بدور بنت الجوهري وجبير الشيباني

قال علي بن منصور الخليعي: بينما كنت سائرًا في البصرة إذا بباب كبير له حلقتان من النحاس فوقفت أتفرج على هذا المكان، فينما أنا واقف إذ سمعت صوت أنين ناشئ عن قلب حزين، فرفعت الستر قليلًا قليلًا وإذا أنا بجارية بيضاء كأنها البدر إذ بدر في ليلة أربعة عشر، بحاجبين مقرونين، وجفنين ناعسين، وشفتين رقيقتين وفم كأنه خاتم سليمان، وقد حازت أنواع الجمال بما يفتن النساء والرجال، فلما رأتني ناظرًا إليها من خلال الستارة مالت إلى جارية لها، وقالت: انظري من الباب. فقامت الجارية وأتت إليَّ وقالت: ما سبب وقوفك هنا. قلت: عطش ألم بي فأمرت سيدتها فجاءت بكوز من الماء، فجعلت أشرب وأطيل في شربي وأنا أسارق النظر إليها حتى طال وقوفي. ثم رددت إليها الكوز ودمت صامتًا لا أتكلم، فقالت سيدتها: وما سبب هذا الوقوف؟ قلت: إنني أتفكر بصحاب هذا الدار كيف تقلبت عليه الأيام، وقد كان ذا مال جزيل، فهل خلف أولادًا؟ قالت: نعم. قلت: فإني أرى تغيرًا في وجهك، فأخبريني بسببه فقالت: إن كنت من أهل الأسرار كشفنا لك سرنا فأخبرني ما هو اسمك؟ فقلت لها: أنا علي بن منصور الخليعي نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد. فلما سمعت باسمي نزلت من على كرسيها وسلمت عليَّ وقالت: مرحبا بك يا ابن منصور الآن أخبرك بحالي، وأستأمنك على سري، أنا عاشقة مفارقة. فقلت لها: يا سيدتي أنت مليحة، وما تعشقين إلا كل مليح، فمن الذي تعشقينه؟ قالت: أعشق جبير بن عمير الشيباني أمير بني شيبان، وقد وصفت لي شابًّا لم يكن بالبصرة أحسن منه. فقلت لها: يا سيدتي، هل جرى بينكما مواصلة أو مراسلة؟ قالت: نعم. إلا أنه عشقنا باللسان لا بالقلب والجنان. فقلت لها: يا سيدتي، وما سبب الفراق بينكما؟ قالت: سببه أني كنت يومًا جالسة وجاريتي هذه تسرح شعري، فلما فرغت جدلت ذوائبي فأعجبها حسني وجمالي فطأطأت عليّ وقبلت خديّ. وكان في ذلك الوقت داخلًا عليّ غفلة، فرأى ذلك وعاد من وقته مغضبًا عازمًا على دوام البين وأنشد هذين البيتين:

إذا كان لي فيمن أحب مشارك
تركت الذي أهوى وعشت وحيدًا
فلا خير في المعشوق إن كان في الهوى
لغير الذي يرضى المحب مريدًا

ومن حين ولى معرضًا إلى الآن لم يأتنا منه كتاب يا ابن منصور، فقلت لها: فما تريدين؟ قالت: أريد أن أرسل إليه معك كتابًا. فقلت لها: افعلي ما بدا لك. فكتبت إليه هذه الأبيات:

حبيبي ما هذا التباعد والقِلى
فأين التغاضي بيننا والتعطف
وما لك بالهجران عني معرضًا
فما وجهك الوجه الذي كنت أعرف
نعم نقلَ الواشون عني باطلًا
فملتَ لما قالوا فزادوا وأسرفوا
فإن تك قد صدقتهم في حديثهم
فحاشاك من هذا ورأيك أعرف
بعيشك قل لي ما الذي قد سمعته
فإنك تدري ما يقال وتنصف
فإن كان قولًا صح أني قلته
فللقول تأويلٌ وللقول أحرف
وهب أنه قولٌ من الله منزلٌ
فقد بدَّل التوراة قومٌ وحرَّفوا
وبالزور كم قد قيل في الناس قبلنا
فها عند يعقوب تلوَّم يوسف
وها أنا والواشي وأنت جميعنا
يكون لنا يومٌ عظيمٌ وموقف

ثم ختمت الكتاب وناولتني إياه، فأخذته ومضيت إلى دار جبير الشيباني فوجدته في الصيد، فجلست أنتظره، فبينما أنا جالس وإذا به قد أقبل من الصيد، فلما رأيته على فرسه ذُهل عقلي من حسنه وجماله، فالتفت فرآني جالسًا بباب داره، فنزل عن جواده وعانقني وسلَّم عليَّ، ثم دخل بي إلى داره وسألني عن حاجتي، فأخرجت إليه الكتاب.

فلما قرأ ما فيه مزَّقه ورماه في الأرض وقال لي: يا بن منصور، مهما كان لك من الحوائج قضيناه إلا هذه الحاجة التي أتيت من أجلها، فذهبت حزينًا إلى كاتبة السطور وأعلمتها بما جرى أولًا وآخرًا، فزاد منها الحزن والقلق ورفعت طرفها إلى السماء وقالت: يا إلهي، كما أبليتني بمحبة جبير بن عمير تبليه بمحبتي وتنقل إليه ما يلقاه فؤادي. ثم إني عدت إلى حبيبها جبير فوجدت داره قد تهدمت بأسرها ولم أجد على بابه غلامًا، فظننته مات فحزنت عليه، وبينما أنا أبكي إذا بعبد أسود خرج إليَّ من الدار وسألني عن هذا البكاء، فقلت له السبب، فقال: إن الذي ذكرته حي بحمد الله ولكنه قد بُلي بحب غادة حسناء تُدعى بدور وهو من أجلها كطيف الخيال، فقلت: استأذن لي عليه. فدخل الدار مستأذنًا ثم عاد إليَّ آذنًا، فدخلت عليه فوجدته كالحجر الطريح، فناديت مرارًا حتى انتبه فقال لي: مرحبًا يا أبا منصور. فقلت له: يا سيدي ألك بي حاجة؟ قال: نعم، أريد أن أكتب لها ورقة وأرسلها معك إليها، ثم كتب هذه الأبيات:

سألتكم بالله يا سادتي مهلًا
عليَّ فإن الحب لم يُبقِ لي عقلا
تمكَّن مني حبكم وهواكم
فألبسني سقمًا وأورثني ذلّا
لقد كنت قبل اليوم أستصغر الهوى
وأحسبه يا سادتي هينًا سهلا
فلما أراني الحب أمواج بحره
رجعت لحكم الله أعذر من يُبلى
فإن شئتم أن ترحموني بوصلكم
وإن شئتم قتلي فلا تنسوا الفضلا

فأخذتُ الكتاب ومضيت به إلى دار السيدة بدور، فلما رأتني سلمت عليَّ وأخذت الكتاب فاطلعت عليه ثم تغرغرت عيناها بالدموع وكتبت إليه هذه الأبيات:

إلى كم ذا الدلال وذا التجني
شفيت وحقك الحساد مني
لعلي قد أسأت ولست أدري
فقل لي ما الذي بلغت عني
مرادي لو وضعتك يا حبيبي
مكان النوم من عيني وجفني
شربت كؤوس حبك مترعات
فإن ترني سكرت فلا تلمني

فأخذتُ منها تلك الأبيات وقلت لها: يا سيدتي، إنها لرقعة تداوي العليل وتشفي الغليل. ثم أخذت الكتاب وخرجت، فنادتني بعد الخروج وقالت لي: يا بن منصور، قل له: إنها في هذه الليلة ضيفك. ففرحت أنا بذلك فرحًا شديدًا ومضيت بالكتاب إلى جبير بن عمير، فلما دخلت عليه وجدت عينه شاخصة إلى الباب ينتظر الجواب، فلما ناولته الورقة فتحها وقرأها وفهم معناها فصاح صيحة عظيمة ووقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق قال: يا بن منصور، هل كتبت هذه الرقعة بيدها ولمستها أناملها؟ قلت: يا سيدي، وهل يكتب الناس بغير الأنامل؟! فما كدت أتم الكلام إلا وقد سمعنا وقع أقدام في الدهليز، فقام على أقدامه كمن لم يكن به ألمٌ قط واعتنقا معًا مدة طويلة وعادا إلى سابق الوداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤