أثينا تنقذ الأبطال من الموت

أما عن غبطة فينيوس وفرحه بخلاصه من الهاربییس، فحدِّث عنهما ولا حرج، فبعد أن اتسم أمْسُه بالبؤس، اتسم يومه بالسرور، فتلألأ وجهه بِشرًا، وراودته الآمال والبهجة تزِفُّ إلى نفسه الهناءة والسعادة، وأيُّ حلم أروع وأحنى من ذلك لفؤاده الذي خيم عليه الحزن والكآبة سنين عدة! فظل غارقًا في نشوة الفرح، مستسلمًا إلى سروره الجم، وكان الأبطال لا يقلون عنه بهجة وجَذَلًا.

ودع فينيوس محرريه الأبطال بنفس تفيض بالشكر الجزيل، وتمنَّى لهم حظًّا سعيدًا، ثم تركه الفرسان الملاحون، وأقلعوا بسفينتهم عبر الخضم المترامي الأطراف إلى مغامرة جديدة. غير أنهم ما كادوا يبتعدون عن الشاطئ حتى هبت عاصفةٌ هوجاءُ من الشمال الغربي، وظلت ثائرةً تعصف بالبحر وما فيه ومن فيه أربعين يومًا كاملةً، لاقى خلالها الأبطالُ صنوف الأهوال، وتوقف تقدُّمهم في البحر، فاضطروا إلى تقديم الذبائح وإقامة الصلوات للآلهة الاثني عشر مرةً أخرى. وإذا سفينتهم تسير في طريقها من جديد، وقد هدأت العاصفة وسكن الموج، فسار المركب سريعًا في لين، ينزلق على صفحة الماء حثيثًا، وبينما الأبطال يجدِّفون بعزيمة وقوة؛ إذ بصوتِ رعد قاصف يصمُّ الآذانَ يصل إلى مسامعهم.

كان ذلك الصوت هو زئير السومبلیجاديس وهم يتضاربون وينتكصون، وقد ردد الفضاء صداه، وتجاوبت السماء بتردیده من شاطئ إلى شاطئ، وامتزج به خرير البحر المُزبِد الصاخب. فوقف تیفوس مدير الدفة يقظًا عند ذراع السكان، كما وقف یوفیموس Euphemus اليافع في مكانه حاملًا يمامةً في يده اليمنى؛ لأن فينيوس كان قد أخبرهم أنه لو طارت يمامةٌ بسلام من بين الصخور، فإنهم يستطيعون كذلك اختراق الممر آمنين. فترك يوفيموس اليمامة تطير، فارتفعت وراءها جميع الرءوس تلاحقها بأبصارها … مرَقت اليمامة طائرةً ولكن الصخرتين كانتا تقتربان بعضهما من بعض، وأزبدت الأمواج وارتفعت في المضيق الضيق، وامتلأ الفضاء والبحر بالضجيج والصخب، ثم إذا بالصخرتين تلتقيان وتُطبِقان على ريش ذيل اليمامة، ولكنها مع ذلك مرِقت دون أن يصيبها أذًى؛ ومن ثم شجَّع تیفوس المجدِّفين بصوت مرتفع أن يسرعوا في التجديف بكل ما أوتوا من قوة.

انفصلت الصخرتان، فإذا بالتيار الجارف بينهما يسحب السفينة في اندفاعه، فكان الأبطال عندئذٍ مهدَّدين بالهلاك من كل جانب … ثم أقبلت موجة عاتية صوْبَهم، فكان منظرها مَدعاةً إلى الرعب والفزع؛ حتى إن الملاحين الشجعان، الذين طالما واجهوا الأخطار في جرأة وجسارة، ارتدوا في أماكنهم مذعورين .. عندئذٍ أمرهم تیفوس بالكف عن التجديف، فمرت الموجة الصاخبة متدفقةً أسفل قاعدة السفينة، وإذا بالسفينة تُحمل عاليًا فوق الصخرتین وهما تقتربان لتُطبِقا الواحدة على الأخرى .. فضغط المجدِّفون بشدة على المجاديف حتى بدت أطرافها الرقيقة المفلطحة؛ كأنها قد تقوَّست وانثنت. ثم حملتهم الدوامة من جديد وهبطت بهم إلى أسفل بين الصخرتين؛ حتى كادت السفينة العظيمة تتحطم بهم تحطيمًا لا تقوم لها من بعده قائمة، إلا أن الربة أثينا، حامية بحارة الأرجو، أقبلت مسرعةً دون أن يراها أحد، ودفعت السفينة إلى الأمام، فأنقذت الأبطال من الهلاك والسفينةَ من التحطيم المؤكد، فمرت السفينة بسلام بعد أن بلغت رُوح الرجال حناجرهم، ولم تُصَبْ بسوء إلا في طرف ذراع الدفة الذي أطبقت الصخرتان علیه فهشَمت جزءًا يسيرًا منه.

حقًّا ما كان للسفينة أن تمر آمنةً هكذا بعد أن أيقن ركابُها من أن الطامَّة نازلة بهم لا محالة. فلما أبصر الأبطال الشمس تضيء في كبد السماء وترسل نورها على سطح البحر المتلألئ، ورأوا البحر الفسيح أمامهم مرةً أخرى؛ ذرَفوا دموع الفرح وراحوا يستنشقون الهواء في عمق؛ إذ أحسوا كأنهم قد صعِدوا من العالم السُّفلي وكُتبت لهم أعمار جديدة … فصاح تیفوس قائلًا: «لم يحدث كل هذا بمحض قوتنا وتدبيرنا؛ إذ لابد أن هناك يدًا خفية انتشلتنا ودبَّرت نجاتنا، لقد أحسست أن ورائي يدَ أثينا المبجَّلة تدفع السفينة بقوة فائقة عبر الصخرتین … وإذ قد نجونا من هذا الخطر الداهم، فليس أمامنا بعد ذلك ما نخافه ونخشاه؛ لأن فينيوس أخبرنا أنه بعد زوال هذه المحنة، سيكون ما بقي أمامنا من أعمال يسيرًا هينًا.»

عندئذٍ هزَّ جاسون رأسه في حزن وأسًى، وقال: «أيْ تیفوس الطيب القلب، لقد جربت الآلهة بالسماح لبيلياس أن يفرض عليَّ هذه المهمةَ الشاقة المَحوطةَ بالأخطار الجِسام … وكان حريًّا بي أن أتركه يحطمني، والآن ينبغي أن أقضيَ الأيام والليالي في حزن وأنين، لا من أجل شخصي، ولكن من أجل أرواحكم وهنائكم … وأن أفكر في طريقة إنقاذكم من الخطر والعودة بكم سالمين إلى الوطن.»

قال جاسون هذه العباراتِ لكي يختبر رفاقه، ويعلمَ مكنونات صدورهم، ولكنهم جميعًا هتفوا باسمه، وقدَّموا له فروض الطاعة والولاء، ولم يطلبوا شيئًا أفضل من أن يتبعوا قائدهم ورائدهم المحبوب إلى النهاية، أينما توجَّه، وحيثما أبحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤