ترجمة حضرة صاحب السعادة الشهم الجليل رشوان باشا محفوظ

الناس تكتب في سجل رجالها
ما قد أتوه وما عليه أقاموا
والدهر يصدر بعد ذلك حكمه
بالحق لا نقض ولا إبرام
ولقد بدى من نور عدلك حكمه
حكم أغر عنت له الحكام
كتب الزمان صحيفة عنوانها
رشوان باشا عادل وهمام
فلنعم «محفوظ» بخير عناية
ولنعم ما صدرت به الأحكام
لك في القلوب مكانة ومهابة
وعلى حماك تحية وسلام
الأمم برجالها والرجال بأعمالها وأخلاقها، والأمم تغنى بالرجال قبل أن تغنى بالأموال؛ لذلك يسرنا أن نسطر ترجمة نابغ من نوابغ الأمة المصرية، وعظيم من أبنائها البررة خدمها أجل الخدم، الإخلاص شيمته والحكمة حليفته والمصلحة العامة وجهته. هذا هو حضرة صاحب السعادة رشوان باشا محفوظ صاحب هذه الترجمة.
figure
رسم وتاريخ حضرة صاحب السعادة الشهم الجليل رشوان باشا محفوظ وكيل وزارة الزراعة.
ولد سعادته ببلدة الحواتكة مركز منفلوط من أعمال مديرية أسيوط سنة ١٢٩٩ هجرية من أبوين كريمين عريقين في المجد، فوالده المرحوم محفوظ بك الكبير يتصل نسبه بالدوحة المحمدية الطاهرة، وقد عني بتربية أنجاله عناية تتناسب مع مجد العائلة ومكانتها الرفيعة فأدخل صاحب هذه الترجمة مدرسة أسيوط الابتدائية الأميرية، وبعد أن حصل منها على الشهادة الابتدائية ألحقه بالمدرسة التوفيقية الثانوية بمصر، وسرعان ما قطع هذه المرحلة الثانية وهو فتى يافع فأدخله مدرسة الحقوق الملكية، فأتم دراستها وحصل منها على الليسانس سنة ١٩٠٣ وهنا حصلت المشادة الحقيقية بين النفس والعقل، وإن شئت فقل: بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة فإن صاحب هذه الترجمة وقد بلغ مبلغ الرجال رأى نفسه مطالبًا أمام نفسه وأمام أمته بأن يعمل لهما ولا بد من أن يسلك أحد سبيلين:
  • الأول: أن يتفرغ لأعماله الخاصة ويشرف على أراضيه وضياعه فينميها، كما يعمل أبناء هذه الطبقة الثرية، وله من عمله وتربيته ما يضمن نجاحه في هذا الميدان.
  • الثاني: أن ينخرط في سلك الوظائف فيخدم بلاده بالطريق المباشر.
وازن بين الأمرين ولكنه أمام المصلحة العامة وأمام الفريضة الوطنية لم يتردد في أن يسلك الطريق الثاني، وهكذا دخل خدمة الحكومة معاونًا للضبط بمديرية الجيزة فتوسم فيه رؤساؤه الكفاءة والإخلاص في العمل، ولم يلبث إلا قليلًا حتى رقي مأمورًا للضبط بمديرية الدقهلية، وكان سعادته من أكبر عوامل توطيد الأمن في تلك المديرية العظيمة، وقد كوفئ بترقيته مأمورًا لمركز ميت غمر وهو ذلك المركز الهام فكان عند ظن ولاة الأمور به، إذ نهض به نهضة كبيرة وأنشأ بعاصمته مجلسًا مختلطًا ومنتزهات عامة، حتى أصبحت مدينة ميت غمر أرقى في العمران والمدنية من عواصم بعض المديريات، ولما كانت سنة الرقي تقضي مكافأة العامل المجد المخلص؛ لذلك كان من الطبعي أن يرقى صاحب هذه الترجمة إلى وظيفة وكيل مديرية، وكان لمديرية الفيوم الحظ الأول غير أن الفيوميين ما كادوا ينتهون من الاحتفاء بوكيلهم حتى فاجأهم خبر نقله إلى مديرية الغربية، فودَّعوه بمثل ما قابلوه من الحفاوة والتكريم.

وقد كان نصيب مديريتي الغربية والبحيرة أكبر عندما اشتغل بكلتيهما وكيلًا للمديرية، ولم يلبث فيهما طويلًا حتى صدر النطق الكريم بترقيته مديرًا لأسوان سنة ١٩١٦ فكان ذلك بشير خير وبركة لأهل تلك المديرية، فإنه عني بشؤونها وسهر على مصلحتها حتى إن ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين الأول أهداه ساعته الخاصة عند زيارته لهذا الإقليم سنة ١٩١٦ رمزًا لرضاء عظمته التام، وتقديرًا لكفاءته الممتازة ثم نقل مديرًا لبني سويف، فتابع السير على خطته القومية وأسرع إلى شد أزر التعليم بتلك المديرية التي لم تكن نالت حظَّها منه فأنشأ بها عددًا كبيرًا من المدارس الأولية توطئة لنشر التعليم الأولي بأرجائها، وإعداد مدرستي ببا والواسطى الابتدائيتين بعد أن كانتا حُوِّلَتَا إلى مدرستين أوليتين، ثم عمد إلى إصلاح عاصمة المديرية فأنشأ بها الشوارع العظيمة وناديًا للرياضة البدنية، وهكذا أوجد للموظفين وغيرهم من ذوي الحيثية مكانًا رحبًا حيث يتعارفون ويتريضون، وهي أَجَلُّ خدمة لهذه الطبقة التي تتوق إلى استثمار أوقات فراغها، وقد قوبلت هذه المآثر بمزيد الثناء وخالص الولاء.

ثم رقي سعادته مديرًا لقنا وسرعان ما تحقق كثير من أمانيها على يديه، فقد كانت الشؤون الصحية تتطلب عناية خاصة، فجمع التبرعات من الأعيان والمحسنين لإنشاء مستشفى مناسب للرمد في عاصمة المديرية، التي كانت الوحيدة المحرومة من هذا المشروع النافع، وفعلًا وضع الحجر الأساسي بيد حضرة صاحب الجلالة الملك مولانا فؤاد الأول أثناء سياحته بالصعيد في شهر يناير سنة ١٩٢١، وأنشأ أيضًا مستشفى للأمراض العفنة في قنا وآخر في الأقصر، فخففت كثيرًا من الويلات والكروب، ثم وجه عنايته المشهورة للتعليم فأنشأ مدرستين ابتدائيتين إحداهما في دشنه، والأخرى في قوص عدا المدارس الأولية الكثيرة في البلاد الأخرى، وسهر على الأمن العام ونجح في استتبابه أيما نجاح، يدل على ذلك نقص الجنايات في عهده نقصًا محسًّا، وإليه يرجع الفضل الأكبر في الصلح التاريخي الذي عمل بين قبيلتي الأشراف والحميدات، وقد كان الجفاء بينهما متأصلًا والأمن العام مهددًا، ولكن حكمته الكبيرة ذللت الصعب العسر وحقنت الدماء واستبدلت الجفاء بالصفاء والشقاق بالوفاء. وقد أتت الصحف وقت ذاك على تاريخ هذا النزاع العظيم ومساعي سعادة المدير المشكورة، فنكتفي بما أشرنا إليه ثم صدر الأمر العالي بترقية سعادته مديرًا للمنوفية في مايو سنة ١٩٢١ والإنعام عليه برتبة الباشوية الرفيعة، فاستلم زمام هذه المديرية العظيمة في وقت عصيب، ولكن بالحكمة وطول الأناة لم يعد الأمور إلى مجراها الطبيعي فقط، بل ونهض بالمديرية نهضة كبيرة في كل مرافقها، وكان للتعليم نصيب وافر من عنايته ووقته، فأصبح لمجلس المديرية ٦١ مدرسة أولية و٦ مدارس ابتدائية للبنين بعد أن كان له مدرسة أولية إدارية فقط، ومدرستان ابتدائيتان، هذا إلى معاهد التعليم الليلية للعمال والأقسام التجارية الليلية التي أنشئت في عهده، وعاد نفعها على كثير من الرجال والشبان الذين حرموا من نعمة التعليم في صغرهم.

ولقد شعرت جمعية المساعي المشكورة بحاجتها إلى إدارته النزيهة، فقررت إسناد رياستها إلى سعادته والتمست منه القبول، فلبى الطلب خدمة للتعليم والمصلحة العامة وكانت باكورة أعماله استثمار ضريبة ال٥٪ التي أصدر ولي النعم أمره الكريم لمجلس مديرية المنوفية بتحصيلها، فاشترى ألف فدان من أجور أطيان الحكومة بمركز السلطة بثمن منخفض وجعلها وقفًا على هذه الجمعية، ثم وضع لها القوانين والأنظمة الحديثة المحكمة، ونظم ماليتها وسجلاتها، وراقب سير مدارسها مراقبة دقيقة فارتقت وحسنت سمعتها وكثر الإقبال عليها، وجاءت نتائجها الباهرة في الامتحانات الرسمية ناطقة بفضله ومآثره.

كذلك كان لعاصمة المديرية حظ كبير من همته واهتمامه، فقد حقق رغبات الأهالي التي كانوا يطمحون إليها من قديم فأتم مشروع مياه الشرب، وأوشك أن يتم مشروع إنارة البلدة بالكهرباء ورصف شوارعها، وهكذا تقدمت مدينة شبين الكوم إلى الأمام بعد جهود سعادة مديرها العامل، بعد أن مكثت سنين عدة متأخرة في مدنيتها عن كثير من عواصم المديريات كذلك أنشأ مستشفى متنقلًا لعلاج المصابين «بالبلهارسيا والأنكلستوما»، يؤمه أكثر من مائة وخمسين مصابًا يوميًّا للعلاج مجانًا، فخفف ذلك من حدة هذه الأمراض الفتاكة التي كان انتشارها مفزعًا في المديرية، وهذه منة أخرى لسعادة المدير الجليل طوق بها جيد آلاف من الفقراء.

أما عناية سعادته بالأمن العام فعظيمة، وإن في نقص الحوادث الجنائية نقصًا بينًا، واستتباب الأمن في عهده لدليل على سهر هذا الحاكم على مصلحة المديرية وحسن إدارته لها.

وحدث عندما وليت وزارة دولة سعد باشا زغلول الحكم، وكان سعادة صاحب الترجمة من خصومها السياسيين الذين يخالفونها في المبدأ أن انعقد مجلس الوزراء، وقرر إحالته على المعاش فما كان منه إلا أن أخذ ينشر على الشعب سلسلة مقالات بواسطة بعض الجرائد اليومية كجريدة السياسة والأخبار وغيرهما شارحًا مظلمته وما أصابه من حيف وإجحاف، إلا أن الحكومة اعتبرتها طعنًا عليها، فأقامت عليه النيابة العمومية الدعوى، ولكن سرعان ما جرى التحقيق معه فيما نسب إليه فتقرر حفظها لعدم توفر وجوه الطعن المنسوبة إليه.

وعقب استقالة الوزارة السعدية بقليل صدر مرسوم ملكي بتعيينه مديرًا لمديرية الغربية؛ لتنتفع هذه المديرية الكبرى بمواهبه العالية وكفاءته النادرة.

تعيينه وكيلًا لوزارة الزراعة

ولم تكتف الحكومة في عهد الوزارة الزيورية بترقيته إلى هذا الحد، بل رفعت مكانته وكافأته على عظيم شهامته بأن ولته وكالة وزارة الزراعة وهنا تجلت مواهبه السامية وكفاءته الشخصية، بما أظهره من الخبرة والحنكة والتجارب العديدة بما حقق آمال الحكومة والأمة.

هذا مجمل تاريخ سعادة النابغة رشوان باشا محفوظ، وهذه صحائفه وأعماله ننشرها بإيجاز على أبناء وطننا؛ لأنها مثل أعلى في علو الهمة والوطنية الحقة، وما نجاحه حينما حل إلا نتيجة جهاد صادق وعزيمة ماضية، وأخلاق كريمة قويمة.

أدام الله به النفع العميم وأكثر من أمثاله العاملين المخلصين آمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤