الفصل الأول

إما الثورة وإما العودة إلى نقطة الصفر

اشتهرت الثورة الفرنسية — التي اندلعت في الخامس من مايو ١٧٨٩ — على غرار جميع الثورات الأخرى، بأنها «طوت صفحة الماضي». فإذا حاولنا البحث في تأريخ مرحلة اليعاقبة وما بعد اليعاقبة — وحتى عصرنا الحالي — عن الإنجازات الإيجابية للنظام القديم، فلن نجد شيئًا. بل إن مصطلح «النظام القديم» نفسه، الذي عمَّمَه ميرابو في عام ١٧٩٠، يُعد تعبيرًا تحقيريًّا؛ إذ يشير إلى مجتمع ظلامي ورَجْعيٍّ كان يُنظَر إليه على أنه مرتعٌ للتعسف والمظالم. وحتى لا نحيد عن موضوعنا الرئيس، فقد سطعت شمس ١٧٨٩، بعد ليل اجتماعي وطبي طويل، تحمل معها ربما رياح الإصلاحات الإنسانية الواسعة. وهكذا نجد أن الإصلاحات التي بدأت في نهاية عهد لويس السادس عشر، لم يتم إلغاؤها فحسب بفعل الأحداث (بينما كانت بالكاد قد بدأت) بل وحُجِبَتْ أيضًا، وكأنها أُسقِطَتْ من التاريخ. فالثورة الفرنسية وحدها كان يمكنها إنتاج العمل الخيري الإنساني. وهكذا لم يكن للتاريخ الفرنسي، ذلك التاريخ الحافل بالتقدم والتضامن، أن يبدأ إلا مع بزوغ الثورة الفرنسية وبفضلها.

إلغاء الأوامر المَلَكية

في دفاتر التظلمات والشكاوى، كما في جلسات الجمعيات الإقليمية التي عُقِدَت فيما بين عامي ١٧٨٧ و١٧٩٠، احتلت مسألة المساعدة العامة مكانة كبيرة، وهي المكانة نفسها التي حركت الرأي العام والسلطات منذ عقدين. استنكر الجميع الوضع المزري للمشافي، وكانت هناك مطالب في كل مكان تقريبًا لإنشاء مآوٍ للفئات الماثلة بالفعل في جميع مشروعات الإصلاح السابقة: الأيتام، والأطفال المهجورين، والمكفوفين، والصم والبكم، والمختلين عقليًّا … طالبت بعض التظلمات بتخصيص مآوٍ منفصلة لهذه الفئة الأخيرة: «فلتُنشَأ في كل محافظة دار يجرى فيها استقبال ومعالجة المختلين عقليًّا الذين يشكل وجودهم خطرًا على المجتمع» (الدفتر الخاص بالطبقة الثالثة (أي العوام) في إقطاعية تروا). وركزت بعض الدفاتر القليلة بشكل أكثر تفصيلًا على مسألة المختلين عقليًّا دون غيرها. فعلى سبيل المثال، نجد الدفتر الخاص بالإكليروس التابع لقهرمانية كليرمون، في أوفيرني، يطالب بإنشاء مؤسسة للمصابين بالهياج العقلي وأخرى للمصابين بالصرع، «يحصل فيه المرضى، مع العلاج اللازم، على متطلبات الإعاشة تبعًا لحالتهم المُؤثِّرة». كما كانت هناك مطالبات بأن تكون هذه المؤسسات «مزودة بالأطباء والجراحين المتعلمين». اهتمت بعض الدفاتر الأخرى بهذه القضية نفسها ونقلت — دون الإشارة إلى المرجع الأصلي — ما ورد في «تعليمات» ١٧٨٥، أو استلهمت من هذا المنشور مباشرة بعض المبادئ والآراء على النحو التالي: «سنهتم في المشافي بصورة أكثر جدية من ذي قبل بفن شفاء المهووسين. فنحن نظن أننا فعلنا كل ما ينبغي القيام به، حين نضيِّق الخناق عليهم ونحتجزهم في أركان مظلمة قادرة على إفساد عقل الإنسان الأكثر اتزانًا، ظانين أننا بهذا الشكل نكون حميناهم من إلحاق الضرر بأقرانهم» (الدفتر الخاص بالعوام التابع لدائرة جماعة الإكليروس المُكرسين النظاميين التي أسسها القديس جايتان دي تيين [باريس]).

تجدر الإشارة على وجه الخصوص إلى إجماع جميع دفاتر التظلمات والشكاوى على المطالبة بإلغاء الأوامر الملكية التي كانت تُعد رمزًا لتعسف السلطة الملكية، حتى ولو كانت بعضها تأمل في إمكانية إجراء بعض الترتيبات على النحو التالي: «فليُسمَح للعائلات، بالنسبة إلى حالات الجنون أو العته أو غير ذلك من الاضطرابات التي تستدعي تأديبًا وإصلاحًا وليس عقابًا، بتقديم عريضة إلى مقر محكمة المشرفين الملكيين المختصة، والتي قد تأمر، بعد إجراء تحقيق غير قضائي، بأن يجري حبس المتهم لفترة طويلة نوعًا ما في إحدى الإصلاحيات» (دفتر الإكليروس التابع لإقطاعية رانس).

لقد ورد مبدأ إلغاء الأوامر الملكية في إعلان النوايا الذي أصدره الملك، وعُرِضَ على مجلس النواب في الثالث والعشرين من يونيو ١٧٨٩: «يدعو جلالة الملك […] الجمعية الوطنية بفئاتها الثلاث — رجال الدين والنبلاء والعوام — إلى البحث واقتراح الوسائل الأكثر ملاءمة للتوفيق بين إلغاء الأوامر الملكية المعروفة باسم الخطابات المختومة، والحفاظ في الوقت نفسه على السلامة العامة والأمن، مع اتخاذ التدابير الاحترازية اللازمة، سواء للحفاظ على شرف العائلة في بعض الحالات، أو للإسراع في قمع بدايات التمرد والعصيان، أو لحماية الدولة من آثار وجود عقل إجرامي مدبر لدى القوى الأجنبية.» ظن هذا الملك (الذي أصبح مجردًا من ألقاب التفخيم) أنه لا يزال سيد الموقف، ولكن هيهات، فما حدث بالتحديد هو أنه بعد انتهاء هذه الجلسة مباشرة انقلب كل شيء رأسًا على عقب؛ إذ لم يعد أسلوب الترويع والترهيب يجدي نفعًا مع طبقة العوام.

نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي تم التصويت عليه في السادس والعشرين من أغسطس ١٧٨٩، في مادته السابعة على ما يلي: «لا يجوز اتهام أي إنسان ولا القبض عليه ولا سجنه إلا في الحالات التي يحددها القانون ووفقًا للأشكال التي ينص عليها. ويجب أن يُعاقَب كل مَن يلتمس إصدار أوامر تعسفية أو يرسلها أو ينفذها أو يأمر بتنفيذها.» أما عن الإلغاء الملموس للأوامر الملكية، فكان لا بد من انتظار عريضة مستقلة، في نوفمبر ١٧٨٩، لكي تقرر الجمعية التأسيسية إنشاء لجنة للخطابات المختومة، وهي تلك اللجنة التي كان ميرابو أحد أعضائها. بعد نقاشات مطولة هيمن عليها القلق والانشغال ليس بوضع المختلين عقليًّا، وإنما بمصير الجانحين (إن أحدًا — بدءًا بميرابو الذي احتُجِز فيما مضى في فنسين بموجب أمر ملكي بناءً على طلب والده — لم يتحدث عن كونهم ضحايا أبرياء)، صوتت الجمعية التأسيسية على قرارات إلغاء الأوامر الملكية في جلستيها اللتين عُقِدتا يومي ١٦ و٢٦ مارس ١٧٩٠، «لقد وصلت الجمعية الوطنية أخيرًا إلى اللحظة السارة للقضاء على الأوامر التعسفية، وتدمير السجون الغير القانونية، وتعيين أجلٍ محدد لإطلاق سراح السجناء المحبوسين فيها، لأي سبب كان أو بأي ذريعة.» ومع ذلك، ارتأت الجمعية المذكورة «أنه من الضروري تمديد فترة حبس أولئك الذين احتُجزوا بسبب الجنون، لفترة طويلة بما يكفي لمعرفة ما إذا كان يجب إطلاق سراحهم بموجب حكم نهائي، أم معالجتهم والاعتناء بهم في المشافي القائمة بحيث يجري تفتيشها وإدارتها بمنتهى اليقظة والحكمة والإنسانية تبعًا لما تقتضيه حالتهم.» وصدر قرار يقضي بإطلاق سراح جميع الأشخاص المسجونين في منازل الاحتجاز الجبري في غضون ستة أسابيع، ما لم يكن قد صدر حكم بإدانتهم أو بالقبض عليهم واقتيادهم إلى السجن، أو «ما لم يكن قد تم اعتقالهم بسبب الجنون». ونصت المادة التاسعة على أن «الأشخاص الذين اعتُقلوا بسبب الجنون سيستجوَبون، لمدة ثلاثة أشهر، اعتبارًا من تاريخ نشر هذا القرار، وبناءً على طلب النائب العام، من طرف القضاة وفق ما هو معمول به، وبأمر من هؤلاء القضاة سيزورهم الأطباء الذين سيقدمون، تحت إشراف مديري الدوائر، تقريرًا حول حالة المرضى الحقيقية حتى يتسنى — تبعًا للحكم الذي سيصدر بناءً على وضعيتهم — الإفراج عنهم أو معالجتهم في المشافي التي ستُخصص لهذا الغرض.»

وقد نُفِّذت بالفعل عمليات التفتيش ولكن بأعداد قليلة نسبيًّا؛ نظرًا لتزايد الاضطرابات السياسية. وكانت تُجرى على طريقة سؤال وجواب (أو بالأحرى غياب الجواب). وكتب الضباط المحليون بكاين في الثاني والعشرين من يونيو ١٧٩١ بشأن طلب اعتقال: «ينبغي لنا الامتثال [للقرارات الجديدة] وعدم إحياء النظام القديم الذي كان يعتدي على حرية الأفراد.» في الواقع، اعتمدت لجنة الخطابات المختومة في المقام الأول على ما وردها من وثائق وتقارير مكتوبة في إطار التحقيق الموسع الذي أطلقته في جميع المشافي العامة، ودور الاحتجاز الجبري ومستودعات التسول المنتشرة في أرجاء المملكة. وسرعان ما تدفقت تقارير وافية للغاية؛ لأنه لا أحد من مديري المؤسسات أراد أن يبدو بِصَمْتِه متواطئًا في جريمة «الأوامر التعسفية» (وهو ما يفسر بالتأكيد، دون مزاح، قيام رئيس دير الرهبان الفرنسيسكان في دونجون أون بوربونيه بالرد سريعًا «للوفاء بقرارات سادتنا أعضاء الجمعية الوطنية»). ذُكِرَ بالطبع في تلك التقارير المجانين المسجلون بالفعل في القوائم التي سبق إعدادها من قبل الإدارة الملكية، في بعض الأحيان منذ ما يقل عن عام مضى. فنجد محافظ قصر سومور يعرب عن استيائه قائلًا: «لقد أرسلت بالفعل مرتين بيانًا بحالة ثلاثة سجناء مجانين ما زالوا محبوسين لديَّ.» وهكذا ظهر المختلون عقليًّا على الساحة، ولا سيما أن العديد من دور الاحتجاز الجبري، التي امتثلت على الفور لقرارات الجمعية الوطنية، تخلصت من عبء الجانحين المحبوسين لديها. على سبيل المثال، أطلقت دار ماريفيل سراح ٣٤ جانحًا خلال صيف ١٧٩٠، وهكذا تبقَّى من بين الخمسة والأربعين نزيلًا المُحتجَزين بالقوة في الدار ثمانية وثلاثون مجنونًا. في بعض المؤسسات، كما في جمعية سينليس الخيرية، لم يتبقَّ في دار الاحتجاز الجبري إلا المجانين.

أصرَّت جميع المؤسسات على أن المجانين المُحتجَزين لديها مختلون عقليًّا بالفعل ووصفت جنون كل واحد منهم؛ فهذا يأكل فضلاته، وتلك «تبحث عن وسيلة للانتحار، وفيما عدا ذلك فهي في غاية الوداعة والاستقامة»، وذاك «يشكل مصدر رعب للدار؛ حيث يجري احتجازه منذ عام ١٧٧٣ على أثر قتله لشقيقه.» في الواقع، العديد من هؤلاء المختلين عقليًّا كانوا محتجزين منذ فترة طويلة لدرجة أنهم أصبحوا «عاجزين عن العودة إلى المجتمع، حتى ولو كان ذلك لسلامتهم الخاصة». «فلا يمكن للمرء أن يستعيد حريته بعد أن حُرِم منها طيلة ٢٢ عامًا دون أن يُصاب بصدمة قوية يعجز دماغ ضعيف وغير متزن كدماغه عن احتمالها ومقاومتها؛ الأمر الذي قد يفضي إلى حالة من الهيجان والعنف مما قد يستدعي في نهاية المطاف حبسه من جديد.»

وقد رفضت بعض المؤسسات، مع تقديمها للإحصاءات المطلوبة، أن يتم اعتبارها كدُور احتجاز جبري. كما هي حال «المشفى العام للمختلين عقليًّا في مدينة إكس آن بروفانس»: «هذا المشفى ليس بتاتًا دارًا للاحتجاز الجبري، ولكنه مؤسسة خيرية يديرها مواطنون؛ مأوًى مخصص لبؤساء المدينة والإقليم الذين يعانون من شقاء فقدان العقل.»

ومرة أخرى، يبدو أن الاعتقالات التي تمت بموجب أمر ملكي بعيدة عن أن تشكل أغلبية، وهكذا تأكد من جديد بما لا يدع مجالًا للشك أن الإيداعات المباشرة من قِبل العائلات والمجتمعات المحلية هي السبب الرئيس وراء أغلبية حالات الاحتجاز، حتى حينما يتعلق الأمر «بعريضة موقعة من عدد كبير من المواطنين». بل إنه في العديد من المؤسسات الصغرى، كانت الأوامر الملكية تشكل استثناءً.

لجنة التسول

بالتزامن مع إلغاء الأوامر الملكية، وُضِعَت أملاك الإكليروس تحت تصرف الأمة (نوفمبر ١٧٨٩)، وفي المقابل تولت هذه الأخيرة، ضمن أمور أخرى، مسألة المساعدة العامة وتكفلت بها. يأتي هذا الإجراء أيضًا كنتاج للحركة الخيرية الإنسانية التي انطلقت منذ عشرين عامًا، والمرتبطة بالفكرة المتكررة التي تقول بأن المساعدة، باعتبارها ليست إحسانًا وإنما واجب، تقع على عاتق الدولة. ومن ثم، فإن فكرة تقديم مساعدة عامة ذات صبغة علمانية تغذيها الضريبة وليس الصدقة — مع العلم بأنها ليست بالفكرة الثورية (بمعنى أنها لم تخرج من رحم الثورة) — فرضت نفسها بقوة. وهو الغرض الذي من أجله تأسست لجنة التسول في مطلع عام ١٧٩٠. كان أعضاء هذه اللجنة جميعهم — والبالغ عددهم ١٩ عضوًا — بدءًا برئيسها لاروشفوكو ليانكور؛ أنصارًا لتيار العمل الخيري ومساعدة الغير، وكانوا يناضلون لمكافحة البؤس. وقد كان أحد هؤلاء الأعضاء، وهو الأب دو كولمييه — نائب طبقة الإكليروس في باريس — مديرًا لدار شارنتون.

تخطى اختصاص اللجنة — على الرغم من اسمها — مسألة التسول التي كانت تُعد دومًا مشكلة مؤرقة، ليشمل أمورًا أخرى؛ إذ كلفت الجمعية الوطنية أعضاء هذه اللجنة «بأن يقدموا إليها مقترحات بشأن قوانين لتطوير المشافي، ودور الاحتجاز الجبري والسجون.» وقد عُقِدت سبعون جلسة حتى انتهاء عمل الجمعية التأسيسية في الثلاثين من سبتمبر ١٧٩١. كان من الضروري أولًا تحديد فئات المعوزين المستحقين للعون وتقييم الوضع في المنشآت، بدءًا بالمؤسسات الاستشفائية في العاصمة. وقد كانت هناك حوالي عشر مؤسسات تابعة للمشفى العام وحده. فقد كان بمنزلة «آلة ضخمة» تعمل على إغاثة ما يقرب من ١٢ ألف شخص. وقد احتلت العديد من الفئات الأولوية على الجنون، وأتى على رأس القائمة الأطفال اللقطاء أو المهجورون. فقد كان مشفى باريس العام يستقبل سنويًّا ما بين ٥ آلاف و٦ آلاف طفل لقيط، وكان ثلثاهم يموتون خلال الشهر الأول.

ذهبت اللجنة في زيارتها الأولى إلى بيستر. وسُلِّط الضوء من جديد على أوجه القصور — التي أدينت منذ ما قبل الثورة — مع التركيز على البطالة العامة. وقد كوَّنَت اللجنة انطباعًا طيبًا فيما يتعلق بالمجانين (الذين تفاوتت الأسماء التي أطلقت عليهم، ما بين «مختلين عقليًّا» وفقًا للتعبير الذي كان سائدًا في عهد النظام القديم، ومصطلح «المرضى عقليًّا» الذي لم يكن قد فرض نفسه بعد ولكنه أصبح أكثر تداولًا) البالغ عددهم ٢١٩ شخصًا، بالإضافة إلى ٨٩ أبلهَ، جميعهم كان «يُنظَر إليهم على أنهم غير قابلين للشفاء منذ وصولهم إلى الدار». وتبين وجود حالات شفاء (بلغت نسبتها حوالي الخُمس) من بين أولئك الذين تم إرسالهم للعلاج في المشفى الرئيس بالمدينة، وأيضًا أولئك الذين، في ظل غياب أي طرق علاجية أو أدوية، «مَنَّتْ عليهم الطبيعة بنعمتها». لقد بدأ مجانين بيستر «يستعيدون الهدوء والوداعة في سلوكهم»، أما أولئك الذين لم يكونوا مصابين بالهياج، فقد كانوا يمنحون حرية التنزه في الأفنية الجيدة التهوية. «عشرة فقط كانوا مقيدين بالسلاسل يوم زيارتنا». أما عن الحجرات، «فهي ليست بالسيئة بالنسبة إلى رجل واحد» (بيد أن الحجرة الواحدة يتشاركها اثنان). الأمر الوحيد الذي جرى استنكاره وشجبه بشدة هو تلك الممارسة التي كانت سائدة هناك، والمتمثلة في وضع بعض الجانحين أو مرضى الصرع على سبيل العقاب في عنابر المجانين (ما لا يقل عن ٥٠ شخصًا كانوا على هذه الحال في يوم التفتيش).

أما بخصوص زيارة سالبيتريير — تلك المؤسسة التي بدا بشكل عام عدم السيطرة عليها نظرًا لاتساع المكان — فمن الواضح أنها تركت انطباعًا سلبيًّا ولم ينل هذا المشفى استحسان اللجنة فيما يتعلق بالمجنونات البالغ عددهن آنذاك ٥٥٠ مختلة عقليًّا. «حال المجنونات هنا (أي في سالبيتريير) أسوأ بكثير من حال المجانين في بيستر؛ فالهواء داخل الحجرات القديمة ملوث ونتن الرائحة، والحجرات صغيرة، والأفنية ضيقة. كل شيء في حالة محزنة من الإهمال لدرجة تفوق حد التصور … كل أنواع الجنون بأشكاله المختلفة مختلطة بعضها ببعض: فالمجنونات المقيدات بالجنازير (وهن كثيرات) مجتمعات في مكان واحد مع المجنونات الهادئات المسالمات، وأولئك اللواتي تنتابهن نوبات غضب عارم وهياج شديد كُنَّ تحت أعين أولئك اللواتي يتحلَّيْنَ بالهدوء. منظر التَّلَوِّي، والهياج، والغضب، والصرخات، والصياح المتواصل، كل ذلك يحرم تمامًا من الراحة جميع أولئك اللاتي هن في أمَسِّ الحاجة إليها، ويجعل النوبات المرافقة لهذا المرض الرهيب أكثر تكرارًا، وأشد عنفًا، وأشد قسوة وأكثر استعصاءً. في تلك الدار، لا يوجد في النهاية أي نوع من أنواع الرِّفق، أو التعزية، أو العلاج. تم بناء حجرات جديدة أكبر قليلًا وأفضل من حيث التهوية، وأقل عُرضة للتلوث، ولكنها كانت لا تزال خاضعة للنظام نفسه السائد، وبالتالي لم تُحل المشكلة من جذورها وبقيت المساوئ وأوجه القصور الجوهرية على ما هي عليه. وجدنا ٢٢ من المجنونات، الهادئات إلى حد ما، ينمن في أحد عشر سريرًا، بالإضافة إلى ٤٤ من البُلْه كن ينمن أيضًا مثنى. وقد كانت القاعات غير نظيفة وخالية من الهواء النقي المتجدد.»

فيما بين عامي ١٧٨٦ و١٧٨٩، قام شارل فرانسوا فييل — المهندس المعماري للمشفى العام ثم لبيوت الإيواء في باريس — ببناء حجرات جديدة في مؤسسة سالبيتريير الاستشفائية. وكان يتعين للمرة الأولى إيواء ألف مريضة عقليًّا وفقًا للمتطلبات الصحية الجديدة التي كان ينبغي مراعاتها: أُنشئت ٢٥٧ حجرة و٦ مهاجع مقسمة على أجنحة متباعدة بشكل كافٍ بعضها عن بعض، في سياق تنظيمي متماثل، وتم الشروع في تصنيف المرضى إلى أربعة قطاعات (مختلات عقليًّا في مرحلة المعالجة، «مجنونات مصابات بالهياج، ومختلات عقليًّا لا أمل في شفائهن»، مجنونات مصابات بالجَرَب وبالصرع، مريضات ميئوس من شفائهن وبلهاوات). إزاء النقد اللاذع الذي وجهته لجنة التسول لمؤسسة سالبيتريير، ولا سيما بسبب اكتظاظ الحجرات، وأيضًا بسبب عدم هدم الحجرات القديمة؛ لم يكن من المستغرب الاحتجاج على الصورة الرومانسية الجميلة وشبه المثالية التي قام برسمها فيليب بينيل، بعد عشر سنوات، لمستشفى سالبيتريير. فها هو يتحدث عن الفِناء الذي يحوي فسقية وصفين من أشجار الزيزفون، والمختلات عقليًّا «اللائي تنعم كل واحدة منهن بالمكوث في غرفة منفصلة»، والمريضات عقليًّا المسالمات اللواتي يتنزهن بحرية، والمصابات بالخَرَف الشيخوخي اللائي يجري الاعتناء بهن ورعايتهن بواسطة «فتاة مسئولة عن الخدمة تحرص على تلبية احتياجاتهن وتهتم بنظافتهن»، والمهاجع الرَّحْبة بما يكفي لتهيئة مساحات متباعدة بين الأسِرَّة «التي تشع نظافةً …»

طالبت لجنة التسول في تعليقاتها الختامية أن يُراعى في المؤسسات الخيرية التي سيتم إنشاؤها، «الاهتمام بشكل أكثر رفقًا وحنوًّا، على وجه الخصوص، بمصير هؤلاء التعساء الذين يعانون — إذ تدهورت حالتهم حتى انتهت بالعودة بهم إلى أنبل وأطهر جزء فيهم، وإذ أصبحوا لعبة تحركها مخيلة مريضة — أبشع أنواع الشقاء الإنساني وأشدها ترويعًا.» طالما وضعنا السلامة العامة — تستطرد اللجنة — في مقدمة أولوياتنا. لم يُبذَل أي جهد في هذا البلد من أجل شفاء المجانين، خلافًا لإنجلترا، وإيطاليا وإسبانيا. إحياءً للرؤية المثالية حسب تصور النظام القديم، أُوصِيَ في المقام الأول بتقديم المساعدات المنزلية، ولكن هذه المرة في إطار التقسيم الجديد إلى مقاطعات بالنسبة إلى الريف وإلى «أحياء» (الحي يعادل دائرتين إداريتين) بالنسبة إلى المدن، مع ضرورة تعيين طبيب مختص بمعالجة الفقراء في كل قطاع.

بالإضافة إلى ذلك، تقرر «إنشاء مشفيين لعلاج الجنون» في باريس. وبالمثل، اقترحت اللجنة، أن يتم — في العاصمة أيضًا — إنشاء مشفيين للمصابين بالأمراض التناسلية، ودارين للنقاهة، وثلاث دور للمسنين والعجزة، ودار للأطفال اللقطاء، بحيث يكون كل هذا تحت اسم الأمراض الكلاسيكية. علاوة على ذلك، اقترحت اللجنة تخصيص مؤسستين أخريين للمتسولين والمتشردين. بدا أن علاج الجنون في المشفى الرئيس بالمدينة لم يعد ممكنًا؛ نظرًا للازدحام والخلطة بين المرضى من شتى الأنواع وعدم الاهتمام بالرعاية الفردية. وكان من المقرر أن يتم إنشاء المشفيين المختصَّين بعلاج الجنون في موقع بعيد عن وسط العاصمة؛ حيث بدا أن «الهدوء والبعد عن أي ضوضاء شرطان أساسيان للشفاء من هذا المرض القاسي.» هذا فضلًا عن تخصيص مبانٍ للمرضى القادرين على الدفع. وهكذا فإن هذه المؤسسات «لن تكلف الدولة شيئًا»، وفي المقابل تستمر هذه الأخيرة في التكفل بالمرضى المعوزين. وقد كان من المقرر أن يُخصص أحد هذين المشفيين للمجانين غير القابلين للشفاء؛ «إذ تتم معاملة المرضى بمنتهى الرقة واللُّطف، وإذ يخضعون للإشراف الدقيق والمتابعة النشطة على الدوام لكل ما يطرأ على حالتهم من تغيرات، فإن الكثيرين ربما يدينون لتلك الرعاية بالفضل في هذا الأثر المحمود وغير المتوقع لمعالجتهم [بمعنى أسلوب التعامل معهم]. أما بالنسبة إلى أولئك الذين تبقى حالتهم على ما هي عليه دون أدنى أمل في الشفاء — وهم كثر — فسيتمتعون على الأقل بكل تلك التجهيزات، ووسائل الراحة والتعزية المتوافقة مع حالتهم، والتي من شأنها إشعارهم بآدميتهم، وهو ما يُعد واجبًا على المجتمع الإنساني نحوهم.»

وفيما يتعلق بالمشفى المقرر تخصيصه لمعالجة الجنون، فلم يُذكَر أي شيء بشأنه. ومع ذلك، بدأ الحديث عن شارنتون. خلصت لجنة التسول إلى أن الرهبان الذين يعتنون بالمجانين في شارنتون «يولونهم أكبر قدر من الرعاية والاهتمام، ويسعون بكل الوسائل إلى جعل بقائهم في الحجز مريحًا قدر الإمكان وفق ما تقتضيه وما تسمح به حالتهم»؛ ومن ثم «تستحق هذه المؤسسة كل تقدير وإشادة». في ديسمبر ١٧٩٠، قام ثلاثةٌ مفوضون من بلدية باريس بجولة تفتيشية لاحقة لتفقد مؤسسة شارنتون، بناءً على طلب لجنة الخطابات المختومة التي تلقت شكاوى بخصوص عمليات اعتقال تعسفية أو حجز متعنت، فضلًا عن ذلك، «كان ثمة ادعاءات بأن الزنازين غير صحية، وقذرة وبشعة». ولكن التقرير المطول الناتج عن هذه الزيارة لم يَكُفَّ بدوره عن الإشادة بدار شارنتون والثناء عليها. وقد فُنِّدت الاتهامات واحدًا واحدًا. أولئك «الذين لم يروا عن قرب مآسي إنسانية تأثروا لدرجة جعلتهم يَرْوُونَ أمورًا مجافية للحقيقة»؛ «ولذا ليس من المستغرب ظنهم بأن تلك الغرف، ذات القضبان الحديدية والأقفال التي يقيم بها المهووس المحبوس، زنازينُ غيرُ صحية وشنيعة.» في موضع آخر، أُشِيد بالنظام الممتاز للدار: موقع جغرافي متميز، طعام ممتاز وصحي ومتنوع، نُزَه، عدد كبير من الموظفين، ناهيك عن «الرهبان المستنيرين والمؤهلين منذ فترة طويلة لتقديم خدمات الرعاية والقيام بالواجبات الشاقة.» باختصار، «لماذا لا تُشيِّد الأمة مؤسسة جديرة بعظمتها ولا سيما بإنسانيتها؟»

ما زلنا في عام ١٧٩٠، ولم يكن أحد يتخيل أن البنية التحتية الدينية قد تختفي في يوم من الأيام. بالطبع كانت النذور الرهبانية محظورة (فبراير)، ولكن استُثنِيَتْ من ذلك الراهبات اللواتي كُنَّ يخدمن في دور التعليم العام والمؤسسات الخيرية. ومع ذلك، كانت لجنة التسول يساورها القلق حيال ما ستصدره الجمعية الوطنية من «قرارات تمس مصير الأخوات اللائي كرسن حياتهن لخدمة المرضى».

فراغ قانوني

السؤال الذي طرحته لجنة التسول بقلق بالغ، تلقت عنه إجابة في الثامن عشر من أبريل ١٧٩٢ مع صدور قرار بإلغاء الجماعات الدينية؛ تمهيدًا لتنفيذ عمليات إقصاء وطرد في الأعوام التالية. بعد إبطال الأوامر الملكية، أدى إلغاء دور الاحتجاز الجبري بحكم الواقع (كلها تقريبًا) إلى تدمير نظام احتجاز المختلين عقليًّا المُعَقد وغير المُرضِي الذي كان سائدًا في ظل النظام القديم. بيد أن الجنون استمر. اختفى الجانحون كسرب من الطيور، بينما بقي المجانين. أما فيما يتعلق بطلبات الاحتجاز الجديدة، فإنها لم تتوقف بسبب الثورة. ما هي إذنْ الأحكام القانونية الجديدة التي ظهرت بعد طي صفحة الماضي الموصوم؟ في الحقيقة، لم تكن هناك أي نصوص قانونية جديدة في هذا الصدد، أو لنقُل: إنها لم تتخذ شكلًا محددًا ومُعرَّفًا في إطار قانون كبير، على الرغم من أنه كان أمرًا منتظرًا في أعقاب أعمال لجنة التسول. القوانين الوحيدة التي صدرت في سياق الجمعية التأسيسية والمجلس التشريعي والمتعلقة بشكل غير مباشر بالمرضى عقليًّا تتمثل في حكمين قانونيين مختصين بالشرطة — أحدهما في الفترة من ١٦ إلى ٢٤ أغسطس والآخر من ١٩ إلى ٢٢ يوليو ١٧٩١ — ينصَّان على معاقبة أولئك الذين يتركون المختلين عقليًّا مشردين هائمين على وجوههم. ولكن أيعني هذا أن المختلين عقليًّا عادوا من جديد يجوبون الشوارع بلا مأوًى ولا هدف؟

كان الفراغ القانوني، الذي لم تستطعْ الثورة ولا الإمبراطورية ملأه، جليًّا. فإذا كان المرسوم الصادر في أغسطس ١٧٩٠ يشير إلى إجراءات إدارية للحبس وفقًا للشرطة العامة، يجدر القول إن هذه الإجراءات كانت مشددة بصورة استثنائية، بحجة «أننا ينبغي ألا نعيد إحياء النظام القديم الذي كان يعتدي على حرية الأفراد». على سبيل المثال، في مكان ما في فرنسا، في تسعينيات القرن الثامن عشر، أُبلِغ عن مجنون يتجول في الطرقات وأصبح يمثل «آفة المقاطعة». فكيف يمكن احتجازه؟ لكي يتم ذلك، كان لا بد من أن يحصل النائب العام المسئول عن البلدية على قرارٍ رسميٍّ من مجلس البلدية، ومحضرِ تحقيق لإثبات حالة الجنون مُوَقَّعٍ من قِبل اثنين من مفتشي الصحة. ومن ثم يمكن للنائب العام المسئول عن هذا القسم الإداري أن يطلب من مجلس المديرين التابع لهذه الدائرة أو المقاطعة إصدار أمر بالحبس في «أحد مستودعات الأمن».

لم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، ولكن بدايةً، ما المقصود بمستودع الأمن؟ لقد شكل موضوعًا بارزًا في التشريع الثوري، ولا سيما فيما يتعلق بالمجالين الجنائي والقضائي؛ فقد صُنِّفَتِ المؤسسات العقابية المدنية إلى ثلاث فئات: السجن التابع لمحكمة الجنح، ومستودع الأمن الخاص بالدائرة والتابع لمحكمة الشرطة (المختصة بالجرائم البسيطة)، و«دار الاحتجاز الجبري والحبس»، الذي تأسس بموجب التشريع الصادر في الخامس والعشرين من سبتمبر ١٧٩١ من قانون العقوبات، في كل مقاطعة. في الواقع، بسبب نقص الأماكن والموارد، لم يكن هناك مفر من الالتجاء معظم الوقت إلى مستودعات التسول القديمة. فإذا كانت الجمعية التأسيسية قد ألغت التسول رسميًّا، فإن المستودعات لم تغلق أبوابها. في الرابع والعشرين من شهر فنديميير من العام الثاني للتقويم الجمهوري الفرنسي (الموافق ١٥ أكتوبر ١٧٩٣ في التقويم الميلادي)، أنشأ المؤتمر الوطني — متبنيًا هذه المرة مشروع مرسوم صادر عن لجنة التسول بشأن قمع التسول — «دارًا للقمع» في المقر المركزي الإداري الخاص بكل مقاطعة. جُل ما حدث هو أن مستودعات التسول غيرت اسمها، ولفترة وجيزة فحسب؛ نظرًا لأنه سيعاد استغلالها فيما بعد إبَّان عهدي حكم المديرين والإمبراطورية. كان المتسولون هم المعنيين وحدهم بهذا المرسوم، عدا أن المادة السابعة من الباب الثالث ذكرت «أولئك [أي المتسولين] المُحتجزين في الوقت الحالي بسبب الجنون، وحددت أن الآباء سيكون لهم مطلق الحرية في المطالبة باستعادة ذويهم الذين يقيمون في هذه الدور على نفقتهم الخاصة أو بتركهم في بيوت القمع.» بينما أمرت المادة التالية بإرسال المصابين بالأمراض التناسلية، الذين ما زالوا في المستودعات، إلى المستشفيات. وهكذا بدا أن الوضع الطبي للمجانين الذي طالبت به بإلحاح لجنةُ التسول قد طواه النسيان تمامًا.

لنعُد إلى «آفة المقاطعة» التي ذكرناها سلفًا. فقد تم حبس هذا المجنون في المستودع الأقرب ولكن الثورة لم تستطع — ليس أكثر من النظام القديم — اعتبار ذلك المجنون «كواحد من السجناء» (تلك هي الكلمة الرسمية) المحبوسين هناك بسبب التسول؛ ولذا، لم يكن هذا الحبس إلا مؤقتًا، في انتظار قيام المحكمة بإصدار حكمٍ بشأن جنونه ومن ثم توجيهه إلى أحد الملاجئ أو المشافي، أما مسألة تقرير أيهما، فتلك مشكلة أخرى … ولكن كثرة التدابير الاحترازية تضر بمبدأ الحيطة، فقد انتهى المآل بتلك الإجراءات الإدارية المشددة إلى التوقف في منتصف الطريق، ولم يتبقَّ إلا القرار الإداري. وهكذا كان أمام «آفتنا» كل الفرص، إذا جاز التعبير، ليرى وضعه المؤقت يتحول ليصبح نهائيَّا. في اليوم الموافق ١٥ ثيرميدور من العام التاسع بحسب التقويم الثوري الفرنسي، كتب وزير العدل رسالة إلى وزير الداخلية ليُذكِّره بأن إيداع المختل في أحد مستودعات الأمن هو «تدبير مؤقت أساسًا ولا يمكن أن يُغنِي أبدًا عن قيام المحاكم بإصدار حكمٍ نهائيٍّ بشأن حالته. وللمحاكم فقط الحق في إصدار حكم لإعلان حالة الجنون لدى الأفراد الذين أُبلِغ عن إصابتهم به، وذلك بعد استجوابهم وسماع الشهود ومضاهاة حالاتهم بما ورد في تقارير مفتشي الصحة.» كما أن السلطة القضائية، وليست التنفيذية، هي من تمتلك وحدها صلاحية السماح بالإيداع المباشر داخل إحدى المصحات، إذا كان الأمن العام لا يستلزم الحبس التمهيدي، أو الأمر بإخلاء السبيل، «إذا كان الشخص الذي أُقِرت حالة الجنون لديه بموجب الحكم الصادر قد استعاد عقله».

ولكن، مرة أخرى، يطرح السؤال نفسه، عن أي مصحات بالضبط يتحدثون؟ في الثالث والعشرين من نوفمبر ١٧٩٢، انكب المؤتمر الوطني لفترة على دراسة هذه المسألة، وانتهى بالرجوع إلى نقطة الصفر. وقد كلف المؤتمر الوطني وزير العدل بتخليص الدولة من دور الاحتجاز كافة، «أيًّا كانت»، حيث يوجد أشخاص مسجونون بسبب «الجنون، أو السخط والهياج أو لأي سبب آخر». يُعد هذا اعترافًا مسبقًا بأن هذه الدار كانت متعددة الأنواع. وكنا نعثر على مختلين عقليًّا حتى في السجون، التي ظلوا بها غالبًا لمدة طويلة؛ لأنه بمجرد دخولهم هناك، يصبح من العسير للغاية إيجاد مأوًى لإيداعهم فيه بشكل دائم. هكذا في مقاطعة نييفر، في العام السادس، لم ندرِ أين نضع ذلك الشاب المختل الفقير البالغ من العمر تسعة عشر عامًا، إن لم يكن في باريس. لم يعِر وزير الداخلية الأمر اهتمامًا وأرسل مفوضين للتأكد من أنه لا يوجد مآوٍ قائمة في تلك المنطقة. وكان هذا هو الوضع بالفعل. لم توافق الوزارة إلا بشكل جزئي. وكان المقرر ألا تتكفل بنفقات السفر، ولا سيما أنه ينبغي التحقق أولًا من أن الجنون قابل للشفاء، وإلا فلن يُرسَل هذا الأحمق إلى باريس، وإنما إلى دار القمع الأقرب؛ «حيث كانت هذه المؤسسات مُعدَّة، في حالة الافتقار إلى مآوٍ، بحيث تكون بمنزلة ملاجئ لجميع أولئك الذين لا يستطيعون العيش داخل المجتمع بسبب عاهاتهم أو إعاقاتهم.»

لم يمر هذا الحدث باعتباره حدثًا معزولًا، بل إنه كشف عن مفارقة تتجلى في أن هذه الأماكن «الجديدة» المُعَدَّة للحفاظ على السلامة أصبحت مخصصة لاحتجاز المجانين بصفة مؤقتة، وبعضها بصفة دائمة، وهو ما يثبت سيادة حالة من عدم الاتساق والتضارب بين المؤسسات آنذاك. ظل المجانين متفرقين هنا وهناك ومنتشرين في كل مكان تقريبًا، كما في أسوأ أيام النظام القديم. ها نحن نجدهم في المشافي، وقد أصبحوا منسيين أكثر من أي وقت مضى، و«مُهمَلين ومعزولين في الحجرات الأكثر قذارة والأبعد عن الخدمة ومتروكين لمواجهة مصيرهم البشع» (تقرير دوبليه عن منطقة الألزاس في نهاية عام ١٧٨٩). وكنا نجد بالفعل بعض المجانين منبوذين ومطروحين في مخازن الغلال أو إسطبلات المستشفيات، «لعدم وجود مكان أفضل».

وفيما يتعلق بدور الاحتجاز الجبري الدينية، التي أُلغيت مبدئيًّا، فقد استمر الكثير منها في العمل بشكل غير رسمي. فلنُلقِ نظرة أخرى على دار بون سوفور بكاين؛ إطلاق سراح النزلاء المُحتجَزين بالقوة، ثم حظر النذور الرهبانية، وأخيرًا إلغاء الجماعات الدينية، كل هذا كان من المفترض أن يمثل نهاية تلك الطائفة. بيد أنها بعد أن طُرِدَت من مقراتها في عام ١٧٩٢، انزوت في العديد من المنازل بضاحية كاين. وقد كان أحد هذه المنازل يؤوي بين جنباته اثنتي عشرة فتاة حمقاء كُن باقيات من عهد النظام القديم ولم يكن بالإمكان إطلاق سراحهن. أما السلطات المحلية، إذ كان يساورها القلق حيال التكفل بهؤلاء المختلات؛ ونظرًا لأنها كانت في نهاية المطاف معادية للجبليين في العاصمة، فقد أغلقت عيونها عما يحدث. وشهد على ذلك الوضع الراهن التعميمُ الذي أرسله وزير الداخلية إلى مديري مكتب المشافي المدنية بمقاطعة الكالفادوس، بتاريخ ٣٠ فينتوز (شهر الرياح) من السنة الرابعة، فيما يتعلق بمستودع بوليو (ما زال يُطلَق عليه «مستودع» لا «دار القمع»). ورد في هذا التعميم بشأن المجانين من الرجال والنساء الموجودين في مستودع بوليو، أنه يجب عدم الإبقاء إلا على الفقراء المعوزين منهم، ولا ينبغي «أن يسمح المستودع لأولئك الذين يعيشون عالة عليه بالبقاء طويلًا ما داموا يستطيعون سواء بأنفسهم أو بمساعدة عائلتهم الحصول على المساعدات والمعونات التي يحتاجون إليها من مكان آخر»، ذلك «المكان الآخر» مثير حقًّا للدهشة؛ لأنه يشير ضمنيًّا إلى مؤسسات ملغاة (ولا سيما جمعية بونتورسون الخيرية للرجال، ومشفى بون سوفور بكاين وسان لو للنساء). ها نحن نشهد في عام ١٨٠٥، عقب حيازة المباني القديمة التابعة للجماعة الرهبانية الكَبُّوشية، عملية النقل — الرسمية هذه المرة — للجماعة الرهبانية وللخمس عشرة امرأة المُحتجَزات «سرًّا» لديها (ثلاث نزيلات جديدات أَتَيْنَ في تلك الأثناء). وهكذا نجت من الثورة المؤسسة التي مثلت النواة المستقبلية لمشفى بون سوفور الكبير للأمراض العقلية.

انطبق الأمر عينه على دير نوتردام دو لا جارد للرهبان الفرنسيسكان «سابقًا»، الكائن في مقاطعة واز. أُغلِقَ هذا الدير بصورة رسمية ولكن ظل المختلون عقليًّا، وأصبح الرئيس الأسبق للدير — الذي تحول بحكم الواقع إلى المواطن تريبو — مديرًا ﻟ «دار دو لا جارد». في عام ١٧٩٩، ترك تريبو منزل دو لا جارد، بعد بيعه بوقت قصير، ليستقر — مع المرضى عقليًّا الأواخر الذين تبقوا — في كليرمون، في المقر الذي أصبح فيما بعد أكبر مصحة في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر. بإمكاننا مضاعفة الأمثلة على هذا النحو. أثبتت مؤسسة لا ترينيتيه الاستشفائية بإكس بنجاح «أنها ليست دارًا للاحتجاز الجبري وإنما مؤسسة خيرية يديرها مواطنون، بمنزلة مأوًى مخصص لبؤساء المدينة والإقليم الذين يعانون من شقاء فقدان العقل.»1 وهكذا، يظل المأوى الذي كان يضم، في نهاية عام ١٧٩٠، ١٦٥ مختلًّا عقليًّا، رجالًا ونساءً، صامدًا ولكنه سيفقد تدريجيًّا استقلاليته؛ نظرًا للصعوبات المالية التي ستواجهه.

في باريس، نالت الدور الخاصة التي تحولت إلى «مشافٍ» أهميةً بالغة بشكل مفاجئ؛ نظرًا لأنها استطاعت، لكونها علمانية، أن تظل مفتوحة. نذكر في هذا الصدد على وجه الخصوص دار بيلوم الكائنة في ٧٠ شارع شارون، في ضاحية سان أنطوان. في الأول من مايو ١٧٩١، بلغ عدد النزلاء بها ٤٧؛ ما بين مختلين عقليًّا وعاجزين، رجالًا ونساءً، أقدمهم موجود في هذه الدار منذ عام ١٧٧٤. وقد التحق بهذه الدُّور زهاء عشرين شخصًا منذ الثورة. جميعهم كانوا يدفعون نفقة إقامة، وكثيرون لم يمروا على أي محكمة، وبعضهم لم يُذْكَرُوا في سجلات الدخول إلا بعبارة موجزة: «مجنون، وحر.» نالت دار بيلوم شهرة واسعة لعدة أسباب؛ فقد كان يختبئ بها إبَّان عهد الإرهاب — مقابل دفع نفقات مالية باهظة — عدد من الرءوس التي حالفها الحظ في الهرب والنجاة بهذه الطريقة من المحكمة الثورية. ازدهرت التجارة بشكل كبير لدرجة أنه أصبح لزامًا على المؤسسة أن تتوسع، وانتهى الأمر بإلقاء القبض على جاك بيلوم. ولكنه هرب ونجا من المقصلة وظلت الدار مفتوحة أثناء وجوده في السجن. وحين تُوفي في عام ١٨٢٤، خلفه ابنه البكر — الذي كان يعمل طبيبًا — مُدشِّنًا بذلك العصر الطبي الحقيقي للمشفى. وهناك أيضًا، في دار بيلوم، شرع ذاك الطبيب المبتدئ، الذي جاء إلى باريس في عام ١٧٧٨ ليبدأ مسيرته المهنية، في معالجة مرضاه عقليًّا الأوائل في عام ١٧٨٦. إنه الطبيب فيليب بينيل.

وضع حرج

في كل مكان كان الوضع حرجًا. في باريس، كانت الدور الخاصة باهظة للغاية وتحولت الدور الصغيرة إلى مآوٍ للأرامل المسنات والعجزة. ومن جديد لم يتبقَّ على الساحة إلا بيستر وسالبيتريير؛ هاتان المؤسستان اللتان أصبحتا أكثر اكتظاظًا، وأكثر تخصصًا من أي وقت مضى في استقبال الميئوس من شفائهم الذين «أصبحوا لا يستثيرون إلا مشاعر الشفقة والعطف الأكثر عقمًا والأشد قسوة، وهي مشاعر لا يخفف من حدتها أدنى أمل في الإغاثة.» لم تكف نزيلات سالبيتريير المجنونات عن التزايد، فقد بلغ عددهن ٦٠٠ في مطلع يناير من العام الحادي عشر (١٨٠٣)، و٧٩٤ في عام ١٨١٣، و١٥٤٢ في عام ١٨٢١، و١٧٦٠ في عام ١٨٢٤، وهي السنة التي توفيت فيها أقدم نزيلة بلا منازع في المشفى، وهي المدعوة ماري لويز بوديه، المريضة بالصرع. كانت هذه النزيلة قد دخلت مؤسسة سالبيتريير في اليوم الموافق ١٢ ديسمبر ١٧٥٨، وهكذا قضت هناك ٦٦ عامًا.

في الأقاليم، تضاعفت صيحات الإنذار التي أطلقها مديرو المشافي ودور الإيواء لدى وزارة الداخلية. ففي كل مكان، كانت الميزانيات، التي أصبحت منذ ذلك الحين ملقاة على كاهل الدولة، غير كافية. وكانت دور الإيواء في مارسيليا تعاني من المجاعة وتطالب بنقل المأوى الذي يضم المختلين عقليًّا؛ نظرًا لتهالك المباني (العام السادس). أما مأوى شاتو تييري الخيري، فكان يطالب باستمرارٍ بمدِّه على وجه السرعة بخمسمائة قنطار من القمح: «ما مصير هؤلاء المرضى المساكين، وأرباب العائلات البؤساء، وأولئك العاجزين الأشقياء من المختلين عقليًّا الذين أودعتهم الحكومة هذه الدور؟» (١٠ مسيدور، العام الرابع). في شاتوبريان، «كان وضع المأوى مزريًا لدرجة أنه في غضون أيام قليلة، إن لم يتلقَّ مساعدات، فسيتم إغلاقه» (الأول من فروكتيدور، العام السابع). كان الوضع مماثلًا في بلوا، وليل، وكاربنترا؛ حيث بعث المديرون بلا مواربة رسالة إلى الوزير على النحو التالي: «ها نحن بصدد رسم لوحة تعكس لكم الويلات التي نقاسيها منذ فترة طويلة من جراء البؤس الأشد قسوة الذي حاق بنا، ونجرؤ على القول إن صمت الحكومة هو المسئول الوحيد عن هذا الوضع» (٤ فينتوز، العام الثامن). «الجوع لا يعرف التأجيل»، بهذه العبارة المقتضبة والمصاغة بأسلوب بليغ لخص بيزو — نائب تارن في مجلس القدماء — الوضع القائم (١٦ مسيدور، العام السابع). اختتم المسئولون الإداريون في مقاطعة شير خطابهم الذي أرسلوه بتاريخ ٢٨ بريريال من العام السادس إلى «المواطن الوزير» على النحو التالي: «إن دور الإيواء التابعة لهذا المركز الإداري، والتي نكتب إليكم بشأنها ليست هي المؤسسات الوحيدة التي تعاني من الفاقة ونقْص الموارد بشكل يدعو للقلق. ففي مستودعات التسول وأيضًا في الدور التي تحتجز أولئك المساكين المصابين بالهياج والجنون، والذين يصل المبلغ الإجمالي لنفقتهم الشهرية إلى ٢٢٠٠ فرنك، الخبز على وشك النفاد. ولا يمكن أن تنظر الحكومة بعين التجاهل واللامبالاة إلى تلك الكائنات التي ستشكل خطرًا بالغًا إذا ما أُطلِقَت في المجتمع، والأمر يتطلب من جانبكم اتخاذ تدابير سريعة للوفاء باحتياجات هؤلاء الأشخاص واتقاء التجاوزات الحتمية والمشاهد المؤلمة التي قد نشهدها من جراء ذلك.» وهكذا، لم يعد بالتأكيد إضفاء الطابع الطبي على الجنون موضع اهتمام وعناية.

كان وضع المختلين عقليًّا في مستودعات التسول دراميًّا بالفعل. في بوليو، بلغت نسبة الوفيات بين المختلين عقليًّا ٥٧٪، مقابل ١٣٪ بين المسجونين. في أغسطس ١٨٠٠، كان المستودع يضم ٤١ مجنونًا ومجنونة، من بين إجمالي عدد النزلاء البالغ نحو ٣٥٠ سجينًا. يُذكَر أن أحد عشر شخصًا كانوا موجودين هناك قبل عام ١٧٩٠. كانت الاعتقالات وعمليات الاحتجاز في هذا المستودع لا تزال إذَن مستمرة، مع وجود نسبة ١٣٪ من المُحتجَزين قادمة من السجون. وقد جعلت الضائقة المالية الفصل بين المختلين عقليًّا والفئات الأخرى من السجناء أصعب من أي وقت مضى (بالإضافة إلى أن المختلين عقليًّا أنفسهم — فيما يُعد انحدارًا رهيبًا بالمقارنة مع النظام القديم — كان يُنظر إليهم باعتبارهم سجناء بحكم الأمر الواقع.) لم يكن من المُستغَرب، في ظل هذه الظروف، أن يصبح الجنون مزمنًا، كما هو مُبَيَّن في الشرح الذي قدمه طبيب بوليو في الثاني عشر من مايو ١٧٩٣: «لم نرَ في الحوادث الصادرة عن المواطنة لوتيلييه — المسجونة في بوليو — إلا عاطفة سوداوية بحق، ومخيلة يستحوذ عليها بقوة شيء رئيس، وقد يضعف من حدة هذا الخيال بشكل مفيد مهام التنظيف المنزلية التي تقوم بها للعناية ببيتها، ورفقة زوجها، ومداعبات أطفالها الذين تحبهم، وصورة المجتمع الدائم الحركة والنشاط. أما إذا تُرِكت لحالها بعيدًا عن أي مصدرِ إلهاء، فبإمكاننا على الأقل أن نتوقع عودة هذه المريضة تدريجيًّا إلى الحالة السيئة التي كانت عليها، وربما يصل الأمر إلى انعدام الأمل في شفائها على الإطلاق.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤