ميديا تأخذ الجِزَّة الذهبية

ذهب الملك أييتيس إلى قصره يجر أذيال الهزيمة والشرر يتطاير من عينيه، فأمر باستدعاء جميع الشيوخ من النبلاء، وعقد مجلسًا للتشاور في طريق التغلب على بحارة الأرجو، بعد أن رماهم بكل ما في جَعبته من سهام فلم تُصب منهم مقتلًا، بل على العكس جلبت لهم الشهرة والمجد.

كان أييتيس على يقين تام من أن كل ما حدث في ذلك اليوم لم يكن في استطاعة أحد القيامُ به دون مساعدة ابنتيه، ورأت هيرا، ملكة الأرباب، الخطر المحدق بجاسون، فملأت قلب میدیا بالهواجس والشكوك؛ لدرجة أن فرائصها ارتعدت كما يرتعد الغزال في أعماق الغابة عند سماعه نباح كلاب الصيد. وفي الحال أحست أن أباها قد اكتشف الحقيقة، وخشیت كذلك أن تكتشف خادماتُها حقيقة الأمر، فیَشینَ بها ويبُحنَ بما رأين في المعبد قُبیل المعركة، فاحترقت الدموع تحت جفون میدیا، وامتلأت أذناها بالطنين، واسود الكون أمام ناظريها، وضاقت الدنيا في وجهها بما رحُبت … فأرسلت شعرها مشعثًا وراء ظهرها، وانتابتها شتى الوساوس، وبدأ الحزن يجثم على صدرها فيسحق قلبها … ولولا أن القدر يدخر لها مصيرًا آخر، لتجرعت السمَّ ووضعت نهايةً لآلامها في تلك الساعة بالذات، التي كانت أحْلكَ ساعة مرت بها طوال حياتها، لقد أمسكت بيدها فعلًا حافة الكأس وكادت تتجرع ما فيها، إلا أن هيرا تدخلت فجددت شجاعتها وثَنَتْها عن بُغْيتها، فسكبت السم ثانيةً في القارورة، واستردت سيطرتها على أعصابها، وصممت على الهرب.

غمرت ميديا فراشها وأبواب مقصورتها بالقبلات، ثم لمست حوائط حجرتها لآخر مرة، وجزَّت خصلة من شعرها ووضعتها فوق فراشها؛ لكي يتذكرها بها أبوها وأمها، وبصوت تخنقه العَبرات قالت: «وداعًا! أمي العزيزة، وداعًا يا خالكيوبي، وداعًا یا جميع من عاشرت في هذا البيت! أيها الغريب، كان من الأفضل أن تغرق سفينتك قبل المجيء إلى هنا؛ فيبتلعك اليم أنت ورفاقك!»

فرَّت میدیا من بيتها العزيز كما يفرُّ الأسير من معقِله، كانت أبواب القصر تنفتح على مصاريعها كلما تمتمت بالتعاويذ السحرية، فكانت تجري خلال الممرات الضيقة بأقدام عارية مُسدِلةً خمارها فوق خديها بيدها اليسرى؛ على حين ترفع بيمناها طرَف ثوبها كي لا يرتطم بالأرض؛ فيُحدث صوتًا يشي بها ويوقظ النيام من أهل البيت، فتحبَط خطتُها.

لم يلاحظ الحراس میدیا وهي تتسلل في ظلام الليل، وسَرعان ما اجتازت حدود المدينة وبلغت معبدًا قريبًا من طريق غير معروف؛ لأنها عندما كانت تجمع الجذور والأعشاب لعمل جرعاتها وسمومها، تمكنت من معرفة جميع الدروب في الحقول والغابات. وشاهدتها سیلیني Selene، ربة القمر، وقد ملأت الأرض بنورها الفضي الهادئ، فابتسمت وقالت: «إذن هناك أخريات معذَّبات بالحب كما أتعذب أنا بحب إندومیون Endymion!… كثيرًا ما أقصيتني عن السماء بسحرك … فها أنتِ ذي الآن تعانين تباريح الهوى شوقًا إلى جاسون، اذهبي إذن حيث يجب عليك أن تذهبي، ولكن لا تظني أن دهاءك سوف يفيدك في إنقاذ الجميع من الحزن المرير!»
هكذا قالت سیلینی لنفسها، ولكن میدیا ذهبت تسعى في طريقها ثم عرجت على الشاطئ؛ حيث ساعدتها النار العظيمة التي أشعلها بحارة الأرجو، وبقيت مشتعلةً طوال الليل تبجيلًا لجاسون، فلما بلغت الشاطئ وأصبحت في مواجهة السفينة، نادت فرونتیس Phrontis ابن صغرى شقيقاتها، فإذا هو وجاسون يتعرفان على صوتها، ويجيبان ثلاث مرات ردًّا على نداءاتها الثلاثة.

بدت الدهشة على وجوه الأبطال عندما سمعوا هذه النداءات، ولكنهم سرعان ما جدَّفوا للقائها والترحيب بها، وقبل أن ترسو السفينة، قفز جاسون إلى الشاطئ، وتبعه فرونتیس وأرجوس.

وما إن أبصرت الفتاة حبيبها وابني أختها يُهرعون إليها، حتى ركعت أمامهم وأمسكت برُكبهم وهي تصيح: «أنقذوني، أنقذوا أنفسكم! أنقذوني من أبي وانتقامه! لقد أُفشي سرُّ جميع ما فعلت من أجلكم، ولا سبيل إلى عمل شيء أو الصمودِ أمام غضبه الثائر الجامح، هيا بنا نهرُب بالسفينة قبل أن يستطيع اعتلاء ظهر جواده السريع … سأحصل لكم على الجِزَّة الذهبية التي قَدِمْتُم من أجلها متجشمين المتاعب وراكبين الأخطار؛ بأن أتلو تعويذةً تجعل الأفعوان الضخم الذي يحرسها يغِطُّ في سبات عميق … وأنت أيها الحبيب، أَقْسِم لي بآلهتك وفي حضرة أصدقائك، إنك لن تنال من كرامتي عندما أصير غريبةً وحيدةً في بلادك.»

قالت هذا والدموعُ تنهمر من مآقيها فتنحدر على وجنتيها، ولكن جاسون ربَّت على ظهرها بلين ورفق، وحملها من ركبتيها واحتضنها قائلًا: «أي حبيبتي! ونور عيني! وأعزَّ مَن أحب وأتمنى! ليشهد عليَّ زوس وهيرا حليفة الزواج، بأنني سوف آخذك إلى بيتي كزوجتي الشرعية بمجرد عودتنا إلى بلاد الإغريق، وسوف تكونين معززةً مكرمة، حاكمة آمرة.» أقسم جاسون هذا القسم ثم وضع يده توكیدًا لمضمونه.

أمرت ميديا المجدفين الأبطال أن يسرعوا بالتجديف بشدة حتى يبلغوا الحقل المقدس، ويأخذوا الجِزَّة الذهبية في نفس تلك الليلة، فانطلقت السفينة كالسهم المارق في نور القمر الخافت فوصلت قبل انبثاق الفجر، فتركھا جاسون ومعه میدیا، فشقَّا طريقهما بسرعة عبر المرج إلى أن أبصروا شجرة البلوط السامقة التي عُلقت على قمتها الجِزَّة الذهبية، تتلألأ وسط الليل البهيم كأنها سحابة من النار تخضِبها باكورة أشعة الشمس، وكان يجلس قُبالتَها تنين هائل لا يغمض له جفن، حاد البصر، تخترق عيونه الآفاق البعيدة وسط النور أو الظلام على السواء.

مدَّ التنين عنقه الطويل البغيض صوب القادمين، وأرسل صرخة مدوية ردَّد الفضاء صداها بين أجواز السماء وأشجار الغابة الفسيحة وشاطئ النهر، ثم وثب من مكانه مندفعًا نحو القادمين بسرعة دونها سرعةُ اندلاع ألسنة اللهيب وسط الهشيم في يوم ريح صرصر عاتية، مجلجِلًا المكان بصوت حراشيفه المتراكبِ بعضُها فوق بعض في صفوف متراصة، بيد أن ذلك لم يُخِف الفتاة أو يحرك منها شعرة واحدة، فسارت إليه في خطوات سريعة بجرأة نادرة، منشِدةً صلاةً جميلة اللحن بصوتها العذب الرخيم، لرب النوم؛ أقوى الآلهة؛ حتى يسلط على ذلك التنين المقيت سُباتًا يشُلُّ حركته ويغمض عينيه، كما توسلت إلى ملكة العالم السفلي العظيمة أن تبارك مهمتها، فتبعها جاسون يقتفي خطواتها؛ وقد بدأ الوجل يتطرق إلى نفسه، ولكن التنين كان يغالب النعاس والنعاس يغلبه حتى كوَّمه حيث هو، فاقدَ الحركة والوعي، فارتمى خافضًا احدِوْداب ظهره، وباسطًا تلافیف جسده الضخم، ولم يتحرك منه أيُّ عضو غير رأسه المخيف الذي بقي متيقظًا يهدد میدیا بفكيه المفتوحين؛ بيد أن الفتاة كانت مستعدة لمثل هذه الحركة، فقد كانت تحمل بين طيات ثيابها غصنًا من نبات سحري، نثرت به ندًى سحريًّا في عيون التنين؛ وهي تردد تعويذة تتبع الرأس الجسد، فخَدَّرت رائحة السائل الزكية رأسه، فأرخى جفونه وأقفل شدقيه، وبسط طوله الحرشفي عبر الغابة، وراح يغط في نوم عميق ملء جفونه.

وبأمر من ميديا، التقط جاسون الجِزَّة الذهبية من فوق شجرة البلوط؛ على حين استمرت هي تذُرُّ على رأس التنين بمحلولها السحري، ثم أسرعا راجعين أدراجَهما وسط الحقل الكثيف يحملان الجِزَّة الذهبية العريضة، ينبعث منها بريق لَأْلاء ينعكس على شعر جاسون الأشقر فيضيء الممر المظلم بسنائه.

حمل جاسون الكنز المتألق فوق كتفه اليسری، متدليًا من عنقه حتى عقبيه، ولكنه طواه بعد ذلك خشية أن يلتقي به إنسان أو إله فيسلبه حمله الثمين، فوصلا إلى السفينة وقد بدأ الصباح يتنفس، وأريج المرج الأخضر يشيع عاطرًا فيحمله النسيم إلى مسافات بعيدة، والسحائب الضاحكة تختال في جنبات السماء الصافية سكرَى من النور، وكل ما يخطر في موكب الفجر جمیل رقیق عذب .. التف البحارة حول قائدهم وأبدوا إعجابهم بالجِزَّة التي كانت تبرق كإحدی صواعق زوس اللامعة، واجتاحت كلًّا منهم رغبةٌ ملحة في أن يلمس الجِزَّة بيديه ويتحسس خيوطها العسجدية البراقة، ولكن جاسون لم يسمح لهم بذلك وكان يخفيها تحت عباءته.

جلست میدیا عند دفة السفينة، ووقف جاسون يقول لزملائه: «والآن يا أصدقائي الأعزاء، هيا بنا نسرع بالرحيل إلى وطننا قبل أن يطاردنا الملك الجبار عندما يكتشف أننا حصلنا على ما كنا نهدف إليه بمساعدة ابنته، التي لا يمكننا أن نمجد فضلها في إنجاز مهمتنا وإنقاذ بلاد الإغريق وأبطالها؛ كما أنه لا يمكننا أن نوفيَها حقها من التقدير وعرفان الجميل، وفي مقابل ذلك سأتخذها زوجة لي شرعية، وأصحبها إلى بیتي لتكون سيدته، وأطلب منكم أيها الرفاق المخلصون والزملاء الأوفياء، أن تساعدوني على حمايتها والذود عنها؛ لأننا لم ننتصر إلا بمعونتها .. هذا فضلًا عن أنني لا أشك مطلقًا في أن أباها أییتیس سرعان ما سيكتشف أننا حصلنا على أثمن كنز كان يحتفظ به، ويمنعه عن العالم أجمع، فيسرع مع شعبه محاولًا منْعنا من مغادرة النهر قبل الدخول إلى البحر الفسيح، ومن ثَم دعُوا نصفنا يجدِّف بشدة وبسرعة؛ على حين أن النصف الآخر يحمل الدروع الكبيرة من جلود الثيران، ويقف على استعداد لصد هجوم العدو، فنصون انسحابنا. إن في وسعنا العودةَ إلى شعبنا، وإن بأيدينا أن نجلب المجد والشهرة لبلاد الإغريق، أو نُلحق بها الخزي والعار أبد الدهر، واعلموا أنني أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا أحملكم على خطةٍ أرخصُ متاع فيها النفوس إلا بدأت بنفسي، فسأقف في مقدمتكم وأذود عن حمانا إلى آخر قطرة من دمي.»

قال جاسون هذا ثم قطع بسيفه الحبال التي تربط السفينة بالشاطئ، وارتدی كامل عدته الحربية متسلحًا بالرمح والحسام، واحتل مكانه على ظهر السفينة بالقرب من میدیا، وبجوار أنكايوس مدير الدفة البارع، وما هي إلا برهة حتى ضربت المجاديفَ السريعةَ الأمواجُ، فانزلقت السفينة إلى مصب النهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤