بحارة الأرجو في بلاد الدولیونيس

جرت السفينة تطوي المراحل على صفحة اليمِّ كما يطوي البرق مُعْصراتِ الغمام، وظل البحارة المفتولو العضلات يجدِّفون بسواعدهم القوية دون كلل ولا ملل، والمركب ينساب كالسهم المارق. حتى إذا انقضت بضعة أيام، هبت الرياح من تراقيا فجرفت السفينة صوب ساحل فروجيا Phygia؛ حيث كان يعيش العمالقة المتوحشون الذين أنجبتهم الأرض، جنبًا إلى جنب مع شعب الدوليونيس Doliones الوادع المسالم، في جزيرة كوزیكوس.

كان لهؤلاء العمالقة ست أذرع، تمتد اثنتان منها من كتفين عريضتين، كما تمتد ذراعان من كل جنب. أما الدوليونيس فكانوا ينحدرون من رب البحر، الذي كان يحميهم من كل من يعتدي عليهم أو يريد بهم سوءًا، حتى من جيرانهم المتوحشين. وكان يحكمهم الملك كوزیكوس، الذي اشتهر بالتقوى والورع والعبادة .. فلما وصلت السفينة إلى الجزيرة، خرج الملك وكل شعبه لاستقبال بحارتها والترحيب بهم.

وبعد أن رست السفينة على الماء، ونزل الأبطال إلى البر، هشَّ لهم الملك وبشَّ، ورحب بمقْدَمهم، وصمم على استضافتهم في قصره وإكرام وِفادتهم؛ لأن نبوءةً من غابر الأزمان كانت قد أمرته بضرورة استقبال زمرة الأبطال المقدسين بكلمات الترحيب الرقيقة، وقبل كل شيء بتجنب القتال معهم .. ومن ثَم زوَّدهم بكمية وافرة من الخمر والذبائح المنحورة.

كان ذلك الملك لا يزال يافعًا في شرخ صباه ومَيْعة شبابه، قد طَرَّ شاربه وبدأت لحيته في الظهور، وكان قد تزوج حديثًا فتاة حلوة القَسِمات، مشرقة السِّمات، جميلة الطلعة كأنها فلقة القمر. وكانت وقت ذاك تنتظره في القصر ولكنه رُضوخًا لتلك النبوءة بقي ليشترك في الوليمة التي أُولمت للأغراب، وظل معهم على مائدة الطعام يجاذبهم أطراف الحديث ويسألهم عن حالهم والغرضِ من رحلتهم، فلما علم أمرهم، زوَّدهم بالمعلومات وبالطريق الذي يجب عليهم أن يسلكوه.

ظل الأبطال يمرحون بصحبة الملك وحاشيته النبيلة حتى مضى هَزیعٌ من الليل، ثم ذهبوا إلى المَخادع التي أُعدت لهم، فباتوا ليلتهم على الفُرُش الوثيرة، حتى إذا ما أصبح الصباح وتبددت جحافل الظلام، خرجوا يصعدون في جبل شامخ؛ كي يروا بأنفسهم من قمته أين تقع الجزيرة من المحيط، فلما أبصرهم العمالقة انقضوا عليهم من الجانب الآخر متدفقين كالسيل الجارف، وأخذوا يسدون المنافذ إلى الميناء بقطع ضخمة من الصخور والأحجار.

كانت الأرجو قابعةً في الميناء يحرسها البطل الصنديد هرقل، الذي رفض للمرة الثانية مغادرتها، فلما رأى ما فعله أولئك العمالقة الأشرار، خاف على زملائه من بطشهم، فأخذ قوسه القوية وصار يقذف العمالقة بسهامه، فتردَّى منهم الكثيرون، وسقطوا في أماكنهم صرعى، وفي نفس الوقت كان الأبطال يعملون التقتيل في المعتدين برماحهم وسهامهم، فهزموا العمالقة هزيمة نكراء، وتكدَّست أكوامُ جثثهم في الميناء الضيق كأنها جذوع أشجار ضخمة قُطعت من غابة كثيفة، فكانت رءوس وصدور بعضهم مغمورةً في البحر؛ على حين تمتد أقدامهم فوق الشاطئ الرملي، وبعضهم الآخر قد سقطوا وأقدامهم في الماء، ورءوسهم على الرمال، ولكنهم جميعًا اشتركوا في أمر واحد؛ وهو أنهم أصبحوا طعامًا للأسماك والطيور والحيوانات.

خرج الأبطال هكذا من المعركة ظافرين منتصرين، فعادوا إلى القصر يودِّعون الملك ويشكرون له ضیافته وكرمه، ثم اعتلوا ظهر سفينتهم وأقلعوا عبر البحر، وكادت الشمس تتوسط كبد السماء، وكانت الريح رُخاءً والنسيم عليلًا، والسفينة تشق طريقها حثيثًا في الماء، حتى إذا جنَّ الليل، تغيرت الرياح وتبدلت الأحوال، فهبت عليهم من الجانب الآخر ريحٌ صرصرٌ عاتية، أجبرتهم على الرسُوِّ بمركبهم بالقرب من اليابسة؛ حتى تمر الزوبعة وتهدأ الريح.

figure

كان الأبطال قد أرسوا سفينتهم على الجانب الآخر لجزيرة الدوليونيس الكرام، غير أن بحارة الأرجو ظنوا أنهم قد رسوا على ساحل فروجيا، فلم يدرك المضيفون السابقون — الذين هبُّوا من نومهم مذعورين على صوت إرساء السفينة — أن أولئك القادمين هم ضيوفهم السابقون، وأصدقاؤهم الذين احتفلوا بهم وتناولوا معهم الطعام والشراب في مرح وسرور منذ يوم واحد فقط … فهَرعوا إلى أسلحتهم، وسَرعان ما قامت بين الفريقين معركةٌ حامية الوطيس، فقذف جاسون رمحه في قلب الملك نفسه، دون أن يدري القاتل من هو المقتول، ولا المقتول مَن قاتله. فلما رأى الدولیونیس ما حل بمليكهم، أطلقوا العنان لأقدامهم، وولَّوا الأدبار يسابقون الريح، واختفوا في المدينة. وفي الصباح التالي اكتشف كلٌّ من الفريقين خطأه.

عندما رأى جاسون ورفاقه جثة الملك الطیب كوزیكوس ترقد في بركة من دمائه الزكية، استولت عليهم الكآبةُ والوجوم، وعقد الحزن العميق ألسنتهم، فانهمرت دموعهم حارةً تكاد تُلهب وجوههم؛ فقد جازوا الإحسان بالإساءة ولو أن ذلك حدث عن غير قصد، وظلوا مع الدوليونيس يبكون الموتى ثلاثة أيام بلياليها، وكان أهل القتلى يمزقون شعورهم من شدة الحزن والكمد، وأخذوا يُعدُّون الولائم الجنائزية تكريمًا لمن سقطوا صرعى في المعركة.

بعد ذلك أقلع الأبطال يستأنفون رحلتهم … أما كليتي Clite الحسناء، زوجة الملك المقتول، فقد شنقت نفسها بحبل؛ إذ لم تُطِق البقاء بعد أن مات زوجها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤