الفصل الثالث

عودة سريعة إلى فوكو

نحن بحاجة الآن إلى الرجوع سريعًا إلى أطروحة ميشيل فوكو لنرى ماذا يقول عن العلاج المعنوي، وعن ميلاد الطب النفسي؟ وفقًا لفوكو، الفرق بين العلاجات الفيزيائية والعلاجات المعنوية (النفسية) «لم يعرف طريقه إلى الوجود بكامل عمقه إلا […] حينما أدخل القرن التاسع عشر الجنون وشفاءه، من خلال اختراعه «للطرق الأخلاقية» الشهيرة، ضمن لعبة الذنب. إن التمييز بين الفيزيقي والأخلاقي لم يصبح مفهومًا عمليًّا في الطب العقلي إلا في اللحظة التي انتقلت فيها إشكالية الجنون إلى التساؤل حول الذات المسئولة»، باستثناء أنه لا يوجد ترادف في تاريخ الجنون بين المسئولية والذنب. إن المفهوم الرواقي للمسئولية — غير المباشرة (إذ إن المسئول الحقيقي، هو الأهواء) — لا يمكن أن يجعل من المجنون مذنبًا، حتى ولو على المستوى «الأخلاقي» وحده. بيد أن هذا التحويل في المعنى أمر لا غنى عنه لميشيل فوكو للوصول إلى أطروحته المركزية؛ فهو لا يستهدف في نهاية المطاف العصر الكلاسيكي وإنما القرن التاسع عشر؛ حيث سترتبط معالجة الجنون — في رأيه — بالعقاب (ستنتظم السيكولوجيا، باعتبارها أداة للعلاج، حول العقاب). فالجنون المُختَبَر في العصر الكلاسيكي بوصفه حماقة «سيُصادَر كله ضمن الحدس الأخلاقي» في إطار القرن التاسع عشر الوضعي، و«لن يُنظر إليه إلا باعتباره مرضًا».

في الواقع، لم يخترع القرن التاسع عشر العلاج المعنوي، الذي رأينا كيف تَشكل ببطء طوال القرن الثامن عشر وكيف تعود جذوره القوية إلى العصور القديمة التي يتجاهلها فوكو عمدًا؛ نظرًا لأن استمراريتها تضر بخطابه كثيرًا. وإذا اعتبرنا أن العلاج المعنوي (أو العلاج الأخلاقي) هو ألِف باء الاستراتيجية الطبية للقرن التاسع عشر فيما يتعلق بمعالجة الأمراض العقلية؛ فهذا يعني تجاهل انهياره السريع، حتى قبل التصويت على قانون ١٨٣٨. فلقد تلاشى العلاج المعنوي — كما سنرى — بفعل الممارسة داخل المشافي نفسها التي شهدت نشأته.

يستهل ميشيل فوكو الجزء الثالث والأخير من أطروحته بالتفكير في المعنى العميق للحوار الفلسفي، الذي كتبه ديدرو في مُؤَلَّفه «ابن شقيق رامو»، ولا سيما في تأملات ابن الأخ حين قال: «أنت تعرف أني رجل جاهل ومجنون وسفيه وكسول.» يقول فوكو: «قد يحلو لنا للوهلة الأولى أن نصنف «ابن شقيق رامو» ضمن القرابة القديمة بين المجانين والبهاليل.» ولكن فوكو يرى فيه على العكس من ذلك «نموذجًا فكريًّا مختصرًا للتاريخ […] يرسم الخط المنكسر الذي يسير من «سفينة المختلين عقليًّا» إلى الكلمات الأخيرة لنيتشه، وربما إلى صراخ أرتو.» وهكذا يظهر «ابن شقيق رامو» بوصفه الشخصية الأخيرة التي يجتمع فيها الجنون واللاعقل، قبل الفصل الباثولوجي بينهما في القرن التاسع عشر. وسيرتكز خطاب فوكو، في هذا الجزء الأخير، على «إعادة رسم حركة هذا التمييز من خلال ظواهره الأنثروبولوجية الأولى»: «إن هذا الميدان غير القابل للاقتسام الذي تُعَيِّنه سخرية «ابن شقيق رامو» كان من الضروري أن يأتي القرن التاسع عشر من خلال روحه الجدية؛ لكي يفك رموزه ويرسم بين ما كان غير قابل للفصل حدودًا مجردة للباثولوجي.»

ومع ذلك، نعتقد أننا أوضحنا بما فيه الكفاية أن الجنون بمعناه الطبي واللاعقل بمعناه الفلسفي والأخلاقي، كان يتم التمييز بينهما بوضوح منذ أوائل العصور القديمة (ولا يوجد تقريبًا أي ربط بين الجنون والخطيئة إلا في دين العبرانيين، ثم في دين المسيحيين). طالما كان التذبذب بين المعنَيَين، حتى في القرون الوسطى، ضربًا من الاستعارة أو المجاز أو التماثل على أقصى تقدير. لم يكن هناك قط أصلٌ مشتركٌ (إن لم يكن على صعيد الكلمة نفسها)، ولا بالأحرى «حدود مجردة للباثولوجي».

أعلنت نهاية القرن الثامن عشر — يستطرد فوكو — أن الوقت قد حان لإجراء «تقسيم جديد» … تشكلت «صور» ومنها انبثقت أساطير الاعتراف الموضوعي والطبي بالجنون، ولقد قادت هذه الصور إلى «الطب العقلي الوضعي». لا يمكن وصف هذه الصور من خلال حدود معرفية، وإنما من خلال هياكل معينة: في إحداها، اختلط الفضاء القديم للحجز بالفضاء الطبي. وقد حرص فوكو على أن يثبت أن منشور ١٧٨٥ «ليس له قيمة كشفية ولا قيمة تتعلق بتحول في طريقة التعامل مع الجنون.» ولكننا، من جانبنا، أوضحنا على العكس من ذلك أهمية «التعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والعمل على شفائهم في المصحات المخصصة لهم»، في سياق حركة الإصلاح الخيرية التي بدأت في عهد لويس السادس عشر. وسنلاحظ، وهو أمر غريب، أن عبارة «العمل على شفائهم في المصحات المخصصة لهم»، على الرغم من أنها تُعَد أساسية وذات أهمية جوهرية، اختفت في كتابات فوكو. (فقد كتب، وهو ليس على الإطلاق الأمر نفسه: «تعليمات مطبوعة بأمر الحكومة وبتمويلها حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والتعامل معهم».)

بالنسبة إلى فوكو، «ليس الفكر الطبي هو مَن كسر أبواب الحجز. وإذا كانت السلطة الآن بيد الأطباء في المصحة، فإن ذلك لم يتم من خلال حق منتزع، بفضل القوة الحية لحبهم للعمل الخيري ولمساعدة الغير، أو بفضل حرصهم على الموضوعية العلمية؛ إنما تم ذلك لأن الحجز ذاته بدأ، شيئًا فشيئًا، يمتلك قيمة علاجية من خلال إعادة النظر في كل المواقف الاجتماعية والسياسية، وفي كل الطقوس، الخيالية أو الأخلاقية، التي كانت، منذ ما يزيد على قرن، تواجه الجنون واللاعقل.» بالاستناد إلى ما ذكره كابانيس، يُعرِّف فوكو بنية ثانية حاسمة: «إن الأساس في تجربة اللاعقل، هو أن الجنون كان موضوعًا لذاته، أما في التجربة التي كانت في طور التكوين في نهاية القرن الثامن عشر، فإن الجنون كان مغتربًا في علاقته بذاته من خلال حالته كموضوع.» يختتم فوكو هذا الفصل بقوله: «إن صفة الموضوع هذه ستُفرَض، منذ الوهلة الأولى، على كل فرد أُعلِن مستلبًا.» هذه الجدلية الغريبة قادت فوكو إلى إعلان ظهور المجنون، المفعول به، في الوقت الذي كانت فيه أهم الأبحاث تنظر إليه باعتباره فاعلًا (ولا سيما كما يتجلى ذلك في أعمال جلاديس سواين المبتكرة، التي سنتوقف عندها بالتأكيد لاحقًا).

وأخيرًا البنية الثالثة، لدى فوكو، هي حين «وجد المجنون نفسه في مواجهة المجرم.» وهكذا أصبح هذا الجنون الذي اكتسب طابعًا متفردًا يسائل جميع المسئولين عن النظام ويطرح قضايا ملحة، خاصة فيما يتعلق باللامسئولية في مجال القانون الجنائي. لقد كان «الإنسان الكلاسيكي» [في ظل النظام القديم] يعترف بالجنون مستندًا في ذلك إلى حسه السليم وليس إلى حقوقه السياسية، أما الآن، فإن المواطن يمارس سلطة أساسية تسمح له بأن يكون في الوقت ذاته «رجل القانون» و«رجل الحكومة».

شهد هذا العصر الجديد للجنون تلاقي تجربتين، فقد بدا الجنون معروفًا وواقعًا تحت السيطرة في الوقت نفسه «ضمن وعي واحد، هذا ما هو موجود في قلب التجربة الوضعية للمرض العقلي.» هذا «الرابط الأساسي في الثقافة الحديثة [الذي] لم يتم إلا على مستوى الفكر […] أصبح فيما بعد وضعًا ملموسًا بفضل بينيل وتوك …» يقول فوكو في مقدمة الفصل المُكَرَّس لميلاد المارستان: «هذه الصور مألوفة لدينا.» «لقد ألفها تاريخ الطب العقلي كله، وكانت وظيفتها هي الكشف عن أسرار ذلك العصر السعيد الذي تم فيه أخيرًا الاعتراف بالجنون والتعامل معه وفق حقيقةٍ ظلَّ الناس يتجاهلونها لمدة طويلة.» ثم يصف فوكو بإسهاب توك وبيت الخلوة «ذا ريتريت» في يورك، وبينيل وتحرير المرضى عقليًّا في بيسَتْر، مُظهرًا في كل ذلك أن قوة هاتين القصتين إنما هي مستمدة من أشكال خيالية. فها هو يرسم لنا صورة «الشكل الأمثل للمارستان؛ مارستان لن يكون قفصًا للإنسان العائد إلى وحشيته، بل ما يشبه جمهورية الحلم، حيث الروابط شفافة وفاضلة.» هذا المارستان المُحرَّر الذي ينشده توك وبينيل هو «إعادة بناء لمجتمع استنادًا إلى موضوع مطابقة أنماط معينة»؛ ومن ثم «فإنه سيؤدي حتميًّا إلى الشفاء.»

وسرعان ما اكتسب هذا المَبْحَث أهمية خاصة عند فوكو، وأصبحت اليوم مترسخة في الثقافة كتيمة عالم يستقر فيه، تحت ستار القضاء الظاهري على القيود والاحتجاز، احتجاز آخر أشد غموضًا وتعقيدًا، ضمن نسق المكافأة والعقاب، يندرج «ضمن حركة الوعي الأخلاقي […] إن الأمر يتعلق بالانتقال من عالم الإدانة إلى عالم المحاكمة»؛ حيث يكون إصدار الأحكام مبنيًّا على الأفعال وحدها. فالجنون ليس مسئولًا «إلا عن ذلك الجزء المرئي من ذاته، وما تبقى يلفه الصمت. إن الجنون لا يوجد إلا ككائن يُنظَر إليه. فهذا القرب الذي أصبح سائدًا في المارستان، والذي لن تنال منه القيود والقضبان، ليس هو من يخلق حالات النظرة المتبادلة: إنه ليس سوى جوار لنظرة تحرس وتراقب […] إن علم الأمراض العقلية، كما قد يتطور في المارستان، لن يكون أبدًا سوى نوع من الملاحظة والتصنيف، ولن يكون حوارًا.» ولذا، كان لا بد من الانتظار حتى «يتخلص التحليل النفسي من ظاهرة النظرة التي كانت أساسية في مارستان القرن التاسع عشر» و«يجعل سلطات اللغة بديلًا للسحر الصامت». ولكن، لنطمئن، فالتحليل النفسي لم يجد نعمة في عيني ميشيل فوكو: «سيكون صحيحًا القول إن هذا العلم قد ضاعف من النظرة المطلقة لحارس الكلام القائم على المونولوج المطلق للشخص الذي يحرسه. وبذلك يتم الحفاظ على البنية المارستانية القديمة للنظرة غير المتبادلة، ولكن من خلال خلق توازن في تبادل غير تماثلي، عبر بنية جديدة للغة لا تملك جوابًا.» في موضع آخر، يعود فوكو إلى فرويد والتحليل النفسي اللذين، بالتأكيد، «خلصا المريض من هذا الوجود المارستاني الذي كان قد نفاه داخله «مُنْقِذوه»»، ولكنهما استعادا الخصائص الإعجازية للطبيب وسلطات المارستان، بل وضخَّما منها: «نظرة مطلقة […] صمت خالص ومكبوت […] قاضٍ يعاقب ويجازي ضمن محاكمة لا تصل إلى حدود اللغة.» باختصار «يظل الطبيب، باعتباره صورة مستلِبة، هو مفتاح التحليل النفسي.» ولذا، فإن التحليل النفسي، ليس أكثر من الطب النفسي الوضعي، «لا يستطيع […] ولن يستطيع […] سماع صوت اللاعقل.» وسنعود إلى هذه المسألة حين نبلغ ضفاف مناهضة الطب النفسي.

المراقبة والمحاكمة … هاتان هما الكلمتان الرئيستان في خطاب فوكو. توك هو النموذج الأصلي للشخصية المقدر لها أن تكون محورية في مارستان القرن التاسع عشر. لقد حلت السلطة محل القمع. شكلت مؤسستا بيستر وسالبيتريير في عهد بينيل الصورة المكملة لبيت الخلوة الذي أسسه توك. خلافًا لدار توك التي تُعد «بانعزاله عن العالم، فضاءً للطبيعة والحقيقة المباشرة»، الدين بالنسبة لبينيل ليس ركيزة للحياة المارستانية. لقد كان المارستان «حقلًا دينيًّا بلا دين»، أما الآن، فيجب أن يكون تجسيدًا «للاستمرارية الكبيرة للأخلاق الاجتماعية». وهذا هو ما يُكسِب مارستان بينيل طابعًا عالميًّا. إنه «ميدان موحد للتشريع، مكان للتأليف الأخلاقي» الذي تنظمه ثلاث وسائل تتمثل في: الصمت من جهة (وهي الفكرة التي تتلخص لدى فوكو في الاختفاء الكامل للغة المشتركة بين الجنون والعقل [؟] بينما كان هناك في الحجز الكلاسيكي «بين العقل واللاعقل حوار صامت هو في الأصل صراع»)؛ والتعرف من خلال المرآة من جهة أخرى (فالجنون، وقد تحرر من القيود التي جعلت منه موضوعًا خالصًا للرؤية، قد فَقَد — من باب المفارقة — أهم ما في حريته، فقدَ ما يشكل تمجيدًا لعزلته، لقد أصبح الجنون مسئولًا عما يعرفه عن حقيقته، لقد أغلق على نفسه في النظرة التي لا تحيل إلا على نفسها إلى ما لا نهاية. لقد رُبط في النهاية إلى المهانة الكامنة في أنه موضوع في ذاته)؛ وأخيرًا المحاكمة الأبدية (في المارستان، «ذلك العَالَم القانوني الصغير»، كل شيء كان منظمًا لكي يتعرف المجنون على نفسه في عالم المحاكمة هذا الذي يحيط به من كل جانب، «يجب أن يعرف أنه مُراقَب ومُحاكَم ومُدان»).

تشكلت بنية أخرى متعلقة بعالم المارستانات مع «تمجيد الشخصية الطبية» (ما زال فوكو هو الذي يتحدث). «إن إنسان الطب لا يستمد سلطته في المارستان باعتباره رجل معرفة، بل باعتباره حكيمًا. فالمهنة الطبية مطلوبة باعتبارها ضمانة قانونية وأخلاقية، لا بوصفها علمًا.» وهنا يتلاقى عمل بينيل مع عمل توك، «ولكن سرعان ما انفلت معنى هذه الممارسة الأخلاقية من بين يدي الطبيب؛ نظرًا لأنه كان يحتجز معرفته ضمن معايير التيار الوضعي.» «لقد أصبح الطبيب، في نظر المريض، صانعًا للمعجزات. فسلطته التي كان يستمدها من النظام والأخلاق والعائلة، يبدو أنه يستمدها اليوم من ذاته […] وهكذا، وبينما كان المصاب بمرض عقلي مُستَلَبًا كلية في الشخصية الواقعية لطبيبه، فإن الطبيب كان يكشف حقيقة المرض العقلي في المفهوم النقدي للجنون. بحيث لن يظل هناك، خارج الأشكال الفارغة للفكر الوضعي، إلا واقع واحد ملموس: الثنائي الطبيب-المريض الذي تتلخص فيه وتقام وتتلاشى كل أشكال الاستلاب.»

سوف نلاحظ كلما تقدمنا أن فوكو ينتقد بشدة وبشكل مستمر «الوضعية»، التي ترد في كتاباته كما لو أنها تهمة (وسيندد أتباعه، وما زالوا مستمرين في ذلك، ﺑ «الوضعية المحدثة»). إذا كنا ما زلنا نذكر أن هذه الفلسفة التي أسسها أوجست كونت تدَّعي، ربما بسذاجة، وفقًا لدلالتها الأولية، أنها تستند إلى معرفة الحقائق وحدها، وإلى التجربة العلمية، وإلى ما هو واقعي ومحدد، على النقيض مما هو وهمي ومبهم، لأمكننا أن نفهم أن الوضعية لا تستطيع أن تعوق إلا مَن يدَّعي أنه ينظر إلى التاريخ من خلال «جدول تحليلي».

مع ملاحظة أن الأمر لا يتعلق بالخاتمة، خصص ميشيل فوكو الفصل الأخير من كتابه إلى ما أسماه «الدائرة الأنثروبولوجية»؛ حيث أراد التركيز على بعض الفِكَر المركزية؛ أولها: حرية المجنون، المتضمنة بقوة في مفهوم الجنون نفسه، والتي ظننا «أن بوسعنا حصره ضمن بنية موضوعية»، ولكننا «لم نجْنِ إلا سخرية التناقضات»، فنحن لم نحرر المجنون وإنما أضفينا صبغة موضوعية على مفهوم الحرية.

هناك فكرة أخرى محورية أيضًا في أطروحة ميشيل فوكو، وهي تلك الفكرة المتعلقة بلغة الجنون التي أصبحت «أنثروبولوجية»؛ لأنها «لغة تستهدف في الوقت ذاته، من خلال غموضٍ كانت تستمد منه سلطاتها المقلقة لدى العصر الحديث، حقيقةَ الإنسان وفقدان هذه الحقيقة، وبالتالي، حقيقة هذه الحقيقة»، ذلك أن لغة الجنون غير الأسير تبلغ في النهاية أعماق الإنسان وتصل إلى جوهره. فخلافًا لتصورنا، السبيل إلى «الإنسان الحقيقي» يمر من خلال المجنون: إن المارستان الذي «حرر المجنون من لاإنسانية قيوده، قد قيد الإنسان وحقيقته بالجنون»؛ مما جعل فوكو يقول: إنه بترك «اللغة تتابع انزلاقها في المنحدر»، يتبين لنا أن «الإنسان السيكولوجي هو سليل إنسان أسير ذهنه».

أما الفكرة الثالثة، فتتعلق بإعادة ظهور الجنون، بعد «الصمت الكلاسيكي الطويل»، في مجال اللغة (كما رأينا مع «ابن شقيق رامو») وإحيائه للغة تمثل توهجًا غنائيًّا، «لغة لا تظهر من خلالها الصور غير المرئية للعالم، بل الحقائق السرية للإنسان.»

وأخيرًا، نجد مشروع دراسة لاحقة، ولكنها محددة المعالم بدقة؛ حيث يشكل اتساق الفكر الأنثروبولوجي الكامن مرجعًا للصراعات العلمية التي نشأت في القرن التاسع عشر حول الاستلاب العقلي (لا سيما بين القائلين بالأصل العضوي للمرض وبين أولئك القائلين بالأصل النفسي للمرض). وفقًا لفوكو، بدأت المفاهيم التوصيفية للشلل العام، والجنون الأخلاقي والهوس الأحادي، في إنشاء حقل التجربة الطبية النفسية، على نطاق واسع، في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لم يبالِ الفيلسوف بحقيقة أن هذه المصطلحات تُعد من الناحية الطبية متباينة وغير متجانسة، وأن الجمع بينها ينطوي على مغالطة تاريخية؛ لأنه لا يريد أن يرى إلا ما يوجد تحت هذه الطبقة الطبية. إنه لا يريد أن يبصر هنا إلا «بنية جديدة للتجربة»، و«أنثروبولوجيا ضمنية تتكلم عن الذنب نفسه» (ها نحن نعود إلى تلك النقطة).

وهكذا نصل إلى الفكرة النهائية: «لقد كانت نهاية اللاعقل، في مكان آخر، تجسيدًا لأشكال جديدة.» يود ميشيل فوكو للمرة الأخيرة أن يستسلم لسحر «تلك الصور المَنْسِيَّة للجنون» التي تتجلى في أعمال بوش، وجويا، ودي ساد، ونيتشه، وفان جوخ، وأرتو، إنه ليس جنونًا يتسرب إلى العمل، ولكنه «ذلك الجنون الذي هو قطيعة مطلقة في العمل.» «حيلة وتفوُّق جديدان للجنون: فهذا العالم الذي كان يعتقد أنه يعرف حجم الجنون ويبرر وجوده من خلال السيكولوجيا، عليه الآن أن يبرر وجوده أمام الجنون، ذلك أن هذا العالم في سعيه ونقاشاته يقيس حجمه بلا محدودية عمل كعمل نيتشه وفان جوخ أو أرتو. ولا شيء داخله، وخاصة ما يمكن أن يعرفه عن الجنون، يضمن له أن أعمال الجنون هذه تبرره.» وهنا يجب أن نتساءل: عن أي مجانينَ وعن أي جنون يتحدث فوكو بالضبط؟ إنه لا يكفُّ بالطبع عن الرجوع إلى تاريخ الطب النفسي، وهذا هو ما يجب أن تنصب عليه قراءتنا النقدية. بيد أن الفيلسوف يشير باستمرار إلى جنون «سابق»، إنه جنون لم تقضِ عليه الباثولوجيا؛ التي تُعد في حد ذاتها تعبيرًا عن السلطة، جنون كان يتحدث لغة اللاعقل. «في فضاء مُعَد بهذا الشكل، لا يمكن للجنون أبدًا أن يتكلم لغة اللاعقل […] سيُستَوعَب الجنون كلية داخل عالم الباثولوجيا. لقد اختزل القرن التاسع عشر الوضعي التجربة الكلاسيكية للاعقل في إدراك أخلاقي محض للجنون، سيكون لاحقًا وبشكل خفي، نواة لكل التصورات التي سيثمنها القرن التاسع عشر باعتبارها علمية وإيجابية ومحسوسة.»

لقد أوضحنا بما فيه الكفاية استمرارية الجنون كمرض منذ أوائل العصور القديمة، وثبات التوصيف المرضي للاضطرابات العقلية الذي سرعان ما استقر (الهوس، السوداوية …)، وعدم استيعاب العصور الوسطى للاستعارات والصور الرمزية الخاصة بالجنون، ومن ثم عدم الالتفات إلى «التجربة الكلاسيكية للحماقة» ولا إلى العبور التاريخي من مرحلة اللاعقل إلى مرحلة الجنون ذي الطابع الطبي. ومرة أخرى، ما المقصود باﻟ «لاعقل» الذي يستدعيه ميشيل فوكو باستمرار ولكنه قلما يفسره؟ أي جنة للعقل، و«لحرية الكلام» تكمن في هذا الإطار النظري الغامض؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤