الجلاء قبل المفاوضات

إذا تحدثت عن نجاحي في حمل الحكومة البريطانية على إصدار بيان قبل المفاوضات، تعرض فيه موافقتها على الجلاء التام برًّا وبحرًا وجوًّا عن الأراضي المصرية، فلست أريد أن أفاخر بجهودي، أو أمنَّ على بلادي بأني أول من ظفر بذلك من الحكومة البريطانية، وأن مبدأ «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء» قد وافق عليه القوم لا على أنه شرط لا مناص من قبوله؛ بل لأنه النتيجة الحتمية للاعتبارات، والضرورات السياسية والعسكرية التي كنا بصدد معالجتها.

والواقع أن محادثاتي مع السفير البريطاني واللورد ستانسجيت، كانت تهدف على الدوام إلى ذلك، وقد صارحتهما منذ اللحظة الأولى بأنه لا أمل في اتفاق، أو محالفة مع مصر إذا لم يكن أساسها الجلاء التام برًّا وبحرًا وجوًّا، في غير احتفاظ على أرض مصر أو مياهها أو هوائها بأية بقية من بقايا القوات البرية أو البحرية أو الجوية مهما ضؤلت، وبأي مظهر ظهرت، وبأي لباس بدت … وقلت في محادثاتي معهما في ٢٢ أبريل: «إن مثل المطالب التي بدت اليوم لا تحول دون تحقيق الجلاء الشامل، واشتمال المعاهدة على نصه المطلق، على أن تكون التدابير والاشتراطات من الجانبين محل مكاتبات تدور بين ممثلي الدولتين؛ لأنها ترتيبات مؤقتة.»

(١) ٣٠ أبريل سنة ١٩٤٦

وفي صباح ذلك اليوم زارني برياسة مجلس الوزراء اللورد ستانسجيت، والسفير البريطاني، وبدأ السفير حديثه قائلًا:

نحن مشبعون بواجبات المحالفة، ومع أنها تقتضي تحملنا أعباء؛ فإننا جئناكم اليوم لنقبل إخلاء القوات البريطانية، لأرض مصر كلها.

وقد قبلنا ذلك لثقتنا بأن الحكومة المصرية ستؤدي واجبها من ناحيتها، فتقيم الاستعدادات اللازمة للدفاع عن أرض مصر. ويسر الحكومة البريطانية أن تقدم هذا العرض، وهي تعتمد عليكم من أجل القيام بالإجراءات التي جاء ذكرها في مذكرة الضباط المصريين، كما تعتمد عليكم في تسهيل تقبل الخبراء، وفقًا للمشروع الذي كان محل حديثنا في الجلسة الماضية.

وإنه ليحتاج الحال لبعض الوقت لإتمام عملية الجلاء؛ لأنها مرهونة بالاستطاعة المادية … هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يعد ما يسمح بالاعتماد على أماكن في مصر لنقل جيوشنا الموجودة في المدن ما دام الجلاء سيكون تامًّا، ويلزم لنا وقت لإعداد أماكن خارج أراضيكم لإيواء قواتنا، ونحن نقدر أن للجلاء مرحلتين: المرحلة الأولى، هي النقل من المدن ومن الدلتا، والمرحلة الثانية، هي نقل باقي القوات، وباقي ما عندنا من استعدادات هائلة موجودة بالقطر المصري.

(٢) مذكرة بريطانية

وهنا سلمني اللورد ستانسجيت مذكرة مكتوبة باللغة الإنجليزية، وهي رد من الجانب البريطاني على مذكرتي، ومذكرة العسكريين المصريين، كما أن فيها التأييد من جانب حكومة لندن لما اشتمل عليه حديث يوم ٢٢ أبريل.

فاستأذنت في أن أطلع على المذكرة حتى أستفيد من وجودهما، إذا ما عنت لي بعض الأسئلة … وقلت: «أود أن أعرف هل هذه المذكرة معدة لهيئة المفاوضات باعتبار أنها للدخول في المفاوضة الرسمية؟»

فأجاب اللورد: «إنها معدة لذلك»، فسألت عن الغرض مما هو مذكور في الفقرة الرابعة من أنه: «لكي يتسنى لبريطانيا العظمى أن تساعد مصر في الاضطلاع بهذه التبعة، تقترح حكومة جلالة الملك وضع تدابير للتشاور الوثيق بين الحكومتين، وبين أركان حرب الدولتين، وأن تقوم بريطانيا لتقديم ما تدعو إليه الضرورة من المعونة الفنية لمصر على أساس يتفق عليه الطرفان؟!» وقلت: «إن المسألة هنا لا تخرج عن أنها مسألة عسكرية»، فأجاب السفير: «قد لا يصل العسكريون إلى تفاهم، وإذ ذاك لا بد من تفاهم الحكومتين، وقد يكون الأفق ملبدًا، وتحتاج الحكومتان إلى تفاهم فيما يجب أن تعملا.»

فقلت: «إني أفهم الوضع الأول، ولكن لي اعتراضًا على الوضع الثاني، وسيجيء ذكره …» ثم قلت: «اسمحوا لي أن أعترض الاعتراض كله على الزمن الذي اقترحتموه للجلاء، وهو خمس سنوات فإنه لا يمكن أن يقبله أحد في مصر، وسيعترض عليه المفاوضون المصريون كل الاعتراض … كنت أفهم أن تقولوا إنكم ستعملون على تقصير أمد الجلاء، وتربطونه بالضرورات المعقولة.»

فقال اللورد: «إن الزمن الذي طلبناه هو الزمن الأقصى، وقد يكون أقل، ومع ذلك فإن المذكرة تبين أسباب احتياجنا لهذه المدة، وعلى كل حال ستكون هذه المسألة موضع تفاهم بيننا وبينكم.»

فسألته: «إنكم تتكلمون عن مساعدة من جانب الحكومة المصرية في شئون الجلاء، فماذا تقصدون؟»

فقال اللورد بعد تردد: «ربما كان الغرض هو المساعدة في النقل.»

فسألت: «المفهوم من مدة الجلاء أن تحديدها مترتب على الاستطاعة، ولكن أرى في المذكرة أنكم استعملتم كلمة events، فهل لي أن أفهم أنه قد تؤثر الحوادث السياسية في موعد الجلاء …؟ إذا كان الأمر كذلك، فأقول إنه لا يمكن قبول تأثر المدة بالحوادث السياسية، وقد يحدث أن يطرأ على هذه الحوادث ما يجعلكم تحتجون بها لطلب البقاء وفقًا لخطر ترونه، وهذا لا يمكن قبوله، فإن تقدير هذا الخطر يفتح بابًا واسعًا للأخذ والرد.»

فقال اللورد: «إنها مسألة حسن نية …» فأجبت «لا يمكن متى اتفقنا على موعد أن يكون هناك مجال لطلب تغييره؛ بسبب أن أحوال العالم تقتضي ذلك، وأرى ألا تبنى مدة الجلاء إلا على ما يحتاج إليه من الوقت ماديًّا.»

فأجاب اللورد: «إني أقبل هذا الوضع …»

«قلت: أعود إلى مسألة السنوات الخمس، فألاحظ أن إخلاء المدن والدلتا، مسألة أشهر لا سنوات، في حين أن إخلاءكم لمنطقة القناة قد يسهله إسراعنا في إقامة المنشئات والقواعد اللازمة للدفاع.»

فقال السفير: «إنها من المسائل التي أود أن يتفاهم فيها العسكريون من الجانبين.»

وهنا سأل اللورد: «ما هو برنامجكم بشأن الاجتماعات منذ الآن؟»

فأجبت: «إني سأدعو زملائي للاجتماع غدًا، وعليهم هم أن يقرروا متى تجتمع الهيئتان.»

فقال اللورد: «إن هيئة المفاوضات البريطانية مستعدة للاجتماع بالهيئة المصرية كذلك، فإن العسكريين البريطانيين مستعدون لمقابلة مندوبيكم العسكريين.»

فقلت: «إن كل هذا يرجع إلى اجتماعنا غدًا نحن المصريين، وقد يمتد اجتماعنا إلى يوم آخر، أما العسكريون، فقد يرى المفاوضون المصريون أن يكون اجتماعهم بزملائهم البريطانيين بحضور هيئة المفاوضة المصرية.»

(٣) رد هيئة المفاوضة

١ مايو سنة ١٩٤٦

اجتمعت بزملائي المفاوضين المصريين، وأفضيت إليهم بكل ما جرى من أحاديث، وأطلعتهم على إلهام من المذكرات ومنها المذكرة البريطانية الأخيرة، وقد دام العرض زهاء ساعتين حظيت في نهايتها بحسن تقدير الزملاء وتهنئتهم، وقد اتفقت كلمتنا على الرد عليها بمذكرة قدمت باسم الهيئة إلى الوفد البريطاني في ٧ مايو، تتلخص في النقط الآتية:
  • يشاطر الوفد المصري الوفد البريطاني رأيه في أن المعاهدة الجديدة يجب أن تكون اتفاقًا على تبادل المعونة ضمن نطاق هيئة الأمم المتحدة.

  • ويجب أن تكون المعاهدة اتفاقًا بين دولتين متساويتين تساويًا تامًّا في السيادة.

  • إن المعاهدة الجديدة هي للتعاون المشترك ضد كل اعتداء مسلح، إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لصون السلام والأمن الدولي.

  • يتعين أن تتجنب المعاهدة كل نص يمكن أن يؤول بأنه يدل على نية بريطانيا في التدخل في شئون مصر.

  • تتكفل مصر وحدها بقواعد إدارية تشمل مطارات ومنشآت؛ للدفاع البري والجوي والبحري.

  • يوافق الوفد المصري على قيام تعاون وثيق بين هيئتي أركان حرب الدولتين، بشرط ألا تتضمن المعاهدة أية إشارة إلى استخدام الحكومة لخبراء، أو فنيين في الشئون العسكرية من البريطانيين.

  • أن مدة السنوات الخمس لسحب القوات البريطانية — وإن اعتبرت حدًّا أقصى — هي مدة أطول كثيرًا مما يجب، ويمكن أن يتم الجلاء في مدى عام واحد.

  • يوافق الوفد المصري على أن تبذل السلطات المصرية كل ما في وسعها لمعاونة السلطات البريطانية في نقل القوات البريطانية عند جلائها، وعلى تكليف الخبراء العسكريين في الوفدين إعداد برنامج لتصفية الهيئة الإدارية في مصر، وسحب القوات البريطانية.

(٤) تصريح الجلاء

وفي ٧ مايو سنة ١٩٤٦ اجتمعت باللورد ستانسجيت والسفير البريطاني، وسلمتهما المذكرة المصرية، وجرى حديث بيننا عن موعد المفاوضات، فأبلغتهما استعداد الهيئة المصرية لافتتاح المفاوضات الرسمية في يوم ٩ مايو، فأبلغاني أن الوفد البريطاني يوافق على هذا الموعد، ثم أطلعاني على البيان البريطاني عن الجلاء، الذي كُلفا بإعلانه من الحكومة البريطانية بعد موافقتي.

٨ مايو سنة ١٩٤٦

وفي صبيحة هذا اليوم أذاعت السفارة البريطانية في الصحف ما يأتي:

قرر الوفد البريطاني للمفاوضات بموافقة دولة إسماعيل صدقي باشا أن يصدر بيانًا عن السياسة البريطانية في هذه المفاوضات، التي كثرت التكهنات حولها في الآونة الأخيرة، وفيما يلي نص البيان:

«إن السياسة المقررة لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة (بريطانيا)، هي توطيد محالفتها مع مصر على أساس المساواة بين أمتين تجمع بينهما مصالح مشتركة.

وعملًا بهذه السياسة بدأت المفاوضات في جو من المودة وحسن النية، فعرضت الحكومة البريطانية أن تسحب جميع قواتها البحرية والبرية والجوية من الأراضي المصرية، وأن يتقرر بالمفاوضات تحديد مراحل جلائها، والموعد الذي يتم فيه والتدابير التي تتخذها الحكومة المصرية لتحقيق التعاون في حالة الحرب، أو خطر حرب وشيك الوقوع طبقًا للمحالفة.»

هذا هو البيان الذي صرحت به الحكومة البريطانية على لسان وفدها، وهو أول بيان من نوعه، ويدلك على أهميته وخطره أنه لم يقابل من حزب المحافظين البريطانيين، وعلى رأسهم مستر تشرشل بالارتياح، وأذكر أنه وقف في مجلس العموم معترضًا عليه كل الاعتراض عندما ألقاه مستر آتلي، فقد نهض في اهتمام قائلًا: «إن هذا البيان خطير الشأن، وهو من أخطر ما ألقي في هذا المجلس من بيانات … إذ يعرض على مصر سحب جميع قواتنا البرية والبحرية والجوية من أراضيها، عند الشروع في المفاوضات معها … وإني أرى من الواجب أن أسجل في هذه اللحظة أنها لم تستشر أحدًا في هذه البلاد بأية طريقة كانت، وإني شخصيًّا لم أعرف هذا القرار إلا قبل تلاوته بنصف ساعة … إنها خطة وضعتها الحكومة من تلقاء نفسها، فيجب أن تقع المسئولية عليها، ومن جهة أخرى يبدو لي أن المعارضة ترى من الواجب عليها الإشارة إلى خطورة الحالة.

إن ذلك العمل العظيم الذي قمنا به في تلك البلاد خلال ستين سنة من الدبلوماسية والإدارة، قد ألقي به في كثير من الخزي والهوس!»

•••

هذا بعض ما قوبل به هذا البيان من المعارضة البريطانية، وهو يدلك على أهميته، وعلى أنه بالنسبة لمصر كان فاتحة سعيدة ومباركة للمفاوضات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤