ترجمة فقيد العلم والتاريخ البحاثة الكبير المرحوم ميخائيل بك شاروبيم

مقدمة للمؤرخ

إن الخسارة العظمى التي لحقت بالأمة المصرية عامة، والقبط خاصة، بفقد هذا العالم الكبير، والمؤرخ الشهير، لن تتعوض، كيف لا وقد كان الفقيد من جهابذة المؤرخين المدققين، واسعي الخبرة والاطلاع، ومن علماء هذا العصر وحسب القارئ الكريم تلك المجلدات التاريخية الضخمة التي حوت من درر المعاني وسير الغابرين أي: من بدء أيام نوح عليه السلام دولة فدولة إلى انقراض ملك الروم بالفتح الإسلامي إلى ظهور محمد علي باشا الكبير جد العائلة المالكة الآن، ووصف حروبه وولاية ذريته من بعده إلخ ما جاء بتلك المجلدات التاريخية الثمينة أن يحكم حكمًا جازمًا أن هذا الفقيد العظيم، والراحل الكريم، ركن من أركان العلم والفضل ومؤرخ لا يجارى في الوصف، كما كان إداريًّا بكل معنى الكلمة في جميع وظائفه الحكومية التي شغلها في حياته العملية، واتصف بالنزاهة والجد والإقدام، ولو كان الله أفسح في حياته لرأينا فوق ما ظهر من آثاره العلمية الخالدة مؤلفات شتى وأبحاث هامة، ومصنفات تاريخية شيقة، رحمه الله رحمة واسعة وأثابه خيرًا بعدد فضله وغزارة علمه ومجهوداته القيمة لخدمة التاريخ.
figure
المرحوم ميخائيل بك شاروبيم.

مولده ونشأته

ولد الفقيد عام ١٢٧٧ﻫ بجهة حارة السقايين بقسم السيدة زينب بمصر من أبوين شريفين حسبًا ونسبًا، فغذياه بلبان الآداب المنزلية حتى بلغ السابعة من العمر فدخل مع شقيقه الأكبر المرحوم حنا بك شاروبيم مدرسة حارة السقايين، فتلقى فيها العربية والإنجليزية والفرنساوية ومبادئ اللغة القبطية، فأظهر على حداثة سنه نبوغًا كبيرًا في الإنشاء والأدب، وله فيهما عدة قصص وحكايات بأسلوب جميل راقٍ وقلم سيال، ولما أن بلغ الرابعة عشرة من عمره عين في قلم التحريرات الأفرنجية بوزارة المالية، وما كاد ينقضي عليه عامان في ذاك المركز حتى رقي مترجمًا فسكرتيرًا خصوصيًّا للمرحوم إسماعيل باشا صديق، ولبث في هذه الوظيفة إلى سنة ١٨٧٦م حيث نقل بعد وفاة الباشا المشار إليه سكرتيرًا ثانيًا للمستر إسكرفتر مديرًا للجمارك، فوكيلًا لكبير تلك المصلحة، وفي أواخر سنة ١٨٧٧م انتخب لإدارة جمارك دمياط وسلخ سائر أعمالها من محافظتها؛ لتكون إدارة مستقلة على قاعدة ثابتة فقام بما عهد إليه أحسن قيام حتى استحق الثناء الوافر من رؤسائه، فرقوه أمينًا للجمرك المذكور، وزادوا في مرتبه، وفي سنة ١٨٨٠م رقي أمينًا لجمرك بور سعيد ولأسباب صحية استقال من منصبه وعاد إلى القاهرة، غير أنه عاد إلى خدمة الحكومة بعد شهور، حيث طلبته المراقبة الثنائية على عهد المستر كولفن الإنجليزي، والمسيو دي بلبينار الفرنسوي وعينته مفتشًا بها، وفي سنة ١٨٨٢م طلب منه المرحوم سلطان باشا نائب الحضرة الخديوية يومئذ تشكيل ديوان يقوم بأداء لوازم الجيش الإنجليزي، الذي دخل البلاد فقام وشكل الديوان وجمع لعماله من دواوين الحكومة نحو ٧٠ معاونًا و٥٠ جنديًّا من الكتاب وأربعة من المترجمين، وسار في عمله بدقة ونشاط وهمة، حتى شهد له نفس الإنجليز وولاة الأمور بحسن الإدارة والاجتهاد، ثم ألغي هذا الديوان فأعيد المترجم إلى وزارة المالية بناءً على طلبها بوظيفة مفتش، فلم يقبل هذا المنصب وطلب الراحة من عناء الأعمال فأجيب إلى طلبه.

وفي يناير سنة ١٨٨٤م عين قاضيًا بمحكمة المنصورة الأهلية، ثم رئيسًا لنيابة تلك المحكمة، وكانت يومئذ أكبر النيابات وأوسعها اختصاصًا؛ لأنها كانت تشمل مديريتي الدقهلية والشرقية ومحافظات دمياط وبور سعيد والإسماعيلية والسويس والعريش، وفي آخر شهر يوليو من تلك السنة منحه سمو الخديوي عباس باشا الثاني الرتبة الثانية؛ مكافأة له على اجتهاده، وفي شهر نوفمبر أنعم عليه جلالة ملك اليونان بوسام المخلص من رتبة كومندور؛ اعترافًا بأياديه البيضاء على الجالية اليونانية بإقليم الشرقية، وفي أوائل فبراير سنة ١٨٨٥م أنعم عليه جلالة شاه العجم بوسام الشمس «شيروخورشيد» من الدرجة الرابعة مكافأة له على تحسين العلائق بين المحكمة ودولة إيران، وفي أوائل سنة ١٨٨٨م أنعم عليه ملك إسبانيا بوسام القديس يوحنا من رتبة شفاليه.

أما أعماله في منصب رئاسة نيابة المنصورة، فمعلومة ومآثره العديدة تضيق عن الحصر، ولا يزال أهاليها يذكرونه في كل مناسبة كما كان المسيو لوجريل النائب العمومي في ذاك العهد يحبه حبًّا جمًّا، ويتخذ أعماله قدوة يقتدي بها عمال النيابات الأخرى، ولم يتخل عن إطرائه حتى بعد اعتزاله الأعمال وتركه لخدمة الحكومة.

وعندما تولى المرحوم رياض باشا الوزارة في أغسطس سنة ١٨٨٨، وقع بينه وبين المترجم نفور فمغاضبة بسبب اختصاص الوظيفة، وبالرغم من تدخل المرحوم توفيق باشا الخديو السابق في الأمر، فقد اعتزل المترجم الخدمة وسافر إلى بني سويف مسقط رأس أبويه، وكان لم يرها إلى ذلك الحين حيث أقام بها مشتغلًا بالزراعة وتفليح ما له من الأراضي الزراعية.

مؤلفاته التاريخية القيمة

ثم عكف على تأليف كتابه الكافي وهو أربعة أجزاء ضخام:
  • الأول: منها يبتدئ من أيام نوح عليه السلام دولة فدولة إلى انقراض ملك الروم بالفتح الإسلامي.
  • والثاني: منها يبتدئ بفذلكة من تاريخ العرب في الجاهلية، وظهور صاحب الشريعة المحمدية وهجرته وغزواته وفتوحاته وولاية أبي بكر ووفاته، وولاية عمر الفاروق ومجيء عمرو بن العاص إلى ديار مصر، إلى زوال ملك العرب بالفتح العثماني، ودخول السلطان سليم القاهرة.
  • والثالث: يبتدئ بفذلكة من تاريخ الترك في القدم وأصلهم وعدد ملوكهم، وما فعلوه في ديار مصر إلى انقراض حكمهم القديم بظهور ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير جد العائلة المالكة الآن.
  • والرابع: يبتدئ بترجمة حياة محمد علي باشا وحروبه وولاية ذريته من بعده، وظهور الثورة العرابية وصاحب المهدوية، ودخول الجيوش الإنجليزية وما يتخلل ذلك من الكروب والحروب إلى وفاة المرحوم الخديوي توفيق.
وعند انتهاء تلك الأجزاء الأربعة أخذ رحمه الله يشتغل في تأليف الجزء الخامس الختامي لمؤلفه هذا، وقد أتمه قبيل وفاته وترك طبعه ونشره لأولاده من بعده، وهذا الجزء يتضمن تاريخ عباس باشا حلمي الخديوي السابق والانقلاب الذي حدث عقب خلعه، وينتهي بخلعه وتولية ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل الأول، وقد بدأه بوضع فذلكة له في أصل الاستعمار، وأكبر الدول استعمارًا؛ ليتوصل إلى ذكر الأسباب التي دفعت بالإنجليز إلى احتلال مصر.

رجوعه إلى خدمة الحكومة

وفي شهر نوفمبر سنة ١٨٩٤ جاءه طلب من وزارة المالية، فانحدر إلى القاهرة كارهًا، وما كاد يلتقي بوزيرها أحمد مظلوم باشا، ووكيلها المستر دوكنس حتى كلماه في قبول منصب إدارة مصلحة التاريع التي هي مسلحة أطيان عموم القطر المصري، وكان بها يومئذ كبير من الإنجليز لم يقو على إدارتها، فاعتذر المترجم وألح ببقائه بعيدًا عن المناصب فلم يقبلا ذلك منه، وما زالا به حتى رضي كارهًا فسلماه من يومه كثيرًا من المنشورات والأوامر العالية والقرارات الوزارية، وكلفاه بعمل قانون يكون إليه المرجع في عمل فك الزمام، فقام بعمله حتى أتمه على أحسن حال، وقد أنعم عليه الخديوي عباس باشا بالنيشان العثماني الرابع سنة ١٨٩٧م، وهو ذاك المسند الخطير الذي ظل فيه إلى سنة ١٨٩٩م، حيث انتقلت أعمال المساحة إلى عهدة صاحب المساحة الجيولوجية، فانتقل المترجم إلى وزارة المالية في منصب ناظر إدارة أملاك الميري الحرة، فلبث بها إلى أخريات سنة ١٨٩٩م ثم تعين مديرًا لأملاك الميري بمدينة الإسكندرية، وجاءه وهو بها نيشان نجمة الافتخار من منليك ملك ملوك الحبشة في آخر أغسطس سنة ١٩٠٠، وقد لبث بها إلى أوائل سنة ١٩٠٣م، ثم انتقل إلى وزارة المالية ثانية بوظيفة ناظر إدارة أملاكها، فكان يرى أن البقاء على هذا النوع من الخدمة معطلًا لأشغاله الخصوصية، ومزيدًا لمتاعبه فجعل يسعى مع ولاة الأمور حتى وافقوا على تقاعده في آخر سنة ١٩٠٣م، وتفرغ بعد ذلك إلى التأليف الذي جد فيه، وأيضًا لاستثمار أراضيه بمديريتي الجيزة وبني سويف، وبتعضيد المشروعات الخيرية والأدبية، والأخذ بيد أمته إلى طريق الحياة والارتقاء إلى أن وافاه القدر المحتوم، فراح مبكيًّا على غزارة فضله وعلمه وفائق مجهوداته، وقد ترك الفقيد مكتبة عامرة حوت نفائس الكتب التاريخية، والعلمية، والأدبية، مما يتعذر وجود مثيلاتها بين ظهرانينا، وقد وهبتها أسرة الفقيد العزيز للمتحف القبطي بمصر القديمة؛ لتكون أثرًا خالدًا جليلًا يدوم ناطقًا لهذه الأسرة الكريمة، وفوق رأسها الشهم النبيل والأديب الفاضل شفيق بك أكبر أنجال الفقيد، الذي حذى حذوه في عمل الخير بالشكر والثناء أبد الدهر.

الاحتفال بتشييع الجنازة

وقد توفي هذا العالم الجليل والمؤرخ الكبير إلى رحمة ربه في جمادى الأولى سنة ١٣٣٦ﻫ، واحتفل بتشييع جنازته إذ ذاك باحتفال عظيم سار فيه كل ذي حيثية ومقام كبير في البلاد، كما أقامت له جمعية التوفيق القبطية الكبرى حفلة تأبين، حيث كان الفقيد رئيسًا لها ومن كبار العاملين لإحيائها، تبارى فيها الخطباء معددين مناقبه وآثاره الخالدة، التي ملأت صفحات كبيرة من الكتب والمجلات والصحف على اختلاف أحزابها وآرائها.

وقد اعتنى الفقيد عناية كبرى بتربية أولاده النجباء حضرات شفيق بك «الذي ترى صورته وترجمته في غير هذا المكان» ووديع وزكريا تربية عالية، حيث بعث بهم إلى أهم كليات وجامعات الغرب؛ للارتشاف من بحور علومها العالية، حتى إذا ما عادوا إلى وطنهم المفدى أدوا لمواطنيهم الكرام خدمًا جليلة.

صفاته وأخلاقه

كان رحمه الله دمث الأخلاق، كريم الطباع، محسنًا جوادًا يعطف على الفقراء والبؤساء، أديبًا بكل معنى الأدب، محبوبًا، محترم الجانب لدى كل عارفي فضله وكماله، على جانب يذكر من الكفاءة والإدارة وغزارة العلم.

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه جنات النعيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤