میدیا تَعِد …

بمساعدة بحارة الأرجو

احمر وجه ميديا عند سماعها أسئلة شقيقتها، وألجم الخجل لسانها فلزمت الصمت؛ إذ كانت كلما همت بالكلام ووصلت الألفاظ إلى طرف لسانها، ارتدَّت ثانيةً إلى صميم فؤادها … وبعد عدة محاولات، شجَّعها الحب الجارف أن تتكلم وتروِّح عن نفسها، فقالت في مكر ودهاء: «أيْ خالكيوبي، إن قلبي لينفطر حزنًا وألمًا على مصير أبنائك، إن أخوف ما أخافه وترتعد من هوله فرائصي؛ أن يقتلهم أبونا هم والأبطال الغرباء .. لقد أنبأني بهذا حلم أرَّقني ونفى النوم عن جفني، فأحزن فؤادي واكتأبت له نفسي، ولكنني أرجو أن يَحول أحد الأرباب دون تحقيق ذلك.»

ووقعت هذه الألفاظ على نفس خالكيوبي موقع السهام، وتمثَّل المنظر أمام ناظريها، فاضطربت من أخمص قدمها إلى قمة رأسها، وتملَّكها خوف وذعر تغلغلَا في أحشائها، فقالت: «لقد أتيت إليك من أجل هذا الأمر عينه؛ فقد شغل بالي منذ أن طلب أبي من جاسون أن يضع النير على الثورين المتوحشين، وإني لأتوسل إليك يا میدیا أن تمدي لنا يد المساعدة ضد أبينا الذي قُدَّ قلبه من صخر جلمود، ولو رفضت معونتنا، فلسوف تطاردك أرواح أبنائي المقتولين، وأنا معهم، حتى ولو كنا في العالم السفلي، وتظل تزعجك ليل نهار، في نومك ويقظتك، وفي حِلِّك وترحالك؛ كَرَبَّات القدر.» وبعد أن تفوَّهت بهذه الألفاظ، أمسكت ركبتي میدیا بكلتا يديها ودفنت رأسها في حجرها؛ تبكي وتنتحب، وتذرف الدموع سخينة، فاختلطت دموع الشقيقتين.

نهضت میدیا من فراشها وجففت عينيها، وقالت: «لِمَ تتحدثين عن ربات القدر أيتها الأخت العزيزة؟ إنني أقسم لك بحق السماء والأرض؛ إنه يسعدني جدًّا أن أقوم بالمساعدة غير مدخرة وُسعًا ولا جهدًا في سبيل إنقاذ أولادك، فإنه ليعِزُّ عليَّ جدًّا أن يُصاب أبناؤك بسوء كما لو كانوا أبنائي تمامًا.»

فقاطعتها خالكيوبي بقولها: «هذا جميل منك يا أختاه، وكنت أتوقع منك نفس هذا الشعور الذي ينبئ عن محبة أخوية صادقة وود أصيل. إذن، من أجل أبنائي، أرجو أن توافقي على إسداء النصح إلى البطل الغريب بخير ما يفعله؛ حتى يستطيع أن يبقى حيًّا برغم محنته العظيمة مع الثورین، فقد أرسل ابني أرجوس يتوسل إليك ويستحلفك بكل ما هو عزيز لديك؛ أن تساعديه على اجتياز هذا المأزق الصعب والمحنة الداهمة.»

رقص قلب ميديا من شدة الفرح، واحمر وجهها الجميل، وكادت تفضحها عيناها لولا أنها تمالكت نفسها وكبتت عواطفها، ولمدة وجيزة كست عينيها البرَّاقة إشراقةُ الخُيَلاء والزهو، فقالت في حماس: «خالكيوبي، لِلفجرِ ألا يغمر عيني أبدًا السرور، إذا لم أنقذ حياتك وحياة أبنائك التي هي أغلى عندي من حياتي نفسها! ألستِ أنتِ — كما كانت تقول أمي دائمًا — التي أرضعتني مع أبنائك يوم أن كنت طفلة في المهد؟ ومن ثَم فإنني لا أحبك حب شقيقة لشقيقتها فحسب، بل وحبَّ ابنة لأمها اعترافًا بفضلها وجميلها … غدًا في الصباح الباكر، سأذهب إلى معبد هیكاتي، وهناك سأعد للغریب سحرًا يروِّض له الثورين ويجعلهما أليفين طوع أمره.» فتركت خالكيوبي حجرة أختها، وانطلقت إلى حجرتها حيث كان أبناؤها في انتظارها، تزِف إليهم البشرى وتعِدهم بمساعدة میدیا لهم في شخص جاسون.

باتت میدیا طول ليلها في صراع مرير مع نفسها؛ كانت تقول: «ألم أَعِدْ أكثر مما يجب؟ هل لي أن أفعل كل ذلك من أجل غريب؟ هل لي أن أتقابل معه وألمس جسمه دون أن يكون هناك أحد قريب منا؟ لأن هذا أمر ضروري لو أردت للخدعة أن تنجح .. نعم سأنقذ حياته! ولكنني يوم ينتصر هو سأموت أنا! إن قطعةً من الحبل أو كمية من السم ستساعدني في نجاتي من حياة أمقتها ولا أريدها، ولكن هل للإشاعات الشريرة ألا تقتفي أثري في سائر أنحاء كولخيس؟ أرجو ألا يتهامس الناس فيما بينهم ويقولوا إنني قد جلبت العار والشَّنار على بيتي وعائلتي؛ بالموت في سبيل حب رجل غريب!»

ساورت میدیا مثلُ هذه الأفكار، وأخذت تَهذي بكلام غير مفهوم دون وعي منها، ثم ذهبت تبحث عن صندوق صغير يحتوي على أعشاب تشفي وأعشاب تقتل، فوضعته بين ركبتيها وفتحته؛ لتذوق السم القاتل المميت، ولكنها تذكرت فجأةً كل ما في الحياة من حلاوة ومباهج، وما يمكن أن تتمتع به فيها، وبدت الشمس في عينيها أجمل منظرًا وأروع هيئةً من أي يوم مضى، فارتعدت فرائصها من خوف الموت وشبحه المَقيت، ثم وضعت الصندوق على الأرض.

لقد حوَّلت قلبها هيرا؛ الربة التي آلت على نفسها حماية جاسون، ولم تستطع ميديا أن تنتظر حتى يهتك الفجر حجاب الظلام، فأخذت تُعِدُّ السِّحر الموعود وتحضره للبطل الذي شاء القدر أن تقع في غرامه وهواه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤