العاشق وعبد الملك بن مروان

قال أبو ريحانة: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوسًا عامًّا، فبينما هو جالس في مستشرف له وقد قُدِّمت إليه أوراقًا فيها مطالب بعض المحابيس رأى في ورقة منها مكتوبًا: «إن رأى أمير المؤمنين أن يدع جاريته فلانة تغني ثلاثة أصوات ثم ينفذ فيَّ ما شاء من حكمه»، فاستشاط من ذلك غضبًا وقال لي: عليَّ بصاحب هذه الرقعة، فأحضرته بين يديه وهو غلام جميل الطلعة حسن المحيا، فقال له عبد الملك: أهذه رقعتك يا غلام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وما الذي غرك مني؟ والله لأصنعن بك ما يرتدع به نظراؤك من ذوي الخسارة، ثم قال: عليَّ بالجارية. فجيء بها من الخباء بوجه مشرق كالبدر وفي يدها عودٌ لطيف الأوتار، فطرح لها الكرسي فجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام، فقال لها: غني يا جارية بشعر قيس بن ذريح:

لقد كنت حسب النفس لو دام ودنا
ولكنما الدنيا متاعُ غرورِ
وكنا جميعًا قبل أن يظهر الهوى
بأنعم حالي غبطة وسرورِ
فما برح الواشون حتى بدت لنا
بطون الهوى مقلوبةً لظهورِ

فغنَّت، فخرج الغلام يُمزِّق ثيابه من شدة الوله، فقال له عبد الملك: مرها تغنيك الصوت الثاني، فقال: غنِّي بشعر جميل:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذًا لسعيدُ
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي
من الحب قالت: ثابت ويزيدُ
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به
مع الناس قالت: ذاك منك بعيدُ
فلا أنا مردود بما جئت طالبًا
ولا حبها فيما يبيد يبيدُ
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها
ويحيا إذا فارقتها فيعودُ

فغنتهُ الجارية، فوقع الغلام مغشيًّا عليه ساعة ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث، فقال: يا جارية، غنِّي بشعر قيس بن الملوح المجنون:

وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة
غزال غضيض المقلتين ربيبُ
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى
ولكن من تنأين عنهُ غريبُ

فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسهُ من مستشرف، فلم يبلغ الأرض حتى تقطع، فقال عبد الملك: دعيه لقد عجَّل على نفسه، ولقد كنت حسبته على غير ما أرى، ثم أمر فأُخرجت الجارية من قصره، وسأل عن الغلام، فقيل: غريب لا يُعرف إلا أنه منذ ثلاثة أيام كان ينادي في الأسواق ويده على رأسه:

غدًا يكثر الباكون منا ومنكم
وتزداد داري من دياركمُ بعدًا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤