لماذا اختلفت مع الوفد في باريس؟

ذهبنا إلى باريس بعد الإفراج عنا من معتقلنا في مالطة في ٧ أبريل سنة ١٩١٩؛ لنشترك في مؤتمر السلام، وقد قدمنا طلبًا إليه فرفضه، وقد استقبلنا هذا المؤتمر بنشر بيان جاء فيه أنه من ضمن ما سيُفرض على ألمانيا اعترافها بالحماية البريطانية على مصر، وكان استقبال غير كريم أشعرنا لأول وهلة بنذير الفشل.

ومن غريب ما يُذكر هنا أن سعد باشا رئيس الوفد المصري ذهب عند وصولنا بنفسه إلى مقر كل عضو من أعضاء هذا المؤتمر، وترك له بطاقة باسمه، فلم يجيبوا على هذه المجاملة ما عدا واحدًا منهم هو السنيور أورلاندو، رئيس الحكومة الإيطالية وقتئذ.

ومع أن خطة هؤلاء المؤتمرين كانت تجاهلنا، فإن ذلك لم يمنعنا من تقديم المذكرة الفرنسية، التي تحدثت عنها في المقال السابق، والتي تتضمن عدالة مطالبنا.

وقد اتجهت خطتنا على أثر ذلك إلى نشر الدعاية الواسعة النطاق، سواء أكان ذلك عن طريق الصحف أم عن طريق التعرف إلى رجال السياسة حتى من غير أعضاء المؤتمر، وكان لي في ذلك دور ذو شأن رشحتني له معرفتي بباريس وإجادتي للغة الفرنسية، وكثرة اتصالي بالغربيين ومعرفتي للكثيرين منهم.

وفي ذلك الحين كانت الصحافة في فرنسا مقيدة بتعليمات وزارة الخارجية الفرنسية أو — بعبارة أصح — بتعليمات وزارة الخارجية البريطانية.

وقد تذكرت هذا الوضع بمناسبة ما صادفه دولة محمود فهمي النقراشي باشا ووفده في نيويورك!

ولذلك لما كتبت وقتئذ مقالًا في جريدة الطان الفرنسية، التي هي لسان حال وزارة الخارجية الفرنسية اعتُبر ذلك فوزًا عظيمًا، وعلمت من بعض الفرنسيين، الذين هنأوني على المقال أنه أحدث أثرًا بالغًا في أروقة مؤتمر السلام.

ومكثت في باريس أعمل في الوفد المصري برياسة سعد باشا، إلى أن وجدت آرائي في تصريف الأمور تخالف آراء بعض أعضائه؛ لأني كنت وما زلت لا أميل إلى تحكيم العواطف، بل إن خطتي على الدوام تتجه نحو الواقع المفيد، وترمي إلى الوصول إلى النتائج، فانفصلت عن الوفد، وعدت إلى مصر، وتبعني بعض أعضائه.

قيل وقتئذ إنني فُصلت من الوفد ولم أستقل، ونسبوا إلي أنني ذهبت إلى لندن، واتفقت مع بعض الساسة الإنجليز، والواقع أن ذلك لم يحصل، بدليل أنه على أثر عودتي إلى القاهرة، واشتراكي بلا تردد في الحركة الوطنية، بعث إلي القائد العام لجيش الاحتلال، وألزمني بأن أسافر إلى إحدى ضياعي بعيدًا عن القاهرة، بحيث تكون إقامتي في إحدى القرى التي تبعد عن أية مدينة بما لا يقل عن ستة كيلومترات، فاخترت الإقامة في بلدي (الغريب)، وبقيت معتقلًا بها إلى أن طلب عدلي باشا من اللورد ملنر حينما جاء في لجنة التحقيق، الإفراج عني … وقد أذعت في هذه الأثناء تكذيبًا لما نسبه البعض، قلت فيه:

إن الخبر الذي من مقتضاه أنني ذهبت إلى لندن، وقابلت فيه السر رونالد جراهام مكذوب، فضلًا عن كوني لم أكن عضوًا في اللجنة الفرعية، التي كان الوفد قد رأى إيفادها إلى لندن بناء على طلب الرئيس.

وأما الخبر القائل: بأنني طلبت المفاوضة مع إنجلترا على أساس الاستقلال الداخلي، وطرقت أبوابًا كان الوفد يرى عدم طرقها، وأن لدى معالي الرئيس مستندات قوية تثبت ذلك فقول غير صحيح، وإني أنتظر نشر هذه المستندات بطمأنينة.

مفاوضات عدلي – كرزون

في ١٦ مارس سنة ١٩٢١ تألفت وزارة عدلي يكن باشا الأولى، وكانت أول وزارة سياسية منذ استقالة وزارة رشدي باشا الرابعة سنة ١٩١٩، وقد اختير عدلي باشا رئيسًا، وحسين رشدي باشا نائبًا للرئيس، وعبد الخالق ثروت باشا وزيرًا للداخلية، واخترت أنا وزيرًا للمالية، وجعفر ولي باشا وزيرًا للمعارف، وأحمد مدحت يكن باشا وزيرًا للأوقاف، ومحمد شفيق باشا وزيرًا للأشغال والحربية والبحرية، وأحمد زيور باشا وزيرًا للمواصلات، وعبد الفتاح يحيى باشا وزيرًا للحقانية، ونجيب بطرس غالي باشا وزيرًا للزراعة.

وأهم ما جاء في برنامج هذه الوزارة أنها «ستقوم بتحديد العلاقات الجديدة بين مصر وبريطانيا للوصول إلى اتفاق يحقق استقلال مصر.»

قوبل تأليف هذه الوزارة من سعد باشا وأعضاء الوفد وسائر أفراد الأمة بالتأييد، وعاد اتحاد الأمة إلى ما كان عليه، وعاد سعد وإخوانه من باريس، واستقبل استقبالًا وطنيًّا حافلًا لا نظير له، وأخذت الوزارة في الاستعداد لمفاوضة الإنجليز، وذلك بتأليف وفد رسمي برياسة رئيس الحكومة وعضوية زعماء الأمة.

الخلاف على الرياسة!

وهنا كان الخلاف بين الوزارة وسعد باشا، فقد طلب سعد أولًا؛ أن تكون رياسة الوفد المفاوض له، وأن تكون أغلبية هذا الوفد من فريقه.

وكان ردنا على سعد باشا وقتئذ في هاتين المسألتين، أن التقاليد السياسية في جميع البلاد لا تسمح بحال من الأحوال أن يكون رئيس الحكومة مرءوسًا في هيئة تتفاوض مع حكومة أخرى، فضلًا عن أن التصرف في المفاوضات ليس من حق الرئيس بل من حق الهيئة.

وأما من جهة أغلبية الوفد، فإن المسألة ليست تحقيق أغلبية لجانب على جانب آخر؛ لأننا نمضي في المفاوضات لتقرير مستقبل مصر متفقين على خطة واحدة متشبعين بمبدأ واحد، وما دام الأمر كذلك فمن السهل الاتفاق على الأشخاص، الذين تتألف منهم هيئة المفاوضات.

ولكن سعد باشا لم يقتنع بهذا الرأي، واختلفنا معًا، وانقسمت الأمة بعد اتحادها، وقد كانت تكسب من هذا الاتحاد الكثير، والكثير جدًّا …

مضت الوزارة في خطتها، وتألف وفد المفاوضة مع اللورد كرزون، وكان مقسمًا إلى عدة لجان:
  • (١)

    اللجنة السياسية برياسة عدلي باشا وعضوية: حسين رشدي باشا، وإسماعيل صدقي، ومحمد شفيق باشا، وطلعت باشا، ويوسف سليمان باشا.

  • (٢)

    اللجنة المالية برياسة إسماعيل صدقي، وعضوية: محمد أبو الفتوح باشا، وفؤاد سلطان بك، ويوسف نحاس بك.

  • (٣)

    اللجنة القضائية برياسة حسين رشدي باشا، وعضوية: طلعت باشا، ويوسف سليمان باشا، وعبد الحميد بدوي بك، وعبد الحميد مصطفى بك، وأحمد أمين بك، ومحمد محمود خليل بك، وتوفيق دوس بك.

  • (٤)

    اللجنة الحربية، وقوامها: محمود عزمي باشا، ومحمود حلمي بك.

  • (٥)

    اللجنة الهندسية برياسة محمد شفيق باشا، وأعضاؤها: عبد المجيد عمر بك ومحمود سامي بك، ومحمود فايد بك، وسكرتيرها عبد القوي أفندي أحمد.

لماذا قطعنا المفاوضة؟

سافر هذا الوفد الرسمي المصري إلى لندن، وجرت المفاوضات بينه وبين اللورد كرزون أربعة أشهر … وبعد هذه المفاوضات الطويلة خرج علينا الإنجليز بمشروع لا يحقق مطالب مصر، ولا يحل المسألة المصرية، فرفضناه وقطعنا المفاوضة، وكان ردنا عليه في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٢١ بما يتلخص في الوثيقة المشرفة الآتية:

«اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى رئيس الوفد بتاريخ ١٠ نوفمبر سنة ١٩٢١، ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن فيما يتعلق بأكثر المسائل، التي تناولتها مناقشاتنا والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة أشهر؛ نفس النصوص والصيغ التي عرضت علينا عند بدء المفاوضات ولم نقبلها حينئذ.

فعن المسألة العسكرية، وهي ذات أهمية كبرى، استبقى المشروع الحل الذي قاومناه أشد المقاومة، ولم يقتصر على ذلك بل توسع في مرماه بما جعله أشد وطأة.

أما مسألة العلاقات الخارجية، وهي المسألة الوحيدة التي عدلت فيها الصيغة الأولى، التي كانت وزارة الخارجية البريطانية قد وضعتها، وذلك بقبول مبدأ التمثيل، فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعترف لنا به بقيود كثيرة أصبح معها بمثابة حق وهمي، إذ لا يتصور أن تتوافر الحرية لوزير الخارجية المصرية إذا كان ملزمًا بنص صريح بأن يبقى على اتصال وثيق بالمندوب السامي، فإن ذلك معناه أن يكون خاضعًا لمراقبة مباشرة في إدارة الأمور الخارجية … ومن جهة أخرى، فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم تبق حاجة إلى النص عليها في المعاهدة.

وأما فيما يتعلق بالمندوبين «القومسيرين» المالي والقضائي، وبتدخلهما في إدارة الشئون الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تدخلًا قد يصل إلى شل سلطة الحكومة والبرلمان، فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما سبق لنا إبداؤه من الاعتراضات في مذكراتنا.

أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث، فلا بد من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا بتاتًا، فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه، وحق السيطرة على مياه النيل.

… وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح المفاوضات، ولكن المشروع الذي أمامنا لم يحقق الأمل في الوصول إلى اتفاق يحقق أماني مصر الوطنية.»

هذا هو ملخص الوثيقة التي رددنا بها على مشروع كرزون، وهي إحدى الوثائق المشرفة التي تترجم عن موقفنا في هذه المفاوضات، وتنفي كل ما يقال عنا من أننا كنا نمالئ الإنجليز …!

وربما يكون الطريف أن أذكر هنا المقارنة بين نوعين من الاستقبال الوطني؛ أحدهما خصصنا به من جانب طلبة البعثات المصرية في لندن أثناء هذه المفاوضات، والثاني استقبال الجالية الأيرلندية للوفد الأيرلندي، الذي كان يتفاوض في نفس الوقت مع لويد جورج على مصير أيرلندا، فقد كان استقبال هؤلاء الطلبة المصريين لنا استقبالًا سيئًا، بينما كان استقبال الأيرلنديين لديفاليرا وصحبه الذين رأيناه بعد أيام في شارع وايت هول، استقبالًا وطنيًّا مشجعًا، فقد اكتظ هذا الشارع والشوارع المجاورة له بجماهير من الجالية الأيرلندية نساء ورجالًا، كانوا راكعين على ركبهم في خشوع يتلون الدعوات والصلوات بنغمات عالية لنجاح ديفاليرا، ولإفهام لويد جورج ما يعلقه الأيرلنديون على مطالب أيرلندا، ولم تكن مطالبنا نحن إلا تلك التي اتُفق عليها في مصر، ولكن هؤلاء الأيرلنديين كانوا — على خلاف ما في مصر — يعنون بالمبادئ لا بالأشخاص!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤