بولوديوكيس وملك البيبروكيين

أشرقت شمس اليوم التالي ونثرت أشعَّتها الذهبية على صفحة الماء، فلاح مِن بُعْدٍ شبهُ جزيرة منبسطة إلى داخل البحر، فأدار الملاحون الأبطالُ السفينة نحوها وألقوا مراسيَها على شاطئها … وكانت توجد في هذه الأرض حظائرُ أموكوس ملك البيبروكیین المتوحشين وبيته الريفي، وكان هذا الملك ذا قوة وسلطان، يفرض قانونًا صارمًا على جميع الأغراب.

ولما كان بطلًا مغوارًا لا يتصدى لقوته فارس، قويَّ الشكيمة صعب المنال، فقد فرض على كل غریب یرمي به حظُّه التعس العاثر إلى شبه الجزيرة هذه؛ ألا يغادرها قبل أن يلاكمه، وكانت الغلبة طبعًا لهذا الملك البطَّاش ذي القوة الخارقة، وبذا تخلص من عدد غفير من جيرانه، وعاش هو وشعبه المتوحشون لا ينغِّصُ عيشَهم مهاجم ولا يجرؤ على الاقتراب من أراضيهم قادم.

أبصر أموكوس السفينة تقترب من الشاطئ وتلقي مراسيها، فضحك ملءَ شِدْقيه ساخرًا من أولئك التعسين الذين ساقهم القدر إلى حتفهم، فدنا من مرسى السفينة قبل أن تطأ أقدامُ من فيها أرضه، وتحدى المجدِّفين قائلًا: «اسمعوا یا قراصنة البحار، وسفلة الشعوب الأشرار، وأرهِفوا سمعكم لما أقول، هناك أمر واحد يجب أن تعرفوه تمام المعرفة: ليس لغریب قط أن يبرح بلادي دون أن يتلاكم معي .. ومن ثَم آمرُكم أن تختاروا أقوى رجل فیكم وترسلوه إليَّ، وإلا كان مصيركم كلِّكم الهلاك وبئس المصير.»

كان بين بحارة الأرجو بطل الإغريق في الملاكمة ويُدعى بولودیوكیس، وهو نجل ليدا Leda، فلما سمع كلام أموكوس وغطرسته، ثارت ثائرتُه وجاش قلبه حقدًا على ذلك الغِرِّ الذي تحدَّى جميع الأبطال، وبطِش بكل من تقدم لملاكمته، في غير رحمة ولا شفقة. فنزل إلى البر وسعى إلى الملك قائلًا: «اختصر الحديث يا هذا؛ فإني على أتم استعداد لملاكمتك، والويل لمن يصرخ أولًا.»

تطلَّع ملك البيبروكيين إلى البطل المقبل، وأدار مقلتَي عينيه في محجِرَيهما كما تدور عينا الأسد الجبلي الجريح، وأخذ ينظر إلى ذلك الشخص الذي سخِر من تحديه؛ من قمة رأسه إلى أخمص قدمه؛ كأنما يَزِنُ قوته، ويبحث في جسم غريمه عما جعله يُقدم على قبول الملاكمة والنزال بتلك الجرأة التي لم يعهدها فيمن سبقوه. ولكن بودیوكیس لم يأبه لنظراته ولم يُعِرْه أيَّ اهتمام، بل كان ساكنًا هادئ الروع كأنه مدعو إلى وليمة، وراح يضرب الهواء بذراعيه ليرى: هل فقدتا لیونتهما من ساعات التجديف الطويلة.

وما إن غادر الأبطال السفينة ووطئوا اليابسة حتى احتل المتلاكمان أماكنهما؛ الواحد تجاه الآخر، وجاء أحد عبيد الملك بزوجين من قفازات الملاكمة، وألقى بهما على الأرض بين الغريمين، فقال أموكوس لخصمه: اختر لنفسك القفاز الذي يروقك؛ فإنني لا أريد ضياع الوقت في الاقتراع على القفازات .. فسَرْعان ما ستعترف أنني صباغ ماهر أستطيع تلطيخ الخدود بالدماء.»

ابتسم بولودیوكیس ابتسامة هادئة، ثم التقط القفاز القريب منه، وترك أصدقاءه يتولَّون ربْطه حول معصميه، وكذلك فعل ملك البيبروكيين، ثم بدأت الملاكمة، فهجم الملك على الإغريقي كالموجة العاتية التي تنقضُّ على السفينة، فيحاول مدیر الدفة الحاذق أن يتفادى منها بأقصى صعوبة، ولم يترك لغريمه فسحةً من الوقت يستطيع فيها أن يأخذ نفَسه .. ومع ذلك فقد نجح بولودیوكیس بطل الملاكمة المبرِّز في أن يروغ من الضربات القاصمة التي كان الملك يكيلها له كیلًا، دون أن يصيبه جرح ولا أذًى.

كان بولودیوكیس مُرَّ العود، صُلب المَكسِر، مُلمًّا بأفانين الملاكمة وخوافيها؛ فسَرْعان ما اكتشف موطن الضعف في خصمه، وأخذ يمطره وابلًا من اللكمات التي لم يستطع لها تفادًيا ولا تحاشيًا. غير أن الملك كان لا يترك فرصة تظهر له في الأفق دون أن ينتهزها؛ ومن ثَم كانت الفكوك تترنح تحت وطأة اللكمات، وتتزعزع الأسنان إثر كل ضربة تعقُبها أخرى، ولم يكُفَّ الطرفان عن الملاكمة إلا بعد أن أخذ منهما التعبُ كل مأخذ، وراحا يلهثان من شدة التعب، فاضطر كل منهما إلى أن يتنحى جانبًا؛ ليستريح ويجفف العرق الذي كان ينهمر غزيرًا من جميع مَسامِّ جسده.

مضت فترة وجيزة، استأنف البطلان بعدها الملاكمة، فأخذت اللكمات الجبارة تَتْری تباعًا دون إبطاء ولا هوادة، وكان من العسير حسم النِّزال، لولا أن أموكوس أخطأ رأس غريمه وجاءت الضربة في كتفه؛ على حين هوى عليه بولودیوكیس بضربة قاضية خلف أذنه هشمت عظام رأسه، فخر على ركبتيه يترنح وهو يصرخ من شدة الألم.

صاح ملاحو الأرجو صيحة الفرح والغبطة لانتصار رفيقهم على ذلك الجبار العاتي؛ بيد أن قوم البيبروكيين أقبلوا لمساعدة مليكهم، وانقضوا على بولودیوكیس بھِراواتهم ورماحهم، فلم يقف زملاؤه مكتوفي الأيدي، بل انبروا بهراواتهم وبالسيوف، وأعملوا فيهم التقتيل والتنكيل، فلم يَسَع البيبروكيين إلا أن يطلقوا العِنان لأقدامهم يسابقون بها الريح؛ ملتمسين النجاة في مخابئ بلادهم، فلما رأى الأبطال هزيمة أولئك الجبناء الرعادید، دخلوا حظائرهم واستولوا على قطعان الماشية والأغنام، وأمضوا الليل على الشاطئ بقرب سفينتهم، يضمدون جراحهم ويقدمون الذبائح للآلهة، وقضوا ساعات الدُّجى يحتسون الخمر المعتَّقة ويأكلون من الشواء الشهي.

ثم قطع الأبطال الأغصان من الشجرة التي ربطت فيها الأرجو، وصنعوا منها أكاليل طوَّقوا بها رءوسهم، وطفِقوا ينشدون أناشيد النصر؛ في حين كان أورفيوس يعزف على قيثارته ألحانًا شجيةً، حتى بدا الشاطئ وكأنه يُصغي في زَهْو وسرور إلى مديح الأبطال لصديقهم بولودیوكیس بن زوس الذي كسر شكيمة الملك المتغطرس، وأذل كبرياءه، وخرج من المعركة ظافرًا منتصرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤