ترجمة أمير الشعراء أحمد شوقي بك

مقدمة للمؤرخ

هو ترجمان هذا الجليل وبوقه، وهو مزهر تبعث منه الطبيعة رناتها وتخرج منه الإنسانية أناتها، ظريف الوزن، لطيف القافية، خاطره طوع لسانه وبيانه أسير بنانه.

أدب شوقي

قبل أن ينبثق عصر الديمقراطية في أوربا كانت الفنون الجملة، وبخاصة الرسم والنحت مقصورة على الأمراء الذين كانوا يصطنعون رجال الفن يصورونهم وينحتون تماثيلهم، ولا تزال هذه الرسوم والتماثيل ذخرًا عظيمًا في ثروة أوربا الأدبية، ولم يعرف العرب في عهد الإسلام معنى الديمقراطية، ولم يكونوا أيضًا يعرفون التصوير أو النحت؛ ولذلك اصطنع أمراء الإسلام الشعراء وجعلوا الشعر وقفًا على مديحهم وتزكيتهم، وليس يجهل أحد عظم الثروة التي خلفوها لنا عن هذه السبيل، ولم يكن بد ونحن في بداية نهضتنا أن نجري على أصول السلف وتقاليدهم.
figure
أمير الشعراء أحمد شوقي بك.

فكما كان المتنبي شاعر سيف الدولة كذلك صار شوقي شاعر الخديوي، فألف فيه غرر القصائد جمع فيها من الحكمة، وموسيقى الألفاظ، وجلال المعاني، ما هو جدير بالخلود وأن يعجب به الخلف البعيد كما نعجب نحن بأشعار المتنبي.

وأحسن ما قاله شاعرنا العظيم، ما خرج فيه عن قيود التقليد، أما حيث يقلد فخياله عربي كقوله:

ريم على القاع بين البان والعلم
أحلَّ سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدًا
يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم

ولكن له قصائد يتجلى فيها الخيال الغربي وما اكتسبه الشاعر من قراءته في الأدب الفرنسي، ويمتاز شوقي بالإبداع في المعنى والإعراب في اللفظ.

ولكن سمة شوقي الخاصة التي يمتاز بها على كثير من الشعراء هي أمانته، فهو يمدح عندما يحب ولا يبتسم بشفتيه إلا إذا كان قلبه مفعمًا بالفرح، ولا يرثي إلا عن حرقة ولوعة، ولو لم تغنه ثروته عن التدني لأغناه طبعه.

مولده ونشأته

ولد شوقي بالقاهرة سنة ١٨٦٨م ودخل مدرسة الشيخ صالح وهو في الرابعة من عمره، ثم انتقل إلى المبتديان فالتجهيزية والتحق بمدرسة الحقوق وهو في السادسة عشرة، ثم أنشئ بهذه المدرسة قسم للترجمة فالتحق به ونال بعد سنتين الشهادة النهائية في فن الترجمة، ثم أرسله سمو الخديوي السابق على نفقته لإتمام دراسة الحقوق في مونبيليه في فرنسا، وزار في هذه المدة الجزائر وإنجلترا، وفي سنة ١٨٩٦م ندب لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين في مدينة جنيف، ثم عين رئيسًا للقلم الإفرنجي بمعيه سمو الخديوي السابق عباس حلمي الثاني، وبقي في هذا المنصب حتى استقال منه عند خلع الحكومة الإنجليزية للخديوي، ثم طلبت منه السلطة العسكرية الإنجليزية أن يرحل عن مصر، فرحل منها إلى الأندلس وظل بها حتى نهاية الحرب، ومن ثم عاد للوطن العزيز.

مثال من نظمه «قال حفظه الله في النيل»:

من أي عهد فى القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من
عليا الجنان جداولًا تترقرق
وبأي عين أم بأية مزنة
أم أي طوفان تفيض وتفهق
وبأي نول أنت ناسج بردة
للضفتين جديدها لا يخلق
تسود ديباجًا إذا فارقتها
فإذا حضرت اخضوضر الإستبرق
في كل آونة تبدل صبغة
عجبًا وأنت الصابغ المتأنق
تسقي وتطعم لا أناؤك ضائق
بالواردين ولا خوانك ينفق
والماء تسكبه فيسبك عسجدًا
والأرض تغرقها فيحيا المغرق
يعيي منابعك العقول ويستوي
متخبط في علمها ومحقق
مثال من نثره «قال أدامه الله عن الوطن»:

الوطن موضع الميلاد، ومجمع أوطار الفؤاد، ومضجع الآباء والأجداد، الدنيا الصغرى وعتبة الدار الأخرى، الموروث الوارث، الزائل عن حارث إلى حارث، مؤسس لبان، وغارس لجان، وحي من فان، دواليك حتى يكسف القمران، وتسكن هذي الأرض من دوران.

أول هواء حرك المروحتين، وأول تراب مس الراحتين، وشعاع شمس اغترق العين، مجرى الصبي وملعبه، وعرس الشباب وموكبه ومراد الرزق ومطلبه، وسماء النبوغ وكوكبه، وطريق المجد ومركبه، أبو الآباء مدت له الحياة فخلد، وقضى الله ألا يبقى له ولد، فإن فاتك منه فائت: فاذهب كما ذهب أبو العلاء عن ذكر لا يفوت وحديث لا يموت.

ولشوقي ديوان هو «الشوقيات» جمع بين دفتيه بلاغة الشعر، وغزارة المادة، وجمال الأسلوب، ودقة القافية، مما لا يمكن لغير شوقي من الشعراء الإتيان بمثله.

صفاته وأخلاقه

كبير النفس، عالي الهمة، ظريف الحديث، سخي اليد يميل بكلياته لتعضيد الأدب، ومساعدة الأدباء، محترم الجانب كثيرًا، محبوبًا لدى عظماء الأمة وكبرائها؛ لغزارة فضله وسمو أدبه، حفظه الله وأدامه ركنًا متينًا في عالم الأدب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤