلًا عن مناصب الدنيا، ومن أمثلته أنَّ أنصار الفرس تغلبوا على أنصار الرومان في بيت المقدس، وكان أنصار الفرس يرشحون لرئاسة الكهنة أنتيجونس بن أورسطبولس، فقبض هذا بيديه على مزاحمه هيركانوس، وقضم أذنه بأسنانه؛ ليحول بينه وبين وظيفة الكهانة طول حياته، إذ كانت هذه الوظيفة محرمة على المشوهين وذوي العاهات.

وكان في البادية الجنوبية من فلسطين زعيم مشهور بالحصافة والحزم على رأس قبائل أدوميين، عَرف بفراسته وبُعد نظره أنَّ الكفة الراجحة في النزاع على فلسطين لدولة الرومان، فانضوى إليها، واستبسل في معونتها، فكافأته على خدمته بتنصيبه ملكًا على اليهودية والسامرة والجليل، حيث ولد السيد المسيح، وكافأهم هو بالتمادي في محاكاة المدنية الرومانية، وأوحت إليه حصافته أن يُداهن السلطة الدينية ويُداهن السلطة الدنيوية في وقت واحد، فتغالى في الغيرة اليهودية التي كانت قبيلته تدين بها على سبيل المداراة والمجاراة، وتغالى في محاكاة الرومان والإغريق بالأزياء والمساكن والشارات والأسماء، وتكفل بإتمام بناء الهيكل على نفقته، ثُمَّ تكفَّل بترشيح رؤساء الهيكل من بين أعوانه «المترومنين»، إن صح هذا التعبير، لعلهم يدارون شططه في محاكاة الرومان، ومجافاة التقاليد العبرانية، كلَّما احتاج إلى التوفيق بين النقيضين.

ومع هذا الجهد المضني في التقريب بين الطرفين، مات هيرود وهو مغضوب عليه أشد الغضب من أبناء دينه، وحدث قُبيل وفاته أنَّ طائفة من الغلاة ثارت على مبانيه وأنصابه لتمسح منها معالم الوثنية، فعقد لهم محكمة علنية، وأمر بأجناده فحملوه إلى المحكمة، حيث قضى عليهم بالحرق وهم أحياء! وقبض على الزعماء المحبوبين، فحبسهم وأوصى أخته أن تقتلهم إذا مات قبل إعلان وفاته، لتذهب حسرة الشعب عليهم بفرح الشماتة فيه، فلا يُمتعهم في ذلك اليوم بالفرح الذي ترقبوه.

وتمت البلية بتقسيم البلاد بين أبناء هيرود الثلاثة، فوقعت الجليل — حيث ولد السيد المسيح — في حصة هيرود الثاني ائتيباس، ووقعت اليهودية في حصة أرخلاوس، ووقعت مشارف الشام في حصة فيليب، وكان من مراسم الولاية أنْ يذهب الملك إلى رُومة ليتلقى عهد الإمارة من يَدَي القيصر، فهذا الذي يُشير إليه السيد المسيح في مثله المشهور كما رواه الحواري لوقا حيث يقول ما فحواه: «كان إنسان شريف النسب ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه ملكًا ويرجع … وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه، فأرسلوا وراءه سفارة يقولون: لا نريده ملكًا علينا …»

ولكنَّ القيصر أقرَّ الأبناء الثلاثة في ولاياتهم، وخرجت البلاد ممزقة بين أبناء هيرود، وحكومات النبطيين، والمدن العشر، وقصدت رومة بهذا التمزيق أنْ تُخيف ولاية بولاية، وتلجئهم إلى التنافس بينهم في مرضاتهم، وتتخذهم جميعًا درعًا تدفع به غارات الصحراء وهياج المتعصبين.

ومن المتواتر — مع تصحيح تاريخ السنة كما سيأتي بعد — أنَّ السيد المسيح وُلِدَ فِي أعقاب ثورة جائحة اشتعلت في أقاليم فلسطين اليهودية على الخصوص، وأهدرت فيها دماء الألوف من الغلاة وأتباعهم؛ لأنَّهم هبوا في وجه الدولة الرومانية محتجين على صدور الأمر بالإحصاء العام، وليس الإحصاء بطبيعة الحال سببًا من الأسباب لإشعال نار الثورة بين أبناء أمة مطمئنة، ولكنَّه أشعل نار الثورة فعلًا؛ لأنَّه أثار بين الإسرائيليين خاصة مشكلتين قديمتين من مشاكل فلسطين: إحداهما مشكلة الاعتراف بملك غير «يهوا» الذي يُؤمن الشعب اليهودي أنَّه هو الإله وهو الملك، وأنَّ مُبايعة الشعب لغيره كفر وخيانة يُعاقبه عليهما بالضربات والمحن، ولا يغفرهما له إلا بعد كفارة تضيع فيها الأرواح والأموال، فإذا دان اليهودي لملك غير «يهوا» أو غير مسحائه المختارين فهو مطرود من رحمة الله، مستحق للعذاب والحرمان، وقد حسب الشعب الإسرائيلي أنَّ الإحصاء مُقدمة لفرض السيادة القيصرية عليهم فردًا فردًا وتقييدهم عبيدًا للقيصر مطالبين بعبادته وافتتاح الصلوات باسمه، وكان فقهاء اليهود يُذعنون للجزية، وهي تؤخذ منهم عنوة عن طريق الالتزام الذي لا يخص الأفراد بالأسماء، بل يُؤخذ جملة على الأكوار والأقاليم، ولكنَّهم كانوا يُنكرون أداء الجزية من ناحية المبدأ أشد الإنكار، ويحكمون بكفر من يجيزها، ويشترك في تحصيلها، وينبذونه من الجماعة، وينبذون معه من يعاشره ويتحدث إليه؛ ولهذا دبروا مكيدتهم للسيد المسيح؛ ليسألوه أمام جمهرة الشعب عن أداء الجزية هل يجوز أو لا يجوز، فأرسلوا إليه تلاميذهم من الهروديين قائلين: «يا معلم، إنَّك صادق تعلم بالحق ولا تبالي أحدًا؛ لأَّنك لا تنظر إلى وجوه الناس، فقل لنا ماذا تظن؟ أيجوز أن نُعطي جزية لقيصر أم لا يجوز؟» فكان جوابه المشهور: أروني معاملة الجزية! ونظر إلى الدينار الروماني! فسألهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ فلما أجابوه أنَّها لقيصر، قال لهم: أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وأسكتهم جوابه؛ لأنَّهم لا يرفضون العملة القيصرية مع وجود العملة اليهودية، ولو كانوا يستنكرون أداءها حقًّا لأنكروا كسبها وادخارها، وقد كانوا يكسبونها ويدخرونها ما عدا طائفة الغلاة منهم، وهي التي ثارت عند تقرير الإحصاء العام.

أما المُشكلة الأخرى التي أثارها تقرير الإحصاء، فهي مشكلة الضريبة، وَعَسَف الجُباة في تحصيلها؛ فقد كان اليهودي يؤدي ضريبتين؛ إحداهما للهيكل، والأخرى للدولة، وقد جاء في الأناجيل أنَّ رُسل الهيكل كانوا يطلبون ضريبة من السيد المسيح وتلاميذه، وأنَّه — عليه السلام — سُئل مرة أن يؤديها فقال لتلميذه سمعان: ما تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية؟ أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له التلميذ: بل من الأجانب. فقال السيد المسيح: إذن إنَّ البنين أحرار. ولكنَّه عاد فأمر تلميذه بأداء الضريبة عنه وعمن معه من التلاميذ.

وقد كان أداء ضريبتين عبئًا فوق طاقة الفقراء، ولكنَّه — مع العسف في تحصيل ضريبة الدولة — كان عبئًا لا يُطيقه الموسرون فضلًا عن الفقراء؛ لأنَّ الدولة كانت تحصل الضريبة بطريق الالتزام والمزايدة، فإذا حان الموعد السنوي فتح باب المزايدة، ومنح صاحب المزاد الراجح حق التحصيل طوال العام، وكان الجباة أو العشارون يأخذون لأنفسهم شيئًا غير الذي يُسلمونه للملتزم، وكان الملتزم يأخذ لنفسه شيئًا غير الذي يُسلمه لخزانة الدولة، فكان المال المحصل يربي على ضعفي المال المطلوب.

ولهذا كانت طائفة العشارين بغيضة إلى الشعب، وكان الشعب الإسرائيلي لا يغتفر لأناس منه أن يتجردوا لخدمة الملتزمين الأجانب، ويبتزوا المال حرامًا من أرزاق المعوزين، ومن ثم كان إنكارهم على السيد المسيح أنَّه كان يُخاطب العشارين، ويدخل بيوتهم، ويستمع إلى مناجاتهم، ولكنَّه كان يستمع لهم، ويوصيهم بالأمانة في الجباية، يسألونه: يا معلم! ماذا نفعل؟ فيقول لهم: لا تستوفوا أكثر مما فُرض لهم. ويقول للجند الذين يُصاحبونهم: لا تظلموا أحدًا، ولا تشوا بأحد، واكتفوا بعلائفكم. لأنَّ الدولة كانت تُرسل الجنود يجمعون طعامهم، وعلائف مطاياهم من الناس!

فلمَّا صدر الأمر بالإحصاء العام، توهم الدهماء أنَّ الدولة لا تكتفي بما تحصله جملة، وتنوي أن تزيد عليه ضرائب تستوفيها من الآحاد فردًا فردًا، مع الشطط في تحصيل ضرائب الالتزام، فاستجابوا داعي الثورة من الغلاة، وغضبوا لعقائدهم كما غضبوا لأرزاقهم، حين أمروا بالعودة إلى بلادهم ليسجلوا أسماءهم حيث ولدوا أو حيث يقيمون.

ومما لا خلاف عليه بين المؤرخين الشرقيين والأوربيين أنَّ الحالة السياسية في فلسطين خاصة كانت على أسوأ ما تكون، ولكنَّها على إفراطها في السوء لم تبلغ مبلغ الحالة الاجتماعية في الدلالة على القنوط وعموم البلاء، وَحَسْب القارئ أنْ يتصفح الأناجيل كائنًا ما كان اعتقاده فيها من الوجهة الدينية؛ لكي تتمثل له حالة البؤس واليأس التي كانت تَرِينُ على القرى والمدن في أقاليم فلسطين، ولا سيما إقليم الجليل الذي تواترت الروايات عنه، فحيثما سجل الإنجيليون رحلة من رحلات السيد المسيح بين القرى، فهناك أخبار عن العجزة والمرضى الذين يتعرضون لطلب الشفاء بعد اليأس من كل علاج، وبين هؤلاء مشلولون ومفلوجون ومجانين ومصابون بالخرس والصمم والعمى ويبس المفاصل والأطراف، بينهم من يُقال عنه إنَّه جسده تسكنه الشياطين، أو يتناوب سكناه جملة من الشياطين بالليل والنهار، وكان بعض هؤلاء المرضى أطفالًا، وبعضهم من الشبان والكهول في مختلف الأعمار، وهذا إلى أمراض البرص والنزيف والصرع الذي لا يقترن بالجنون.

وإذا كانت هذه الحالات البارزة، فإلى جانبها — ولا شك — حالات أخرى دونها في الشدة والبروز، تنم على الآفات الجسدية والنفسية التي فشت في ذلك المجتمع، وتركته مهيض الأعصاب، عرضة للسخط والهياج، ويُضاف إلى هذا أنَّ عصر الميلاد قد شهد في فلسطين طوائف شتى من الأساة الذين يُطببون المرضى بالعلاج الروحاني، ويعتمدون على قوة الإيمان وطهارة المعيشة في التطبيب والعلاج، وإذا قلنا إنَّ عصر الميلاد قد شهد عصرًا مهيض الأعصاب، فنحن نلتفت التفاتًا خاصًّا إلى هذه الظاهرة التي تشير إلى الحالة النفسية في جملتها، فليس أحوج من عصر كذلك العصر إلى السكينة وثقة الإيمان، وليس أشد منه تعطشًا إلى التسليم والتطهير متى استراحت النفوس فيه إلى الهادي الذي يُرجى على يديه التسليم والتطهير، فلم يأتِ أوان الرسالة المسيحية حتى كانت قد سبقتها رسالات تمهد لها، وتعمل في وجهتها عمل الرواد السابقين، وقد كان أقوى هؤلاء الرواد يحيى المغتسل أو يوحنا المعمدان، وإن لم يكن هو الرائد الوحيد في طريق الرسالة والنبوة، فجعل للتطهير رمزًا من الاغتسال بالماء، وأثارها حملة شعواء على بؤرة الفساد في زمنه، وهو بلاط الملك هيرود، فإنَّها البؤرة التي استبيح فيها الفجور بالمحارم، والبناء بهن على غير شريعة، وقتل الإخوة والأبناء، وتدنيس العبادة والقداسة بالبذخ والجسارة على المنكرات، فكانت جسارة النبي على التطهير كفئًا لجسارة الطاغية الأثيم على الدنس والخيانة، وقضي على الرسول أن يكون عاجل الرسالة في حملته الصراح، وخرج من الميدان شهيدًا يجر وراءه جثة ميت بقيد الحياة، فإنَّ جسد هيرود قد أكله الدود قبل دفنه، وإنَّ عهده قد وصف نفسه أصدق صفاته حين بذل رأس النبي هدية لراقصة مبذولة الجسد، ولا جرم يكون عصر «يحيى المغتسل» عصر رسالة عاجلة أو عصر ارتياد وتمهيد: هجمة من هنا وهجمة من هناك، ثم تبدأ المعركة التي تستوفي الميدان كله، ولا تنحسم ما بين صباح ومساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤