بحث مقارن

في مختلف مشروعات المعاهدة

المادة الثانية

  • (١)
    تقتضي الصيغة الجديدة للمادة الثانية التي تضمنت «أنه في حالة اشتباك المملكة المتحدة في حرب بسبب اعتداء على البلاد المتاخمة لمصر» توافر ثلاثة شروط مجتمعة؛ لكي تشتبك مصر في حرب، وهذه الشروط هي:
    • (أ)

      أن يكون هناك اعتداء مسلح، فخرج بذلك اشتراك في حرب هجومية.

    • (ب)

      وأن يقع هذا الاعتداء على إحدى البلاد المتاخمة لمصر.

    • (جـ)

      وإن يجر فعلًا هذا الاعتداء، بريطانيا إلى حرب ضد البلد المعتدي، فإذا وقع اعتداء على بلد متاخم، ورأت بريطانيا العظمى عدم التدخل عسكريًّا، رغبة منها في حصر النزاع محليًّا مثلًا، بقيت مصر على الحياد، وكذلك الشأن إذا هوجمت القوات البريطانية في بلد متاخم بوساطة قوات هذا البلد أو سكانه، فإنه لا يترتب على ذلك أي التزام على مصر؛ لأن الاعتداء لم يقع على البلد نفسه.

      وهذه الصيغة التي تمتاز على الصيغة الأولى تحقق الرغبات، التي أبدتها هيئة المفاوضات المصرية.

  • (٢)

    أن فكرة تبادل المشاورة مقدمًا قبل اتخاذ أي عمل جاءت في المادة الثانية الجديدة مطابقة، من حيث المدلول للصيغة الأصلية للمادة، كما ارتأتها هيئة المفاوضات، وإن اختلفت عنها في الصياغة.

    على أن هناك تعديلًا أُدخل على العبارة الأخيرة من المادة يعد كسبًا جديدًا، ذلك أن المتعاقدين وأن يكونا قد التزما بمقتضى النص الجديد بأن يقوما — بالتعاون الوثيق بينهما — بالعمل الذي يريانه ضروريًّا، إلا أن هذا العمل لم يوصف بأنه «عمل مشترك»، إذ حذفت هذه العبارة الأخيرة التي كانت واردة في المادة الأصلية، وقد كان التعاون بين المتعاقدين يتناول، فضلًا عن الاستعداد للعمل العمل نفسه بحكم أنه كان لزامًا أن يكون «عملًا مشتركًا»، أما بحسب الصيغة الجديدة، فإنه من الجائز أن ينتهي القرار مثلًا إلى أن تعمل كل من القوات المصرية والبريطانية منفردة عن الأخرى، ولأهداف وأغراض مختلفة، أو أن يتم الاتفاق على أن العمليات الحربية خارج مصر تقوم بها القوات البريطانية وحدها، بينما تبقى القوات المصرية داخل الحدود المصرية؛ للدفاع عن المراكز الاستراتيجية أو المحافظة عليها.

    ومن الجائز أيضًا؛ نظرًا لتفوق بريطانيا العظمى في القوات الجوية والبحرية أن تتولى هي العمليات البحرية والجوية، بينما يقوم الجيش المصري بالعمليات البرية.

    والنتائج المترتبة على هذا التعديل تقضي بها طبائع الأشياء؛ نظرًا لما بين البلدين من عدم التناسب في القوات؛ ولضرورة أن يكون اشتراك مصر في العمليات الحربية في حدود مقدرتها العسكرية والاقتصادية والمالية. وما دام أنه ليس بلازم أن يكون القيام بالعمل الواجب «عملًا مشتركًا»، فسيكون لمصر حرية أوسع في الدفاع عن أراضيها؛ ولذلك أثره في أبحاث اللجنة المشتركة ما دام أن للجيش المصري من الآن أن يعمل مستقلًّا عن القوات البريطانية، مع بقائه في اتصال وثيق معها طبقًا للخطط الموضوعة بالاتفاق بينهما.

المادة الثالثة

  • (١)

    أضيفت إلى الفقرة الثالثة الجديدة «أن اللجنة هيئة استشارية»، وأهمية هذه العبارة من الوضوح، بحيث لا تحتاج إلى تعليق إذ إنها تقرر بإعلان صريح، وبصورة لا تقبل الجدال أن هذه اللجنة مجرد هيئة استشارية، وهذا الطابع الاستشاري لعمل اللجنة منصرف إلى أحكام المادة بأكملها بما فيها العبارة، التي أضيفت أخيرًا إلى الفقرة الثالثة؛ لأنه يتناول مجموع اختصاصات اللجنة المشتركة، وسيكون أساسًا لتحديدها، فالواقع أنه إذا قام خلاف حول مدى السلطة المخولة للجنة، أو إذا حاولت الحكومة البريطانية بطريق الضغط إقرار وجهة نظرها بوساطة اللجنة، فإن النص صراحة على أن اللجنة هيئة استشارية يمكِّن مصر من أن تعترض بصورة فعالة، على الادعاءات التي يخشى البعض وقوعها من الجانب البريطاني.

  • (٢)

    أضيفت إلى الفقرة الثالثة من المادة الأصلية، بعد عبارة «بناء على دعوة الحكومتين» عبارة «وعلى أساس البيانات المقدمة منهما»، وهذه العبارة الأخيرة تحد من سلطة اللجنة، وتمكن مصر من أن تعين المسألة التي يراد طرحها على اللجنة، وأن تحدد مداها وأن تبدي وجهة نظرها فيها قبل عرضها على اللجنة.

    وقد استبدلت عبارة Le cas echeant بعبارة Si besoin en est؛ إظهارًا لأن اللجنة لا تباشر اختصاصاتها المنصوص عليها في الفقرة الثالثة إلا عند الحاجة.
  • (٣)

    إن الإضافة التي أدخلت في لندن على الفقرة الأخيرة من المادة الثالثة، لا تُزيد في اختصاصات اللجنة، فقد كان النص الأصلي يجيز لها التقدم بالتوصيات المناسبة، بعد درس أي حادث من شأنه أن يهدد الأمن في الشرق الأوسط، وهذه عبارة عامة تشمل طبعًا البلاد المجاورة لمصر.

    على أنه لما كان الخطر الذي يهدد البلاد المجاورة أقرب إلى مصر وأكثر تهديدًا لها، فقد نصت المادة الجديدة على أنه بعد أن تقدم اللجنة توصياتها تقوم الحكومتان بتبادل الرأي فيما بينهما، بقصد اتخاذ جميع التدابير التي يرى ضرورة اتخاذها.

وهذه البلاد المجاورة هي البلاد العربية، التي ارتبطت مصر معها بميثاق الوحدة العربية، وتقضي المادة السادسة من هذا الميثاق بأنه في حالة وقوع أي اعتداء ضد إحدى الدول الأعضاء، فإن الدولة المعتدى عليها، أو المهددة بالاعتداء يكون لها الحق في أن تطلب انعقاد المجلس فورًا، وبأن للمجلس أن يحدد بالإجماع التدابير التي يراها ضرورية لرد الاعتداء.

وتكاد تكون هذه الحالة هي الحالة المنصوص عليها في الفقرة الثالثة المشار إليها؛ لأن كلتيهما تتناول في الواقع حالة تهديد موجه لبلد عربي، ولما كانت بريطانيا العظمى حليفة للعراق وشرق الأردن، فإنه من الطبيعي أن يقتضي هذا التهديد مشاورات بينها وبين حليفتيها، وذلك بخلاف ما قد يدور بين البلاد العربية من مشاورات لنفس الغرض، ولقد أثارت عبارة «بقصد اتخاذ …» مخاوف أحد أعضاء هيئة المفاوضة؛ ظنًّا منه أن هذه العبارة لا تقرر وجوب التشاور فحسب، ولكنها تقرر كذلك في جميع الحالات وجوب اتخاذ تدابير عقب هذه المشاورة، على أن عبارة «بقصد اتخاذ تدابير» إنما تحدد موضوع المشاورة، والغرض منها، ولكنها لا تعني أن هناك تدابير يجب حتمًا اتخاذها على أثر هذه المشاورات، فقد تنتهي المشارة إلى أنه من المستحسن عدم اتخاذ أي تدبير. وهذا ما قد يحدث إذا ما اجتمع مفوضون بقصد إعادة النظر في معاهدة أو إبرام اتفاق أو عند عقد مؤتمر دولي بقصد تسوية مسألة معينة، فقد ينتهي الأمر بسبب عدم الاتفاق في الرأي إلى عدم إعادة النظر في المعاهدة أو عدم إبرامها أو أن تبقى المسألة المطروحة للنظر بغير حل، فالقول إذن بأن المشاورة تقتضي حتمًا وبصفة آلية اتخاذ التدابير، يتنافى مع فكرة التشاور التي تقوم على حرية التقدير.

يضاف إلى ذلك أن نص الفقرة الثالثة صريح في هذا الخصوص، إذ إنه ينص صراحة على أن هذه التدابير يجب اتخاذها «بالاتفاق بينهما، فيتعين إذن أن يكون هناك قبول صريح من جانب الحكومة المصرية؛ لكي يكون القرار صحيحًا؛ ولكي يمكن تنفيذ أي تدبير، هذا فضلًا عن أن التدبير يجب أن يكون معترفًا بضرورته، الأمر الذي من شأنه أن يترك للحكومة المصرية حرية التقدير المطلقة، وأن يسمح لها برفض كل توصية أو اقتراح متذرعة في ذلك بأنها لا ترى وجه الضرورة فيه.»

وهكذا يكون للحكومة المصرية في جميع مراحل الإجراءات المشار إليها في الفقرة الأخيرة من المادة الثالثة، الحق في أن ترفض بمقتضى هذا النص السير في طريق يحاول الجانب البريطاني أن يدفعها فيه.

فمن المتعين أولًا أن يكون توجيه الدعوى للجنة المشتركة من الحكومتين معًا، ويجب أن يكون بحث اللجنة على أساس البيانات المقدمة منهما، وإذن لا تملك الحكومة البريطانية وحدها أن تطلب إلى اللجنة درس إحدى المسائل، أو تقديم توصيات في الحالة المنصوص عليها في المادة الثالثة.

وفضلًا عن ذلك فإن اللجنة عندما تطرح عليها مسألة معينة، لا تستطيع أن تقدم بشأنها توصية للحكومتين، إلا باتفاق رأي المندوبين المصريين والبريطانيين، ولما كان البلدان ممثلين في اللجنة على قدم المساواة، ولكل منهما حقوق متساوية، فليس هناك أغلبية تستطيع إملاء إرادتها على أقلية، فإن لم يتفق مندوبو الدولتين فلا تكون هناك توصيات تقدمها اللجنة إلى الحكومتين، وفي اللجنة المشتركة بين كندا والولايات المتحدة، والتي أخذت عنها فكرة اللجنة المصرية البريطانية يكون ممثلو هذين البلدين في اللجنة فريقين مستقلين، أحدهما كندي والآخر أميركي، وتتعين موافقة هذين الفريقين؛ حتى يمكن التقدم بتوصية للحكومتين. ولكل من الحكومتين الموافقة على التوصيات أو مطالبة الحكومة الأخرى بتعديلات أو رفض التوصية، وهكذا لا يمكن وضع التوصية موضع التنفيذ إلا في الحالة التي تتفق فيها الحكومتان عن طريق تبادل مذكرات في هذا الخصوص.

وستوضع فيما بعد لائحة داخلية للجنة المشتركة المصرية والبريطانية، ولما كانت موافقة الحكومة المصرية على هذه اللائحة لازمة فإن من حقها أن تطالب عند ذاك بتطبيق القواعد المتقدم ذكرها، إذ إن اللجنة الأميركية الكندية هي التي يجب بطبيعة الحال اتخاذها نموذجًا للسير عليها.

لقد أثيرت المخاوف من أن الفقرة الجديدة للمادة الثانية، يمكن أن تتخذها الحكومة البريطانية ذريعة لإعادة قواتها إلى البلاد المصرية في حالة تهديد الأمن في بلد مجاور لمصر.

وقد بينا فيما تقدم أنه في هذه الحالة الخاصة، كما في الحالات الأخرى التي يراد فيها إنفاذ تدبير معين، يجوز لمصر في أثناء المشاورة أن ترفض الاقتراح، وأن تعارض في تنفيذه.

وفي هذا الخصوص يلاحظ إلى جانب ما تقدم أن المادة الثانية إنما تتكلم عن عمل Action، بينما المادة الثالثة تتكلم عن تدابير Mesures، ويفرق ميثاق الأمم المتحدة في الفصل الخاص بما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم «تفرقة كاملة بين العمل من جهة والتدابير من جهة أخرى»، فالعمل المنصوص عليه في المادة ٤٢ يشير بنوع خاص إلى استعمال القوات المسلحة، ويجوز أن يشمل العمل المظاهرات والحصر وغيرها من العمليات التي تنفذ بوساطة هذه القوات العسكرية، أما كلمة التدابير فإنها على العكس يراد بها طريقة تدخل مجلس الأمن في المرحلة الأولى، ولا تنطوي على استعمال القوة المسلحة، وتدخل فيها محاولة التوفيق والتوسع والتدخل الودي لتسوية الخلاف، ثم فيما بعد قطع العلاقات الاقتصادية والمواصلات من أي نوع قطعًا كليًّا أو جزئيًّا، وكذلك قطع العلاقات الدبلوماسية، «تراجع المواد ٣٩ و٤٠ و٤١ من الميثاق.»

وقد كانت المقترحات البريطانية تتضمن في المادة الثالثة كلمة «العمل»، ولكني رفضت أن يكون هناك ارتباط ما بين فكرة «العمل» وفكرة «تهديد الأمن»؛ ولذلك اعترضت في محادثاتي مع مستر بيفن على هذا النص، واقترحت أن تستبدل به كلمة «تدبير» ملاحظًا أن الأمر يتعلق بتدابير ذات صبغة سياسية واقتصادية، وقد أقر مستر بيفن وجهة النظر هذه، وقبل النص المعدل وفقًا لاقتراحي.

وأخيرًا فإن اتفاقًا كالاتفاق المصري البريطاني يدخل في رأي هيئة الأمم المتحدة في عداد الاتفاقات الإقليمية، وبهذا الوصف يكون لمجلس الأمن الإشراف على كل عمل تم، أو يراد اتخاذه طبقًا لاتفاقات إقليمية «مادة ٥٤»، كما أنه لا يجوز اتخاذ أي عمل من أعمال القمع تنفيذًا لمثل هذه الاتفاقات، بدون إذن مجلس الأمن «مادة ٥٣».

وفي هذا ضمان إضافي لمصر تأمن معه احتمال حصول ضغط من جانب الحكومة البريطانية؛ لحملها على قبول تدابير لا ترضاها كدخول قوات بريطانية أرض مصر في حالة التهديد بوقوع حرب.

فإذا حدث بعد الجلاء أن أعادت بريطانيا العظمى قواتها إلى الأراضي المصرية على غير إرادة مصر، فإنها بذلك تكون معتدية على القانون الدولي اعتداءً، لا يقل خطورة ولا جرأة عن اعتدائها على بلد، ليس بينها وبينه أية معاهدة، فقد يكون لها في هذه الحالة الأخيرة أن تدفع بعدم وجود روابط، وأن الضرورة ألجأتها إلى الانفراد في العمل لتحقيق الدفاع عن نفسها، بيد أن تصرفها على هذا الوجه مع قيام الاتفاق المصري البريطاني يعتبر خروجًا على صريح النصوص التي وقعتها، الأمر الذي يمكِّن مصر أولًا من إعلان أن اتفاق المساعدة المتبادلة يعتبر لاغيًا وكأن لم يكن، وثانيًا من أن تطلب إلى مجلس الأمن أن يتدخل على أساس انتهاك حرمة تعهدات صريحة.

المادة السادسة

سبق أن قبلت الحكومة المصرية في سنة ١٩٣٩ أسوة بأغلب البلاد الأخرى المعاملة بمقتضى المادة ٣٦، فقرة ٢ من نظام محكمة العدل الدولية، كما قبلت الاختصاص الإلزامي لتلك المحكمة في فض الخلافات ذات الطابع القانوني، الوارد ذكرها في هذه المادة.

ولما كانت بريطانيا العظمى قد قبلت هي الأخرى هذا الشرط، فلا يكون ثمة مانع من الإشارة إلى ذلك في المعاهدة، ما دام أن هذا لا يضيف التزامًا جديدًا إلى النصوص، التي سبق أن قبلتهما هيئة المفاوضات المصرية.

بروتوكول خاص بالسودان

يتضمن البروتوكول أولًا إعلان وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، وهذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها بريطانيا العظمى اعترافًا قاطعًا صريحًا في وثيقة دولية، بسيادة مصر على السودان، وهذا الاعتراف من شأنه أن يضع حدًّا نهائيًّا للسياسة، التي تتبعها بريطانيا العظمى أو ممثلوها في السودان؛ لكي تضمن لنفسها جزءًا من السيادة على السودان بطرق مختلفة، كتسميته في الوثائق الرسمية بالممتلكات الإنجليزية المصرية المشتركة Condominium angol-égyptien، تلك التسمية التي تفرض وجودة سيادة مشتركة. وقد أوجدت هذه السياسة فكرة خاطئة في الخارج عن حقوق مصر في السودان، حتى بين ممثلي الحكومات ورجال الفقه، نذكر منهم على سبيل المثال الفقيه المعروف فوشيل Fauchille في كتابه المعنون «القانون الدولي العام» فقد ذكر السودان تحت باب عنوانه Copropriété, condominium, Co-impérium، وهو يتكلم عن السيادة المشتركة بين مصر وبريطانيا العظمى على السودان.

ولهذا البروتوكول مزية كبرى، وهو أنه سيجعل سيادة مصر وحدها على السودان في نظر جميع الدول أمرًا لا جدال فيه، وقد يكون لذلك في المستقبل أهمية كبرى فيما لو طرحت يومًا أمام هيئة الأمم المتحدة، مسألة ما تتعلق بالسودان.

غير أن إعلان هذه السيادة لقي اعتراضًا أساسه ما ورد في البروتوكول خاصًّا بالسياسة، التي سيتبعها المتعاقدان في السودان، والتي نص على أن يكون هدفها الأساسي رفاهية السودانيين، وإعدادهم الفعلي للحكم الذاتي، ومباشرة الحقوق المترتبة على ذلك، وهي اختيار نظام الحكم في السودان في المستقبل.

ولكي يمكن تفهم مدلول هذا النص يتعين أولًا تحديد المعنى المقصود بالحكم الذاتي self-government، وهذه العبارة بحسب القانون الدولي لا تعتبر معادلة لكلمة «الاستقلال» ولا لعبارة «حق السيادة»، وقد استعمل ميثاق الأمم المتحدة عبارة «الحكم الذاتي» في الباب الخاص بنظام الوصاية الدولي، وذلك عندما تكلم عن التقدم المطرد لسكان البلاد الخاضعة للوصاية، الأمر الذي عبرت عنه المادة ٧٦ من الميثاق المذكور بالنص الآتي:
Their progressive development towards self-government or independence.
وترجمته بالفرنسية كالآتي:
Leur évolution progressive vers la capacité â s’administrer eux-mêmes ou l’indépendance.
وعلى هذا لا تفيد عبارة Self-government إلا الحكم الذاتي الإداري Autonomie administrative وذلك بحسب ما انتهى إليه التفسير الرسمي الأخير الصادر عن أكبر هيئة مختصة، وهو التفسير الذي أقرته مصر وبريطانيا العظمى، ومعهما جميع الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة، وهذا الحكم الذاتي الإداري يختلف عن الاستقلال Indépendance الذي عرفه الفقهاء بأنه السيادة الداخلية La souveraineté intérieure.

على أن هذه المسألة لم تثر أي اعتراض في محادثاتنا بلندن، فقد فرق كل من الطرفين المصري والبريطاني بين الحكم الذاتي وبين الاستقلال.

لقد بينت في وضوح في مناسبات متعددة أننا نرغب في أن يتولى السودانيون إدارة شئونهم بأنفسهم، وأنه ليس في ذلك ما يتنافى مع ما لمصر من حق السيادة على السودان.

ولكن مما كان يشغل بال مستر بيفن على الخصوص، احتمال أن يطالب السودانيون بالاستقلال، فقد كان يرى في بدء المحادثات أن عليه التزامات قِبل السودانيين، ولا يستطيع أن يربطهم بمصر برباط لا تفصم عراه؛ لذلك كان يرى أن يدخل في المعاهدة نصًّا يتضمن تأكيدات للسودانيين عن مسألة الاستقلال، وقد نص في أحد المشروعات المقدمة من الجانب البريطاني على أن أحكام البروتوكول، لا تمنع السودانيين من أن يختاروا في المستقبل نظامًا يتضمن استقلال بلادهم استقلالًا تامًّا، وفقًا لأحكام ميثاق الأطلنطي، ولكنني حذفت هذا النص ورفضت رفضًا باتًّا أن ترد في البروتوكول أية إشارة تفيد التنازل، ولو بطريق الفرض عن سيادة مصر على السودان.

لقد بينت لمستر بيفن أنه لا يتصور أن يطالب السودانيون يومًا بانفصالهم عن مصر، وأن هذا على كل حال مجرد فرض قد لا يقع إلا في المستقبل البعيد، بينما الاتفاق بين مصر وبريطانيا العظمى محدد له مدة عشرين سنة، بانتهائها يسترد كل بلد حريته، كما أوضحت له من جهة أخرى أنه إذا أثيرت هذه المسألة، فإن مصر على استعداد لحلها مع السودان بروح تسوده الصداقة الكاملة طبقًا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.

غير أن مستر بيفن مع استبعاده فكرة الاستقلال، والتنازل فيما بعد عن السيادة المصرية، كان يريد أن يعطي السودانيين تأكيدات عن مصيرهم؛ لذلك أصر على أن يضمن البروتوكول إشارة عن النظام المقبل للسودان.

إن كلمة نظام Statut ليس لها تعريف قانوني يحددها كعبارة Self-government بل هي كلمة عامة تتسع لشتى التفسيرات تبعًا للمناسبة التي تستعمل فيها، وتلافيًا للعيوب التي قد تنشأ عن عدم وجود تعريف لكلمة نظام Statut، انتهى الجانب المصري بعد بحث مختلف الصيغ إلى اختيار الصيغة الواردة في البروتوكول، وهي الصيغة التي وافق المستر بيفن في نهاية الأمر على قبولها، وهذه الصيغة ترتب على الحكم الذاتي الحق للسودانيين في أن يختاروا نظام الحكم في المستقبل، وإذن فإن هذا النص لا يمنح السودانيين بادئ الأمر الحكم الذاتي، ثم يمنحهم فيما بعد شيئًا يخرج عن نطاق الحكم الذاتي، وهو حق اختيار نظام سياسي دولي قد يتضمن الانفصال عن مصر، بل على العكس إن هذا النص يبين بجلاء أن حق اختيار نظام الحكم في المستقبل، إنما يأتي كنتيجة تبعية لتطبيق الحكم الذاتي، ولما كان الحكم الذاتي لا يعدو أن يكون استقلالًا إداريًّا، فإن النظام المقبل لا يمكن أن يتجاوز الحدود المرسومة للاستقلال الذاتي، ولا يمكن أن يكون سوى مجرد نظام إداري أو استقلال داخلي.
هذا إلى جانب أنه إذا أريد الادعاء بأن نظام الحكم المقبل Statut futur المنصوص عليه في البروتوكول هو نظام سياسي دولي، فإن في ذلك ما يتعارض مع صريح نصوص البروتوكول نفسه، فإن البروتوكول يوضح أن سياسة الحكومتين المتعاقدتين، ستجرى في نطاق وحدة مصر والسودان تحت تاج واحد هو التاج المصري، وإذن تكون هذه السياسة خاضعة لمبدأ سيادة مصر، وعلى ذلك لا يمكن أن تتضمن هذه السياسة تدابير تتعدى حدود السيادة أو تخرج عن نطاق وحدة البلدين تحت تاج واحد، وفي ذلك ما ينفي حق الانفصال أو حق مطالبة السودانيين بقطع رابطة السيادة التي لمصر عليهم.

وزيادة على ما تقدم، فإن الفقرة الثانية من البروتوكول تضمنت أن نظام الحكم المقبل سيتقرر باتفاق المتعاقدين بعد استشارة السودانيين، فإذا كان حق اختيار نظام الحكم في السودان المتفرع عن الحكم الذاتي يشمل حق السودانيين في الانفصال عن مصر، فإنه من الواضح أن نظام الاستقلال التام إذا ما اختاره السودانيون، يجب أن يتم بدون تدخل مصر لا أن يكون بموافقة الطرفين المتعاقدين، بمجرد استشارة السودانيين.

ومهما يكن وجه التفسير الذي يراد أن يعطى للنصوص الحالية، فإن سيادة مصر على السودان لا يمكن أن تزول إلا بمقتضى تنازل صريح يصدر من مصر في المستقبل، وذلك إما عقب ثورة يقوم بها الشعب السوداني، أو انفصال بالقوة فترضخ له مصر، وإما بتنازل اختياري، وذلك في حالة التسليم جدلًا بأن للسودانيين حق إعلان رغبتهم في الاستقلال على ما في ذلك من الخروج على أحكام البروتوكول.

فالواقع أنه ليس للسودانيين بمقتضى نص البروتوكول حق المطالبة بالانفصال.

يضاف إلى هذا أن النص على التنازل عن سيادة مصر، أو إنهاء هذه السيادة ولو بالنسبة للمستقبل، ليس مما يجوز درجه في بروتوكول من هذا القبيل يلحق بمعاهدة ثنائية.

إن إحداث مثل هذا التغيير الخطير في علاقة مصر بالسودان، لا يمكن أن يتم إلا بإعلان صريح ورسمي يعلن أولًا للشعب السوداني ويجوز قبوله ثم يعلن بعد ذلك إلى جميع الأمم المتحدة؛ لأن سيادة مصر قائمة قبل المعاهدة وذلك بالنسبة لجميع الدول. وقد تضمن البروتوكول موافقة بريطانيا العظمى على هذا الوضع فيما يتعلق بها، فهو لم ينشئ هذه السيادة.

والواقع أن البروتوكول نفسه فيما تضمنته الفقرة الأولى منه، يفرض على بريطانيا العظمى تغيير النظام الحالي؛ وذلك لا لمصلحة مصر بل لمصلحة السودانيين؛ وإذا كان سيادة مصر لها صفة الدوام، فإن النظام الإداري الحالي على عكس ذلك له طابع وقتي، ما دام أنه يجب أن يتدرج إلى الحكم الذاتي؛ أي استبعاد العناصر غير السودانية تدريجًا.

وقد نص البروتوكول علاوة على ذلك، على أن التغيير في النظام الحالي يقتضي اشتراك مصر وبريطانيا العظمى والسودانيين أنفسهم.

وبذلك تكون مصر قد اكتسبت حق الاشتراك في إعداد الإصلاحات الواجب إدخالها على نظام الحكم في السودان، وعليها من الآن أن تدرس، وأن تقترح التعديلات التي تراها ضرورية لتحقيق السياسة التي تعهدت مصر وبريطانيا العظمى بأن تنتهجاها، وسيكون لها أيضًا، قبل إقرار التعديلات المتقدم ذكرها الحق في أن تبحث، وأن تتحقق مما إذا كان النظام المقرر باتفاق سنة ١٨٩٩ يحقق بصورة كافية رفاهية السودانيين، وهي من الأغراض التي يهدف إليها المتعاقدان، ومما إذا كان هذا النظام يصلح أساسًا يقام عليه الحكم الذاتي.

وستتمكن مصر بما لها من حق التدخل والإشراف من أن تحمي مصالح السودانيين، وأن تعمل على تحسين حالهم. وبفضل هذا الحق من جهة، وتحللها من جهة أخرى من الاحتلال والنفوذ البريطانيين سيكون في استطاعتها أن تسترد، ولو بعضًا على الأقل من سلطانها ونفوذها في السودان؛ لأنها ستباشر نشاطها في ميدان أهم في نظر السودانيين من الإدارة العادية، باعتبار أنه سيكون هدفه تحقيق الآمال القومية السودانية، وتسوية مستقبل السودان تسوية دائمة.

لقد اعترض على البروتوكول أنه جاء خلوًّا من الإشارة إلى المفاوضات المقبلة، ولكن هذا الاعتراض مردود عليه بأن البروتوكول، بعد أن اعترف بوحدة مصر والسودان تحت التاج المصري قد حدد السياسة المقبلة التي يلتزم المتعاقدان بانتهاجها، وما كادت المحادثات لترمي إلى أغراض أخرى، سوى تحديد تلك السياسة.

ومؤدى هذه السياسة منح السودانيين الحكم الذاتي، وتحديد نظام الحكم المقبل في السودان، غير أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه تفصيلًا في الحال، بل يقتضي دراسات ومباحثات طويلة، إذ الأمر يتعلق بتطور مطرد يستغرق سنوات، وتنفيذ هذه السياسة التي سجل البروتوكول أغراضها نهائيًّا عمل يحتاج تحقيقه إلى وقت طويل بالاتفاق بين الحكومتين، وهو يستلزم تبادل وجهات النظر بينهما ومناقشات، وإعداد البرامج فضلًا عن الدخول في مفاوضات قد يكون لها طابع شبه دائم في خلال السنوات القادمة.

وفي أثناء المحادثات التي جرت في لندن، أعرب المستر بيفن عن ميله لإنشاء لجنة مشتركة دائمة للسودان، تقوم بدراسة وسائل النهوض بالسودانيين.

ويصعب من الآن معرفة أفضل وسيلة تستطيع بها مصر التدخل في الشئون السودانية، قد يكون في مصلحتها القيام بدراسات في السودان، إما منفردة أو بالاشتراك مع البريطانيين، وقد تفضل أن يكون لها في الخرطوم ممثل سامٍ دائم أو مكتب دائم، وأخيرًا قد يكون من الأفضل لها أن تعمل عن طريق اللجنة المشتركة التي اقترح المستر بيفن إنشاءها، ومهما يكن الأمر، فقد يكون من سبق الحوادث بالنسبة لمصر أن ترتبط من الآن في هذا الخصوص.

ويتعلق بالحكومات المصرية القادمة أن تباشر في يقظة وبالوسائل التي تراها أكثر ملاءمة، الحقوق التي تم الاعتراف بها لمصر، ومراقبة النظام الحالي والمساهمة في إعداد نظام الحكم المقبل في السودان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤