الفصل الثاني

القرن الجديد

كان للتقلبات الجذرية التي شهدها الجزء الأول من القرن العشرين — بدءًا بالحربين العالميتين والثورة البلشفية — أثرٌ كبيرٌ على حركة التفكير، بل وعلى الحالة النفسية والمشاعر العامة، بما في ذلك تاريخ الجنون والطب النفسي؛ والذي بدأ منذ ذلك الحين التمييز بينهما بوضوح. فبعد القرن التاسع عشر الطويل المليء باليقين والإيمان في التقدم والمستقبل، جاء قرن الشكوك والتساؤلات بكافة أنواعها. فترك الشعراءُ — أول من تركوا — تصوير عالم مطمئن، كما كتب جول سوبرفييل قبلًا: «لا تمس كتف/الفارس الذي يعبر/لئلا يلتفت/ويحل الظلام»، للتعبير عن عالم آخر يخيم عليه شبح العدم مهددًا وجوده.

الحرب العالمية الأولى والحركة السريالية

تمثل الحرب العالمية الأولى منعطفًا حاسمًا في تاريخ الطب النفسي. فعلى عكس «ذهان الحرب» أو «تفاعل كرب القتال»، بدت الحرب للبعض كأنها هي الجنون في ذاتها، بل هي الجنون نفسه. كان أندريه بروتون — قبل تجنيده في الجيش — يعمل كطبيب متدرب. وبعد تنقلات عدة بين مشافٍ مختلفة، استقر به الأمر في مشفى «فال دي جراس» العسكري. ومن أكثر الحالات تفردًا التي جذبت انتباهه، كانت حالة تشبه ذهان الحرب، ولكن معكوسة، لجندي أُودِعَ المصحة ليس لشجاعته غير المألوفة، وإنما للدافع وراء كونه شجاعًا؛1 فقد كان مقتنعًا بأن الحرب ليست سوى خيال كبير، وأن القذائف لن تؤذيه، وأن الإصابات التي يراها ليست سوى مكياج. وفكرة المحاكاة (بما فيها «المحاكاة الإرادية» التي يسببها المرضى العصبيون على حد قول بابينسكي) لا تتعلق بالباثولوجيا العقلية، وإنما بالحرب ذاتها. «لديه حالة من الفكاهة السوداوية وهذيان بالطبع، يصاحبهما شعور بالدهشة والمفاجئة، يبدو كمشهد سريالي في الحقيقة.»2
كان الرفض للحرب وللحضارة التي تسببت فيها قد أدى إلى ظهور حركة الدادية (عام ١٩١٦ بزيورخ). وانضم إليها أندريه بروتون — المطلع على أعمال فرويد ولوتريامون — ولكن صداقته وتفكيره المشترك مع إليوار وأراجون وسوبو قاداه إلى آفاق جديدة. «منذ كتابة مراجعه الأولى، وهو يرى أن السريالية تنمو في أرض الطب النفسي لتظهر عجائب اللاوعي.»3 في «بيان السريالية» الأول (١٩٢٤)، يعرف بروتون المصطلح: «حركة لاإرادية نفسية بحتة، نستخدمها للتعبير […] عن العمل الحقيقي للفكر. فالفكر هو من ينظمها، في غياب أي سيطرة من العقل، وخارج أي اهتمامات جمالية أو أخلاقية.» في عام ١٩٢٥، كتب روبرت ديزنوس — الذي انضم إلى مجموعة السرياليين — في مجلة «الثورة السريالية» — التي تأسست عام ١٩٢٤ — مقالًا يهاجم فيه بقسوة الأطباء النفسيين: «أيها السادة، أعطتكم قوانين العادة الحق في قياس العقل […] دعونا نضحك […] نحن لا نهدف هنا إلى مناقشة قيمة علمكم، أو الوجود المشكوك فيه للأمراض العقلية. ولكن من بين مئات الأمراض المدَّعاة التي تضطرب فيها المادة والفكر، ومن بين مئات التصنيفات التي لا يزال مستخدمًا أكثرُها غموضًا، كم هو عدد المحاولات النبيلة التي قمتم بها للاقتراب من عالم المرضى الذين تعتبرونهم سجناء؟ […] نحن نحتجُّ على الحق المعطى لبعض البشر — سواء كانوا محدودي الفكر أم لا — في عقاب آخرين بالحبس المؤبد بناء على أبحاثهم في مجال التفكير. وأي حبس! ونعلم — ليس بالقدر الكافي — أن مصحات الأمراض العقلية — قبل أن تكون مصحات — إنما هي سجون مخيفة. نحن لا نقبل أن يعيق أحدٌ التطور الحر لأي هذيان شرعي ومنطقي مثله مثل أي سلسلة من الأفكار أو الأفعال البشرية […] فالمجانين هم ضحايا فردية للديكتاتورية الاجتماعية […] أتستطيع سيادتك أن تتذكر صباح غد وقت الزيارة متى ستقرر أن تتحاور مع هؤلاء الرجال الذين لا تمتاز عنهم بشيء إلا السلطة؟ ولنعترف بذلك.»

ويضيف بروتون: «في رأيي، كل حالات الاحتجاز تعسفية […] أعلم أنه إذا كنت مجنونًا ومحتجزًا منذ عدة أيام، فسأنتهز أي فرصة هدوء لأقتل بدم بارد أي شخص — يقع بين يدي وخاصة الطبيب. على الأقل، سأفوز بالحصول على غرفة منفصلة خاصة بي مثل المرضى المصابين بالهياج.» استشاط أطباء الأمراض العقلية غضبًا. ويشبه بيير جانيه الأدب السريالي ﺑ «اعترافات أناس مصابين بالهوس.» ويجيب بروتون: «نحن نشرف لكوننا أول من قَرَّرَ الترفع عما لا يحتمل؛ ورفَضَ الاستغلال المتنامي لبعض الأشخاص لسلطتهم، هؤلاء الأشخاص نراهم أقرب للسجانين منهم إلى الأطباء» (الطب العقلي في مواجهة السريالية). وفيما يخص مصحة الأمراض العقلية نفسها، كتب بروتون في «نادجا»: «ليس هناك داعٍ لدخول مصحة للأمراض العقلية للتأكد من أنه ليس سوى مصنع للمجانين، كما أن الإصلاحيات هي مصانع للسارقين.» ومن جانبه، كتب أنطوان أرتو — الذي انضم لفترة إلى المجموعة السريالية: «لأن المجنون ليس سوى رجل رفض المجتمعُ أن يستمع إليه، بل وأراد أن يمنعه من البوح بحقائق لا تحتمل.» في عام ١٩٢٨ — عام ظهور رواية «نادجا» — احتفل السرياليون بحماس بالعام الخمسين لاكتشاف الهستيريا «أكبر اكتشاف شعري في نهاية القرن التاسع عشر.» «فالهستيريا ليست ظاهرة طبية، ويمكن — بجميع الأحوال — اعتبارها وسيلة سامية للتعبير» (أراجون وبروتون — «الثورة السريالية» — الخامس عشر من مارس ١٩٢٨).

وفي المقابل، أظهر السرياليون اهتمامًا واسعًا بالتحليل النفسي، متخذين موقفًا مزدوجًا تجاه فرويد، الذي كان يحاول في البداية بأدب، ثم بطريقة جذرية، أن يبتعد عنهم. «وفقًا لفرويد، الحلم يتنبأ بالماضي، وليس بالمستقبل.»4

«فن الأمراض النفسية» ومجانين الأدب

بدا في هذا العصر وكأن الجنون لا بد من أن يخرج من عزلته كمرض عقلي. فلم يكن ينقص إلا أن يفسح له الفن مكانًا صغيرًا أيضًا. كان الأمر يتطلب لتحقيق ذلك أن يصبح الطبيب النفسي الألماني بالمستشفى الجامعي بهايدلبرج — هانز برينزهورن (١٨٨٦–١٩٣٣) — مؤرخًا في الوقت ذاته لحركة الفن. منذ زمن طويل، ومرضى الاعتلال العقلي يرسمون ويلونون، إلا أن برينزهورن شعر بانجذاب في الفترة من ١٩١٩ إلى ١٩٢١ لهذا الموضوع، وجمع ما يقرب من خمسة آلاف «تعبير عن الحالة النفسية المرضية»، ونشرها عام ١٩٢٢ في عمل مليء بالرسومات أسماه (تعبيرات الجنون).5 كانت تلك إحدى أوائل المحاولات — إن لم تكن الأولى بالفعل — لاستكشاف الحدود بين الفن والطب النفسي، وبين الجنون والتعبير الإبداعي. ولقد عُرِضَت مجموعة برينزهورن في المعرض المفتوح بميونخ عام ١٩٣٧ على يد النازيين كدليل على الفن المنحط، على النقيض مما يسمى «الفن»؛ «أي الفن الألماني ذا القيمة الخالدة.» تحمَّسَ الكثير من الفنانين لهذا الأمر أيضًا: بول كيلي وماكس إرنست، وعلى طريقهم مضى باقي السرياليين. بالنسبة إلى بعض المرضى المحتجزين، كان يمكن أن يطلق على رسوماتهم أعمال حقيقية. كانت تلك هي حالة أدولف ولفي، المحتجز منذ عام ١٨٩٥ بمصحة والدو للأمراض العقلية بالقرب من بيرن. بدأ راعي الماعز والمُزارع هذا الرسم منذ ١٨٩٩ دون أن يتلقى أي تدريب، وظل يرسم حتى موته في المصحة عام ١٩٣٠، تاركًا إرثًا مكونًا من خمسة وعشرين ألف صفحة هي سيرة ذاتية وهمية (سيرة حياة القديس أدولف)، مصحوبة بألف وستمائة رسمة ملونة وألف وخمسمائة صورة، تعد الآن مصدر فخر لمتحف الفنون الجميلة ببيرن. كان طبيبه النفسي — الطبيب والتر مورجنتهالر — هو الذي قام بالتعريف لأعماله عام ١٩٢١.

ومن فرط تأثره بالعمل الرائد لمجموعة برينزهورن، رأى فيه جان ديبوفيه «تصويرًا فوريًّا ومباشرًا لما يدور في أعماق البشر.» ولكنه رفض مصطلح الفن النفسي (فلا يوجد فن للأمراض النفسية، كما لا يوجد فن خاص بمرضى عسر الهضم أو آلام الركبة)، وأنشأ عام ١٩٤٥ مصطلح «الفن الخام» (الفن الخارجي كما يسميه الأنجلوساكسونيون). وهو يختلف عن الفن الساذج أو الفن الأولي (اللذين يتغيران وفقًا للمجتمع)، فهو بالنسبة إلى ديبوفيه تعبيرات «كاملة عن ثقافة فنية»، بعيدة تمامًا عن «الاحترافية في الفن»، ولا تقتصر فقط على مرضى الاعتلال العقلي. فعلى حد قوله، لا يوجد فن للجنون، وإنما يوجد مجانين في الفن. أما عن الجنون لدى الفنان، فهذا أمر آخر: «لا تنخدعوا بهذا الأمر، فالمجنون في هذا المجال شيء مختلف، وإلا لما أتى الفنان بجديد» (جان كوكتو). ولقد كوَّن ديبوفيه — بعد أن زار مصحات فرنسا وسويسرا، مضيفًا إليها ابتكارات منفردة — مجموعة متفردة على مستوى العالم من الإبداعات، توجد حاليًّا في لوزان (مجموعة الفن الخام).

وبعيدًا عن استثماره في الفن، لم يكن التعبير النفسي بالرسم ليختفي، وظل تحت أعين الطبيب النفسي، الذي ربما يجد فيه رابطة للتواصل مع مريضه أو وسيلة لفك شفرة هذيانه. في عام ١٩٥٠، أثناء انعقاد المؤتمر العالمي الأول للطب النفسي، نُظِّم معرض «للفن النفسي» (ظل المصطلح كما هو) بمصحة سانت آن بمشاركة ما لا يقل عن ثلاثمائة وخمسين «مريضًا من العارضين».

الأمر يختلف عن العلاج بالفن — الذي يشهد طفرة هذه الأيام — وكان قد ظهر في بعض المصحات لعلاج الأمراض النفسية في النصف الثاني من القرن العشرين. فالعلاج بالفن هو وسيلة للعلاج النفسي عن طريق الفنون، وأحيانًا ما كان يضاف إليها الموسيقى والرقص والمسرح. وانقسمت الآراء حول هذه الطريقة — مثلما انقسمت حول طرق أخرى جديدة أو مطورة من طرق قديمة — وكانت النتائج معتدلة. يمكن اعتبارها أيضًا طريقة لتحديد بعض التشخيصات، فكل عائلة من الأمراض العقلية يكون لها «أسلوبها» الخاص. في عام ١٩٥٦، نشر روبرت فولما — بعد معرض سانت آن عام ١٩٥٠ — فهرسًا حقيقيًّا لهذه اللوحات. وفي عام ١٩٦٣، أنشأ المركز الدولي لتوثيق الفنون، الذي أصبح لاحقًا مركز دراسة طرق التعبير. على إثر إنشاء الجمعية الدولية للأمراض النفسية التعبيرية عام ١٩٥٩، أُنشِئت جمعية فرنسية تحمل نفس الاسم عام ١٩٦٤. وتهدف الجمعيتان إلى «تكوين علاقات بين مختلف المتخصصين المهتمين بدراسة العلاقة بين التعبير والإبداع والفن وبين الأبحاث في الطب النفسي وعلم الاجتماع وعلم النفس والتحليل النفسي التي حاليًّا تشهد تطورًا على مستوى العالم.» (واليوم أصبحت هذه الجمعية تسمى: «الجمعية الفرنسية للأمراض النفسية التعبيرية وطرق العلاج بالفن».)

أنجرؤ بالفعل على الاقتراب من مجال الأدب، كما حدث مع الفن الخام عن طريق فكرة مجانين الأدب؟ ولكن ما المقصود بمجنون الأدب؟ يفضل المعالج أندريه بلافييه6 — الذي أحصى عام ١٩٨٢ ما يزيد عن ثلاثة آلاف منهم — أن يسميهم «شواذ أو غرباء». ويتحدث بعض أطباء الأمراض العقلية عن «المهووسين بالكتابة». ويدخل هؤلاء أيضًا هذه المرة في نطاق التوافق الأدبي. ويعدد بلافييه: «يوجد مجانين لاهوتيون يؤسسون ديانات تتحدث عن نشأة الكون، ويوجد مجانين علماء — خاصة في الرياضيات — ويوجد مجانين بارعون في تاريخ اللغات واللغويات بشكل عام، ويوجد المجانين الأدباء بمعنى الكلمة والمجانين علماء الاجتماع والمصلحون ومنقذو البشرية، ومجانين السياسة.»
كان شارل نودييه7 قد اهتم بدراسة ما يطلق عليه غرباء الأطوار في مجال الأدب، السابقون لعصرهم. وفي روايته «فتات الساحرة» (١٨٣٢)، يجعل نودييه من جنون «غرباء الأطوار» وسيلة للجمع بين الحلم والواقع. ومن بعده، استلم الراية جوستاف برونيه — تحت الاسم المستعار فيلومنست جونيور8 عام ١٨٨٠. ويحدثنا الاثنان عن كثيرين، من بينهم أليكسيس بيربيجييه — المعروف ببيربيجييه من تير نوف دي تيم (أرض الزعتر الجديدة) — المصاب بهلاوس الاضطهاد. ولقد نشر هذا العَلَمُ من أعلام مجانين الأدب عام ١٨٢١ على نفقته الخاصة بما تبقى له من نقود «العفاريت: كل الشياطين ليسوا من العالم الآخر». كانت القصة مملة، ولكن ما جعل أطباء الأمراض العقلية في ذلك الوقت يشغفون بها، كانت العلاقة بين الهذيان المزمن وأفكار الاضطهاد التي تدور حول موضوع وحيد (كل ما يحدث من شرور في العالم إنما هو عمل الشياطين الأشرار الذين شرع بيربيجييه في مقاومتهم بضراوة). أما بينيل — والذي أُرسل له بيربيجييه عام ١٨١٦ ووصف له علاج الحمامات — فقد انتهى الأمر بأن اعتبره بيربيجييه في مصاف معذبيه الذين ينوي التخلص منهم بواسطة الإبر، أو حبسهم في زجاجات مغلقة وعليها إشارة إلى من في داخلها. ونرى هنا أن الكفة تميل ناحية الجنون، ولكن بالنسبة إلى معظم مجانين الأدب، تميل عادة ناحية الأدب. فيتحدث بعضهم عن عدم وجود الجحيم، وآخرون عن «الأسباب الجبرية للجنس داخل النوع البشري». عام ١٩٢٥، كتب — «ماركيز كامارازا» — شيئًا عجيبًا يسمى «بحث تاريخي نظري عملي فلسفي فقهي شعري رياضي أكروباتي سياحي فني ورائع عن العربة ذات العجلة الواحدة». وبالطبع يكون هؤلاء المؤلفون على اقتناع تام بما يكتبون. في جميع الأحوال، كان هواة الكتب يشترون هذه النسخ ولكن بأعداد قليلة. فمجنون الأدب الذي يحترم ذاته، هو مؤلف لم يَقرأ له أحد.

ولقد كان ولع ريموند كونو — بعد انفصاله عن السرياليين — بدراسة مجانين الأدب، الذين جسدهم في رواية «أطفال ليمون»؛ شديدًا (١٩٣٨). ووفقًا لكونو، مجنونُ الأدب هو «مؤلِّفٌ له كتب منشورة، يختلف هذيانه (لا أقصد المعنى السيئ للكلمة) عن ذلك الذي ينشره المجتمع الذي يعيش فيه […] كل من كان له أتباع فهو ليس مجنون أدب.» ويرفض كونو — كما سيرفض بلافييه أيضًا لاحقًا — إعطاء لقب مجنون أدب للمتصوفين «بكل أشكالهم».

«في مطلع القرن الحادي والعشرين، في عالم يسود فيه السياسة السليمة والتفكير الموحد»، أُتم إنشاء معهد طريف وغريب يسمى «المعهد الدولي لأبحاث واكتشافات مجانين الأدب وغرباء الأطوار والمختلفين والمعزولين، وغيرهم.» وينوي المعهد — الذي أنشأ مجلة «دراسات المعهد» وصدر العدد الأول منها في يونيو ٢٠٠٨ — استكمال ما بدأه السابقون. أي إن الاعتقاد في مجانين الأدب لا يزال حيًّا. ولكن فلننتبه: الجنون ليس ضمانًا للعبقرية.

نهاية الطب العقلي وميلاد الطب النفسي المعاصر

على سبيل الدعابة، قد نشبه الطبيب النفسي بطبيب الأمراض العقلية الذي تساوره الشكوك. وبالفعل، نجد أن الكثير من الأطباء النفسيين ظلوا طويلًا حابسين طبيبَ الأمراض العقلية داخلهم. في حديثه عن «أطباء الأمراض العقلية الآخرين»، يقول كبير الأطباء باريتون في رواية «رحلة إلى نهاية الليل» عن العصور الجديدة للطب النفسي: «لم يحاول أحد منا أن يصبح مجنونًا كالعميل […] لم تكن موجة الهذيان بحجة أنها أكثر انتشارًا قد ظهرت بعد، يا لها من موجة فاضحة مثل كل شيء يأتينا من الخارج […] وكأني أنقب داخلك! وأفتح عقلك! وأطغى عليك بالكامل! أليس كذلك؟! حولهم ركام مقزز من البقايا العضوية ومزيج من أعراض الهذيان المختلطة التي ترشح وتقطر من كل اتجاه. تمتلئ أيدينا بها ومن كل ما يتبقى في الذهن، ونكون كلنا لزجين وأفظاظًا ومحتقرين ومقززين.»

في مطلع القرن العشرين، كان الطب العقلي لا يزال مزدهرًا على يد مانيان في فرنسا وكرابلين في ألمانيا. وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، تراجع الإيمان في العلم الإيجابي ليحل محله التشكك والارتياب. وشهدت موجة الكيانات التصنيفية الضخمة — مثل الانحطاط — تراجعًا، وأصبحت تشخيصًا سهلًا جامعًا تندرج تحته جميع الحالات المحرجة. رأينا إلى أي درجة تعايش المصطلحان «الطب العقلي» و«الطب النفسي» طويلًا (فالطب العقلي يختص بالمشفى، بينما الطب النفسي بالنظريات). ولكن منذ عشرينيات القرن العشرين، بدأ الطب النفسي كمفهوم يفرض نفسه، بينما تلاشى الطب العقلي كمفهوم أو على الأقل كمصطلح. في المقابل، ظل استخدام لفظ «المجنون» مستخدمًا حتى عام ١٩٢٥، على الرغم من تفضيل البعض، قبل ذلك التاريخ، استخدام كلمة «مريض عقلي». أما لفظ «مصحة المجانين»، فتخلى بصعوبة عن مكانه لصالح «المشفى النفسي» رسميًّا عام ١٩٣٧، وإن ظل لفظ «مصحة الأمراض العقلية» مستخدمًا.

في عام ١٩٠٦، تأسست مجلة «الدماغ»، والتي تهدف إلى «كسر العزلة التي فُرضت مؤقتًا على المرض العقلي.» وكان علم الأعصاب وعلم النفس — لئلا نقول الطب ببساطة — دعوة لأطباء الأمراض العقلية للخروج من مشفاهم. وعلى عكس فكرة الانحطاط — التي خلقت فجوة بين ما هو طبيعي وما هو مرَضي — وجدت نظرية جديدة (واحدة أخرى) وهي نظرية التكوينات التي سعت على العكس إلى سد هذه الفجوة.9 وأصبحت هناك هوية واحدة تجمع الآليات النفسية الطبيعية والمرضية، فلم يعد الاختلاف على المستوى النوعي وإنما على المستوى الكمي. في عام ١٩١٩، قدم إرنست دوبريه (١٨٦٢–١٩٢١) تفسيرًا لهذه التكوينات المرضية المشتقة من وظائف طبيعية مثل التخيل والانفعال، وهي «عمل الإصابة العقلية القوية وسببها». واستنتج عام ١٩١٩ أن: «الأمراض العقلية هي أمراض في الشخصية.» ومن جديد برزت تلك النظرية الجاذبة للكل — التي تقول بوجود ميول معينة تنقل بالوراثة — لإعادة إحياءٍ لنظرية الانحطاط العقلي لكلٍّ من موريل ومانيان.

كان لأعمال إيميل دوركايم (١٨٥٨–١٩١٧) مستقبل أكثر ثراءً، وافتتح بها تيار علم الاجتماع. فخصوصية الوقائع الاجتماعية (طرق التصرف والتفكير والشعور الخارجة عن الفرد والتي تمتلك قدرة قهرية تفرض نفسها عليه) «للحياة النفسية الجماعية» إلى جانب مفهوم «التفاعل»، يمكن تطبيقهما أيضًا في مجال الأمراض العقلية التي تعد حالة صراع مع المجتمع المحيط.

أما عن الطريقة الظواهرية في علاج المرض العقلي، فقد رأينا أنها كانت اقتراحًا من كارل ياسبرز منذ عام ١٩١٣ (دراسة للحالات المعنوية للمرضى). كان يوجين مينكويسكي هو الذي أدخل هذا التيار أخيرًا إلى فرنسا خلال فترة ما بين الحربين. وإلى جانب كتابه «الفصام» — الذي أعيد طبعه مرتين يفصلهما ربع قرن (١٩٢٧ و١٩٥١) — نشر مينكويسكي عام ١٩٣٣ «الزمن المَعيش، دراسة ظواهرية ونفسية»، شدد فيه على شكل العلاقة وطريقة التعامل إزاء المريض. بطريقته الظواهرية، يضع مينكويسكي — تلميذ هوسريل وبرجسون — المعرفة في حالة توقف مؤقت في لحظة الالتقاء نفسها بكلام المريض، الذي اتخذ من الآن وضعًا جديدًا كشخص «يجري التعامل معه بنظرة كلية وفي ظل عمق تاريخه.»10 «وربما للمرة الأولى في تاريخ الطب النفسي»، لا يشمل مصطلح الفصام «أعراض المريض فحسب، وإنما موقفَنا تجاهه، متضمنًا بالتالي الإشارة إلى السلوك الذي يجب أن نتبعه إزاءه بصفتنا أطباء نفسيين معالجين، أو معالجين نفسيين قبل كل شيء.»11

استقبل تيار علم الأعصاب إضافة جديدة. في عام ١٩٢٠، أوضح كونستانتين فون إيكونومو (١٨٧٦–١٩٣١) — عالِم الأعصاب النمساوي من أصول رومانية — بالتزامن مع جان رينيه كريشيه؛ الطبيعة المعدية للعدوى المخية المعروفة بالخمول التي اجتاحت أوروبا مع «الأنفلونزا الإسبانية». ويبرز نوعان من المرضى: مرضى الغيبوبة، ومن يعانون — على العكس — من حالة هياج وهذيان وتبدو عليهم اضطرابات السلوك. يموت الكثيرون. وبدراسة أمخاخ النوعين، عرض فون إيكونومو نتائجه في عام ١٩٢٨، موضحًا أن القسم الثاني يكون مصابًا في الجزء الخلفي من تحت المهاد (الهيبوثالامس) نتيجة فيروس التهاب الدماغ الذي يدمر مراكز النعاس. ولمزيد من الدقة، لم يكن هذا الاكتشاف معززًا لنموذج الشلل العام، بل فتح ثغرة جديدة في عقيدة التكوين الباطني للذهان.

التحليل النفسي والطب النفسي

كان للتحليل النفسي الدور الأهم في تطوير الطب النفسي. ونؤكد أن حديثنا في هذا الكتاب لا يهدف لدراسة تاريخ التحليل النفسي، وإنما دراسة مدى تأثيره على الطب النفسي الذي انبثق منه كما رأينا أثناء حديثنا عن الهستيريا.

ولذلك، سنعود إلى بلولير في بيرجولزي بزيورخ قبل وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى. كانت بيرجولزي هي المركز الأكثر نشاطًا في الطب النفسي الأوروبي وملتقى أطباء الأمس والغد. وكان بلولير من أوائل الأطباء النفسيين الإكلينيكيين الذين اعترفوا بفرويد، إن لم يكن أولهم بالفعل. وكتب — في مقدمةِ أعظم إسهاماته «الخبل المبكر، أو مجموعات الفصام» في «بحث في الطب النفسي» بآشافنبرج (١٩١١) — ما ذكرناه قبلًا: «التقدم والتوسع في مفاهيم الأمراض النفسية ليس إلا تطبيق أفكار فرويد على الخبل المبكر.» كان بلولير لفترة ما منسِّقًا لأول مجلة في التحليل النفسي، والتي أسسها فرويد عام ١٩٠٨ (مجلة البحوث في مجال الأمراض النفسية والتحليل النفسي). ولكنه لم ينغمس كليًّا في حركة التحليل النفسي، بل وشهدت علاقته بفرويد نوعًا من الفتور منذ عام ١٩١٠. ولم يعد بلولير يستخدم مصطلحات فرويد في تحليله حول محتوى الهذيان والاضطرابات النفس-حركية: «تحرك، تكثيف، ترميز، نكوص نرجسي، تعبير اللاوعي»، مؤكدًا على التشابه بين تفكير الحلم والتفكير المتوحد (تريا).12 «يمثل نظام بلولير القطيعة مع الأطر التصنيفية الجامدة للأمراض، وأيضًا مع التشاؤم والاستسلام المميزين لنظام كرابلين. فهو يعيد للمريض وضعه ككائن تحركه المخاوف والرغبات. فلم يعد المريض كائنًا غريبًا، مجنونًا […] بين كرابلين وفرويد، يأتي بلولير في منتصف الطب النفسي المعاصر.»13
وأيضًا في بيرجولزي، اكتشف تلاميذ بلولير — كارل أبراهام (١٨٧٧–١٩٢٥) والسويسري لودفيج بينسفاجنر (١٨٨١–١٩٦٦) والأمريكي أبراهام أردن بريل (١٨٧٤–١٩٤٨) وخاصة كارل جوستاف يونج (١٨٧٥–١٩٦١) — التحليل النفسي، وعكفوا من حينها على نشره. وأصبح بريل — على حد تعبيره — «الممثل الرسمي للأستاذ فرويد» في الولايات المتحدة الأمريكية والمترجم (تقريبًا) لأعماله. وقرب نهاية حياته، كتب: «عندما عرفت التحليل النفسي لأول مرة، لم أتصور أبدًا أنه يمكن اعتباره شيئًا منفصلًا عن الطب النفسي؛ وذلك لأني دخلت هذا العالم الجديد الغريب عني تمامًا من خلال مركز الطب النفسي بزيورخ.»14 ويعد المَجَري ساندور فيرينزي (١٨٧٣–١٩٣٣) تجسيدًا لهذا الجيل من شباب الأطباء النفسيين الذين سيعتمدون طريقة التحليل النفسي. في عام ١٩١٨، أصبح هو رئيسًا لجمعية التحليل النفسي الدولية (كانت قد تأسست أول «جمعية للتحليل النفسي» عام ١٩١٠).

كان الأطباء النفسيون الذين تأثروا بأفكار فرويد كثيرين، ولكنهم سرعان ما انفصلوا عنه لكونه لا يقبل الاختلافات في المذاهب النفسية. كانت تلك هي حالة ألفريد آدلر (١٨٧٠–١٩٣٣) الذي تعرف على فرويد عام ١٩٠٢، ثم ترأس في عام ١٩١٠ جمعية فيينا للتحليل النفسي. وحدثت القطيعة عام ١٩١١ عندما قدم آدلر بيانه حول «الاحتجاج الذكوري كمسألة محورية في العصاب». وقلل في بيانه من دور الكبت والأصول الجنسية للعصاب، معليًا من دور الشعور بالنقص. وإذ به يختزل عقدة أوديب المقدسة في «حركة نفسية أوسع»: مفهوم «الاحتجاج الذكوري»، والمقصود بكلمة ذكوري ليس سياقها الجنسي. ورفض بلولير أيضًا نظرية فرويد «عن تفسير كل عمل وفقًا لدوافع جنسية في العقل الباطن.» ومن جانبه، ابتعد بينسفاجنر عن أفكار فرويد، ولكن دون قطيعة صريحة. فنظرًا لدراسته للفلسفة، أبدى اهتمامًا أكبر بالنظريات الظواهرية لهوسريل وهايدجر، محاولًا بلوغ استنتاجات عن طريق الاستفادة من إسهامات التحليل النفسي. ولكن مستلهمًا أفكاره بالتحديد من علم الظواهر، وتوصل إلى طريقة علاجية جديدة في مطلع الثلاثينيات: «التحليل الوجودي». في كتابه النظري، يعمل بينسفاجنر على إعادة تركيب وفهم عالم التجربة الداخلية للمريض عقليًّا.

كانت القطيعة الكبرى هي تلك التي ليونج، الذي كان يعد قبلًا ولي عهد فرويد، ولكنه سرعان ما انفصل عنه تمامًا منذ عام ١٩١٣. ثم وضع نظريته الخاصة «علم النفس التحليلي» أو «علم نفس الأعماق» (علم الروح العميقة واضطراباتها). في كتابه الضخم «الأنماط النفسية» الذي صدر بتاريخ ١٩٢١ — والذي لم يكفَّ عن إكماله وإثرائه في عمل ضخم وهائل — كان يهدف إلى «إسقاط الطابع المطلق» الذي اتخذته نظريات فرويد المتناقضة، وأيضًا نظريات آدلر. فإلى جانب «اللاوعي الفردي»، يؤمن يونج بوجود «لاوعي جمعي» يكون نتاج تراكم الخبرات البشرية عبر آلاف السنين، والذي يُعبر عنه بنماذج كبرى توجد في أساطير جميع الحضارات، ومن بينها «الأنيما» (وهو مبدأ أنثوي يوجد في كل رجل)، و«الأنيموس» (وهو المبدأ الذكري الموجود في كل امرأة)، و«الظل» وهو صورة خيالية تعبر عن اللاوعي الفردي. وتعمل طريقة يونج العلاجية (والتي تتميز بهذا قبل كل شيء) — وهي أكثر توجيهية من طريقة فرويد — على إعادة ربط المريض على نحو نشط بجذوره باستخدام تحليل الأحلام وبرفض الدور الإيجابي للنقل. وعلى عكس فرويد، لا يعترف يونج بالدور الحاسم للطفولة في الإصابة باضطرابات نفسية في سن النضوج، والتي تتحدد «وفقًا لتعامل الشخص مع العالم الخارجي».15 ورافضًا أي جمود في المنهجية، اقترح يونج على من يمارس التحليل النفسي، أو على «أي شخص يريد التعرف على النفس البشرية»، أن يترك جانبًا سترته وكتبه و«أن يتجول (كما فعل هو ذاته) على غير هدًى في شتى أنحاء العالم بقلبه البشري.»
كانت هناك الكثير من الخلافات (العميقة بلا شك) داخل ما يمكن تسميته ﺑ «عائلة» المحللين النفسيين. ولكن ماذا عن الاستقبال المتحفظ الذي لاقته أفكار فرويد لدى الأطباء النفسيين «الأساسيين» خاصة في فرنسا؟ كان فرويد أول من اشتكى: «ماذا يريد هذا المحلل النفسي؟ […] أن يعيد إلى سطح الوعي كل ما هو مكبوت. ألم يكبت كل منا الكثير من الأشياء التي نحتفظ بها بصعوبة في اللاوعي؟ كان التحليل النفسي يثير في نفوس كل من يسمع عنه المقاومة نفسها التي لدى المرضى. ومن هنا تأتي بلا شك المعارضة القوية والغريزية التي يتميز علمنا بإثارتها.»16

في الواقع، أبدى مجتمع الأطباء النفسيين بأكمله وعلى مستوى العالم رفضه لفرويد. وخارج فرنسا، كان هناك كرابلين وفاجنر فون جوريج وآشافنبرج وغيرهم من المعادين لأفكاره بدرجات مختلفة. في فرنسا، كان العداء شبه عام. كان هناك حديث عن «السم الفرويدي». «تأتي دراساته العميقة بكثير من السفالة وبأسلوب خارج عن اللياقة» (تريا). ويصف شارل بلونديل — طبيب نفسي — التحليل النفسي ﺑ «الانحلال ذي الطابع العلمي»، ويندد «بالسخافات التي قد يؤدي إليها هذا الهاجس بالفكرة الجنسية المسبقة.» كان أول طبيب نفسي فرنسي يُدخل أعمال فرويد إلى فرنسا هو آنجيلو هينسار (١٨٨٦–١٩٦٩)، ولكن بطريقة نقدية تمامًا لم تؤتِ فائدة لحركة التحليل النفسي. ثم توالت الترجمات المتأخرة لكتاب «مقدمة في التحليل النفسي» (١٩٢٢) و«علم الأحلام» (١٩٢٦). وتكونت مجموعة صغيرة حول رينيه لافورج (١٨٩٤–١٩٦٢) بسانت آن، والتي أصبحت عام ١٩٢٥ «مجموعة تطور الطب النفسي» (كان مينكويسكي واحدًا منهم). وهناك كان يحيط بمينكويسكي آخرون غير أطباء، مثل أوجوني سوكولنيكا (١٨٨٤–١٩٣٤) التي كانت هي المحرك لحركة التحليل النفسي في فرنسا، وماري بونابرت (١٨٨٢–١٩٦٢) — المسماة ﺑ «الأميرة»، وقد أُطلق عليها لقب «قال فرويد». كانتا هما الاثنتان قد خضعتا للتحليل على يد فرويد نفسه. وفي عام ١٩٢٦، تأسست جمعية التحليل النفسي بباريس، وظل لافورج يرأسها حتى عام ١٩٣٠.

إلا أن هذا لم يمنع العديد من الأطباء النفسيين الفرنسيين — لكي لا نقول معظمهم — من استكمال مقاومتهم لهذه الأفكار. ألم تنشر في عام ١٩٢٩ «مجلة الطب والطب النفسي» — أقدم وأشهر مجلة في الطب النفسي — دون أي مناقشة مسرحية بعنوان «حوار عائلي حول مذهب فرويد»، وهي هجوم منظم ضد حركة التحليل النفسي؟17 واتُّهم فرويد فيها، ليس فقط بأنه أخطأ، بل بأنه مخادع. وقيل: إن التحليل النفسي «إنما هو مزحة بحتة، وإن الطب النفسي ما هو إلا محض أوهام.»
كان لإدوارد بيشون (١٨٩٠–١٩٤٠) مكانة خاصة في ظل هذه المؤامرة. كان — وهو عضو بمنظمة الحركة الفرنسية وصهر جانييه — مؤيدًا لأفكار التحليل النفسي، ولكنه كان ضد فرويد شخصيًّا. كان أحد مؤسسي جمعية تطور التحليل النفسي بباريس. وأراد أن يخلِّص التحليل النفسي، ليس فقط من الأفكار القائلة بالدافع الجنسي وراء أي فعل، وإنما أيضًا من التأثير الألماني، بل اليهودي. أفلتت هذه الكلمة عندما حاول صهره — قبل الحرب العالمية الثانية ببضعة أعوام — أن يلتقي خصمه القديم بفيينا، ولكنه رفض مقابلته من أمام الباب. وفي خطاب إلى هنري إي، كتب بيشون: «إن ما بين الرجلين إنما هو سوء تفاهم شخصي سخيف، ولكنه منع أفكارهما من الاندماج […] لم يكن فرويد […] يفهم طريقة المناقشات على الطريقة الفرنسية، فتضايق!» يقول بيشون، متطرقًا إلى اللقاء الذي رفضه فرويد: «لا أعتقد أن هذه الحركة، خاصة وهما في نهاية حياتهما، كانت لائقة من طرف سيجموند اليهودي التشيكي.»18 وبطريقة ما، يعد بيشون ممثلًا لعصره.
لم يكن فرويد مخطئًا عندما قال: «إن الطبيب النفسي، وليس الطب النفسي، هو من يعارض التحليل النفسي. فالتحليل النفسي بالنسبة إلى الطب النفسي، كعلم الأنسجة (جزء من علم التشريح يهتم بدراسة الأنسجة العضوية) لعلم التشريح؛ فواحدة تدرس الأشكال الخارجية للأعضاء، والأخرى الأنسجةَ والخلايا التي تتكون منها الأعضاء نفسها. ولا يمكن تصور وجود أي نوع من التعارض بين هاتين الدراستين؛ لأن الواحدة تكمل الأخرى.»19
إذن، فالتحليل النفسي «يعطي الطب النفسي الأساس النفسي الذي ينقصه؛ سعيًا وراء اكتشاف أرض مشتركة تجعل اللقاء بين الخلل البدني والخلل النفسي مفهومًا.»20 فهي في حد ذاتها ليست أكثر من فعل علاجي: «فالتحليل النفسي ليس بحثًا علميًّا محايدًا، وإنما فعلٌ علاجيٌّ، فهي في جوهرها لا تسعى لإثبات أي شيء وإنما إلى تعديله.»21
إلا أن هذه الطريقة العلاجية لها حدودها. فيكتب فرويد: «إن مجال عمل التحليل النفسي محدود بشكل المرض نفسه. ويوصف العلاج التحليلي في عصاب النقل والخوف المرضي والهستيريا والعصاب الوسواسي، وأيضًا في خلل الشخصية الذي يظهر أحيانًا بدلًا من هذه الإصابات. بينما في الحالات النرجسية والذهانية … إلخ، لا ينصح بتطبيق التحليل النفسي. ومن ثم يكون من المنطقي تمامًا تجنب فشل محقق باستبعاد تلك الحالات.»22 وإلى هذا التحفظ يضيف فرويد أنه «عادة لا يمكن أن نقوم بتشخيصاتنا إلا بعد التحليل.» ويسوق فرويد مثلًا، وهو ملك اسكتلندا الذي كان يمتلك طريقة لا تخطئ لمعرفة الساحرات. فكان يغرق المشتبه فيها في الماء المغلي، ويتذوقه بعد ذلك: «نعم، كانت بالفعل ساحرة!» أو «لا، لم تكن منهن!» ويقول فرويد: «إن الأمر كذلك في حالتنا، ولكننا نحن من يُحرَق. […] فنحن نشخص دون أن نرى […] وينتقم المريض، عندما يزيد من قائمتنا الطويلة للفشل، أو عندما يتخيل نفسه طبيبًا نفسيًّا أحيانًا — خاصة لو كان مصابًا بجنون العظمة — ويمضي يؤلف كتبًا في التحليل النفسي.»
وأشار بول بيرشيري23 أن هذا التحديد الصارم تم تجاوزه سريعًا، أو أن «الطب الإكلينيكي التحليلي تجاوز في الحقيقة الإطار النفسي، رافضًا التقسيم الحكيم للمهام والاختصاصات الذي يقترحه فرويد. «وفي فترة ما بين الحربين»، ظهر كيان يُسائل الطب النفسي.»24 وخلال هذه الفترة شاع استخدام «الطب النفسي التحليلي» كأداة للعلاج. كان هذا بمنزلة انتصار «للطب النفسي الديناميكي». كتب فرانز ألكسندر (١٨٩١–١٩٦٤) الطبيب النفسي ثم المحلل النفسي المهاجر منذ عام ١٩٣٠ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أسس في شيكاجو عام ١٩٣٢ معهدًا للتحليل النفسي، قائلًا: «وضع تقدم الطب النفسي الديناميكي نهاية لعزلة لطب النفسي. وبصفته طريقة علاجية، أصبح التحليل النفسي في طريقه للالتقاء بالطب، الذي يستخدمه كطريقة نفسية طبية.» ولكن في عام ١٩٣٩، لم يكن فرويد يريد أيًّا من هذا، واشتكى من «ميل الأمريكيين لتحويل التحليل النفسي إلى خادم للطب النفسي.»25
جرى الحشد على مستوى أوروبا، على الرغم من أن الأمر كان شاقًّا خاصة في فرنسا. «وعادة ما كان الجيل الثاني من الأطباء النفسيين الباريسيين يمرون بالمصحات النفسية.»26 ونذكر أشهرهم وهو جاك لاكان (١٩٠١–١٩٨١)، وكان تلميذًا لكليرامبو، وناقش رسالته عام ١٩٣٢ «عن الذهان المصحوب بجنون العظمة وعلاقته بالشخصية». وفي عام ١٩٣٤، جرى قبوله في هيئة الأطباء بالمصحات النفسية (ولكنه لم يتولَّ قط هذا المنصب) وفي جمعية التحليل النفسي بباريس. واشتهر هناك بعد عامين بفضل بيان ألقاه في مارينباد حول «مرحلة المرآة». وقبل الحرب العالمية الثانية، لم يكن لاكان يحظى بعدُ بالشهرة التي حظي بها فيما بعد، وإن كان بيشون الغضوب قد وجه له اللوم بسبب «غرابة ألفاظه التي لا تهدف — على ما يبدو — إلا إلى إثارة الدهشة.»

عند وفاة فرويد عام ١٩٣٩ بلندن، كان التحليل النفسي قد أصبح حركة عالمية، ربما كان ذلك لأن النازيين أجبروا رموز مدارس فيينا وبرلين وبودابست على الهجرة إلى لندن وباريس ونيويورك وشيكاجو … ولكن ظل التعايش بين التحليل النفسي والطب النفسي يحمل طابع الخصومة والمنافسة. «وبالتالي، تكوَّن طب إكلينيكي تتسم علاقته بالمعرفة الطبية النفسية بالنزاع أكثر من التقسيم الدبلوماسي الذي اقترحه فرويد للسلطات والاختصاصات في الخطوة الأولى أو علاقات التداخل والتنافس، والتي أصبحت تقوم على الخصومة والاستبدال التام والبسيط أكثر من التعاون والتحسين المتبادل» (بي بيرشيري). ويبقى لنا أن نرى كيف — بعد الحرب العالمية الثانية — «تمكن التحليل النفسي — الذي كان في البداية شيئًا جنونيًّا، ثم فقيرًا، ثم علمًا تابعًا يستقبله الناس بتردد، ثم حليفًا قيمًا قادرًا على تحريك الممارسات والطرق الجامدة […] — من أن يفرض ذاته كمنافس قوي، قبل أن ينتهي الأمر بالتشكيك وزعزعة أسس هذه المؤسسة ذات الحظوة حتى وقت قريب» (بي بيرشيري).

مصير مرضى الاعتلال العقلي خلال الحرب العالمية الثانية

يبدأ التأريخ للقرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية. وفيما يتعلق بتاريخ الطب النفسي، نتساءل بالفعل أليس من الأفضل اختيار الحرب العالمية الثانية كنقطة قياس لمصير مرضى الاعتلال العقلي خلال الحرب، باعتبارها ليست بداية لعصر جديد وإنما نهاية لعصر مضى؟ فلا يوجد اليوم جدل ضخم حول الجنون، ولا حتى بين المتخصصين. وكأنه أصبح أمرًا عاديًّا، قلَّت أهميته وسط المشهد الاجتماعي الهش، في الوقت الذي تراجعت معه أهمية الطب النفسي نفسه (وسنعود لهذا الأمر في نهاية هذه الدراسة). إلا أن النخبة المثقفة عادت من جديد لتبدي ولعًا بقضية ارتفاع نسبة الوفيات بين مرضى الاعتلال العقلي المحتجزين في فرنسا أثناء فترة الاحتلال الألماني. وتوالى فيضان من المؤلفات والمقالات والبرامج والندوات والمواقف، بل وظهرت عريضة تطالب فرنسا بإعلان أسفها، وكان الجميع يندد منذ عقدين بما عُرف ﺑ «الحل النهائي» لمرضى الاعتلال العقلي خلال أعوام الحرب. أما عن المؤرخين النادرين الذين حاولوا التطرق لهذه الأطروحة الخطيرة، فسرعان ما تم اتهامهم بأنهم عملاء لحكومة فيشي. ولكن يجب الانتباه للكلمات ومدى تضخمها؛ لئلا نقلل من شأن الأمر في الوقت ذاته. «في كثير من الأحيان تحل الكلمة محل الشيء نفسه، الذي يذهب هو أدراج الرياح» (جيد). وسنسعى إلى إماطة اللثام عن مثل هذا الموضوع. ولكن قبل التطرق إليه بكل سكينة، ينبغي أن نعرض أولًا كيف كانت إبادة مرضى الاعتلال العقلي في ألمانيا وقت الحكم النازي.

عند وصول هتلر إلى السلطة، كان علم تحسين النسل مقبولًا بدرجات مختلفة في شتى أنحاء العالم الغربي. وكان يهدف إلى تحسين وحماية «السلالة» (لفظ آخر كان مقبولًا للغاية في ذلك الوقت)، على نحو إيجابي عن طريق تحفيز إنجاب مَن هم أكثر كفاءة، ولكن أيضًا بطريقة «سلبية»؛ حيث «يعيق نمو غير الأكْفاء»، ومن بينهم كان هناك المتأخرون عقليًّا ومرضى الاعتلال العقلي. كانت الولايات المتحدة من رواد هذه الحركة، خاصة من خلال عمليات التعقيم الإجباري لهم. إلا أن الموانع الديمقراطية والتشريعية وأيضًا الرأي العام كان لها دور في الحد من هذه الممارسات. ولقد حظرت بريطانيا كل هذه الإجراءات. وكذلك فرنسا، على الرغم من وجود تيار مؤيد لتحسين النسل يتزعمه ألكسيس كاريل — الحائز على جائزة نوبل في الطب عام ١٩١٢ — الذي كان يدعو إلى منح «سلطة للأطباء» بموجبها يكون للكائنات «الموهوبة وراثيًّا وبيولوجيًّا ضرورةٌ للاندماج مع كائنات لها الخواص العليا نفسها.» كان هذا هو الحلم المجنون والمؤسف، بلوغًا إلى نتائجه مع برنامج «ليبينزبورن» داخل المنطقة الوقائية. وإلى جانب هذا التحسين «الإيجابي»، يوجد التحسين «السلبي». عام ١٩٣٥، نشر كاريل «الإنسان، هذا المجهول»، والذي باع أكثر من عشرين ألف نسخة حتى عام ١٩٣٩. «لا تزال قائمة تلك المشكلة الخاصة بالجموع الهائلة من العاجزين والمجرمين. ولقد أصبحت تكاليف السجون ومصحات الأمراض العقلية — لحماية العامة من اللصوص والمجانين — باهظة كما نعلم. ولقد بذلت الدول المتحضرة مجهودًا ساذجًا في سبيل الحفاظ على كائنات غير مفيدة وضارة، فغير الطبيعيين يعيقون تطور الطبيعيين. فلماذا لا يتعامل المجتمع مع المجرمين والمجانين بطريقة أكثر اقتصادية؟ […] فمؤسسة للموت الرحيم مزودة بأنواع الغازات الملائمة التي تتيح التعامل معهم بطريقة اقتصادية وإنسانية. أوَليس من الممكن تطبيق الطريقة نفسها مع المجانين الذين ارتكبوا أفعالًا إجرامية؟ […] وأمام هذه الضرورة، يجب أن تختفي جميع الأنظمة الفلسفية والأحكام المسبقة العاطفية.»

وبسبب هاجس «اختفاء السلالة» (فولكستود)، شرعت ألمانيا النازية في تطبيق سياسة طبية بيولوجية تبدأ بعمليات تعقيم مكثفة بقرار من «محاكم صحية» حقيقية. ولقد أُجبر على الخضوع لقراراتها حوالي مائتي ألف شخص من ضعاف العقل ومائة وخمسين ألف مريض عقليًّا أو مريض بالصرع محتجزين داخل المصحات، بالإضافة إلى المعاقين بدنيًّا، بل وأيضًا الصم وفاقدي البصر لأسباب وراثية. ولقد ساهمت حركة النازية الطبية — التي تجمع بين الحماس لنظريات تحسين النسل والإرهاب الموجه لمن يريد الإبقاء على منصبه — في الوصول إلى مدًى بعيد من هذه السياسات بلوغًا إلى «الموت الرحيم»؛ أي إلى القتل الطبي المباشر.27 لم تكن الفكرة جديدة، ولا سيما أنها تستند إلى كتاب بتاريخ ١٩٢٠ «الحق في القضاء على الحياة التي لا تستحق أن تُحيا.» وكان مؤلِّفَا الكتاب جامعيَّين بارزين؛ أحدهما قانوني والآخر طبيب نفسي.

في عام ١٩٣٧، أثناء اجتماع الحزب، أعلن هتلر: «إن أعظم ثورة حدثت في ألمانيا هي تفعيل المبادرات المنظمة التي تستهدف تحسين النسل وصحة الشعب، بل وحتى تكوين الإنسان الجديد.» إلا أنه لم يتحدث قط علانية عن إبادة المتأخرين عقليًّا أو مرضى الاعتلال العقلي. ولم يكن الرأي العام ولا الأطباء والكنائس مستعدين لهذا الأمر، على الرغم من أن عمليات التعقيم كان مصرحًا بها. ولكن، ابتداء من عام ١٩٣٣، تقلصت القروض الموجهة إلى المصحات النفسية جذريًّا، وسرعان ما أصبحت في وضع حرج. كان هذا يهدف لتشجيع الأطباء والممرضين على عدم رعاية مرضاهم. وشهد الشعب إذاعة «أفلام تسجيلية» تُظهر مرضى معتلين عقليًّا من ذوي الحالات الصعبة. وكان الإعلام النازي يريد أن يبين عدم جدوى بقائهم على قيد الحياة، منددًا بكونهم يحيون في «قصور» مقارنة بالمنازل المتواضعة للعمال الذين يكدون ويعملون. في الوقت ذاته، كان أساتذة تحسين النسل (في كل جامعة كان هناك كرسي أستاذية في هذا العلم) ينشرون هذه النظريات القاتلة. ويشير الأستاذ إتش دبليو كرانتز إلى ضرورة التخلص من ما يقرب من مليون «كائن أدنى».

كان هتلر في انتظار الحرب؛ حربه. فلم يكن الأمر يقتصر فقط على انتظار شيء يلفت انتباه الرأي العام، ولا حتى ظروف استثنائية تتماشى مع هذه الإجراءات الاستثنائية. ففي المنطق النازي الطبي، يجب تعويض الانتخاب السلبي للسلالة (الجنود الذين يلقون حتفهم على الجبهة) بحركة تحسين جذري للنسل (القضاء على كل من لا يستحقون الحياة). وخلال عام ١٩٣٩، بعد أن اعتُمدت خطط الحرب، دُعيت مجموعة صغيرة من الأطباء النازيين إلى اجتماع أُقرَّت خلاله برامج الموت الرحيم لمرضى الاعتلال العقلي. ولقد سهل من انطلاق البرنامج الطلبات التي كانت تقدمها العائلات التي لديها أطفال يعانون من إعاقات شديدة. ولقد تابع هتلر شخصيًّا أول عملية موت رحيم لطفل صغير كفيف ومشوه ومصاب بالبله التام. وكان يجب أن يُصنف الأطفال الذين سيلاقون ذات المصير من المشوهين أو ضعاف العقول منذ ولادتهم. ويتم «العلاج» بواسطة الحقن بالباربيتورات أو المورفين. وفي شهادتها أمام محكمة نورمبرج، قالت ممرضة: «كان الجميع يتحدثون عن الأمر، حتى الأطفال. كانوا جميعًا يخافون من الذهاب إلى المستشفى؛ خوفًا من ألا يعودوا من هناك.»28
وفي خريف عام ١٩٣٩، قرر المكتب الثاني لمستشار الرايخ أن تمتد عمليات الموت الرحيم إلى البالغين، تحت اسم «البرنامج تي٤». كان على المصحات العقلية الألمانية والنمساوية أن تسجل كافة المرضى المصابين بالفصام والصرع والخبل والخرف والشلل العام، أو أي مرض بسبب الزهري أو البله، أو أي إصابة عصبية ميئوس من علاجها. وإلى هذه القائمة، يُضاف أي مريض عقليًّا محتجز منذ ما يزيد عن خمسة أعوام، وبالأحرى أي مريض عقليًّا محتجز على إثر ارتكابه جريمة أو جنحة. جرى إعداد ستة مراكز للإعدام، مزودة بغرف غاز تبدو كحمام عادي وبأفران للحرق. وكان يُختار طاقم العمل بناءً على مدى الثقة فيهم سياسيًّا وليس مدى كفاءتهم الطبية. لم يتم ذلك بموجب قانون، فقد كانت عمليات نقل و«علاج» المرضى تتم خفية. وتكون مهمة الأطباء في «مراكز الرعاية» اختراع سبب طبيعي «للعلاج» يسجَّل في شهادة الوفاة. وبلغت المهزلة حدَّ إرسال صندوق المتوفى إلى الأسر، وإخفاء المقابر الجماعية في صورة مدافن فردية. أما عملية القتل الطبي، فلم يكن من الممكن القيام بها إلا في إطار طبي وتحت إشراف طبيب. فيذكر مدير مكتب المستشار: «يجب أن يمسك الطبيب بالحقنة.» ويشهد أحد أطباء البرنامج: «تخيلت أنه سيكون هناك إجراء فردي […] أي واحدًا واحدًا. ولكن لا […] كان عملًا بالجملة […] أعتقد أنه من الناحية الإنسانية هناك فرق بين الاهتمام بشكل فردي بالشخص الذي سيخضع لمثل هذا الإجراء وبين […] القيام به بصورة جماعية.»29 ولقد ظل الأطباء (بعيدًا عن هؤلاء التابعين للوحدة الوقائية) المتورطون في هذا العمل المميت — ضد أخلاقهم — متأثرين بالأساتذة العلماء (والأطباء) الذين شرَّعوا «علميًّا» الموت الرحيم «للفاسدين». بالإضافة إلى حالة الرعب والإرهاب التي كانت تمارَس ضدهم، كان التهديد الحقيقي بالموت، أو على الأقل النقل إلى معسكر اعتقال، يخيم دائمًا على الأطباء والممرضين العاملين — أحيانًا دون تفكير — في برامج الموت الرحيم.
ولكن ظهرت بعض المقاومة لبرنامج (تي٤) من قبل بعض الأطباء النفسيين والممرضات في المؤسسات العلاجية التي تديرها الراهبات — كجزء من الشعب — بعد أن أبلغتها السلطات الكنسية وعائلات «المرضى الذين خضعوا للبرنامج». كان هذا الرفض الشعبي هو الذي قاد هتلر إلى التخلي رسميًّا عن البرنامج في أغسطس ١٩٤١. كان مركز هادامار للموت الرحيم — المصحة النفسية سابقًا — قد احتفل للتو — في احتفال صاخب مليء بالخمور (كانت الكحوليات تقدم بوفرة للعاملين في مراكز الموت الرحيم) — بالمريض رقم عشرة آلاف المقتول بالغاز، وقد عُرضت جثته عارية ومزينة بالورود أمام فرن الحرق.30 دُمِّرت غرف الغاز أو جرى تفكيكها لإرسالها للمناطق الشرقية. وليس من قبيل المصادفة أن يُطَبق برنامج جديد للموت الرحيم يدعى (١٤إف١٣) ابتداء من ربيع عام ١٩٤١ على المعتقلين غير القادرين على العمل في المعسكرات، تمهيدًا «للتصفية النهائية لليهود» (مؤتمر وانسي، العشرين من يناير ١٩٤٢). وبالفعل، جرى إعدام سبعين ألف مريض عقليًّا. ولم يمنع هذا الأمر البرنامج من الاستمرار عن طريق ما أسماه النازيون أنفسهم ﺑ «الموت الرحيم الوحشي»، تاركين المبادرة للقائمين على تنفيذه. وبدلًا من الخنق بالغاز، كان يُحرَم المرضى من أي عناية أو تدفئة وبشكل خاص من الغذاء. ويعد الحرمان من الطعام — إذا جرى تنظيمه على نحو علمي — قاتلًا في غضون ثلاثة أشهر. كان يسمى «النظام الغذائي ب». وحتى نهاية الحرب، مات أكثر من ثلاثين ألف مريض عقليًّا، إلى جانب هؤلاء الذين تتم «تصفيتهم» أولًا بأول مع زحف ألمانيا ناحية الشرق.
كانت حالة فرنسا تحت الاحتلال الألماني مختلفة تمامًا. في هذه المرحلة من الحرب، لم يكن مصير مرضى الاعتلال العقلي في فرنسا يهم النازيين. وعندما نُقِل مائة مريض عقليًّا من مصحات منطقة ألزاس العقلية إلى مركز إبادة هادامار في نهاية عام ١٩٤٣31 (مما يدل على استمرار برنامج تي٤)، كان هذا لأن منطقة ألزاس كانت خاضعة لحكم الرايخ الألماني. أما حكومة فيشي، فلم تكن تعنيها على الإطلاق مسألة مرضى الاعتلال العقلي مثل الحكومات السابقة، فلم تهتم حتى بوضع جنحة للعدوى بالزهري، وهي القضية التي شغلت الطب الفرنسي كله في فترة ما بين الحربين، الذي طالب بإصرار بتطبيق إجراءات عنيفة ضد «وباء الزهري». وكان القانون الوحيد ذو الصلة بتحسين النسل الذي أصدرته حكومة فيشي (ظل ساريًا حتى نهاية عام ٢٠٠٧) هو الفحص الإجباري قبل الزواج، وإن لم يكن في سلطة الطبيب بأي حال أن يعترض على الزواج.
ويبقى أنه — أثناء الاحتلال — على الرغم من انخفاض نسبة الاحتجاز (ربما بسبب انخفاض معدلات إدمان الخمور)، شهدت معدلات الوفيات قفزة ضخمة مقارنة بنسبة الوفيات المرتفعة بشكل عام. فبلغت نسبة الوفيات في إقليم السين — ١٫٢٧٪ عام ١٩٣٧ — حوالي ١٫٦٨٪ عام ١٩٤١. وكان الأكثر ضعفًا هم المتأثرين بها: الأطفال والمسنين. فازدادت نسبة الوفيات بينهم إلى ٢٥٪.32 ولوحظ هذا الارتفاع في معدلات الوفيات أيضًا في المناطق المحتلة في فرنسا، بل وأيضًا في بلجيكا ويوغوسلافيا واليونان.33 والأسباب معروفة بالطبع، فلا داعيَ لتكرارها. فبسبب الاستقطاعات الموجهة إلى ألمانيا، كانت فرنسا تعاني من الجوع والبرد، بصورة لا يمكن للأجيال التي لم تعِش هذه الفترات القاتمة تخيلها. فأي مواطن فرنسي يكتفي بالحصة المخصصة له كان محكومًا عليه بالموت، بالمعنى الحرفي للكلمة. كانت المأساة من نصيب من لا يفكر في الخطة البديلة، الاستعانة بالسوق السوداء — أو السوق الرمادية (سوق سوداء ولكن مسموح بها إذا كانت تساهم مباشرة في إبقاء أسرة على قيد الحياة) — أو من لا يتلقى طرودًا من الأقاليم المسماة «عائلية» (بلغ عددها ١٣٥٠٠٠٠ عام ١٩٤٢)، أو من لا يمتلك دراجة (حوالي مليونين في باريس عام ١٩٤٣ في مقابل ثلاثة ملايين مواطن، وكانت تتم سرقة سبعة آلاف كل شهر). وبالطبع، كان المرضى في المصحات والملاجئ جزءًا من هؤلاء التعساء.34 كانت النحافة الزائدة — التي انتشرت بالفعل بين الشعب (انخفضت الأوزان بنسبة من ١٠٪ إلى ٣٠٪) — قد اجتاحت هذه الأماكن، مشجعة على انتشار القاتل الأشرس لهذا العصر؛ مرض الدرن، لدرجة أنه في بعض الأحيان كنا نجد مصطلح «درن المجاعة».35
لم تنجُ المصحات النفسية من هذا المصير، وكان الأطباء النفسيون أول من ثاروا ضد هذا الأمر. منذ الثامن والعشرين من أبريل ١٩٤١، ألقى الطبيب فرانتز آدم بيانًا أمام الجمعية الطبية النفسية: «أعتذر أيها السادة عن النزول عن مستوى مناقشاتكم العلمية والمثيرة لكي أتطرق إلى مسائل — قد تبدو في الأوقات العادية ثانوية — تتعلق بحالات ملازمة الفراش والنظام الغذائي للمرضى لدينا. ولكننا نحيا الآن في عصر صعب بل وقاسٍ، يتم فيه التضحية بالضعفاء […] وتثير البيانات القادمة من مختلف الجهات قلقَ، بل وأقول تقزز، الزملاءِ الذين يرون كل يوم انخفاض حالةِ — بل وكميات — الغذاء المخصصة لمرضاهم؛ مما يزيد من نسبة الوفيات لديهم.» وتضاعفت صيحات التحذير هذه طوال عام ١٩٤١. كان الأمر يشبه الحالة خلال فترة نهاية الحرب العالمية الأولى في معسكرات المساجين والمشافي العامة والنفسية. ولوحظت الظاهرة نفسها في ألمانيا.36 وفي بيان آخر بتاريخ الرابع والعشرين من نوفمبر ١٩٤١ بالجمعية الطبية النفسية (بيسيير وبريمون وتالايراش)، جاء ذكر نقص الغذاء المزمن القاتل. وازداد الأمر بالأكثر لدى الرجال، ولدى ذوي الأمراض المزمنة المحتجزين منذ فترة طويلة ولدى المسنين، بل وأيضًا لدى «المحرومين من الطرود»، كل هذا في ظل الحرمان من التدفئة. كانت بوادر الأمر عبارة عن انخفاض كبير تدريجي في الوزن (من عشرة إلى خمسة وعشرين كيلوجرامًا). وتتسم متلازمة الأعراض بارتفاع شديد في الحرارة وبأوديما قلبية وبإسهال يتطور إلى الموت. وعلى المستوى النظري، يكون من المستحيل إعادة تغذية المريض بعد بلوغه مرحلة معينة لا رجعة فيها.
وفي عام ١٩٤١، سجل الطبيب سيزاريت — كبير الأطباء بمشفى روش جاندون (مايين) — أيضًا وجود ١٠٪ من حالات الوفاة لدى النساء و٢٠٪ لدى الرجال، في حين أنها كانت تدور قبلًا حول حاجز اﻟ ٦٪. «وأسباب هذه الزيادة ليست كثيرة ولا غامضة. فلم يكن هناك أي وباء؛ بل كان السبب الوحيد لتلك الزيادة هو نقص التغذية […] ومثل تلك المشكلة لا يمكن حلها، خاصة إذا كانت تتعلق بجميع المشافي التي لا تستطيع أن تحصل على أكثر من الحصص الرسمية المقننة لكل فرد؛ ولذلك، حُكم على مرضانا بالموت جوعًا.» وفي عام ١٩٤١ أيضًا، عبر الطبيب كالميت — مدير مشفى إقليم فيينا العليا — عن أسفه لتضاعُف نسبة الوفيات، على الرغم من الجهود المبذولة لزيادة عائدات المزرعة والحقول الملحقة بالمشفى. والأمثلة كثيرة؛37 ففي مؤتمر أطباء الأمراض العقلية الذي عُقد بمونبلييه في أكتوبر ١٩٤٢، ندد كل من الطبيب كارون ودوميزون وليكولييه «بالتضحية المفزعة بالمرضى التي تتم منذ يونيو ١٩٤٠.»

وفي كل مرة، تتلقى إدارة المحافظة تحذيرًا، ولكن — بغض النظر عن الركود الهائل في الخدمات العامة — كانت الإدارة تخضع تحت ثقل طلبات الإمدادات الإضافية بالغذاء التي تقدمها لكافة فئات الشعب. وبالطبع، لم تكن المصحات النفسية من الأولويات. يمكننا أن نرى في ذلك بالطبع عمليات «تحسين النسل» ولكن بسبب العوز، ولكن إذا اعتبرنا أن الإدارة التي تدير هذا النقص تسير وفقًا للأولويات، فإننا بهذا ننظر للمشكلة بالعكس: الرضَّع على سبيل المثال، أو أطفال المدارس (توزيع اللبن والرقائق داخل الفصول من قبل الإنقاذ الوطني).

في دراسة حديثة عن ارتفاع نسبة الوفيات بين المحتجزين على المستوى الوطني، اقترحت إيزابيل فون بيلتزينجسلوين38 إجراء عملية حسابية بسيطة. باستقراء نسبة الوفيات «الطبيعية» للفترة من ١٩٣٥ وحتى ١٩٣٩ واستكمالها بالنسبة نفسها ولكن لفترة الاحتلال الألماني، كان من المفترض أن تكون النتيجة ٣٤١٤٣ حالة وفاة، وليس ٧٨٢٨٧ حالة جرى تسجيلها؛ أي إن النسبة المرتفعة في الوفيات هي نتيجة الطرح؛ أي ما يساوي ٤٤١٤٤ حالة. بيد أن هذا الإجمالي كان يجب أن يوضع في منظور الحركة السنوية للوفيات بالتناسب مع نسبة الموجودين والذين يتم استقبالهم للاحتجاز. فها هي الإحصائية السنوية لمؤسسات الرعاية، والتي تمثل تطور نسبة الوفيات بسبب الإصابة بخلل في جميع وظائف الجسم (ولكن ينقص هذه الإحصائية الكثير من الأقاليم؛ لذلك لن نذكر إلا النسب المئوية):
١٩٣٨ ١٩٣٩ ١٩٤٠ ١٩٤١ ١٩٤٢ ١٩٤٣ ١٩٤٤ ١٩٤٥ ١٩٤٦
٦٫٣٪ ٦٫٦٪ ٩٫٩٪ ١٧٫٦٪ ١٧٫٨٪ ١١٫٧٪ ٩٫٤٪ ٧٫٦٪ ٦٫٥٪
وباختلاف بعض المتغيرات، نجد المنحنى نفسه في كل مصحة للأمراض العقلية. ومرورًا، كان لا بد من ملاحظة أن خلل جميع وظائف الجسم ليس ظاهرة جديدة في المصحات العقلية، كما سبق أن رأينا، وهو الأمر الذي فعله بعض الأطباء في ذلك الوقت. ويعلق بيير شيرير:39 «بل هو مشكلة طالما وجدت داخل المصحات النفسية كنتيجة للمرض العقلي»؛ ولذلك وجد خلل وظائف الجسم تربة خصبة للانتشار بسبب سوء التغذية. ولقد استطاع بعض المديرين التصرف بصورة أفضل من الباقين (أو على الأقل خصصوا مزيدًا من الوقت). إلا أن الخطة البديلة كانت صعبة للغاية، بل مستحيلة على مستوى عدة مئات من المرضى. فقد كانت تفترض في جميع الأحوال مبادرات جريئة، بعيدًا عن الأساليب الإدارية. كانت تلك هي حالة مصحة روديز الصغير؛ حيث نظم كبير الأطباء والمدير هناك — الطبيب جاستون فيرديير — سوقًا سوداء حقيقية للبطاطس مقابل التبغ الذي كان يمنعه عن بعض فئات المرضى.40
وإلى حصص التغذية غير الكافية بصورة مأساوية، يزيد — أو ينقص — نوع من التبديد العام. ورغم أنها ليست بالظاهرة الجديدة، فإنها تضاعفت في سياق من النقص والاحتياج العام. من ناحية، كانت هناك الاقتطاعات المصرح بها: الوجبات التي تقدم إلى العاملين وأسرهم (٢٠٠ وجبة بمصحة لواز للأمراض العقلية)، وأيضًا بيع أو توزيع المحاصيل والفحم على العاملين. في كليرمون بمقاطعة إلواز، اتسعت هذه الاقتطاعات إلى حد كبير حتى أطلق على المؤسسة اسم «سامار»41 (إقليم بالفلبين). بالطبع لم تكن مصحة كليرمون استثناءً. ومن ناحية أخرى، كان هناك الكثير من الالتفاف: محاصيل مزيفة في المزارع والأراضي الزراعية بالمصحات العقلية، استقطاعات على اللحوم تخصص للمطابخ (أفضل القطع)؛ حيث انخرط بعض الطباخين في العمل بالفعل في السوق السوداء. ويطالب منشور وزاري بتاريخ الثالث من مارس ١٩٤٢ المفتشين المحليين للصحة بالتأكد من أن «المنتجات التي تسلم إلى هذه المؤسسات تكون محفوظة ومخصصة للمرضى.» ومن ثم كان على مديري المصحات القيام «بحملات تفتيشية مفاجئة وقت الوجبات للتأكد من أنها توزع على المرضى.»42 ويروي جاستون فيرديير في مذكراته عن وصوله إلى مصحة روديز في يوليو ١٩٤١: «جمعت كل العاملين، وقلت إنه ليس من المقبول أن نحيا على الغذاء الموجود في المصحة.»43 وجرى فصل الكثيرين، على الرغم من ضرورة التكتم. في مايو ١٩٤٢، يذكِّر محافظ فوكلوز مدير المصحة النفسية بمنطقة مونديفيرج ليروز — عقب فصل ممرض وثلاثة من العاملين — أنه «يجب عدم محاكمة أي شخص إلا في حالات السرقة المادية أو الأشياء المنقولة، أما اختلاس المحاصيل أو المنتجات الغذائية، فيجب على العكس أن يحظى بأكبر قدر من الكتمان؛ نظرًا للأوضاع الراهنة.»44
أما العائلات — ولا سيما أنها تعاني ذاتها من الحرمان — فلم تعد تهتم بمرضاها، الذين كانوا يتنقلون عادة من مصحة إلى أخرى. وإذا حدث أن تذكرَتهم، فنادرًا ما تبعث أحد الطرود. كانت تلك هي حالة بول كلوديل، أثناء الزيارة الوحيدة التي قام بها لشقيقته كاميل المحتجزة حينها بمصحة مونديفيرج. كان ذلك في سبتمبر ١٩٤٣ في ذروة الفقر المدقع. كانت كاميل — على الرغم من أنها من النزلاء الذين يدفعون مقابل إقامتهم — تموت جوعًا مثل الباقين. ولم يستطع أخوها تجاهلها، بعد أن قامت قريبةٌ لهما قبلًا بزيارة هذه البائسة المحتجزة منذ سبعة وعشرين عامًا، فعادت وكتبت له بأنها تقريبًا تُحتضَر، مضيفة: «أنها تعاني من تورمات بسبب نقص الغذاء […] وأن طبيبتها تقول إنه يجب أن يرسَل لها طرد صغير (عن طريق البريد بالطبع) كل خمسة عشر يومًا يحتوي فقط على الزبد والبيض والسكر والمربى والكعك المصنوع منزليًّا مثلًا بجودة عالية ومكونات سليمة. إنه أمر صعب، ولكننا نستطيع أحيانًا أن نمارس ضغوطًا لصالح المرضى المساكين. على الأقل ربع كيلوجرام من الزبد كل أسبوعين، سيكون هذا كافيًا لها.»45 عند وصوله، كان أول شيء يقوله له مدير المصحة إن المرضى يموتون فعليًّا من الجوع. وما كان من الشاعر المسيحي الشهير — الذي حضر بيدين فارغتين — إلا أن يصرخ بحماس وهو يقبل جبهة شقيقته: «فلتستريحي أيتها الرائعة العبقرية!» وماتت كاميل كلوديل بعد شهر. ولم يحضر بول كلوديل أو أي فرد من أسرتها مراسم دفنها في المقبرة الجماعية. كانت هناك عائلات أخرى — كالعادة — لا تظهر إلا بعد الجنازة، كأنها اكتشفت مؤخرًا وجود مريضها. كانت الأوقات صعبة على الجميع.
ماذا عن سلطات الدول وسط كل هذا؟ بالمقارنة مع بطئها المعتاد، تحركت الدولة بسرعة نسبية بنشرها لمنشور في فبراير ١٩٤١ يوصي المحافظين بمراقبة قوائم الطعام على نموذج عام ١٩٣٨. ولقد أبدى العاملون في المجال استياءً شديدًا لهذا النقص في الواقعية. ويجيب مدير مصحة الطب النفسي بمنطقة أوش بسخرية لاذعة: «ملاحظة الوصفات المنظمة فيما يتعلق بالتغذية هي بلا شك أكثر ما يرغب فيه كل من يتولى مسئولية علاج وإطعام مرضى الاعتلال العقلي. يا له من تشجيع ودعم قوي يتيح لنا بقوة مواجهة الصعاب المختلفة التي تتوالى كل يوم لتأمين الغذاء لمرضانا! في الواقع، يصعب اليوم الاقتراب — على الأقل من الناحية الكمية — من قوائم الطعام النموذجية لعام ١٩٣٨ التي تبدو لنا شاهدًا على حياة البذخ البعيدة السابقة!»46
في جميع الأحوال، لم يكن لمرضى الاعتلال العقلي الأولوية في مخالفات التقنين الصارم — الذي هو أقل من المعدل اللازم للبقاء. كان التقنين الأساسي يتضمن ثماني فئات، تبدأ من الأطفال من ثلاثة إلى ستة أعوام، وتتدرج حتى المسنين فوق السبعين عامًا. ولهؤلاء، كانت البطاقة V لا تعطيهم أكثر من مائتي جرام من الخبز في اليوم (كان الخبز طعامًا أساسيًّا)، بدلًا من ثلاثمائة وخمسين جرامًا للبطاقة A (من واحد وعشرين عامًا حتى سبعين)، والتي انخفضت إلى مائتين وخمسة وسبعين جرامًا اعتبارًا من التاسع والعشرين من مارس ١٩٤١. كان مرضى الاعتلال العقلي الذين لهم الحق في كمية أخرى هم أساسًا مِن الذين يعملون ويمكنهم التقدم بطلب الحصول على البطاقة T والمسماة ﺑ «بطاقة العاملين بالإكراه» (حوالي أربعمائة وخمسين جرامًا من الخبز يوميًّا). ولكن كانت الإدارة تعطيهم هذه البطاقات بنوع من التردد، ليس لأنها تعتبرهم مجانين؛ وإنما لأنها لا تعتبرهم عاملين بالإكراه.
تحت ضغط من الأطباء والرأي العام، قررت الحكومة أن تتحرك أخيرًا بطريقة غير التوصيات. ولقد تقرر، بموجب النشرة الصادرة بتاريخ الرابع من ديسمبر ١٩٤٢ عن وزارة الأسرة والصحة، منحُ حصص إضافية للمصحات النفسية: من مائتين وعشرين إلى مائتين وخمسة وعشرين سعرًا حراريًّا يوميًّا، وحوالي أربعمائة سعر لربع المحتجزين.47 وكعادة هذا الوقت، كانت تلك الهبة هامة للغاية، على الرغم من أنها قد تبدو اليوم تافهة (فلا نزال تحت الألفين والأربعمائة سعر اللازمة في المتوسط يوميًّا للفرد). إلا أن هذه الإضافات الضعيفة — بالإضافة إلى يقظة أكبر ومحاولات محلية لإعادة التنظيم — قد بدأت تؤتي ثمارها التي تزامنت مع تقليل عدد العاملين؛ مما تسبب في تراجع نسبة الوفيات ابتداء من عام ١٩٤٣.
لم يكن هناك إذن — لا من ناحية الأطباء، ولا من ناحية السلطات — أيُّ محاولات ولو خفية «لإبادة» مرضى الاعتلال العقلي بفرنسا. فلا يزال يوجد فرق طفيف بين «أن نترك شخصًا يموت جوعًا» وأن «نميت شخصًا من الجوع». كان أبشع ما في هذه المأساة أن من تحمَّلها كانوا الأكثر فقرًا والأكثر براءةً. وعلى الرغم من كل شيء، طرحت القضية المسئولية. كان هناك نوع من اللامبالاة وانعدام المشاعر والأنانية ضاعفت منها حالة الحرب والاحتلال … ولكن، يجب أن نضع في الاعتبار السياق الذي اتسم بانتشار فِكَر تحسين النسل التي سادت منذ فترة ما بين الحربين، حتى وإن لم يكن هناك في فرنسا عمليات لتحسين النسل السلبي، على الرغم من وجود بعض الفِكَر المتفرقة لألكسيس كاريل (والدليل أنه الوحيد الذي نذكره في هذا الأمر). كان مرضى الاعتلال العقلي يعانون — حتى من قبل الحرب — من الفِكَر المسبقة السيئة عنهم. في أبريل ١٩٣٧، في الوقت الذي كان يشغل فيه منصب عمدة ليون، تساءل إدوارد هريوت — الرئيس السابق للمجلس والمتحدث باسم اليسار والذي سيتم ترحيله مستقبلًا — بخصوص أحد مرضى الاعتلال العقلي الذي قضى عشرة أعوام في المصحة بفيناتييه، مكلفًا المنطقة مبلغ ثمانين ألف فرنك: «ألا توجد تحفظات على التقدم الذي يزيد بؤس حياته لأعوام طويلة بدلًا من أن يشفي المريض؟»48 ويصر هريوت، ويقول بعد بضعة أشهر — أثناء مراجعته لتكلفة إقامة مريض عقليًّا محتجز منذ عشرة أعوام: «إن التكلفة تفوق تكلفة تربية طفل في ظروف جيدة؛ ولذلك فمن حقنا القول بأنه من الأفضل ترك مريض عقليًّا يموت في سبيل إنقاذ طفل.» مثل هذا الحديث ولا سيما أنه صادر عن شخص منتخب، لم يعد مقبولًا اليوم. في ذلك الوقت، كانت هذه الأفكار تقوم على اتفاق عام. وتضيف إيزابيل فون بيلتزينجسلوين — التي ذكرت هذا التصريح — أن هذه الملاحظات الشديدة التطرف، لم تكن تؤدي إلا إلى اقتراحات وإجراءات معتدلة للغاية.
لقد قوبل المنشور الوزاري للرابع من ديسمبر ١٩٤٢ الذي يقضي بزيادة حصص الغذاء لمرضى الاعتلال العقلي؛ بسوء فهم، واستنكرته الخدمات المسئولة عن التموين. ويعلق أحد الأطباء وعضو لجنة التزويد بالغذاء قائلًا:49«أعرف الكثيرين من العمال العاقلين والذين يعانون أيضًا من سوء التغذية، والذين سيسعدون إذا ما تلقوا اهتمامًا كمرضى الاعتلال العقلي.» وفي «جريدة الطب بليون»، كتب كلٌّ من الطبيبين روكيه وروفيردي عام ١٩٤٣: «لم يكن من الممكن ألا يؤثر العصر الغريب الذي نحياه جذريًّا على تطور المرض العقلي في فرنسا، ولكنه فَعَلَه بطريقة غير متوقعة على الإطلاق، في صورة تحسين كبير وتدريجي للصحة العامة.» بالنسبة إلى المؤلفَين، هذا التحسن يرجع إلى انخفاض عدد المقيمين بمصحة الأمراض العقلية. هذا الانخفاض قد يرجع إلى قلة عدد الداخلين، أو سرعة خروج المرضى في أوقات السلم، وبشكل خاص إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين مرضى الاعتلال العقلي. ويرى الطبيبان في هذا الارتفاع في نسبة الوفيات — الذي يربطانه مباشرة بالقيود المفروضة عليهما — «صورة من صور تحسين الصحة العامة عن طريق انتخاب طبيعي حقيقي […] فالعصر الحالي، بقسوته البدائية وصرامته التي لا تَرحم، يبدو وكأنه في حالة تطهير للصحة النفسية.»50 أكان لمثل هؤلاء الأطباء دور في تشجيع نقص التغذية بين المرضى المسئولين منهم؟ على الأرجح لا. في لعبة الاستشهادات الجزئية، بل والمنحازة، يجب ألا نغفل هنري إي — كبير الأطباء بمصحة بونيفال (يور إليوار) في الفترة من ١٩٣٣ وحتى ١٩٧٠ — والذي كان ممثلًا لمهنته، عندما كتب في فبراير ١٩٤١ بخصوص مرضاه: «إنهم مصابون بأحد أكبر آلام البشرية، ويتحولون إلى كائنات لا ترغب في العيش. ويجب علينا — وفقًا للمبدأ الأعظم لشرف مهنتنا — أن نحافظ على حياتهم، حتى وإن بدا الأمر عبثيًّا.» فبالنسبة إلى إدوارد إي وزملائه الفرنسيين، كان قَسَم أبقراط لا يزال ذا معنًى (أَمتنِعُ عن أي شر أو أي ظلم، ولن أدس السم لأحد حتى وإن طُلب مني …)

عندما انتهت الحرب، طويت تلك الصفحة. كان سبب قلق الأطباء النفسيين الفرنسيين إزاء قلة الأعداد داخل مصحاتهم هو معرفة ما إذا كانت السلطات العامة ستستغل هذا الأمر لتغير تخصص بعضهم. وبشكل طريف، تحول النظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الحرب، لاكتشاف حملةِ تنديد بالمصير المخصص لمرضى الاعتلال العقلي هناك. وفي العدد الصادر بتاريخ السادس من مايو ١٩٤٦ من مجلة «الحياة»، ظهر مقال، له عنوانٌ مُوحٍ: «بدلام ١٩٤٦»، ربما رجوعًا إلى الفيلم «بدلام» الذي كان يُعرض في الوقت نفسه في صالات العرض، ويظهر فيه بوريس كارلوف مجسدًا شخصية مدير مصحة بدلام القاسي في القرن الثامن عشر. وكتب ألبرت كيه مايزل — صاحب المقال «بدلام ١٩٤٦» — في مقدمته: «تعد معظم مصحات الأمراض العقلية بالولايات المتحدة رمزًا للخزي والعار.» وجاءت التقارير والصور المؤلمة الملحقة بالمقال لتصدم أمريكا، التي لم تكد تفيق من هول صدمة اكتشاف معسكرات الاعتقال. وأجري تحقيق في اثنين من المشافي العامة: بابيري ببنسلفانيا، وكليفلاند بأوهايو. ورأينا هناك مرضى الاعتلال العقلي في أشد حالات الإهمال والعوز الكامل.

في الأعوام التالية، استأنف المراسل ألبرت دويتش التحقيق حول مصحات نفسية أخرى، ووصف الوضع ذاته في سلسلة من المقالات، ثم جمعها في كتاب ظهر في عام ١٩٤٨ «عار الولايات المتحدة، المرض العقلي والسياسة الاجتماعية: التجربة الأمريكية». في مصحة ولاية فيلادلفيا، التي تضم ما يقرب من ستة آلاف وخمسمائة مريض، انخفض عدد الأطباء من خمسة وستين إلى ثمانية عشر، وعدد الحراس من واحد لكل خمسة وعشرين مريضًا إلى واحد لكل خمسمائة. وبشكل كبير، فإن «رعاية» مرضى الاعتلال العقلي الموجودين بستٍّ وخمسين مصحة نفسية قد عُهِد بها جزئيًّا إلى المستنكفين ضميريًّا البالغ عددهم ٣٠٠٠ (معظمهم من طائفة الأصدقاء أو الميتدوديست أو المنونيت من الطوائف البروتستانتية). ويعكس هذا الأمر توجهًا نموذجيًّا يميل إلى تحسين النسل: «أشخاص عديمو الفائدة يحرسهم آخرون عديمو الفائدة»؛ لأن الممرضين والأطباء الحقيقيين جرت تعبئتهم بشكل «جيد». أما باقي الحراس، فيكونون عادة من معدومي المؤهلات، وأيضًا عديمي الأخلاق (على عكس المستنكفين الذين أدلوا بشهاداتهم عقب الحرب).51 كان مرضى الاعتلال العقلي يجبرون بانتظام على أعمال سخرة، ويبقون مقيدين بالأصفاد وسترات المجانين لمدة أيام كاملة، كما كانوا يتعرضون للضرب أو الاغتصاب؛ وكانت النتيجة وفاة بعضهم. والدليل على مدى النظرة المحتقرة التي كانت توجه إليهم، أنه عندما لا يكون في استطاعة إدارة المصحة غض الطرف عن بعض هذه الممارسات، كانت توقع عقوبات لا تتعدى الفصل، ويكون من حق المجرمين أن يلتحقوا ببساطة بالعمل في مصحة أخرى ليمارسوا هناك مواهبهم في التعذيب.

وهكذا، كان مصير مرضى الاعتلال العقلي في الولايات المتحدة يتسم بشكل ملموس بمظاهر تحسين النسل السلبي؛ الذي لم تشهده فرنسا نفسها إبان حكم فيشي على الرغم من ارتفاع نسبة الوفيات هناك بشكل مخيف. وإذا لم يكن مرضى الاعتلال العقلي في أمريكا يموتون من الجوع بأعداد كبيرة؛ فذلك لأن بلادهم كانت تشهد نظامًا لتقنين الغذاء أقل وطأة بكثير من الذي كانت تشهده دول أوروبا.

ففي فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، كان يتم التطرق أحيانًا لمسألة ارتفاع نسبة الوفيات داخل المصحات النفسية تحت الاحتلال، فلم تعد سرًّا في عالم الطب. كانت تُطرح تارة دون جدل، كما حدث عام ١٩٦٦ مع الطبيب أيم،52 أو في عام ١٩٧٨ مع الطبيب سيفادون الذي عقد مقارنة (كمية وكيفية) مع فترة ١٩١٤–١٩١٨،53 وتارة أخرى تكون محملة بطابع الاتهام كما جاء في مجلة «عقل» عام ١٩٥٢: «كان يتم التزام الصمت بصورة رائعة؛ بحيث يمكن الاحتفاظ خلف الجدران وفي أعماق الحدائق بما يزيد عن أربعين ألف مريض عقليًّا على وشك الموت من الجوع والبرد والدرن تحت الاحتلال الألماني […] كان يجب أن يموت المجانين والمسنون أولًا، كان هذا هو النظام.»54 وفي العدد نفسه، كان هناك مقال آخر بقلم لويس لوجيان ولوسيان بونافيه، وقد تمادى أكثر من الآخر قائلًا: «كان هناك تكدس ضخم في المصحات النفسية قبل الحرب، وإزاء هذا الأمر أوجدت الشرطة الفاشية «المعاونة» حلًّا جذريًّا لمرضى الاعتلال العقلي بدعم من حكومة فيشي. فمات ما يقرب من أربعين ألف مريض عقليًّا من جراء الجوع والبرد خلال الحرب.»
ولقد أصبحت هذه الأحداث تحت الاحتلال «القضية المحورية» في كتاب ماكس لافون الذي ظهر عام ١٩٨٧ بالعنوان الصادم: «الإبادة الرقيقة: موت أربعين ألف مريض عقليًّا في المصحات النفسية بفرنسا تحت حكم فيشي».55 بالنسبة إلى المؤلف، كان الأمر يقوم على «قياس مدى نسيان الإنسان للإنسانية، وإلى أي مدًى قد تصل الحوارات والأفعال في مجتمع فَقَدَ الحس الأخلاقي وواجباته وحدوده.» ففرنسا — التي كانت تعيش في ذلك الوقت أجواء محاكمة كلاوس باربي — تحركت ولا سيما بعد أن أشارت الصحافة إلى: «جبن وعدم وعي الأطباء النفسيين […] الذين وجدوا في الأمر موضوعًا علميًّا رائعًا لدراسته»، على حد وصف الطبيبة إسكوفييه لامبيوت في العاشر من يونيو ١٩٨٧ في جريدة لوموند؛ حيث تتولى باستمرار مسئولية العمود الطبي. ومن جانبها، تشدد الجريدة الطبية «الممارس العام» في الرابع عشر من يوليو ١٩٨٧، طابع كشف ما هو سري للكتاب الذي «أظهر في صورة مؤكدة ما كان قبلًا مجرد إشاعات مكتومة في الأوساط المطلعة: إبادة آلاف المرضى.» ولقد وضع الطبيب النفسي الشهير لوسيان بونافيه (١٩١٢–٢٠٠٣) مقدمة هذا الكتاب. ويتحدث باعتباره «شاهدًا مباشرًا لعمليات الإبادة الأولى لمرضى الاعتلال العقلي.» كان حينها مديرًا للمصحة النفسية بسانت آلبان (لوزير العليا)، وكان مقاومًا ومناضلًا شيوعيًّا. وكان أيضًا — كما سنرى — من رواد «الطب النفسي الاجتماعي»، في العقود التي تلت الحرب. وعندما وجَّهت إدارة التحرير بجريدة «الممارس العام» ملحوظة أن لفظ «إبادة» قوي بعض الشيء، أجاب: «أعتقد أنه على العكس ملائم للغاية.» وبسؤاله: «لماذا هذا الصمت لمدة أربعين عامًا؟» أجاب: «لم يكن هناك صمت، كانت هناك رقابة.»
ثار غضب واحتجاج الأطباء النفسيين، إلا أن الاتهام البشع الذي تم توجيهه لم يتوقف عن التصاعد. فقد ظهرت روايتان هامتان لدعم أطروحة الإبادة الرقيقة: «قطار الموتى» لبيير ديوران56 عام ١٩٨٨، و«حق اللجوء» للطبيب النفسي باتريك لوموان57 عام ١٩٩٨. كان هذا ما يسميه دانييل كونرود برجاحة: «احتدام الذاكرة»58 الذي نتج عنه أيضًا عريضة على شبكة الإنترنت (بعنوان «لكي ينتهي الألم»)،59 والتي تنتهي بهذا الطلب: «نطالب بأن تعترف السلطات العليا الفرنسية بأن الدولة الفرنسية في ظل حكومة فيشي تركت بشرًا محتجزين داخل المصحات النفسية يموتون خلال الحرب العالمية الثانية. ونطالب بأن يتم معرفة وضع وتحليل المسئوليات المتعلقة بهذا الأمر — على مستوى الأيديولوجية والنظام السياسي المؤسسي. ونطالب بأن يتم تحديد هؤلاء المسئولين وجرائمهم وإدخالها في البرامج والكتب المدرسية.»
أول محاولة لنبش الماضي كانت مع أوليفييه بونيه عام ١٩٩٠ بمناسبة الندوة الثامنة للجمعية الدولية لتاريخ الطب النفسي والتحليل النفسي.60 وتوصلنا إلى أول الشواهد على أطروحة «الإبادة الرقيقة»، التي عانينا جرَّاءها من هجوم عنيف.61 لم يكن من المفترض التشكيك في حقائق أكيدة وثابتة بهذا الشكل. كان لا بد من الانتظار حتى عام ٢٠٠٧ لتوضع نقطة شبه نهائية في هذا الأمر مع كتاب «التضحية بالمجانين» لإيزابيل فون بيلتزينجسلوين.62 وبعد دراسة كاملة (خمسمائة واثنتي عشرة صفحة) لاقت استحسان النقاد جميعًا.63 أكدت المؤرخة عدم صحة الأطروحة القائلة بوجود مجاعة منظمة عن قصد من قبل حكومة فيشي لأهداف تتعلق بتحسين النسل. وفي ختام كتابها، ذكرت إيزابيل فون بيلتزينجسلوين بأن «واجب الذاكرة يكون عديم المعنى إذا لم يكن عملًا دقيقًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤