الفصل الرابع

جنون ودين

إذا لم يكن باستطاعة الجنون والأخلاق أن يجدا نقطة التقاء المجتمع المسيحي في القرون الوسطى، فماذا نقول إذنْ عن الجنون والدين؟ والمقصود هنا الدين ببعده الإسكاتولوجي [أي في سياق علم الأخرويات الذي يهتم بدراسة كل ما يتعلق بالآخرة والإنسان]. في أواخر العصور الوسطى، بعد مرور عدة أعوام من الألفية الأولى للميلاد، استحوذ القلق على عقول ونفوس البشر بشأن نهاية الأزمنة، من جراء ما حاق بهم من مصائب وكوارث، مثل؛ تلف المحاصيل، والمجاعات، والحروب، والأوبئة، وكذلك ضعف نفوذ الباباوات. ترسخ وسواس الخوف من الموت في قلب مجتمع قلِق ومضطرب وحائر. وأثَّرَ ذلك الهاجس بشكل عميق على طابع التدين والتقوى الذي استنكر اضطرابات العالم. في فن الرسم، ازدهرت اللوحات التي تصور رقصة الموت؛ حيث تسحق عربة الموتى بلا شفقة ولا رحمةٍ العظماءَ والمتواضعين على حد سواء. لم يبقَ أمام الإنسان إلا أن يتواضع كليًّا أمام الله، كما تحثه على ذلك المؤلفات الداعية للتقوى والورع والروحانية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال، نقرأ في أحد تلك المؤلفات، في كتاب عنوانه «الاقتداء بالسيد المسيح» العبارات التالية: «فقد كثيرون تقواهم برغبتهم في كشف أسرار تفوق قدراتهم العقلية وذكائهم. فما هو مطلوب منك أيها الإنسان هو الإيمان والسلوك بطهارة ونقاء في الحياة، وليس التعمق في الفكر وسبر أغوار الأسرار الإلهية.»

الجنون والخطيئة

إذا كان المجنون، في الكتاب المقدس، كائنًا ضعيفًا بين الضعفاء ومحبوبًا من الله بشكل تلقائي وبديهي، فإنه يبدو الأكثر بعدًا عنه: (قال الجاهل في قلبه ليس إله)، لدرجة أنه استحق اللعنة التي ذُكرت في مستهل المزمور الثاني والخمسين من العهد القديم. يُعد سفر المزامير هو الكتاب الأكثر قراءةً في القرون الوسطى، وهو الكتاب الذي حظي بأكبر قدر من التعليقات والشروح والتفاسير والإيضاحات. كيف يمكن القول إن «الكائن لا يكون»؟ وحده الأحمق هو مَنْ يستطيع تأكيد مثل هذه الأكذوبة. غير أن مفهوم المجنون، أو الشخص غير الحكيم، بدأ يتخذ من وقتها معنًى أكثر عمومية وشمولية. فأصبحت صفة الأخرق، أو المختل عقليًّا، الذي ينكر المسيح تُطلَق على الملحد أو اليهودي (في القرن الثالث عشر الميلادي). ولكن بالنظر إلى ما هو أبعد من ذلك، في سياق العقيدة المسيحية المترسخة، نجد أن المجنون، هو الإنسان الذي يحيا حياة التجديف والخطيئة، وذلك إحياءً لمفهوم المختل عقليًّا عند العبرانيين؛ ومن ثم، سرعان ما يصبح مُضيفًا مميزًا للشيطان. لم يكن من الممكن بالنسبة إلى مجتمع مسيحي مماثل ألا يعيد طرح تلك المعادلة العزيزة لدى ديانة العبرانيين والعهد القديم، والتي مفادها أن الخطيئة حماقة؛ والحماقة خطيئة.

لقد برز ذلك الرَّبط بين الجنون والخطيئة في العصور الوسطى بشكل واضح وتجسد من خلال مَثَل العذارى الجاهلات والعذارى الحكيمات اللائي زينت تماثيلهن المنحوتة العديد من البوابات، وتيجان الأعمدة، ولوحات الجبهة والأقواس المعقودة بالكاتدرائيات. وقد وردت هذه القصة الرمزية في إنجيل القديس متَّى على النحو التالي: «حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ.» العذارى الخمس الحكيمات (أي الحَذِرات، الفَطِنات) فَكَّرْنَ في أن يأخذن معهن زيتًا في آنيتهن مع مصابيحهن. أما العذارى الخمس الجاهلات (أي الحمقاوات)، فلم يأخذن معهن زيتًا. وفي منتصف الليل، عندما جاء العريس (المسيح)، وخرجت جميع العذارى للقائه، تنبهت العذارى الجاهلات فجأة أنه ليس معهن زيتٌ لمصابيحهن، أما العذارى الخمس الحكيمات فقد تمكنَّ وحدهن من الدخول إلى قاعة العرس، وأُغلِق الباب. وحينما جاءت أخيرًا العذارى الجاهلات بعد أن أضَأْنَ مصابيحهن، رَجَوْنَ السيد أن يفتح لهن الباب، ولكنه أجابهن قائلًا: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ!» وانتهى المَثَل بتحذير متَّى الرسول لنا جميعًا قائلًا: «فَاسْهَرُوا إِذن لأَنَّكُمْ لَا تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلَا السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ.»

إن التأصُّل التوراتي لإنجيل متَّى يظهر بوضوح في موضوع ذاك العُرس. فقد شبَّهَ الأنبياء أيضًا الله بالعريس الوفي لشعبه من بني إسرائيل. وشبَّهَ يسوع، الملتزم بهذا التقليد، ملكوت السماوات بعُرس دُعي إليه الجميع ولكن لم يدخله إلا المستعدون فقط. نجد، في مَثَل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات، ما هو أبعد من التَّشَدُّد الواضح في إنجيل متَّى؛ حيث تتجلى في هذا المَثَل صرامة العهد القديم وقسوته. فالسيد هنا ليس الحب ولا المغفرة. ويا لسوء حظ العذارى الجاهلات! فرفيقاتهن بالأمس؛ أي العذارى الحكيمات، لم يكنَّ أكثر تعاطفًا معهن، بل قلن لهن: «لقد أطَلْتُنَّ النوم!» يُضاف إلى هذا أن الرؤية السائدة في القرون الوسطى كانت تبعث على التشاؤم. فالعذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات يُجسِّدْنَ ما سيحدث في يوم الدينونة الأخير؛ حيث سيتم التمييز في الحياة الأبدية بين الأبرار المُختارين والملاعين الهالكين. في الركنين الأسفلين من القوس الأمامي لكاتدرائية سان دوني، نجد تمثالين، أحدهما لعذراء حكيمة والآخر لعذراء جاهلة. تقف الأولى على باب الفردوس، بينما تتأهب الثانية للدخول إلى الجحيم.

مجانين في حب الله

إضافة إلى جنون الخطيئة الذي ذكرناه سالفًا، البعيد كل البعد عن المحبة المثالية الواردة في الإنجيل، نجد على النقيض الجنون الصوفي الذي يجسد الحب في أجلى صوره. «السلوك بزهد واتِّباع المسيح الزاهد»، هذا هو ما أوصى به القديس جيروم في أوائل القرون الوسطى. وهكذا نشأ مذهب مجانين في حب الله، وهم أولئك الذين يعيشون كنُسَّاك في الغابات، مُجرَّدين من كل شيء. ولم يكن هذا الشكل المتطرف من أشكال التدين يلقى بالضرورة استحسانًا لدى مختلف الرتب الكنسية. في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، خاطب أسقف مدينة رين الفرنسية روبير داربريسل، مؤسس دير فونتيفرو بأسلوب غير ودي يخلو من التهذيب واللباقة معلِّقًا على هيئته: «ثوب رث وحقير يستر جسدًا كَشَطَته المسوح، قلنسوة مثقوبة، ساقان نصف عاريتين، لحية شعثاء […] (ثم يقول له) أنت تتقدم حافي القدمين وسط الحشود وتقدم عرضًا مذهلًا للحضور. بل يمكن القول إنه ينقصك فقط الإمساك بهراوة لتبدو كواحد من المجانين [المختلين].»1 أصبح هذا الجنون المقدس موضوعًا رائجًا في أدب القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كما ازدهر بشكل عام لدرجة أن الغابات امتلأت بفرسان مجانين هائجين وعراة.
النهضة الروحية والإصلاح الديني على مستوى الإكليروس كانا كلاهما مستوحيَيْن من جنون الصليب. يؤكد القديس برنارد، وهو أول رئيس لدير كليرفو (وقد ترهَّبَ في القرن الثاني عشر الميلادي): إن «المقياس الوحيد للحب هو أن تحب دون حدود» (من محبة الله). أما جيوم دو سان تييري، الذي كان ينتمي أيضًا لطائفة السيسترسيين، وعاش في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، فيشدد على الطابع «الرائع» لجنون الصليب قائلًا: إن «فطنة الراهب المبتدئ تكمن في وجوب أن يصبح أحمقَ وجاهلًا في كل شيء من أجل المسيح.»2 في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، أكد القديس فرنسيس الأسيزي الكلام نفسه حين قال: «الرب قال لي إنه يريد أن يجعل مني مجنونًا جديدًا في العالم، والله لا يريد أن يقودني بغير هذه الطريقة.»3

واختصارًا للقول وبعيدًا عن هؤلاء القديسين المشاهير، كان أولئك المجانين في حب الله ممن يسيرون أيضًا على دروب المرض. وكانت العصور الوسطى مليئة بالفعل بالعديد من أشباه المسيح والأنبياء الكَذَبَة، والمجانين في حب الله ولكنهم بالأخص مجانين حقيقيون، وكان أولئك يتنقلون من مدينة إلى مدينة، ومن دير إلى دير، يعظون ويبشرون، ويشجبون تجاوزات رجال الدين، وينذرون بنهاية الأزمنة. في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، ذكر برنارد دي جوردون، وهو واحد من أبرز المعلمين بمدرسة مونبلييه، أنه من بين «الملايين» المصابين بالسَّوْداوِيَّة، «هناك أولئك الذين يعتقدون أنهم أنبياء أو أشخاص مُوحًى إليهم من الروح القدس، ومن ثم يقومون بالوعظ عن حال العالم في المستقبل أو عن مجيء المسيح الدجال.»

كيف كان يجري استقبال هؤلاء المبشرين الأخرويين؟ لم تكن هناك قاعدة ثابتة. فقد كانوا يستفيدون مبدئيًّا من الرأي الإيجابي المسبق حيالهم، ولكن أولئك الذين ذاعت شهرتهم (كما هو شأن البعض) كان ينبغي لهم الاحتراس من الوقوع في البدع والهرطقات، مثلما حدث مع ذلك المدعو إيودس دي ليتوال، في القرن الثاني عشر الميلادي، الذي زعم أنه ابن الله؛ ولذا قام مجمع رانس في نهاية المطاف بإصدار أمر بإلقائه في السجن حيث تُوفِّي بعد اعتقاله بفترة وجيزة، بينما أُرسِل أتباعه الرئيسون إلى المحرقة.4 وعلى الرغم من قيامه بإظهار عصا مشقوقة وعرضها أمام الأساقفة زاعمًا، بنبرة شديدة الجدية، أن أحد طرفيها يسند السماء بينما الطرف الآخر يسند الأرض، فإن أحدًا لم يستخلص من ذلك إصابته بالجنون. فلم يُرِد أحد إلا رؤية جريمة التدنيس وانتهاك حرمة المقدسات.

الجنون والشيطان

يُعد الجدل بشأن الجنون وعلاقته بالشيطان قديمًا. فنجده قائمًا بالفعل في الطب البابلي أو المصري (حيث لا يوجد، عَدا ذَلِكَ، أي جدال)، كما أن باب النقاش، بطريقة أو بأخرى، ليس مغلقًا تمامًا اليوم، ليس في كل مكان على أي حال. بالرغم من الاعتقادات الشائعة، لم يظهر الشيطان بقوة في الجنون إلا في أواخر العصور الوسطى، ليبلغ الأمر ذروته في القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر. بيد أن كل شيء يتوقف على معرفة ما هو المقصود بالشيطان وما نعنيه بالربط بينه وبين الجنون.

يميز جالينوس، «الملقب بأبقراط القرون الوسطى»، في تعليق له على أفلاطون، بين الاضطرابات [العقلية] الناجمة عن أسباب «طبيعية» وبين تلك التي تنشأ من أسباب أخرى على النحو التالي: «عندما يعتقد المرء أنه يرى ما لا يراه غيره، ويسمع أصواتًا لا يُنطق بها، وحينما يقول أشياء مُخزية، أو يتلفظ بكلام يدل على الكُفر والإلحاد أو على الجنون التام؛ فإن ذلك يُعَد دليلًا، ليس على فقدان الروح لقواها الطبيعية فحسب، وإنما على دخول شيء إليها منافٍ لطبيعتها.» ويتساءل إيتيان تريا، في كتابه الرائع «تاريخ الهستيريا»،5 عن ماهية ذلك الشيء المخالف لطبيعة الروح: «ألم يكن جالينوس، ذلك المؤمن بإله واحد، على استعداد لإدخال النفوذ المضاد للشيطان في أمراض الروح؟» دون الذهاب إلى القول بأن جالينوس ربما يُعَد رائد علم دراسة الشياطين، وهي فرضية مثيرة للاهتمام.
أما القديس توما الأكويني، فقد أعلنها صراحةً قائلًا: «إن الشيطان يستطيع إيقاف استخدام العقل تمامًا وذلك بالتشويش على الخيال والشهوة الحسية، كما يتجلى ذلك لدى المصابين بمس شيطاني.» وهنا يبرز سؤال يطرح نفسه: ما الذي ينبغي أن نفهمه من ذلك التعبير الأخير؟ هناك طرق عديدة يمكن للإنسان أن يكون من خلالها ضحية للشيطان، أو بالأحرى لعدد لا يُحصى من الشياطين المساعدين، فقليلون للغاية هم أولئك الذين ينالون شرف أن يخاطبهم شخصيًّا إبليس بذاته. هناك شياطين سادية وشهوانية، تُدعى الجاثوم أو الحَضون (كلمة مشتقة من الأصل اللاتيني incubus وتعني الكابوس)، وهي أرواح شريرة أو شياطين تهاجم الفتيات الجميلات في الليل وتغتصبهن في أثناء نومهن، خاصةً إن كانت هؤلاء الفتيات قد نَذرنَ العفة. وتوجد أيضًا، ولكن بأعداد أقل، شياطين أنثوية تُدعَى السقوبة (وتعني وفقًا للأصل الاشتقاقي للكلمة: «الاستلقاء تحت») وهي تهاجم الرجال. بيد أن الممسوس «الحقيقي» هو الذي يكون له وحده شيطان معين يستحوذ عليه ويتملكه بشكل كامل، فيدخل هذا الشيطان في الجسم ويزعم أنه لن يخرج منه أبدًا، ويتسبب في إصابة ضحيته بمس جنوني يجعلها ترتكب آلاف الحماقات.
ومع ذلك، تُعد لفظة «ممسوس» تعبيرًا مبهمًا، كما هي الحال بالنسبة إلى لفظة «شيطاني» التي كانت، في العصور الوسطى، مرادفًا لكلمة «أحمق أو مخبول». بل إن المعجم الطبي نفسه يستبدل أحيانًا بكلمة «هوس» كلمة «شيطان» أو «روح شريرة». وكان يجري اقتياد المصابين بمس شيطاني إلى الأديرة للحج. وبالطبع، لا تخلو قصص معجزات الشفاء من ذِكر، بل وتسليط الضوء على حالات المس الشيطاني التي كان يعاني منها أولئك الذين يتم اصطحابهم للحج. فها هي أودلين، تلك الفتاة التي أحضرها والداها على نَقالة إلى ضريح القديس جيبريان. ولقد تضرع هذان الأبوان إلى الله وتوسلا إلى القديس بحرارة لدرجة أن «الشيطان أطاع وبسرعة خاطفة، خرج من [الفتاة].» امرأة شابة أخرى تم اقتيادها إلى كنيسة القديس إيجولف: «وفي اليوم الثالث، حررها الشهيد العظيم من قبضة الشيطان وأعاد إليها رشدها الذي كانت قد فقدته.» وهناك أيضًا بيير دي فولينيو، ذلك المجنون الهائج، الذي كان عليه أكثر من شيطان في آن واحد. وحينما نُقِل إلى ضريح القديس فرنسيس الأسيزي، تركته الشياطين عند أول تلامس مع القبر.6

إن مجموعة الصور والرسوم والأيقونات التي ترجع إلى القرون الوسطى مليئة بتلك المشاهد الباعثة على التقوى التي تصور إنسانًا مصابًا بمس شيطاني، مكبلًا بالسلاسل، أشعث الشعر وغير مُنَسَّق الهيئة، ثائرًا وهائجًا بشكل واضح، وهو يلفظ شيطانه ويطرده عن طريق الفم. نجد على أحد النقوش التي ترجع إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي صورة للقديسة رادجوند، ملكة الفرنجة في القرن السادس ومؤسِّسة دير سانت كروا (أي الصليب المقدس) الذي يقع بالقرب من بواتييه، وهي تُخرج شيطانًا من جسد فتاة شابة ممسوسة. وتظهر الفتاة في هذا النقش مُوثَّقة إلى أحد الأعمدة ولا يكاد يستر جسدها شيء. كما يظهر على أحد الأختام، الذي يرجع إلى القرن الرابع عشر، ويخص دير القديس تيبيري، الواقع بالقرب من بلدية أَجْد الفرنسية، نقشًا يصور القديس جاثيًا، وأمامه إنسان ممسوس يخرج من فمه شيطان. وفي بعض الأحيان، نجد المسيح هو الذي يتدخل بنفسه مباشرة.

على الرغم من ذلك، يبدو أن هذه الفكرة المهيمنة ظلت سائدة لوقت طويل (في الواقع طوال القرون الوسطى تقريبًا) سواء بشكل رسمي أو مجازي، وكائنة جنبًا إلى جنب مع الجنون المَرَضي الذي يختص به الأطباء، بل إنها كانت في بعض الأحيان تحل محله. فلم يعد هناك اعتقاد في الشفاء الطبي وإنما في معجزات الشفاء. منذ ذلك الحين، لم تعد الحرب التي يخوضها الله وقديسوه من صانعي المعجزات موجهة ضد مرض جسدي («جسدي» من وجهة النظر الطبية السائدة في القرون الوسطى)، وإنما ضد الشر الأبدي، متجسدًا في الشيطان أو إبليس بذاته. في نهاية المطاف، نجد أن التسلسل المنطقي يفرض نفسه، فالمجنون المنفصل تمامًا عن الله، والذي يُعَد نموذجًا مناقضًا للتقوى والورع والحكمة (بالطبع، جنون الصليب بعيد كل البعد عما نقول)؛ يقود إلى المجنون الذي يصير غلافه الجسدي، الشاغر نوعًا ما، مسكنًا للشيطان.

لقد كنا حتى الآن بصدد الحديث عن المعتقدات الشعبية التي تتصف بالتسامح إلى حد بعيد، والتي ظلت على هذه الحال إلى أن تَغَيَّر المشهد المجتمعي والديني في القرون الأخيرة من العصور الوسطى. وقد سنحت لنا الفرصة بالفعل للإشارة إلى ذلك الشعور بالقلق والخوف من نهاية الأزمنة الذي تَمَلك هذه الحضارة، بيد أنه لا بد من التركيز بشكل أكبر على تزايد البدع والهرطقات التي أضحت مكونًا رئيسًا، لا يستهان به، في تلك الحضارة. وبالطبع، سادت هذه البدع والهرطقات طيلة القرون الوسطى. غير أن بدعة الكاثاريون أدت، في عام ١٢٣١، إلى إنشاء محاكم استثنائية، وهي محاكم التفتيش. ولكن هذا لم يمنع المؤمنين بالحُكْم الألفي، ومَوَاكِب حركة المُتَسَوِّطين، والمذاهب المتعددة، وأولئك المجانين في حب الله؛ من التبشير بقرب نهاية الأزمنة، ولم يحُل دون قيام أكثريتهم بشن هجوم عنيف على الكنيسة. وقد أبدت محاكم التفتيش ردود أفعال على قدر هذه الأحداث. ففي عام ١٣٧٢ على سبيل المثال، حُكِم على بعض الهراطقة الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «أخوية الروح الحرة» بالصعود إلى المَحرقة؛ لأنهم رفضوا وأنكروا وساطة الكنيسة. وأخيرًا، فإن الانشقاق الغربي الكبير الذي دام من عام ١٣٧٨ إلى عام ١٤١٧، وحرَّم خلاله اثنان من الباباوات أحدهما الآخر، ثم ما نتج عن ذلك من انعقاد مجامع دينية متعددة، علاوة على ظهور بدع وهرطقات جديدة ذات طابع وطني وثوري، كل هذه العوامل ألقت بظلالها على العقول وأثارت بلبلة في الضمائر.

لم يكن من المُستغرَب، في مثل هذا المناخ، أن يقوى نفوذ الشيطان وأن تشتعل المحارق في جميع أنحاء أوروبا. فالهرطقة والشعوذة تسيران على خطًى واحدة. ازدهر علم دراسة الشياطين مع ظهور (مطرقة الساحرات)، الذي نُشِر في عام ١٤٨٦، على أثر مرسوم بابوي يأمر بالكشف عن الساحرات؛ لأن النساء هُن المعنيات بالطبع. ففي المحاكمات المتعلقة بالسحر والشعوذة، التي تضاعفت منذ ذلك الحين واستمرت حتى منتصف القرن السابع عشر، نجد مقابل كل أربع نساء رجلًا واحدًا. إن «وباء السحر» ذاك، الذي كان سيدوم لمدة ١٥٠ عامًا، لم ينشأ، وفقًا لآر إتش روبنز،7 عن ظاهرة فولكلورية (بالمعنى الاشتقاقي لكلمة «فولكلور»؛ أي «علم الشعوب»)، وإنما نشأ عن هرطقة مسيحية حقيقية انبثقت من جديد عن الوثنية القديمة.

في سياق هذه الهستيريا الجماعية، لم يبقَ أمام النظرية الشيطانية للجنون، التي كانت قائمة بالفعل ولكن لم تكن قد بزغت بعد، إلا أن تتبلور وتبدأ في جذب الانتباه. وقد عارض جاك ديبار — الذي توفي عام ١٤٥٨، وكان يُدرِّس الطب في باريس — مماثَلة الجنون بالشيطان، قائلًا: «من الشائع لدى العامة وبعض علماء اللاهوت القول بأن المصابين بالسوداوية أو بالهَوَس لديهم شيطان يسكن الجسد، وهو ما يصدقه المرضى في أغلب الأحيان ويجاهرون به. أولئك الذين يؤمنون بهذه الأفكار المبتذلة لا يسعون، من أجل علاج مرضهم، للحصول على مساعدة من قِبَل الأطباء، وإنما يطلبون عون القديسين المعروف عنهم أن الله قد منحهم القدرة على طرد وإخراج الشياطين.» فضلًا عن ذلك، أدان ديبار موضة اللجوء إلى التنجيم التي استفحلت في المجتمع، لدرجة أنها أصبحت منذ ذلك الحين تؤثر بشكل عميق على تشخيصات وتقديرات الأطباء فيما يتعلق بمدى خطورة أو حدة المرض وتطوراته واحتمالات الشفاء.

أما الراهب الدومينيكاني الألماني يوهانس نيدِر، فقد اكتفى في كتابه «عش النمل»، الذي نُشِر في عام ١٤٧٥، بطرح إشكالية الموضوع، وذلك عن طريق قيامه، في مُؤَلَّفه، بخلق حوار بين عالِم لاهوت وخصم له؛ حيث يتناولان في نقاشهما أعمال السحر والتعاويذ المؤذية والخرافات، فيجتهد أحدهما لتفسير كل شيء وفقًا لأسباب طبيعية، أما الآخر فينبري في تفسير هذه الأمور وفقًا لتدخلات شيطانية. وسواء أكان ذلك الأمر مَردُّه اعتقاد أم واقع، قد يحدث المس الشيطاني نتيجة «تَهيُّؤ سوداوي». وهكذا بلغت الحظوة التي نالها مصطلح «السوداوية» في العصور الوسطى، لدى علماء اللاهوت والأطباء على حد سواء؛ أوْجَها. وربما يكون هناك ثمة أُلفة معينة بين السوداوية والشيطان. هذا التآلف لا يتعلق بالمجانين المصابين بالسوداوية فحسب، وإنما يشمل أيضًا الطبائع التي تلونت بنفس هذا المزاج. يعطي أمبرواز باريه وصفًا مطولًا للشخص المصاب بالسوداوية على النحو التالي: «لديه وجه أسمر أو ضارِب إلى السواد، ونظرة متقلبة، شرس وزائغ وشارد الذهن، حزين، كئيب ومُتجهِّم […] أولئك الأشخاص الذين يعانون من السوداوية، تكون أجسامهم باردة وقاسية وخشنة الملمس، وتنتابهم أضغاث أحلام مروعة وأفكار رهيبة عند النوم؛ إذ يرون في بعض الأحيان شياطين، أو ثعابين، أو قصورًا مظلمة، أو قبورًا وجثثًا وأشياء أخرى مماثلة.»8 فكيف لا يعشش الشيطان داخل إنسان يشبهه بالفعل؟ «وفقًا لما كتبه جون تاكسيل، إن الأجساد التي يتملَّكها الشيطان داخليًّا تعاني من الكآبة والسوداوية؛ لأن هذا المزاج هو المستقَر الحقيقي الذي يسعد فيه الشيطان ويجد به لذته، ومن خلاله يُحدِث آثارًا شديدة الغرابة.»9

وبطبيعة الحال، وخلافًا لفرضية راسخة، ليس ثمة تشابه، وفقًا للمنظور الجدلي للمحققين في محاكم التفتيش، بين الشعوذة والجنون؛ فهذا يتطلب أن يكون الأحمق قد عقد اتفاق تحالُف مع إبليس، وهو ما يُعد، من وجهة نظر محقق محكمة التفتيش، أمرًا مستحيلًا؛ لأن المجنون، حسب التعريف، لا يملك حرية الإرادة. وربما كان يتعين أيضًا على المحققين أن يطرحوا مسألة الجنون لدى المتهمين بممارسة السحر. في القرن السادس عشر، حيث كانت مطاردة الساحرات والمشعوذات على أشدها، ها هو مونتين يدلي بشهادته في هذا الشأن قائلًا: «قبل بضع سنوات، مررت بأراضٍ تابعة لأحد الأمراء الذي تفضل وسمح لي؛ إكرامًا لخاطري وإمعانًا في نفي شكوكي، بأن أرى في حضرته، وفي مكان خاص، نحو عشرة أو اثني عشر سجينًا من هذا النوع [المشعوذين] ومن بينهم ساحرة عجوز، مشعوذة حقيقية بما بها من قبح وتشوه ودمامة، وذات شهرة واسعة في هذه المهنة منذ أمد بعيد، ثم عاينت الأدلة والبراهين واستمعت إلى اعترافات حرة […] وفي النهاية، أمرت، وفقًا لما تقتضيه الأمانة، بأن يحضروا لهم بالأحرى الخربق بدلًا من الشوكران؛ لأنهم بدوا لي مجانين وليسوا مذنبين …»

كما أعرب جواكيم دو بيليه عن استيائه من هذا الضلال الجماعي. قضى جواكيم الفترة من ١٥٥٣ إلى ١٥٥٧ في روما، حيث كان يتبع عمه الكاردينال. وهناك، سنحت له الفرصة أن يشاهد مرور عدد من مواكب الحج التي يقتادون فيها بعض الممسوسين. وقد تأثر بهذا المشهد تأثرًا عميقًا، لدرجة أنه خصص له أغنية قصيرة (سونيتة) (في ديوانه الشعري Regrets؛ أي «الندم») ووجهها إلى صديقه ريمي دولسين، الذي كان يعمل طبيبًا:
دولسين، عندما أرى في بعض الأحيان هؤلاء الفتيات المسكينات،
اللائي يتملك الشيطان جسدهن، أو يبدُون كما لو أنه يستحوذ عليهن،
يحركن أجسامهن ورءوسهن بصورة رهيبة،
ويفعلن ما تقوله أولئك العرافات العجائز،
 […]
وحين أرَاهُن يصرخن بشكل مخيف،
وحين تنقلب أعينهن ويظهر بياضها،
يقشعر بدني كله، ولا أدري ما أقول.
ولكن حين أرى راهبًا يتحدث باللاتينية،
يتحسس بطونهن من أعلى ومن أسفل ويمس حلمات أثدائهن،
يذهب عني ذلك الرعب، وأجد نفسي مضطرًّا للضحك.

وبالطبع، حُرِق العديد من المجانين، سواء أكانوا مصابين بالسوداوية أم لا، في المحارق التابعة لمحاكم التفتيش. فلا يوجد ما هو أسهل من طرح مثل ذلك السؤال على المجنون: «هل صحيح أنك قد أبرمت اتفاقًا مع الشيطان؟» «نعم.» وقد عمل أحد الأطباء المعاصرين، وهو الطبيب جون وير (١٥١٥–١٥٨٨)، على محاربة هذا «الفكر الأوحد» بجدارة، ولا سيما أنه كان يؤمن، بالطبع، بوجود الشيطان بما أنه مؤمن بالله. كان هذا الطبيب تلميذًا لكورنيليوس أجريبا، الذي لم يكن يخشى توجيه انتقادات شديدة للمحققين بمحاكم التفتيش، واصفًا إياهم ﺑ «النسور المتعطشة للدماء»، التي تهاجم «نساء القرية المسكينات»، وتنتزع منهن — تحت التعذيب — اعترافات بممارسة السحر والشعوذة («تفاهة العلوم» ١٥٣٠). وقد برهن وير على تلقيه تعليمًا جيدًا على أيدي أكْفاء وعلى سيره على خطى معلمه حين نشر في عام ١٥٦٦ كتابًا باللغة اللاتينية بعنوان: «قصص، ومجادلات وخُطَب عن أوهام وخدع ودجل الشياطين والسحرة الأدنياء، والمشعوذات والمفسدين، وعن المسحورين والمصابين بمس شيطاني وشفاء هؤلاء، إضافة إلى العقاب الذي يستحقه السحرة والمفسدون والمشعوذات». بالطبع، العنوان طويل، ولكن الكاتب وفى بوعوده؛ فقد فَنَّدَ وير بالتفصيل ما ورد في كتاب «مطرقة الساحرات»، وميز بين السحرة «الحقيقيين»، الذين يعقدون اتفاقًا مع الشيطان بمحض إرادتهم واختيارهم، والمصابين بالسوداوية، الذين يقعون فريسة للشيطان بغير إرادتهم: «لأن الشيطان يندمج بكل سرور مع المزاج السوداوي؛ إذ يجده مناسبًا للغاية لتنفيذ عمليات التضليل والتدجيل الخاصة به، وهو السبب الذي دفع القديس جيروم إلى القول بأن السوداوية هي المناخ الملائم للشيطان.» (وبأسلوب أكثر إيحائية، يقول مؤلف آخر، وهو جاك فونتين: إن الشيطان يحب التمرُّغ في الطبائع الفاسدة مثلما تعشق الخنازير التمرُّغ في الوحل.) «يستطرد وير قائلًا إنه على الرغم من ذلك، ليس كل المصابين بالسوداوية معذبين من قِبل الشيطان، بل على العكس، ما يحدث عادة هو أن جميع المصابين بمس شيطاني يصبحون كئيبين ويُصابون بالسوداوية.» خلاصة القول: الشيطان والجنون شيئان منفصلان؛ فالممسوس الذي يتملكه الشيطان لا يُعَد مجنونًا بالمعنى الطبي. لقد قام جون بودين، رجل القانون الشهير ومؤلف كتاب «الهوس الشيطاني للسحرة»، الذي نُشِر في عام ١٥٨٠، بتفنيد ودحض تلك النظريات التي أثيرت في هذا الجدال بشكل عنيف، ورفض أن يعترف بتمتع جون وير بأي مهارة أو كفاءة، واصفًا إياه ﺑ «طبيب بسيط من راينلاند.» إذا كان العمل الشجاع الذي قدمه وير لم يؤدِّ فيما بعد إلى تقليل عدد المحارق، فإنه لا يمكن إنكار حقيقة أن هذا الطبيب، سواء أكان بسيطًا أم لا، قد ندد «بالظلمات [التي] كانت تلف متاهة الأسحار»، وهي متاهة ضل فيها المحققون أنفسهم.

وقد حرص بعض الأطباء على أن يكون صوتهم مسموعًا، علمًا بأن ذلك كان يجلب عليهم دائمًا غضب رجال القانون والمَطارنة. وهكذا، قام ميشيل ماريسكو، طبيب الملك وعميد كلية الطب بباريس، مع أربعة من زملائه، بتسليط الضوء على المزاعم الكاذبة بشأن إصابة مارثا بروسييه بمس شيطاني في أواخر القرن السادس عشر، وأوضح أنه لم يجدْ لدى هذه الفتاة إلا «الكثير من الدجل والقليل من المرض.» يقول ماريسكو: «لا شيء ينبغي أن ينسب إلى الشيطان الذي لا يملك أي قوى استثنائية تعلو على قوانين الطبيعة.» هذه الجملة على قدر كبير من الأهمية. نعم الشيطان موجود، لكن ينبغي تحجيم منطقة نفوذه إلى حد كبير لصالح سلطان الطبيعة، ومن ثم الطب. ربما كان ميشيل ماريسكو يفكر، عندما قال هذه الجملة الجريئة إلى حد كبير، في تلك الحكمة التي نطق بها أبقراط حين قال: «أما فيما يخص الشق الإلهي في الأمراض، فينبغي أن يتعلم الطبيب كيفية التكهن بذلك أيضًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤