جاسون وميديا

أسرع أرجوس برسالته إلى السفينة، وما كاد الفجر ينبثق نحيلًا في صدر السماء، حتى قفزت ميديا من فراشها، فمشطت شعرها وضفرته، وأرسلت غدائرها الشقراء الذهبية إلى خلف رأسها، ومسحت آثار الدموع من وجنتيها، وتعطرت بالعطور الزيتية الثمينة .. وارتدت أجمل ثيابها، وتزينت بحُليها وجواهرها، وأسدلت على رأسها اللامع خمارًا أبيض .. لقد نسيَت جميع همومها وأحزانها وغدت كالعروس التي صاغها الخيال في قالَب من الجمال، وأخذت تعدو خلال الساحة بقَوامها الرشيق حتى بلغت الميدان الفسيح أمام القصر، فأمرت خادماتها الاثنتي عشرة أن يُثبتْن البغال في العربة لتقصد إلى معبد هیكاتي.

وبينما كانت الخادمات يقُمن بإعداد العربة، أخذت میدیا من صندوقها مرهمًا كانوا يطلقون عليه اسم «زيت بروميثيوس»، كان كل من يدلك جسمه بهذا الزيت بعد تقديم الصلاة لربة العالم السفلي؛ لا تؤثر في جسمه السيوف والنصال طيلة ذلك اليوم، ولا تستطيع نار مهما بلغت شدةُ سعيرها أن تحرقه أو حتى تجعله يشعر بأقل حرارة، كما أنه يؤتى من القوة ما تمكنه من هزيمة أي عدو. كان هذا الزيت محضَّرًا من العصير الأسود لجذور النباتات والأشجار التي غُذيت بالدماء المتسربة إلى منحدرات القوقاز المُعْشَوْشِبة من كبد بروميثيوس الدامي. وكانت میدیا نفسها قد استطاعت أن تستخلص عصير هذه النباتات في صدَفة، وخبأته في مكان خفي لوقت الحاجة؛ كعلاج نادر قوي المفعول أكيده.

أعدت العربة وأحضرتها الخادمات إلى حيث تقف سيدتهن، فأسرعت میدیا باعتلائها مع اثنتين من الخادمات، وأمسكت بيديها أعنة البغال والمِهْماز، فانطلقت العربة خلال المدينة تسابق الريح، على حين تبعتها باقي الخادمات سيرًا على الأقدام، وعلى طول الطريق كان الناس ينتحون جانبًا في احترام جمٍّ ليفسحوا الطريق للأميرة المحبوبة .. فلما عبَرت الحقل الفسيح، ووصلت إلى المعبد؛ قفزت في خفة من العربة، وتحدثت إلى خادماتها في مكر ودهاء قائلةً:

«أعتقد أنني قد اقترفت خطأً بالغًا في عدم الابتعاد نائيةً عن الأغراب الذين أقبلوا إلى بلادنا، والآن، فضلًا عن ذلك، فقد طلبت مني شقیقتي خالكيوبي وابنها أرجوس أن أقبل الهدايا التي يقدمها لي قائدُهم؛ نظير أن أجعل جسمه غير قابل لتأثير السيوف بالتعاويذ السحرية. فتظاهرتُ بالموافقة وطلبت منه الحضور إلى هذا المعبد حيث أستطيع أن أراه بمفردي، فعندما يصل إلى هنا، سآخذ منه الهدايا التي نقتسمها بيننا فيما بعد، وأقدم له جرعةً تعمل على هلاكه. والآن اذهبن خشيةَ أن يشك في الخطة التي أحيكها له؛ لأنني أخبرته أننا سنكون بمفردنا ولا يرانا أحد أبدًا».

سُرَّت الفتيات من خطة سيدتهن، وبينما أخذن يتفرقن في المعبد، أقبل أرجوس وصديقه جاسون يصحبهما موبسوس العراف، وقد أضفت هيرا على جاسون جمالًا فبدا بهيَّ الطلعة، حلو الملامح، جمیل القسمات، تشعُّ عيناه بريقًا يأسر القلوب، وتنطق لحاظه بأروع ما ينطوي عليه من جاذبية وإغراء؛ ذهبي الشعر، فارع الطول، سامق القوام كأنه غصن سِنْدیان، مفتول عضلات الساعدين، عریضُ ما بين الكتفين، فلم يحدث قط أن إنسانًا بلغ تلك الدرجة من الجمال، حتى ولا أطفال الآلهة أنفسهم؛ فقد كان في ذلك اليوم كفِلقة القمر؛ إذ خلعت عليه تلك الربة، التي كانت تؤازره وتقف إلى جواره، جميعَ هدایا ربات الحسن والجمال؛ فكلما نظر إليه رفيقاه من الجانبين، تعجَّبا من بهائه وتألقه اللذين لم يعهداهما فيه من قبل؛ لأنه كان، والحق يُقال، كأنه نجم قد اتخذ صورة بشرية! ولكنهما لم يستطيعا إبداء أي ملاحظة على تلك الظاهرة، وانطوى كل منهما على ما جاش بفكره.

وفي الوقت نفسه كانت ميديا تنتظر في المعبد مع خادماتھا، وبالرغم من أن الخادمات حاولن تسلية سيدتهن بالغناء حتى لا تملَّ طول الانتظار؛ فإن میدیا كانت تفكر في أمور شتی، حتى لم تُسَرَّ من أية أغنية، بل كانت في وادٍ وأولئك في وادٍ، فلم تقع عيناها قط على خادماتها، وإنما كان بصرها زائغًا في شوق زائد عبر باب المعبد، وإلى وسط الطريق المؤدي إلى المعبد، فكانت ترفع رأسها في لهفة لمجرد سماعها وقْعَ أي أقدام، أو حفيفَ أوراق الأشجار تداعبها الريح.

لم يمضِ وقت طويل حتى أقبل جاسون ودخل المعبد ممشوقًا جميلًا؛ كأنه سيريوس Sirius خارجًا من البحر، فخُيل إلى ميديا أن قلبها يقفز من صدرها .. وأظلمت الدنيا أمام ناظريها، وإذا بالدماء الساخنة تصعد إلى خديها فتجعلهما كالورود الناضرة الجميلة، وعندئذٍ تركتها خادماتها وانصرفن يتوارين في شتى أنحاء المعبد، فظل الفتى مع ابنة الملك مدةً طالت دون أن يشعرا وهما يواجهان بعضهما بعضًا في صمت وسكون، لقد كانا كشجرتي بلوط ممشوقتین تقفان الواحدة تجاه الأخرى، وجذورهما قد تغلغلت عميقةً في التربة؛ على حين أن الفضاء من حولهما لا تعكر صفْوَه ريح …

وكما أن الريح تهب أحيانًا فجأة، فترتعد جميع أوراق الأشجار، وتتحرك وتتضارب مع جذوعها، هكذا كان الاثنان وقد أُصيبا بضربة الحب، فأخذا يتبادلان نظرات الإعجاب سريعة عاطفية، وتركا العيون تتكلم بدل الألسنة.

كان جاسون هو البادئ بقطع ذلك الصمت الطويل، فسألها قائلًا: «لِمَ تخافينني وقد صرت الآن وحدي معك؟ إنني لست ممن يشمخ بأنفه متعجرفًا متكبرًا، ولم أكن كذلك يومًا ما، ولا حتى في وطني! فلا تخجلي أو تترددي في أن تبوحي بما يأمرك به قلبك، ولكن تذكري أننا في مكان مقدس حيث تُعتبر الأكذوبة كفرًا وجحودًا؛ ومن ثَم لا تخدعیني بمعسول الألفاظ الزائفة، فقد حضرت كمتضرع أطلب التعويذة التي وعدت شقيقتك بأنك ستعطيني إياها، إنها الضرورة القصوى التي تدفعني إلى طلب مساعدتك، ولكِ أن تطلبي وتسألي ما تشائين في مقابل ذلك، واعلمي أن ما ستقدمينه من عون سوف يدفع الهموم والأحزان عن أمهات وزوجات زملائي، اللواتي قد يُبرِّح بهن البكاء والعويل عند سواحل بلادنا، وأن المجد الخالد لانتصارنا سوف يُنسب إليكِ في جميع أنحاء بلاد الإغريق.»

تركت میدیا جاسون يتم كلامه، ثم أخفقت بجفنيها وارتسمت على فمها ابتسامةٌ باهتة، لقد اغتبط قلبها برؤيته والتطلع إلى جماله الفتَّان الذي دونه جمالُ العذارى الحسان، ثم نظرت إليه نظرةً تنم عما يُكنُّه فؤادها من حب جارف وغرام متغلغل، وتزاحمت الألفاظ عند شفتيها، كانت تود أن تقول كل شيء في وقت واحد، ولكن الحب أخرسها وشلَّ لسانها؛ ومن ثَم اكتفت بإخراج الصندوق الصغير من طياته المعطرة، وقدمته إليه في حنان ودلال، فأخذه من يدها مسرورًا، وما من شك في أنه لو طلب روحها في تلك اللحظة لَما ضنَّت بها عليه؛ لأن أروس كان يشعل نيران الرغبة الحلوة في خصلات جاسون الذهبية، وأمسكت هي بضيائها وحرارتها …

تلألأت روح میدیا كما تتلألأ قطرات الندى فوق الورود عندما تسطَع عليها الشمس في الصباح بأشعتها الذهبية فتجعلها كالجُمَان … وبحركة لاإرادية خفض كل منهما نظره إلى أسفل، ثم تطلَّعا بعضُهما إلى بعض من جديد، وكانت نظرات الشوق والهيام تُسترق من تحت الجفون … وبعد مدة لا يعلمان أطالت أم قصُرت، أسعفت الألفاظ میدیا فاستطاعت أن تنطق قائلة:

«انتبه إليَّ يا أعزَّ مِن عرف فؤادي، فسأخبرك ماذا يجب عليك أن تفعل، بعد أن يعطيك أبي أسنان الأفعوان المخيف لتزرعها، استحم في مياه النهر، وتدثَّر بملابس سوداء، واحفِر في الأرض حفرة مستديرة وألقِ بداخلها كومةً من الحطب، ثم اذبح نعجة صغيرة السن وأحرقها إلى أن تصير رمادًا، بعد ذلك قدِّم سكيبة من العسل لهيكاتي، ساكبًا إیاها من كأسك، ثم اترك كومة النار .. ولا تنظر خلفك مهما سمعت خطوات أو وقْعَ أقدام أو نباح كلاب، وإلا ضاع مفعول الذبيحة كأن لم تكن، وفي الصباح التالي ادهُن جسدك بهذا الزيت السحري فيهب لك قوةً عظيمة خارقة، وتشعر بأنك لست من البشر ولا تساويهم في قوتهم، وليس هذا فحسب، بل وإنك تعدل الآلهة أنفسهم قوةً ونشاطًا، ويجب كذلك أن تدهُن مِزراقك وسيفك ودرعك، وعندئذٍ لا يستطيع أي معدن تصوِّبه الأيدي البشرية، ولا أي لهيب تنفُثه النيران السحرية؛ أن تؤذيك أو تقاوم هجماتك. واعلم أن هذا المفعول لا يدوم إلا يومًا واحدًا، ولكني مع ذلك سأقدم لك معونة أخرى؛ فبعد أن تضع النير فوق الثيران الضخمة، وتحرِث الحقل، وتبذِر أسنان الأفعوان، وبعد أن تُخرج هذه البذور ثمارها، اقذف بحجر كبير وسط الرجال النابتين من الأرض، تجدهم يتقاتلون عليه كما تتقاتل الكلاب على كِسرة من الخبز، وبينما يكونون منهمكين في عراكهم هذا، تستطيع أن تهجم عليهم وتبيدهم عن آخرهم .. بعد ذلك تستطيع الحصول على الجِزَّة الذهبية وأن تأخذها معك بعيدًا عن كولخيس دون أن يقف في طريقك أي معترض، وأن ترحل .. نعم، ترحل إلى حيث تشاء.»

هكذا تكلمت میدیا، وما إن انتهت من حديثها، حتى انحدرت دموعها سرًّا على وجنتيها المتوردتين؛ لمحض التفكير في أن هذا البطل النبيل قد يرحل بعيدًا عبر البحر. فاستمرت العبَرات تنهمر من مقلتيها مدة، وهي حزينة مكلومة الفؤاد، ثم أخذته من يده؛ لأن الألم الذي كاد يقطع نياط قلبها، جعلها تنسى ما تفعل، ثم أردفت تقول: «وعندما تصل إلى وطنك، لا تنسَ اسم میدیا، وأنا أيضًا سأكون دائمة التفكير فيك بعد ذهابك .. والآن، أخبرني عن اسم البلاد التي ستعود إليها على ظهر سفينتك الجميلة.»

وبينما الفتاة تتكلم، اجتاحت جاسون نوبة من الحب الجارف نحوها، فانفجر دون أي حياء أو خجل وقال: «أيتها الأميرة النبيلة! إذا قُدر لي أن أهرُب من الموت، فلن يمر يوم ولا ساعة دون أن أتذكرك، يا من شغلت جميع حواسي وفؤادي، إن وطني هو أیولكوس في هایمونیا Haemonia؛ حيث أسس دیوكالیون بن بروميثيوس مدنًا كثيرة، وشید معابد عدةً، في ذلك المكان لا يُعرف حتى اسم بلادك.»

فردت عليه ميديا: «إذن فأنت تعيش في بلاد الإغريق … ربما كان القوم أكرم ضيافةً من هنا، فلا تخبرهم كيف استقبلوك في كولخيس، وتذكَّرني وأنت بمفردك، أما من جهتي فإنني سأظل أفكر فيك ليل نهار، في الوقت الذي يكون كل فرد هنا قد نسيك تمامًا … ولكن لو حدث أن نسیتني! آه ثم آه، فليت الرياح تحمل لي طائرًا من أيولكوس؛ حتى أستطيع به أن أتذكر أنك نجوت بمعونتي … أوَّاه! ليتني كنت شخصيًّا في بيتك، عندئذٍ كنت أراك دائمًا أمام ناظري لا في مخيلتي فحسب!» ثم انفجرت باكية.

فأجاب جاسون: «ليت الرياح تهب! والطيور تطير! هذا حدیث لا يجدي فتيلًا، ولكن لو أتيتِ أنت إلى بلاد الإغريق، إلى بیتي، لرأيت كيف يقوم الرجال والنساء بإكرامك وتبجيلك، ولا أكون مغاليًا لو قلت بعبادتك؛ كما لو كنت إحدى الرَّبَّات؛ لأنه بمعونتك نجا أبناؤهم وإخوتهم وأزواجهن من الموت، وعادوا إلى وطنهم سالمين معافين! أما أنت فستنتسبين لي أنا وحدي، ولا شيء غير الموت يستطيع أن ينهي حبنا.»

ذابت روح میدیا عند سماعها كلمات جاسون، ولكنها في الوقت نفسه كانت تفكر حزينة في المشقة التي يعانيها المرء عند فراق وطنه، وبرغم كل ذلك فقد سِیقت إلى بلاد الإغريق بقوة دافعة؛ لأن هيرا كانت قد غرست هذا الشوق في قلبها … فقد أرادت الربة أن تترك میدیا كولخيس؛ لتجلب الدمار علی بیلیاس عندما تذهب هي إلى أيولكوس.

في ذلك الوقت، كانت الخادمات ينتظرن سيدتهن في صمت وقلق؛ لأن میعاد عودتها قد فات وطال عليه الأمد، وكادت هي نفسها تنسى الذهاب إلى بيتها من فرط سرورها بمحض تبادل كلمات الإطراء وعبارات الغزل … إلا أن جاسون، الذي كان أكثر منها حرصًا، ذكَّرها بأن الوقت قد أزِف، ومع ذلك فإنه لم يفكر في ذلك إلا متأخرًا، فقال: «لقد حان میعاد الافتراق، وإلا غابت الشمس وما زلنا نحن هنا، وقد يفكر الآخرون في خطة ما! فلنلتقِ مرة أخرى فيما بعدُ في نفس هذا المكان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤