ختام المفاوضات

تضمن الفصل السابق نص البيان الذي وضعته غالبية هيئة المفاوضة المصرية، التي رأت رفض المشروع الذي عدنا به من لندن في وضعه الجديد، ولم يكن هذا البيان محل بحث ومداولة في الهيئة، التي كان مزمعًا عقدها من جديد، لعرض البيانات التفصيلية والردود التي كنا نؤمل معها إقناع الهيئة بسلامة موقفنا، وبصواب الآراء التي انتهينا إليها، واتفاقها لا مع مصلحة البلاد فحسب، بل مع التوجيهات العامة والمفصلة، التي كانت الهيئة قد أشارت بها، فوصلنا مع الجانب البريطاني إلى ما هو أفضل منها، مما بيناه فيما سبق بالتفصيل، وكنا قد وضعنا من أجل ذلك بحثًا مقارنًا نشره «المصور» لم نترك فيه نصًّا ولا اعتراضًا إلا وسلطنا عليه أنوار الحقيقة والواقع، وفندنا فيه ما جاء على لسان بعض أعضاء الهيئة من اعتراض … على أن البحث المذكور — وقد وضع الآن تحت نظر الكافة — لم يفز بأية عناية من جانب غالبية الهيئة، التي أصرت على موقفها إلى الدرجة التي رأت معها تجنب كل مداولة جديدة، والإصرار على الرفض بغير ما بحث ولا مناقشة.

وقد أدت هذه الحالة الواضحة الشذوذ إلى استصدار مرسوم بحل الوفد الرسمي للمفاوضات، بني على أن أغلبية هذه الهيئة أعلنت جهارًا رأيها في المفاوضات الجارية، وبذلك أصبحت مهمتها غير ذات موضوع … ولما كان المتفق عليه مع الجانب البريطاني هو عرض المشروع على مجلس وزرائهم، فقد أبلغنا عمرو باشا تلغرافيًّا أن مجلس الوزراء، الذي عرض عليه المشروع لدى عودتنا من لندن فأقره، قد أعاد النظر فيه تفصيلًا بجلسة خاصة، فأيد قراره الأول بإجماع آراء أعضائه، ولم يكتف المجلس بذلك بل رأى — على أثر بعض استجوابات تقدمت بمجلس النواب — أن يكون مشروع المعاهدة محل بحث هذه الهيئة في جلسة سرية، تطلب فيها الحكومة منحها الثقة اللازمة للمضي في تحديد العلاقات المصرية البريطانية تحديدًا يتفق وأهداف البلاد.

وقد عقدت جلسة مجلس النواب في اليوم التالي لقرار مجلس الوزراء، ووضعت تحت أنظاره جميع البيانات الخاصة بالموضوع بما فيها اعتراضات غالبية هيئة المفاوضة، وردودنا عليها، فنالت الحكومة الثقة بغالبية ١٥٩ صوتًا مع امتناع ثلاثة أصوات، وتخلف ٥٥ نائبًا، اعترضوا على سرية الجلسة، فانسحبوا من المجلس ولم يشتركوا في المداولات.

ومما هو جدير بالذكر أن المغفور له «النقراشي باشا» — وقد كان عضوًا في هيئة المفاوضة المنحلة — قد تولى في هذه الجلسة الدفاع عن المشروع، مبينًا في بلاغة وفي يقين، النواحي العديدة التي جعلت منه مشروعًا متفقًا مع مصلحة البلاد كل الاتفاق، وقد كان لبيان رئيس الحزب السعدي الأثر الكبير في توجيه رأي النواب، نحو الثقة بالحكومة والموافقة على تصرفها.

الدفاع المشترك … وحلف الأطلنطي

وغني عن البيان، أن مسائل السودان وشروط المحالفة، والأوضاع الجديدة لهيئة الدفاع المشترك التي أقامت الكثيرين وأقعدتهم، فجعلوا منها التكأة التي حاولوا بها تأليب الرأي العام على المعاهدة … كان كل ذلك مثارًا للكثير من الأخذ والرد، اللذين انتهينا باقتناع النواب بصلاحية المشروع بكامل نصوصه، بل بالترحيب به.

وعلى ذكر المحالفة والدفاع المشترك، لعله يكون من الخير، ومن الإنصاف في الوقت ذاته، لواضعي مشروع المعاهدة المصرية البريطانية، الإشارة إلى تأييد الرأي الذي أجمعت عليه دول الغرب في الآونة الأخيرة، ممثلًا في نصوص «حلف الأطلنطي»، الذي عقد أخيرًا بين دول عدة، ومرده إلى ضرورة التحالف بين الدول ذات المصالح المتماثلة؛ للدفاع عن الكيان المشترك، وعن المبادئ التي رأت هذه الدول ضرورة الاستمساك بها … وقد بُني حلف الأطلنطي أول ما بني على ضرورة إنشاء مجالس الدفاع المشتركة، التي جعل من المهام الموكولة إليها — كما كان الحال في المشروع المصري البريطاني — تنسيق أدوات الدفاع، وتتبع أمور التسليح وتقويته؛ صونًا لتراث الإنسانية، ومحافظة على الحريات، ولم يقل أحد أن إيجاد أمثال هذه الهيئات مؤدٍّ إلى سيطرة بعض الدول على بعض، بل قد شعر الجميع أن الوضع الجديد كفيل باحترام جميع الحقوق، ومؤدٍّ إلى نشر الطمأنينة، وتجنيب الإنسانية شر الحروب والخصومات.

لماذا فشل المشروع؟

وقد كان المنتظر بعد أن أقر الجانب المصري مشروع المعاهدة، أن يتوج بالتصديق الرسمي من الطرفين، ولكن عين الاستعمار كانت ساهرة، والدسائس التي أشرنا إليها فيما سبق — ومقرها دوائر حكومة السودان من ناحية، وبعض دوائر وزارة الخارجية البريطانية من ناحية أخرى — كانت تعمل عملها، فتمخض كل ذلك عن مذكرة سُلمت إلينا في ٦ ديسمبر سنة ١٩٤٦، رددنا عليها بمذكرة في اليوم التالي لورودها، وفي هذه المذكرة التي نختتم بها بيان الأوضاع الأخيرة للموقف المصري في عهد الوزارة، التي كنت متشرفًا برئاستها، جميع ما يحتاج إليه كل راغب في تتبع الحوادث والمرامي؛ ليبدي في أمر المفاوضات الأخيرة بين مصر وبريطانيا حكمًا صحيحًا عادلًا.

وفيما يلي ترجمة المذكرة التي وضعناها في هذا الصدد، ورأينا بعد وضعها التخلي عن الحكم، سواء لحالة صحية استبدت بنا؛ أو لأننا رأينا، أن الأولى بتولي الحكم في مثل الظروف التي صادفتنا يومئذ من يكون أقدر منا على الاستعانة بالرأي العام ممثلًا في الأحزاب صاحبة الأغلبية.

مذكرتي الأخيرة للحكومة البريطانية

تعقيبًا على مذكرة صاحب الجلالة البريطانية، التي سلمت في ٦ ديسمبر سنة ١٩٤٦ إلى سعادة سفير مصر في بريطانيا العظمى، تتشرف الحكومة الملكية المصرية بأن ترد فيما يلي على مختلف المسائل التي عولجت في المذكرة المشار إليها.

فيما يتعلق بالسودان، يتضح من مشروع الخطاب الذي أعده مستر بيفن، ومن التصريحات التي قد يدلي بها في مجلس العموم، أن بروتوكول السودان سينص على منح السودانيين من الآن حق المطالبة بالاستقلال التام؛ أي بعبارة أخرى حق الانفصال التام عن مصر … لكن المفاوضين المصريين لم يوافقوا — ولم يكن في وسعهم أن يوافقوا — على أن يكون النص الذي تعترف بريطانيا العظمى بموجبه بوحدة مصر والسودان تحت تاج واحد، هو التاج المصري، متضمنًا في آن واحد التخلي عن هذه السيادة بمنح السودانيين حق المطالبة بالاستقلال والانفصال عن مصر.

وقد حدث فعلًا أن اقترح المفاوضون البريطانيون مشروعًا لبروتوكول، ذكر فيه حق السودانيين في أن يعلنوا استقلالهم، ولكن المفاوضين المصريين رفضوا هذا النص، وأقر الفريق البريطاني هذا الرفض.

بل إن النص النهائي للبروتوكول لم يقصد به غير الحكم الذاتي، فضلًا عن أنه حرص على تحديد حق السودانيين في اختيار نظام السودان المقبل، فوصفه بأنه حق ناتج عن «قدرة الشعب على إدارة نفسه» أي لا يتعدى الإدارة الذاتية الداخلية، ولا يعني مطلقًا الانفصال سياسيًّا عن مصر.

وزيادة عما تقدم، فإن سياسة الطرفين الساميين المتعاقدين في السودان، يجب أن تطبق في نطاق وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، وهذا يستبعد اعتراف مصر وبريطانيا العظمى بحق السودانيين في قطع العلاقات، التي تربطهم بمصر وتاج مصر قطعًا تامًّا.

وعلى هذا، فلا يسع الحكومة الملكية المصرية إلا أن تبدي دهشتها من تفسير الحكومة البريطانية لنصوص البروتوكول، تفسيرًا يفقد هذا البروتوكول كل معنى وكل مفعول.

والحكومة الملكية المصرية حريصة على أن توضح مرة أخرى، أن سيادة مصر على السودان قائمة من الوجهتين التاريخية والشرعية، بصرف النظر عن اعتراف بريطانيا العظمى بهذه السيادة، فهي ليست حادثًا جديدًا من شأنه تعديل النظام الذي يخضع له السودانيون، بل هي تسجيل لحالة قائمة ليس في وسع أية هيئة دولية أن تعترض عليها.

وقد يحدث في المستقبل أن يؤثر السودانيون الاستقلال على الاتحاد مع مصر، ففي هذه الحالة ستتخذ مصر القرار، الذي تمليه عليها الروابط الأخوية التي تربط مصر بالسودان.

غير أن الاستقلال مسألة قومية تهم فقط الشعب الذي يطلب الاستقلال، والدولة التي تمنحه أو تعترف به، وليس من شأن أية دولة، حتى ولو كان لها حق الاشتراك في إدارة الشعب الذي يهمه الأمر، أن تتدخل فتطلب باسم هذا الشعب استقلالًا لا يملك الشعب بعد قدرة للمطالبة به.

وفضلًا عن هذا، فإن التخلي عن السيادة المصرية على السودان، لمدة غير محدودة في المستقبل لا يصح تسجيله في بروتوكول ملحق بمعاهدة تحالف ثنائية، تعقد لمدة عشرين سنة.

فلهذا لا يسع الحكومة الملكية المصرية — بهذا الصدد — أن توافق على تفسير الحكومة البريطانية لبروتوكول السودان، سواء في التصريحات التي قد يدلي بها مستر بيفن في البرلمان، أو في مشروع الخطاب الذي عرضه على الحكومة الملكية.

•••

وطلب مستر بيفن أن يكون مفهومًا بصورة قاطعة أن نظام الحكم الحاضر في السودان سيظل محترمًا … وقد وافق المفاوضون المصريون في لندن على أن النظام الإداري، الذي نصت عليه اتفاقية ١٨٩٩، وعدلته معاهدة ١٩٣٦ سيظل نافذًا، غير أن الموافقة على استمرار نظام إداري معين، لا تعني مطلقًا أن هذا النظام يجب أن يظل نافذًا في المستقبل بدون أي تعديل، بل بالعكس، فإن البروتوكول نفسه ينص على أن يكون الهدف الجوهري لسياسة الطرفين الساميين المتعاقدين، ورفاهية السودانيين، وإنماء مصالحهم، وإعدادهم باطراد للحكم الذاتي، ومن ثم لممارسة ما ينتج عنه من حق اختيار النظام القادم للسودان.

فمن واجب الحكومة المصرية إذن أن تتأكد من أن الإدارة الحالية تسير وفقًا للتوجيهات، التي رسمها البروتوكول، فالنظام الإداري القائم الآن ليس نهائيًّا غير قابل للتعديل — بل بالعكس — فإنه يجب أن يتطور لبلوغ الهدف الذي حدده الطرفان الساميان المتعاقدان … ولتحقيق هذا التطور، يحق لمصر، ويجب عليها أن تبدي الملاحظات والاقتراحات التي تراها لازمة، كما أنه لا بد لها من الاطلاع اطلاعًا تامًّا ومستمرًّا على التدابير، التي تتخذها الإدارة الحاضرة في السودان؛ لتنفيذ السياسة التي تعهد الطرفان الساميان المتعاقدان على تطبيقها في السودان …

فتفسير البروتوكول على النحو الذي يبدو أن الطرف البريطاني يريد التمسك به، يكون معناه تجريد نص البروتوكول الخاص بالسودان، والسياسة التي تعهد بها الطرفان الساميان المتعاقدان، من مفعولهما بتاتًا.

•••

ويحوي مشروع الخطاب أيضًا الاعتراف لبريطانيا العظمى بحق تأمين الدفاع عن السودان، بوساطة القوات المسلحة والتسهيلات التي قد تطلبها … ويبدو من هذا النص أن مهمة الدفاع عن السودان تقع على عاتق بريطانيا العظمى وحدها، في حين أن لمصر حقًّا على الأقل متساويًا مع حق بريطانيا العظمى في هذا الصدد … فعلى مصر إذن أن تقول أيضًا كلمتها في المسائل المتعلقة بالدفاع عن السودان؛ لأنه جزء من الدفاع عن مصر نفسها، وفي المسائل المتعلقة بالقوات البريطانية التي قد توجد في السودان، إذ إن مصر نفسها قد تضطر إلى إرسال قوات مصرية إليه … فهذه المسائل يجب أن تكون في الوقت المناسب موضوعًا للبحث من جانب مصر وبريطانيا العظمى، خصوصًا وأن وجود قوات بريطانية الآن في السودان لم يكن موضع اعتراض من جانب مصر.

•••

ومشروع الخطاب يمس أيضًا مسألتين أخريين، الأولى: حق المرور أو «الترانزيت» لبريطانيا العظمى في مصر، وحق تحليق الطائرات البريطانية في جو مصر خلال مدة الجلاء، ثم حق تحليق الطائرات بعد الجلاء … والثانية: بقاء الالتزامات المالية الناتجة عن تطبيق معاهدة ١٩٣٦ بعد إلغاء هذه المعاهدة.

وقد تم الاتفاق في لندن على أن تكون مسألة تحليق الطائرات، بعد الجلاء موضع مناقشة تجرى بعد التوقيع على المعاهدة للوصول إلى اتفاق بهذا الصدد، أما تصفية الحقوق والالتزامات المالية الخاصة بالطرفين، فإنه لا يمكن إجراؤها إلا بعد أن توضع المعاهدة الجديدة موضع التنفيذ، فضلًا عن أن هذه التصفية تتطلب اتفاقًا بين الحكومتين.

وقد رفض المفاوضون المصريون في محادثات لندن الاقتراح البريطاني الرامي إلى حل هذه المسائل بموجب رسائل تلحق بالمعاهدة، فإن الطرف المصري لم يشأ أن يكرر الإجراء، الذي اتبع في معاهدة ١٩٣٦، باعتبار أن معاهدة التحالف المثالية بين بلدين يعترف كل منهما بسيادة الآخر واستقلاله، لا يمكن أن تكون غير اتفاق بسيط واضح، وإذا اقتضت هذه المعاهدة إضافة ملاحق عديدة مفصلة، فمعنى هذا أنها تحوي بنودًا غير عادية لا تنسجم مع معاهدة تحالف مثالية.

وقد رفض المفاوضون المصريون — وهم في هذا محقون — أنه إذا نشأت في المستقبل مسائل تقتضي اتفاقًا تكميليًّا، فالمفهوم أن تدرس الحكومتان تلك المسائل في وقتها، بغية الوصول إلى حلها بتفاهم متبادل.

لهذا كله، لا يسع الحكومة الملكية المصرية أن تقبل اقتراح مستر بيفن بالتوقيع على مشروع الخطاب الذي أعده.

•••

أما فيما يتعلق باستقلال السودان، وباستمرار النظام الإداري الحاضر فيه، فإن الحكومة الملكية المصرية لا يسعها أيضًا قبول تفسير الجانب البريطاني، كما هو موضح في مشروع الخطاب، أو في ملخص للتصريحات التي قد يدلي بها مستر بيفن في مجلس العموم.

وتحرص الحكومة الملكية على أن توضح من ناحية أخرى، أن مقدمة النصوص التي وقع عليها بالحروف الأولى في لندن، تقضي بأن تُعرض هذه النصوص على الحكومة المصرية، حتى إذا ما وافقت عليها عمد مستر بيفن إلى توصية الحكومة البريطانية بإعطاء موافقتها أيضًا.

وقد نفذ الجانب المصري هذا الشرط، ولم يوافق على النصوص مجلس الوزراء فحسب، بل إن مجلس النواب أيضًا قد وافق على السياسة التي أثبتتها الحكومة، فكان يجب أن تكون هذه النصوص وموافقة الحكومتين عليها، بمثابة المرحلة الختامية للمفاوضات … غير أنه يبدو الآن أن الحكومة البريطانية تريد إعادة فتح المفاوضات، وإدخالها في مرحلة جديدة لا يرغب المفاوضون المصريون الاشتراك فيها؛ لأن الحكومة المصرية لا يسعها إلا أن تتمسك بالنصوص التي وافقت عليها، والتي أقرها مستر بيفن.

ولا يخامر الحكومة الملكية المصرية شك في أن الاعتبارات الموضحة فيما تقدم، ستحمل مستر بيفن على أن يعرض على مجلس الوزراء البريطاني النصوص، التي وضعت في لندن ووقعت بالحروف الأولى، بدون أي تعديل أو إضافة، وأن الاعتبارات المشار إليها ستحمل الحكومة البريطانية من ناحيتها على الموافقة على النصوص، التي سبق للحكومة المصرية أن وافقت عليها.

٧ ديسمبر ١٩٤٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤