ترجمة حضرة صاحب العزة القانوني المتضلع الأستاذ صالح بك جودت

القاضي بالمحاكم الأهلية سابقًا والمحامي الشهير حالًا

نسبه وعائلته

هو ابن المرحوم إسماعيل جودت بك بن المرحوم صالح بن إبراهيم بن خليل، يتصل نسبه إلى بني شيبة بمكة المكرمة وهم بطن من عبد الدار وبنو عبد الدار بطن من قصى، فهو قرشي الأصل وفي قومه بني شيبة السدانة فهم حجبة الكعبة، انتهت إليهم مفاتيحها في زمن النبي وكان الجد الثاني لصاحب الترجمة من أعيان مكة نفي منها لأسباب سياسية في زمن السلطان محمود الثاني، فاستوطن قبرص ومن قبرص نزح إلى مصر جده الأول، وكان من أولاده علي أغا صالح كاتب يد المغفور له محمد علي باشا الكبير والي مصر، وكان العم الأكبر لصاحب الترجمة المرحوم تويق باشا معاونًا لشريف مكة، ثم قائدًا للجيوش التركية في اليمن، ومات رحمه الله بها ودفن في الحديدية.١
figure
صاحب العزة الأستاذ صالح بك جودت.

أما والد صاحب الترجمة المرحوم إسماعيل جودت فهو ربيب بيت محمد علي ورفيق صبا المرحوم الأمير إلهامي باشا، وقد اختاره المرحوم سعيد باشا، والي مصر ليتعلم بفرنسا على نفقته الخاصة، وأنزله بباريس بمنزل صديقه دولسيس حيث كانت إقامته، وقد أتم المرحوم دروسه الثانوية بباريس، ثم دخل جامعة السوريين حيث تلقى العلوم القانونية، ثم انتقل إلى مدرسة السياسة العالية حيث تخرج على رينان الفيلسوف الشهير، ووضع المرحوم بباريس كتابيه في «الرئاسة والسياسة ثم في أحكام القرآن»، ولما عاد لمصر عُيِّنَ في معية المغفور له إسماعيل باشا، ولما أنشئت دار الأوبرا عين مديرًا لها وفي ذلك العهد وضع روايته التمثيلية «موسى»، ثم عاد إلى المعية في التشريفات وكان المرحوم الخديوي الأول يندبه لمقابلة الملوك والأمراء، ورجال السياسة الذين يقصدون مصر؛ ليتعرف مقاصدهم ويبلغهم ما يرغبون معرفته عن مصر وأهلها وأحوالها، وقد وشى به بعضهم مرتين إلى الخديوي فنفاه في الأولى إلى البحر الأبيض، لكنه لم يبلغ أسيوط حتى استدعاه، وأبعده في الثانية إلى بور سعيد، ثم ما لبث أن استقدمه إذ كان يتبين له كذب الوشاية كل مرة ويتحقق من صدق إخلاصه لأميره وبلاده.

ولما قامت الثورة العرابية كان المرحوم إسماعيل جودت من زعمائها «مع صديقه البارودي باشا والإمام عبده،٢ وحوكم في نهايتها مع من حوكم فقضي عليه بالنفي ثلاث سنوات خارج القطر، فاختار الإقامة في الأستانة حيث كان على صلة بالخديوي إسماعيل باشا، وكان صاحب الترجمة يقصد معه قصر أميرجان، حيث يقيم الخديوي السابق وقد انتدبت الدولة العلية والد صاحب الترجمة ضمن وفد المرحوم حسن باشا فهمي؛ لتقرير اتفاقية مؤتمر لندن سنة ١٨٨٥ الخاصة بمصر، وفي أثناء رحلته تعرف بكبار رجال السياسة من الإنجليز، وله معهم أحاديث مشهورة.٣

ولما انقضت مدة النفي عاد والد صاحب الترجمة لمصر بالرغم من إلحاح السلطان عليه بالبقاء، وعرض ولاية اليمن عليه؛ لأنه كان رحمه الله متفانيًا في حب بلاده.

وقد عرض على الحضرة السلطانية كثيرًا من مشروعات الإصلاح الخاصة بها، ومن ضمنها مشروع إصلاح أعيان الأوقاف بمصر لاستغلالها وقد أوصى عليه السلطان الغازي مختار باشا؛ ليساعده لدى الخديوي على تنفيذ مقترحاته بخصوص الأوقاف، ولكن حالت الظروف السياسية دون ذلك، ولبث والد صاحب الترجمة بعيدًا عن وظائف الحكومة مشتغلًا بمهنة المحاماة حتى توفي سنة ١٨٩٦م.

وقد حصر همه في سني حياته الأخيرة في تثقيف ولده صاحب الترجمة، وتعهد خلقه واستكمال علمه وأدبه حتى إذا توفي والده وهو لم يكد يتم السادسة عشرة من عمره كان رجلًا قوي النفس، مطلعًا على ما لا يعلمه حتى الشيوخ من أمور سياسة الشرق وأحواله.

حياته العلمية

ولما أتم صاحب الترجمة دروسه بالمدرسة الخديوية سنة ١٨٩٨م، درس القضاء بمدرسة الحقوق الفرنساوية، وأدى امتحاناته أمام جامعة باريس حيث حاز شهادة الليسانس في العلوم القانونية، ثم أدى امتحان المعادلة أمام مدرسة الحقوق الخديوية بمصر حيث حاز شهادتها، وكان لم يزل منصرفًا إلى الدراسة ولكن همه منحصر على الأخص في دراسة الاجتماعات والشؤون المصرية، وله مؤلفات عديدة في الأدب والاجتماع والجغرافية والتاريخ، من ذلك حوالي خمس عشر رواية أدبية معربة، ورواية تمثيلية «الإيمان» صادفت إقبالًا عظيمًا لما مثلت في الأوبرا سنة ١٩١٤م، ثم كتاب الدليل العصري للقطر المصري، ومصر في القرن التاسع عشر وقوانين المجالس الحسبية وأمة الملايو، وهو عضو في كثير من الجمعيات العلمية المصرية والأجنبية، كجمعيتي الجغرافية الملكية المصرية والأميركية، وجمعية السجون الفرنسية، والجمعية الملكية للاقتصاد السياسي، والتشريع والمجمع اللغوي المصري، كما أنه من مؤسسي وأعضاء إدارة جمعية الرابطة الشرقية بمصر.

حياته الحكومية

وقد بدأ صاحب الترجمة حياته الحكومية مترجمًا بوزارة المعارف العمومية، ثم معاونًا للإدارة بمديرية المنوفية، ثم مترجمًا بالنيابة العمومية ثم سكرتيرًا فنيًّا للمرحوم أحمد فتحي زغلول باشا وكيل وزارة الحقانية سابقًا، حيث كان عضده الأيمن في أعمال الوزارة التشريعية، وأعماله الأدبية الخاصة، وفي تلك الأثناء كان صاحب الترجمة سكرتيرًا لكثير من لجان الإصلاح بوزارة الحقانية، وأخصها لجنة إصلاح الأزهر الشريف حيث وضع لها منهج الدراسة في العلوم العصرية، وترجم أعمالها فكافأته الحكومة المصرية على ذلك برتبة ومكافأة مالية، وكان سكرتير لجنة قانون المرافعات، حيث جهز للجنة جدول مقارنة قوانين المرافعات المعمول بها في أهم الممالك الأجنبية، وقد تولى حضرته القضاء في سنة ١٩١٤م بمحكمة مصر الأهلية، ثم بمحكمة أسيوط حيث اشتهر بين زملائه والمتقاضيين والمحاميين بالدقة وبعد النظر، وحسن المعاملة وسرعة الفصل في الخصومات، وفي سنة ١٩٢٢م انتخبته وزارة الحقانية للقيام بأعمال إدارة مكتب معالي وزيرها ومن أخصها دراسة الأحكام المتناقضة الصادرة من محاكم الأحوال الشخصية الإسلامية وغير الإسلامية، ومراجعة قضايا الإعدام، والتأديب والتماسات العفو عن المجرمين، وعهدت إليه الوزارة بالإدارة التشريعية والفنية لمدرستي الحقوق والقضاء الشرعي، والبعثات العلمية في أوربا، وله في ذلك آثار مشكورة، وختم وظائفه الحكومية بتعيينه قاضيًا لمحكمة طنطا الأهلية، وأخيرًا استقال مفضلًا الاشتغال بمهنة المحاماة، فاتخذ له مكتبًا للاستشارات القانونية بأول شارع عابدين بمصر، ولا حاجة بنا إلى وصف مقدرته وكفاءته في التشريع والقانون.

حياته الاجتماعية

ولصاحب الترجمة شهرة معروفة في جميع الأوساط الاجتماعية بمصر وصلة بالعظماء فيها، وقد تمكن من خدمة القضية المصرية بالعمل على التقريب بين الأمة وأعضاء العائلة المالكة، وبشرح حقائق تلك القضية لمن قابلهم من كبار الساسة والأجانب، وأخصهم مسيو كليمانسو رئيس الحكومة الفرنساوية لما زاره بالصعيد في شهر مارس سنة ١٩٢٠م، وله معه حديث كبير الشأن في ذلك الموضوع، وكان كما قدمناه من أوائل مؤسسي الرابطة الشرقية التي جمعت بين أعضائها ممثلي أربعة عشر أمة شرقية، وهو معروف كذلك خارج القطر المصري لمن خدمهم من أمراء الشرق مثل صاحب العظمة راجا قدح السلطان عبد الحميد حليم شاه، إذ تولى تربية نجله الأمير منصور حتى أدخله جامعة إكسفورد، وكان ولم يزل على صلة بالعاملين على خدمة الشرق في مصر أو خارجها، وله مباحث علمية وعمرانية عديدة تتعلق بالإصلاح في مصر، وقد نشر كثيرًا منها في الجرائد والمجلات العربية، وترجم بعضها في أشهر المجلات الأوربية.

أخلاقه وصفاته

وإذا كان للبيئة تأثير في النفس والأخلاق، فصاحب الترجمة أكثر الناس حظًّا من ذلك، فإنه نشأ نشأة صالحة في بيئة صالحة، كان له منها فضيلة طهارة الذمة، وعلو الهمة، والتمسك بأهداب الحق والعدل، ونصرة المظلوم مع العفة والتقوى وخشية الله، وإن هذه الأخلاق السامية يعرفها فيه عشراؤه ويشهد له بها حتى خصومه وحساده، كثير الحلم والأناة راجع العقل بشوش الوجه، لطيف الحديث، دمث الأخلاق، معضد للأدب والأدباء، يجود بماله الخاص لإغاثة البؤساء، والأخذ بيد الفقراء، وإليه يرجع فضل تأسيس مدرسة مصرية بهليوبوليس «مدرسة السلطان حسين الأول»، وهو يتعهدها دائمًا بفضله وماله، ويتعلم فيها كثير من أولاد الفقراء مجانًا.

أكثر الله من أمثاله حتى ترتع بلادنا في بحبوحة السعادة والهناء، بفضل رجالها العاملين أمثال حضرته.

١  راجع يمن تاريخي للفريق عاطف باشا.
٢  راجع تاريخ عرابي باشا بالفرنساوية للمسيو نينيه.
٣  راجع مجلة Truth ديسمبر سنة ١٨٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤