الفصل الأول

الوضع الراهن للتفكير النظري

لم يتطور التفكير النظري بشأن الجنون على الإطلاق في العصور الوسطى، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار الخصوبة غير العادية للفكر اليوناني واللاتيني في ذلك العصر. فعلى حد قول الكاتب مالرو: «لم نعد في زمن حضارة البحث والتساؤل.» أيتعين أن نرى في هذا العصر — كما رأينا مع إله العبرانيين — ثِقَل التوحيد؟ سنعود إلى هذه المسألة الحساسة فيما بعد عند التطرق إلى الشيطانية التي اجتاحت الغرب المسيحي في أواخر القرون الوسطى.

وربما لن يكون من الإنصاف على أي حال أن نختتم عملنا، مثلما فعل العديد من المؤرخين، بتلك الفترة من الصمت التي دامت ألف سنة حول مفهوم الجنون، وذلك على عكس ما أوردناه من ثراء فكري مذهل في العصور القديمة. وليس هذا صحيحًا إلا مع حلول القرن الحادي عشر، عندما هجر علماء الطب والفلسفة الغرب، بعد أن اجتاحته الغزوات البربرية، ووجدوا ملجأً في بيزنطة ثم في أرض الإسلام. غير أن بعض المؤلفين اللاتينيين أمثال سيلسوس وكاليوس أوريليانوس، لم يختفوا تمامًا عن الأديرة. ولكن كان لا بد من الانتظار حتى مجيء القرن الحادي عشر لتعيد الترجمات العربية إحياء التفكير النظري الطبي، وبالتالي التفكير في الجنون.

علماء اللاهوت

في إطار حضارة مسيحية كتلك التي سادت في العصور الوسطى، لم يكن ممكنًا أن يغفل علماء اللاهوت، في تأملاتهم حول الروح، التطرقَ لمجال الجنون. لقد أثارت أعمال القديس توما الأكويني (١٢٢٧–١٢٧٤) الاهتمامَ على وجه الخصوص، أكثر من سابقيه الذين أضفوا بعض الرونق على أبحاثهم بفقرات موجزة عن الجنون، الذي أطلقوا عليه اسم («الحماقة أو الجهالة»، وفق التعبير اللاتيني stultitia) أو عن الغباء fatuitas بينما شَكَّل الجنون لدى القديس توما الأكويني جزءًا أساسيًّا من نظرته إلى العالم. درس هذا الراهب الدومينيكاني في مونتي كاسينو وفي نابولي حيث ذاع صيت المؤلفين العرب. وتتلمذ على يد ألبيرتوس ماغنوس (المعروف أيضًا باسم القديس ألبرت الكبير)، كما درس فلسفة أرسطو حاذيًا في ذلك حذو معلمه. ويرجع الفضل إلى القديس توما الأكويني في كتابته للأطروحة الأكثر شمولًا، في العصور الوسطى، عن فكر الديانة المسيحية، وذلك من خلال عرض المفاهيم اللاهوتية والإيمانية بأسلوب منطقي يفهمه العقل وعرض المسائل الفلسفية بأسلوب إيماني.1 ومن الجدير بالذكر أن هذا المُؤلَّف اللاهوتي (الخلاصة اللاهوتية)، القائم على التنظيم والعقلانية مع إعطاء الأولوية للاهوت على الفلسفة، يعيد إحياء الأفكار التي آمن بها القدماء فيما يتعلق بالمشاعر والعواطف. فالإنسان الذي يُعرَف بوصفه «أُفُقًا بين المادة والروح»، الأنيموس animus (أي ذلك الجزء من العقل المسئول عن تنظيم أداء وظائف الجسم وإشباع رغباته من المتع والملذات)، والأنيما anima (أي ذلك الجزء من العقل الذي يتوافق مع الجانب الروحاني للنفس)، وهما شقان لا ينفصلان أبدًا بعضهما عن بعض ويكونان في صراع دائم؛ يتعين عليه أن يسيطر على عواطفه بعقله (وهي الفكرة نفسها الواردة في كتاب أرسطو «عن الروح»، والذي اقتبس منه كثيرًا القديس توما الأكويني). غير أن هذا العقل الذي يُمكِّن الإنسان من كبح جماح مشاعره وعواطفه، قد يتسبب الجنون في فقدانه، وهذا هو «الخبل». وعندما يُصاب الإنسان به، لا يتبقى لديه إلا الأنيموس. ولا يعود يملك حرية ولا مسئولية؛ وفي هذه الحالة، لا يختفي تمامًا جانب الأنيما، وإنما يكون محبوسًا ومسجونًا. أما ذلك الصراع النفسي أو الروحي، فتبتلعه بالكامل تلك العاطفة المحررة التي أُطلِق لها العِنان.

ما هذه العواطف؟ نجد في البداية الحزن، وهو أكثر العواطف إيذاءً للجسم؛ لأنه يصيب الإنسان بالسَّوْداوِيَّة ويمكن أن يقوده إلى الهوس والجنون؛ ولذلك نجد أن القديس توما الأكويني قد اهتم بذكر العلاجات التقليدية للحزن وتشمل: كل أنواع الفرح أو انشغال النفس فيما يبدد روح الحزن عنها مثل الأصدقاء، والنوم، والبكاء، والاستحمام، ومن ذلك يتضح أنه يتحدث عن الحزن بوصفه مرضًا. وهناك عواطف أخرى كالحب (النشوة) والبهجة (الناتجة عن امتلاك ما يسرُّ القلب ويمتعه، سواء أكان أمرًا متعلقًا بالروح أم بالجسد).

ولن نجد بالطبع في الفلسفة التوماوية توصيفًا حقيقيًّا دقيقًا لمرض الجنون. ولكن يكفي أنه قد ورد بالفعل ذِكر للجنون وإحياء لفكرة ارتباطه بالعواطف في مجال علم اللاهوت. ذلك اللاهوت الأخلاقي، حينما يتعلق الأمر بتعريف تلك الفضيحة الميتافيزيقية المتمثلة في انقطاع التناغم بين الأنيموس والأنيما؛ لا يستنكف من أن يقترض من معجم علم النفس المرضي الموجود بالفعل [الجنون في جانبه الطبي البحت]. إضافة إلى المجانين والمعاتيه الهائجين، نجد أيضًا المختلين عقليًّا وهم أكثر نشاطًا وحيوية، وأكثر تطورًا من المصابين بالخبل الذي يعتبر حرمانًا مطلقًا من العقل، سواء بشكل دائم أم مؤقت. أما الاختلال العقلي، فيحدث نتيجة فقدان بمعنى هجر أو تخلٍّ: حين يسمح الإنسان لجانب الأنيموس فيه أن يتغلب عليه ويتحكم به، مما يذكرنا بالمفهوم الرواقي للجنون. وهكذا برز، بعيدًا عن التعبيرات المجازية البسيطة، تشابه بين جنون الجسد وجنون الروح الذي ترسخ وتطور الاعتقاد به في سياق المجتمع المسيحي.

وأخيرًا، من المثير للاهتمام ملاحظة أن توما الأكويني يتجنب استخدام مصطلح «الجهالة»، على الرغم من كونه المصطلح الأكثر شيوعًا في العصور الوسطى للتعبير عن الجنون. حتى إن القديس بولس الرسول استخدمه للإشارة إلى جنون الصليب (في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس). كما صرَّح القديس توما الأكويني «بوجود نوعين من الحكمة ونوعين من الجنون […] وبأن الإنسان الذي يتكل على الله يؤكد على كونه الأكثر جنونًا في حكم البشر؛ لأنه يحتقر الكنوز الأرضية التي تبحث عنها الحكمة البشرية.» وسنتناول فيما بعد هذه المسألة بالتفصيل.

الأطباء

اعتبارًا من القرن الحادي عشر الميلادي، انتعش الطب بفعل التأثير القادم من إسبانيا وصقلية والمدرسة الطبية بساليرنو. واستفادت هذه الأماكن من المساهمة العلمية المزدوجة التي قدمها العرب؛ فمن جهة كانوا يقومون بنقل النصوص اليونانية، ومن جهة أخرى كانوا يضيفون إلى تلك النصوص دراسات وتأملات انتفع بها الطب الغربي في العصور الوسطى.

ما الذي يمكن أن نستخلصه من الخطاب الطبي بشأن الاضطرابات العقلية اعتبارًا من هذه الفترة وخلال القرون التالية، علمًا بأن هذه الحقبة قد شهدت انتشار المدارس الطبية (مثل مدرسة مونبلييه التي تأسست في بداية القرن الثالث عشر، والعديد من المدارس الأخرى التي ظهرت في إيطاليا في القرن الرابع عشر)؟ في الواقع، إن عدد المقالات البحثية التي خُصِّصت بشكل حصري أو بشكل رئيس لموضوع الجنون محدودٌ للغاية. ولكن، في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، قام قسطنطين الأفريقي، الذي ترهَّب بالدير البنديكتي بمونت كاسينو، بترجمة كُتَيِّب من العربية إلى اللاتينية عن السَّوْداوِيَّة (الكآبة)، يظهر فيه التأثر الشديد بفكر روفوس الأفسسي. وهكذا، جرى استكمال الدراسات الطبية من حيث انتهى اليونانيون.

لا بد من البحث في المؤلفات العامة للعثور على الاضطرابات العقلية. وقد استمر قسطنطين الأفريقي، من جانبه، في ترجمة العديد من المؤلفات من العربية إلى اللاتينية، نذكر من بينها «زاد المسافر» لابن الجزار؛ وهو كتاب هام في الباثولوجيا (علم الأمراض) — بالرغم من أن عنوان الكتاب لا يدل على ذلك — ويضم بين دفتيه فصلًا عن «النسيان». وهذا المجلد الأخير يثير اهتمامنا على نحو خاص؛ لأن قسطنطين الأفريقي ذكر في المقدمة أنه يخاطب ثلاث فئات من القراء: أولئك الذين يودُّون ممارسة الطب، وأولئك الذين يودون إثراء معارفهم من خلال الاهتمام بمجال الطب، وأخيرًا أولئك الذين يطمحون إلى الاثنتين معًا؛ أي الممارسة والمعرفة. ولم يكن الطب علمًا منغلقًا على ذاته، بل قدَّم فيما بعد، اعتبارًا من القرن الثاني عشر الميلادي وخاصة في القرن الثالث عشر، أداةً محركةً لأفكار وتأملات فلاسفة الطبيعة.

في المقاربة التي تعتمد بشكل أساسي على المنظور الجسدي، نجد أن تناول «أمراض الدماغ» يقتصر في أغلب الأحيان على تعدادها، وإعطاء وصفٍ سريريٍّ لها، وتكرار ما ورد في الدليل الخاص بالأمراض العقلية التي جرى تعريفها في العصور القديمة.2 وهذا هو النهج عينه الذي اتبعه أبو بكر الرازي (٨٦٥–٩٢٥) على وجه الخصوص، وهو طبيب عربي شهير ومن أتباع أبُقراط. بيْد أن بعض المؤلفين حاولوا وضع تصنيف لهذه الأمراض، من بين هؤلاء ابن سينا (٩٨٠–١٠٣٧)، وهو ليس طبيبًا عربيًّا فحسب، ولَكِنَّه أيضًا فيلسوف ومتصوف. ويعد كتابه «القانون في الطب» من أكثر الكتب التي أجمع عليها العلماء والدارسون في الشرق والغرب، وفي نهاية حقبة القرون الوسطى، أصبحت النسخة المترجمة عنه إلى اللاتينية أكثر الكتب طباعةً بعد الكتاب المقدس.

قَسَّم ابن سينا الأمراض المسببة لحدوث اضطرابات عقلية إلى ثلاث مجموعات. تشمل المجموعة الأولى الْتهابات جزء من المخ وهو ما يسبب النُّوام وجنون الاهتياج (ما كان يطلق عليه قديمًا الْتهاب الدماغ). وبالنسبة إلى هذا النوع الأخير من الجنون، تحدث ابن سينا عن أحد أشكاله، وهو فورة الغضب التي يشبِّهها ﺑ «هوس يرافقه اهتياج». وتشمل المجموعة الثانية الأدْواء التي تُحدِث خللًا في القدرات العقلية مثل: الجنون أو تَشَوُّش العقل، وتَلَف الذاكرة، وفساد المخيلة، ثم الهوس، والسَّوْداوِيَّة (المَلَنْخُوليَا)، وتوهم الذئبية، والحب (وقد ورد هذا الأخير، بوصفه شكلًا من أشكال المرض، في الجدول العربي لتوصيف الأمراض بعد أن سبق ذكره في العصور القديمة). وفي النهاية تأتي المجموعة الثالثة وهي تشمل الأمراض المسببة لاختلال حركي مثل الدُّوار والصرع. ونلاحظ في هذا التصنيف، أن جميع الأمراض العقلية (أي تلك الأمراض المفهرسة في العصور القديمة) مذكورة عمليًّا ضمن أمراض الفئة الثانية. وتُقَسَّم الأمراض العقلية وفقًا لثلاث مَلَكات عقلية؛ وهي: الذاكرة، والخيال، والحكم على الأمور. ولكن هذه المَلَكة الأخيرة تشتمل وحدها على مفهومين رئيسين، وهما: الهوس والكآبة.

بعد صدور النسخة المترجمة من الكتاب الشهير «مسائل أرسطوطاليس الطبيعية، الجزء ٣٠» في القرن الثالث عشر الميلادي لمؤلفه أرسطو، وهو الكتاب الذي ذُكِر فيه أن أصحاب العقول العظيمة الذين يتميزون بالتفكير الخلَّاق والإبداعي هم من ذوي المزاج السوداوي؛ ازدهرت السَّوْداوِيَّة في الغرب إبَّان العصور الوسطى، وذلك بعد أن كانت قد نالت اهتمامًا كبيرًا من قِبل الأطباء والفلاسفة العرب. وبدأت السَّوْداوِيَّة المَرَضية (المَلَنْخُوليَا) تحتل، أكثر فأكثر، مكانة متميزة على ساحة الاغتراب العقلي، خصوصًا أن المفكرين في العصور الوسطى كانوا يميلون إلى البحث عن الأسباب أكثر من الأعراض.

وأخيرًا، نظرًا للدور الهائل الذي لعبه الطب العربي وجالينوس، تم — في العصور الوسطى المسيحية — إحياء الحوار بين الطب والفلسفة. واستند علم خصائص الشخصية إلى مبادئ نظرية الأمزجة وارتباطها بالأخلاط. يزعم أرنو دي فيلنوف (١٢٥٠–١٣١٣)، الذي كان طبيبًا خاصًّا للملك أراجون وللبطريرك ومترجمًا للمؤلفات من اللغة العربية، أن المزاج هو العنصر الجسدي الأكثر قدرة على «تهيئة ظهور حوادث النفس». وهذا ما اتفق أفلاطون وجالينوس عليه، بل أُضيف إليه أن حوادث النفس يمكن بدورها أن تؤثر سلبًا على المزاج. وقد أَوْلَتِ العصورُ الوسطى «الأرواحَ» أهمية خاصة؛ تلك الانبثاقات الخفيفة والرقيقة التي تحمل «النفحة» وفقًا للمصطلح المُستخدَم في الفلسفة الرواقية، والتي تشكل جوهر الحياة والشعور (حيث تعمل بوصفها وسيطًا بين النفس والجسد). كما أَوْلَتِ العصور الوسطى اهتمامًا خاصًّا بالكيفية التي تتوزع بها الروح داخل الجسد.

بيد أن علماء اللاهوت وضعوا حدًّا لهذا النمط من التفكير. وحَسَم جيوم دو سان تييري — راهب من سيتُو ومؤلف صوفي ظهر في النصف الأول من القرن الثاني عشر — هذه المسألة بقوله: «إن السمات الطبيعية المتعددة للإنسان، سواء أكانت حيوية أم حيوانية، ليست هي الروح.» لم يعد يوجد ما يسمى بمرض الروح (بالإشارة إلى العصور القديمة)، بما أن الروح غير مادية وغير قابلة للفساد. وإذا بدا أن الروح يشوبها خلل ما في قدراتها أو مَلَكاتها، فهذا يعني أنها غير قادرة على تملُّك زمام الجسد باعتباره الأداة التي تُظهِر من خلالها هذه المَلَكات. وبغية تفادي إثارة استياء وغضب الكنيسة، تجنب الأطباء طرح مشكلة الروح في السياق الطبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤