تمهيد

لماذا بحق السماء هذا الاهتمام بتاريخ الجنون؟ لأننا جميعًا مصابون بالجنون. ربما تكون هذه إجابة الحكماء على ما يتردد من قول مأثور يرجع تاريخه إلى القرن السابع عشر: «إذا أردت أن ترى مجنونًا، فما عليك إلا النظر إلى نفسك في المرآة.» والحقيقة، ليس هذا هو الجنون — الشائع بين الجميع — الذي نُعنى هنا بدراسته، وإنما ما يعنينا هو دراسة تاريخ الجنون المَرَضي، ودراسة ما توصلت إليه مجتمعاتنا الغربية من إجابات حول هذا الموضوع، على المدى الطويل. لكن لماذا نتطرق إلى الحديث عن النوع الآخر من الجنون من المنظور الأخلاقي والفلسفي؟ لأنه، وعلى مدى قرون — أكثر من ألفي عام في الواقع، وحتى ظهور طب الأمراض العقلية والنفسية في مطلع القرن التاسع عشر — ظل هناك تضارب في تعريف كلمة «الجنون»؛ حيث كان في الغالب متأرجحًا بين اتجاهين يحمل كلٌّ منهما معنًى مختلفًا، فيميل أحدهما إلى الاتجاه الأخلاقي (بمعناه الفلسفي)، والآخر إلى الاتجاه الطبي؛ مما نتج عنه التباس وغموض حول مفهوم هذه الكلمة. وقد شارك الأصل اللغوي للكلمة في تعزيز هذا الغموض؛ لأن كلمة مجنون fou مشتقة من الأصل اللاتيني follis (ومنه اشتُقت كلمة مجنون fol في العصور الوسطى) والتي تعني كِيسًا أو بالونًا منفوخًا بالهواء تتقاذفه الرياح هنا وهناك.

وتشهد المعاجم الفلسفية الحالية على غموض هذه الكلمة، فنجد بها تأرجحًا (كما لو كان هناك تردد حيال وجوب ورود الكلمة أساسًا في القاموس) في تعريف الجنون؛ ما بين اعتباره «مصطلحًا مبهمًا وعامًّا» يُقصد به «فقدان العقل»، والإشارة إليه بوصفه حالة متباينة الأبعاد من الاضطراب العقلي تندرج في مجال الأمراض النفسية. ومن هنا برزت أسماء أوائل المؤسسين للطب النفسي (أمثال بينيل وإسكيرول وغيرهما)، الذين توارت أسماؤهم بعد ظهور ميشيل فوكو الذي قلب موازين هذا العِلم وأعاد وضع أسسه. وفي الواقع، سُلِّط الضوء الإعلامي على غموض كلمة «جنون» مع صدور كتاب فوكو، في عام ١٩٦١ بعنوان: «الجنون والحماقة: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، الذي سرعان ما ترك بصمة في هذا المجال. فكيف لا ننطلق من هذه الأطروحة الشهيرة التي تُعد اليوم راسخة رسوخًا قويًّا وتفترض أن العصر الكلاسيكي «فرضَ التزام الصمت إزاء موضوع الجنون، باتخاذ إجراءات عنيفة وغريبة»؟ وربما تغيرت طبيعة احتجاز المجانين، مع إنشاء مستشفى باريس العام في عام ١٦٥٦، ومع إرساء نوع جديد من الخطاب — وفقًا لما ذكره فوكو — عن مكافحة البطالة. وسنتطرق في الصفحات القادمة لنظريات فوكو، ولكن يكفي الآن الإشارة إلى أن هذا الفيلسوف، في أثناء قيامه بتأريخ الجنون، تسبب في مشكلة من الناحية التاريخية. ولكننا نعترف بفضله في إدراج هذا الموضوع ضمن نطاق العلوم الإنسانية التي لم تكن حتى ذلك الوقت توليه اهتمامًا كبيرًا، مكتفيةً فقط بعرض بعض المحطات المرتبطة بتاريخ الطب النفسي والسير الذاتية لرواده على التوالي، وعلى رأسهم بينيل.

وتكمن صعوبة دراسة موضوع الجنون في كون كتابة تاريخه — نظرًا لما يحمله من معنيين بينهما اشتراك وعلاقة ازدواج — أمرًا منوطًا بكلٍّ من المؤرخ والطبيب والفيلسوف والطبيب النفسي والمحلل النفسي وعالم الاجتماع، ولكل منهم نظرته الشخصية لهذا الموضوع. هناك العديد من القراءات التي تطرقت إلى موضوع الجنون. ومن قبيل المفارقة أن المؤرخين، رغم أن الأمر يتعلق بالتاريخ، هم الأقل اهتمامًا بدراسة هذا الموضوع. وعلى النقيض، كانت أصوات الفلاسفة ومن بعدهم علماء الاجتماع والطب النفسي، دون أن نغفل بالطبع المحللين النفسيين، هي الأعلى — (أما عن الأطباء النفسيين، فطالما أبدوا اهتمامًا بتاريخ فنهم) ولا سيما بعد صدور كتاب ميشيل فوكو — وسط موجة عاتية مناهضة للطب النفسي هزت الغرب في الستينيات والسبعينيات.

على الرغم من هذا القيد الأيديولوجي (وعلى نحوٍ ما كردِّ فعلٍ إزاءه)، كان لزامًا على المؤرخ أن يطرح أسئلة المؤرخين: هل يمكن اعتبار عام ١٦٥٦ هو بداية تأسيس تاريخ الجنون؟ وهل السلطات كانت تسعى دومًا للتهرب من مشكلة احتجاز المجانين بدلًا من العمل بالأحرى على إيجاد حل لها؟ وهل المجانين — وليس الجهلاء أو الخَطَأَة أمام الله، بل مرضى الجنون والمعروفون بإصابتهم بأمراض عقلية — موجودون منذ الأزل، ووجودهم قديم قِدَم البشرية نفسها؟ هل كانت السلطات تسعى في الأساس، ومنذ البداية، لعلاج المجانين؟ كل هذا يجعلنا نتساءل منذ متى وعلى أي نحو كان يتم تمييز الجنون بوصفه مرضًا عقليًّا عن الجنون بوصفه نقيضًا للعقل والحكمة.

لا بد من استئناف البحث، ولكن كيف؟ من منظور المؤرخ … يجب، دون «جداول تحليلية» أو تحيز أيديولوجي، تتبُّع الجنون والمجنون واقتفاء أثر هذا الأخير منذ ظهوره في تاريخ البشرية، وتضييق نطاق البحث على نحو تدريجي للوصول إلى النتائج المتعلقة بقارة أوروبا ثم بفرنسا؛ وذلك باتباع نهج يعتمد على التسلسل الزمني لمتابعة كل ما طرأ على هذا الموضوع من مستجدات حتى يومنا هذا. فبعد أن شُغِل المؤرخون لفترة من الزمن بالمذهب التصوري الذي كان قد اجتاح العلوم الإنسانية، عادوا اليوم على استحياء إلى ما كانوا قد رفضوا الاعتراف به حتى لا يُتهَموا بانتمائهم إلى مذهب «الوضعية المحدثة» وهو: التسلسل الزمني والأحداث والتاريخ الكمي … فالأحداث دائمًا ما تكون عنيدة!

إنه بحث طويل يمتد على مدار أكثر من ألفي عام لملاحقة الجنون … بحث ميداني، كيف كان المجانين في الواقع المعاصر، ومتى ظهروا، وأين؟ ما حجم المشاكل التي تسبب بها الجنون منذ قيام الحضارات الأولى؟ وما الاستجابات النظرية والعلاجية وردود الفعل الاجتماعية والقانونية التي قدمتها المجتمعات إزاء هذا المرض؟

فضلًا عن ذلك، ألا ينبغي أن يكون عنوان هذا الكتاب «تاريخ الطب النفسي» بما أنه يبحث في الجنون باعتباره مرضًا؟ كلا، وذلك لعدة أسباب: أولها أن «الطب النفسي» تعبيرًا واصطلاحًا لم يظهر إلا في مطلع القرن التاسع عشر (في عام ١٨٠٨ على يد رايل في ألمانيا، ثم مر وقت طويل — عام ١٨٤٢ — حتى تم إدراج هذا المصطلح في قاموس الأكاديمية الفرنسية). ولكن لأن الحديث عن الطب النفسي وتاريخه (أو عن الأمراض العقلية) بالنسبة إلى الفترات السابقة على وجه الخصوص، ربما كان سيُعَد خطأ في المعنى أسوأ من ملاءمة التسمية؛ وذلك لأن «اختراع الطب النفسي» جاء كمرحلة فاصلة في تاريخ الجنون الذي كان قد بدأ بالفعل قبل ذلك بكثير.

وفضلًا عن ذلك، فعنوان الكتاب «تاريخ الطب النفسي» يشير إلى المجال الطبي وحده، وهو المجال المركزي بالطبع، ولكننا نود كذلك إحكام الصلة بين هذا المجال وبين سياقه التاريخي والثقافي. وبقدر ما نرغب في رصد تاريخ المرض نفسه وتطور توصيفه يهمنا استعراض تاريخ الاستجابات العلاجية وردود الفعل الاجتماعية إزاء هذا المرض. ذلك أن الجنون ليس كأي مرض آخر. إن إدراك البُعد الأنثروبولوجي للجنون يُعد أمرًا أساسيًّا لفهم تاريخه: «إننا لا نصبح مجانين برغبتنا، فقد تنبأت الثقافة بكل شيء. ففي داخل عملية الاضطراب العصبي، والتي نسعى إلى الهروب منها من خلال الاضطراب العقلي، تأتي الثقافة لتحدد لنا شكل الشخصية البديلة التي يتعين علينا تقمصها» (فرانسوا لابلانتين).

مما سبق، تتضح المكانة التي يشغلها تاريخ الطب النفسي. سنرى أنه خلافًا لتاريخ معظم الأمراض، عند دراسة التاريخ الطبي للجنون، فإنه لا يعنينا الحديث عن إنجازاته والتقدم الذي أحرزه بقدر ما يهمنا تتبع أخطائه وتضحياته والنكسات التي تعرض لها، سواء في مجال النظريات الطبية، والاستجابات العلاجية أو فيما يتعلق بردود الفعل الاجتماعية. إذا أردنا البحث في هذا التاريخ الطويل، الذي يضاهي موضوعه غرابة وجنونًا، عن سياسة قوة أو قمع من جانب السلطات، فإن جُل ما نلحظه الغياب الواضح لأساليب المعالجة الحكيمة لهذا الموضوع، سواء على المدى الطويل أو على المدى المتوسط. فقد ظهرت — في ذلك الوقت — كلمات مثل التجريبية، والبراجماتية، وقلة الإمكانيات، واللامبالاة، بدت كأنها كلمات مفتاحية في هذا المجال.

إضافة إلى أن الجنون يُعد حالة مرضية بالمعنى الطبي الدقيق، فهو يمثل مشكلة من وجهة نظر الفلسفة وعلم الاجتماع (وهو ما يفسر شرعية اهتمام هذه العلوم به)؛ وذلك لأنه يعبر عن سلبية كلٍّ من «العقل» والقوانين المنطقية التي تحكمه في زمان ومكان محددين، فكل مجتمع لديه أنماطه الخاصة من الانحراف ودرجات التحمل أو التساهل التي تتماشى معها. إن إجراء مقارنة بين حضارات مختلفة في زمن ما يُعد أمرًا مثيرًا للاهتمام (وذلك لأن كل نظام له منظور نسبي مختلف تجاه الآخر) وهذا هو ما يهتم بدراسته — ولكن في عالم اليوم — علم الأنثروبولوجيا النفسية (الطب النفسي الأنثروبولوجي)، وذلك باتباع نهج تصوري لا يعنينا الخوض فيه الآن. ومن الواضح أنه ليس ثمة جنون إلا جنون العالم الغربي. بيد أننا نحيا في هذا الجنون وهو نفسه ما سنتناوله بالدراسة آملين أن يستمتع القارئ بهذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر التي سنخوضها عبر ما يقرب من ثلاثة آلاف عام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤