أبو يحيى القاضي وأحد الخلفاء

كان أبو يحيى القاضي في زمان أحد الخلفاء، وكان لا يشرب الخمر بل ينهى دائمًا عن شربه حتى إنه نهى الملك نفسهُ، فاغتاظ الملك لهذا الأمر وأضمر ذلك في نفسه، وكان عنده جارية حسناء تُدعى «نصيبين»، لطيفة القد، فتانة الملامح، فدعا بها يومًا وقال: يا نصيبين، اذهبي غدًا إلى البستان واصعدي إلى المقصورة العالية فإنني من الآن أهيئ هناك من المأكول وغيره ما يصلح للمقام، فادخلي المخدع الذي يقاربها واختبئي فيه حين قدومي مع أبي يحيى القاضي، وبعد الفراغ من الطعام أذهب أنا إلى البستان وأدع لك أبا يحيى وحيدًا في القصر، فاخرجي أنت وأصلحي العود وقدمي بين يديه المدام وزيدي في الغناء له حتى يذهب عن هداه، فقالت: سمعًا وطاعةً أيها الملك، وفي الغد دخلت البستان وفعلت ما أمرها به، ولم يمضِ إلا القليل حتى جاء الملك مع أبي يحيى القاضي فجلسا يتسامران إلى أن حضر الطعام فأكلا، ثم قام الملك، وقال: يا أبا يحيى ابقَ هنا إلى أن أعود إليك، ثم نزل إلى البستان وأشار إلى نصيبين فخرجت للحال وسلمت على أبي يحيى فرد عليها السلام فأخذت العود وأصلحت أوتاره وغنت:

نظري إلى وجه الحبيب نعيم
وفراق من أهوى عليَّ عظيمُ
وأنا الذي ما كنت أرحم عاشقًا
حتى عشقت وها أنا المرحومُ
يا غارس الريحان حول خيامنا
لا تغرس الريحان لست تقيمُ
ما كل من ذاق الهوى عرف الهوى
أو كل من شرب المدام نديمُ
ما لي لسان أن أقول ظلمتني
والله يعلم أنني مظلومُ

فطرب أبو يحيى من غنائها ولاحت عليه علائم الانبساط، فلما آنست منهُ ذلك رمت العود من يدها وأخذت الجام وسكبت المدام وقدمت له كأسًا منها، فامتنع أبو يحيى عن أخذها، فصارت تلاعبهُ تارة وتمازحهُ أخرى إلى أن شرب منها، وما زالت تهيجه بمغناها حتى ترنح من الطرب فصار يطلب منها كأسًا بعد أخرى حتى أخذ منه السكر ومالت به هزة الطرب فاستلقى على ضمة من زهر الرياحين وهو غائب عن وجوده، وإذا بالملك أقبل فرآه على ذي الحال فناداه قائلًا:

ما لي أنادي أبا يحيى فينبيني
سكران مطروح ما بين الرياحين

فأجابه على الفور:

ما أنت ربي على ذنبي تحاسبني
ولا نبيًّا لطرق الحق يهدينا
ما قال ربك ويل للألى سكروا
بل قال ربك ويل للمصلينا
أنعم عليَّ بما أوعدتني كرمًا
واجعل نصيبي من الدنيا نصيبينا

فعجب الملك من ذكائِه ودفع إليهِ تلك الجارية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤