الفصل الحادي عشر

زيارة وتبشير

ولما كان بيير عائدًا من الجنوب وهو على أحسن ما يكون من الغبطة والانشراح والارتياح، فقد انتهز تلك الفرصة للقيام بالزيارة التي طالما أجلها وأخرها، زيارة صديقه بولكونسكي الذي لم يره منذ عامين كاملين.

كانت بوجوتشاروفو — المقاطعة التي منحها الأمير العجوز لابنه آندريه — واقعة في ناحية مسطحة موحشة، تتخلل الحقول فيها أدغال الصنوبر والسندر، مبعثرة هنا وكثيفة هناك، والقرية مبنية على طول الطريق الكبير في خط مستقيم. أما المقر الذي ينزل فيه السيد، فقد كان مشيدًا وراء بحيرة حديثة الحفر ممتلئة بالماء، ذات حواف مجردة لم تعبَّد بعد، وسط غابة اصطناعية حديثة الغرس تشمخ فيه بعض شجرات الأرز الكبيرة، وكانت دائرة السيد تشمل إلى جانب البيادر وملحقاتها الإصطبلات والمغاسل والحمام والمنافع العامة، وجناحًا ملحقًا، وبناء كبيرًا من الحجر ذا واجهة نصف دائرية لم يستكمل بناؤه بعدُ، وكانت حديقة حديثة الغرس والإعداد تُحيط بالمسكن.

أما الحواجز الخشبية والبوابات فكانت جديدة ومتينة، وتحت طنف قرب البيت. كانت مضختان لمكافحة الحريق مستقرتين إلى جانب برميل ماء كبير مطلي بلون أخضر، وكانت الطرقات مخططة بدقة وعناية، والجسور متينة محاطة بالحواجز، وكل شيء في ذلك الحانوت يدل على النظام، وتفهم عميق للحياة الريفية الزراعية والتنظيم القروي. سأل بيير المماليك الخدم عن منزل سيدهم، فأشاروا إلى الجناح الجديد المقام على شاطئ البحيرة، فقصد بيير إلى البناء، وهناك ساعده خادم اسمه أنطون — كان يرافق الأمير منذ صباه ويُعنى بشئونه — على الترجُّل من عربته، وأخبره بأن سيده موجود وأدخله غرفة صغيرة نظيفة.

كان ذلك المسكن المتواضع يتناقض كل التناقض مع المظهر الباذج الأنيق الذي شاهد بيير صديقه فيه آخر مرة في بيترسبورج، فأدهشه هذا التحول وبادر إلى ولوج البهو الصغير الذي لم تكن جدرانه قد غطيت كلها بطبقة الجص، والذي كانت تبعث منه رائحة خشب الصنوبر. همَّ بأن يدخل إلى الغرفة المجاورة، لكن أنطون سبقه على أطراف قدميه فقرع بابها.

سأله صوت أجش مقبض من الداخل: «ماذا هناك؟»

فأجاب أنطون: «زيارة لك.»

– «دعه ينتظر.»

ارتفع صوت تراجع مقعد، فاندفع بيير ليصطدم بالأمير آندريه على عتبة الباب وهو خارج من الغرفة مكتئب الوجه عابسه، وعلى وجهه أمارات الشيخوخة، طوَّقه بذراعه ونزع نظارتيه ثم قبله في خديه وراح يتأمَّله عن قُرب، قال آندريه: «بحق الشيطان ما كنت أنتظر … إنني شديد السرور لرؤيتك.»

ذُهل بيير من الانقلاب الكبير الواضح على مظهر صديقه، فراح ينظر إليه دون أن ينبس ببنت شفة، كانت كلمات الأمير مسرحية ووجهه بسام، لكنه رغم كل رغبته واستعداده ما كان يستطيع أن يضيء وميض الفرح في عينيه الخابيتين. كم هزل بولكونسكي وشحب وشاخ! غير أن بيير لم يكن ليُلقي بالًا إلى كل هذا لولا تلك النظرة الميتة، وذلك الأخدود الذي يقطع جبهته دلالة على تركيز التفكير في أمر واحد زمنًا طويلًا. لقد كانت هناك هاتان البادرتان تُحيِّفَانِه وتجعلان صديقه بعيدًا عنه؛ مما اقتضاه فترة غير قصيرة ليألفهما.

وكما يحدث عادة في الحديث الذي يدور بين صديقين بعد غياب طويل، فقد ظل الحديث يتعثر بينهما فترة حتى استقام. شرعا يبحثان في موضوعات مختلفة وفي آنٍ واحد دون أن يُولياها العناية التامة، رغم أن تلك الموضوعات كانت جديرةً بالبحث والنقاش، كالبحث في ماضيهما وخططهما للمستقبل ورحلة بيير ومشاغله والحرب … إلخ، ثم قام التفاهم بينهما رويدًا رويدًا، واتفقا ضمنيًّا على بحث كل مسألة على حدة. كان الانهماك والتداعي اللذين لاحظهما بيير في نظرة صديقه الأمير آندريه يبدوان أكثر وضوحًا في الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه، والتي أخذ يستقبل بها الأحاديث التي كان الكونت الشاب يشرع فيها، وبصورة خاصة مشاريعه الحماسية المتعلقة بالمستقبل ورواياته عن الماضي.

كانت تلك الأمور رغم كل ما قد تثيره في نفسه من منعة لا تستأثر باهتمام الأمير، وكان هذا الإحساس ظاهرًا على آندريه، حتى إن بيير لم تفُت عليه ملاحظته، فأدرك أن حماسته وأحلامه وآماله في السعادة والفضيلة كانت في غير محلها؛ لذلك فقد عرض أفكاره الماسونية الجديدة في شيء من الارتباك، خصوصًا ما كان يتعلق منها برحلته وما شعر به بعد تلك الرحلة. أخذ يسيطر على لسانه خشية أن يبدو ساذجًا، لكنه كان يتحرق شوقًا ورغبة في إظهار صديقه على أنه أصبح الآن بيير آخر غير الذي عرفه في بيترسبورج، قال: «لا أستطيع إطلاعك على كل ما حدث في نفسي من تغييرات في الأيام الأخيرة. إنني لا أكاد أعرف نفسي.»

فأجابه آندريه: «نعم، لقد تبدلنا كثيرًا كثيرًا.»

سأله بيير: «وأنت، ما هي مشاريعك وخططك؟»

فرد عليه آندريه بلهجة ساخرة: «مشاريعي؟»

وكرر وكأن معنى تلك الكلمة كان يدهشه: «خططي؟! لكن كما ترى؛ إنني أبني دارًا وأتوقع أن أستقر هنا نهائيًّا في العام المقبل.»

أخذ بيير يدقق في وجه صديقه المَهْرَم وقال: «أنا لا أتحدث عن هذا. لقد أردت سؤالك عن …»

فقاطعه آندريه قائلًا: «آه! ما فائدة التحدث عني؟ الأفضل أن تقص عليَّ رحلتك وكل ما عملته في أملاكك هناك.»

شرع بيير يتحدث — ساعيًا إلى إخفاء دوره في هذا الموضوع — عن التحسينات التي بات مماليكه الفلاحون ينعمون بها، وقد أنجز آندريه أكثر من مرة وكأنه يعرف ذلك منذ زمن طويل، اللوحة الكلامية التي كان يصورها له بيير، لكنه كان واضحًا عليه أنه لم يكن يعير ذلك الحديث أية أهمية، بل إنه كان يبدو خجلًا لمجرد إصغائه إلى تلك الترهات.

أخيرًا شعر بيير بالضجر فآثر الصمت، ولا ريب أن آندريه كان يحس مثل ذلك الإحساس؛ لذلك فقد راح يبحث فقط عما يشغل ذلك الضيف الذي كانت آراؤه لا تنسجم ولا تتفق في شيء مع آرائه الشخصية، قال له: «أنت ترى يا عزيزي أنني جئت أعسكر هنا، ولقد قدمت لألقي نظرة على ما تم، وسأعود بعد حين لألحق بأختي في البيت. سوف أقدمك إليها، لكنك تعرفها على ما أعتقد؟ سوف نذهب بعد العشاء، والآن هل ترغب في زيارة أرضي وتفقدها؟»

ظلا يتنزهان حتى موعد العشاء وهما يتحدثان وكأنهما لا تربط بينهما إلا معرفة سطحية عن أصدقائهما كليهما، وعن الأنباء السياسية. لم تتدفق الحيوية في نفس الأمير آندريه إلا عندما تحدَّث عن ترتيباته الجديدة، لكنه عاد فبتر الحديث فجأةً، بينما كان يتحدث عن التجهيزات المنتظرة، خلال وصف جميل للمسكن المنتظر، قال: «ثم إن كل هذا لا يثير إلا اهتمامًا ضئيلًا. هيا بنا إلى المائدة قبل أن نمضي إلى القصر.»

تحدثا خلال الطعام عن زواج بيير، فقال آندريه: «لقد أدهشني النبأ كل الدهشة.»

تضرج وجه بيير كعادته، وتطرق البحث إلى هذه الناحية وبادر يقول: «سأقص عليك ذات يوم كيف وقع كل هذا. اعلم فقط أن كل شيء قد انتهى وللأبد.»

– «للأبد! لا شيء يمكن أن يدوم إلى الأبد.»

– «هل تجهل إذن كيف انتهى الأمر؟ هل سمعت عن المبارزة؟»

– «نعم، إنني أعرف أنك بلغت حتى هذا السبيل.»

– «إن الأمر الوحيد الذي أُشكر عليه هو أنني لم أقتل ذلك الرجل.»

– «ولمَ الشكر؟ إن قتل كلب مسعور يبدو لي أمرًا ممتازًا.»

– «كلا، إن قتل رجل إثم، إنه غير حق!»

– «غير عادل؟ ولمَ؟ إن الإنسان لا يمكنه أن يُقرِّر الحق والباطل، الظلم والعدل. إن هذه هي النقطة التي أخطأ فيها الإنسان أكثر من غيرها، وسيخطئ في تقديرها أبدًا.»

استأنف بيير وقد أسعده أن استثار الحديث اهتمام آندريه أخيرًا، وبدا كأنه يريد أن يفضي إليه بمكنونات نفسه في تلك الآونة: «إن كل ما يسيء إلى المجتمع غير عادل.»

– «ومن الذي قال لك ما هو الشيء الذي يسيء إلى المجتمع؟»

– «كيف هذا؟ إننا نعرف جميعًا ما يسيء إلينا.»

فقال آندريه وفي نفسه رغبة في عرض وجهة نظره الجديدة على بيير: «نعم، إننا نعرفه، لكن ذلك الشر الذي أعتبره مسيئًا إليَّ شخصيًّا لا أستطيع أن أعمله للمجتمع.»

ثم ازداد تحمسه وأضاف بالفرنسية: «إنني لا أعرف في الحياة إلا سيئتين حقيقيتين: المرض، وتبكيت الضمير، ولا شيء أحسن من غيابهما عن النفس والجسد. إن حكمتي الحالية تنحصر في أن أعيش لنفسي، وأن أتجنب هذين الشرين.»

فاستأنف بيير مناقشًا: «وحب المجتمع، وروح التضحية؟ إنني لا أستطيع أن أشاطرك الرأي؛ أن يعيش المرء لمجرد ابتعاده عن الإساءة تجنُّبًا لتبكيت الضمير أمرٌ تافه قليل. لقد عشت كذلك؛ عشت من أجل نفسي فحطمت حياتي. والآن وأنا أعيش للآخرين — وبادر إلى تصحيح جملته بتواضع فقال — أعني أنني أحاول على الأقل أن أعيش للآخرين، فإنني على العكس بدأت أشعر بلذة الحياة وأفهمها. كلا إنني لست من رأيك، ثم إنك لا تؤمن بما تقوله بالفعل.»

أخذ آندريه يتأمله وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة، قال: «سوف ترى أختي ماري، وستتفق معها في الرأي.»

وأردف بعد فترة صمت: «إن من الممكن أن تكون على حق فيما يتعلق بك، لكن كل إنسان يعيش كما يرى وعلى هواه. إنك تزعم بعيشك من أجل نفسك، كما عملت بادئ الأمر. كِدتَ أن تفسد وجودك وتحطم حياتك، وإنك لم تتعرف إلى السعادة إلا عندما رُحتَ تعيش للآخرين. لقد قمتُ بالتجربة العكسية، لقد عشت من أجل المجد، والمجد هو حب المجتمع كذلك، والرغبة في تحقيق شيء من أجله، الرغبة في أن امتُدح من قبله؛ إذن عشتُ من أجل الآخرين، فحطمت حياتي كلها نهائيًّا. إنني منذ أن بدأت أعيش من أجل نفسي شعرت على العكس بأكثر قسط من الراحة والهدوء.»

فناقشه بيير بحماس: «ولكن كيف يمكن أن يعيش المرء من أجل نفسه فقط؟ وابنك، وأختك، ووالداك؟»

– «إنهم يدخلون في اﻟ «أنا». إنهم ليسوا الآخرين. إن الآخرين (المجتمع) — كما تسميهم أنت وماري — هم السبب الجوهري للخطأ والشر. إن المجتمع هو فلاحو كييف الذين تريد أن تعمل صالحًا من أجلهم.»

خيِّل لبيير أن نظرته الهازئة تتحداه، فأجابه وقد ازداد حماسه توقدًا: «إنك تمزح ولا ريب، كيف يمكن أن تكون رغبتي في عمل الخير خطأ وشرًّا؟ قد أكون أخطأت في الترتيبات والتنفيذ، لكن نيتي طيبة، وقد قمت ببعض الخير رغم كل شيء. شرفي أن يخفَّف عن فلاحينا التعساء الذين هم من بني الإنسان مثلنا، والذين يكبرون ويموتون دون أن يعرفوا عن الله والحق إلا تطبيقات غير مجدية، وصلوات ربانية سخيفة! أقول: أي شرٍّ في أن يطَّلِعوا على ما يخفف عن نفوسهم فيعرفوا شيئًا عن الحياة الأخرى التي تنتظرهم جزاءً لهم على أعمالهم، وتخفيفًا عما في نفوسهم؟ أي شر وأي خطأ في أن نجنِّب الرجال الموت دون غوثٍ مادي! وفي أن نؤمِّن لهم حاجتهم من الأطباء والمستشفيات والملاجئ مع ما في ذلك من يُسرٍ؟ أليس منح بعض الراحة لأولئك التعساء البائسين، وللأمهات الشابات اللواتي يقتلن أنفسهن في العمل المرهق عملًا طيبًا لا يبارى؟»

كان بيير يتحدث بسرعة متمتمًا، فلما بلغ هذا الحد أعقب بصوت هادئ وبرزانةٍ قائلًا: «هذا ما عملته. صحيح أنه كان عملًا ناقصًا، وأنه نفِّذ بشكل غير مرضٍ كليًّا، لكنني عملته على كل حال. إنني لن أصدق أبدًا مهما قلت وأكَّدت أنني أسأتُ صنعًا فحسب، بل لن أصدق كذلك أنك لم تفكر في هذا بالمِثْل. إن المتعة التي يشعر بها الإنسان بعد عمل الخير هي سعادة الحياة الحقيقية. إنني أعرف ذلك الآن وفي نفسي القناعة الكاملة. وهذا هو الشيء الأساسي.»

استأنف الأمير آندريه قائلًا: «على هذا الأساس فإن المسألة تبدو بشكل مختلف تمامًا. إنني أشيِّد دارًا أو أغرس شجرًا، وأنت تبني مشافي، لكلٍّ منا تسليتُه. أما ما هو خير وما هو عادل، فدع للذي يعرف كل شيء فرصة تقرير ذلك. إن هذه المسألة ليست شأننا. لكن، أتريد أن نتناقش؟ هيا، ليكن.»

– «حسنًا، لنستمر. إنك تقول: مدارس، مواعظ، وماذا بعد؟ الخلاصة أنك تريد أن تسحب هذا المخلوق — وأشار إلى فلاح كان يمرُّ في تلك اللحظة محييًا — من حالته الحيوانية الحالية لتعطيه ما ينقصه من النواحي الفكرية والخلقية. أما أنا فأعتقد، على العكس، أن سعادته الوحيدة الممكنة كامنة — على الدقة — في هذه السعادة الحيوانية التي تودُّ سلبها منه. إنني أغبطه في الوقت الذي تريد أنت أن تجعله «أنا» دون أن تعطيه على أية حال واحدًا أو أكثر من مصادري. ثم تقول بعدئذ: لنخفف عنه عمله. لكنني أقدِّر عكس ذلك أيضًا؛ أن العمل الجسدي يعتبر ضرورة بالنسبة لك ولي. إنك لا تستطيع أبدًا أن تتخلى عن التفكير، وأنا لا أنام قبل الساعة الثانية أو بعدها؛ لأن حشدًا كبيرًا من الأشياء يتجمع في رأسي، فأتقلب وأتقلب ولا أجد سبيلًا إلى النوم. كل يوم لأنني لا أستطيع أن أعمل شيئًا غير التفكير، وعلى ذلك، فإنه لن يستطيع التخلي بدوره عن الحراثة والحصاد، وإلا ذهب إلى الحانات وسقط فريسة للأمراض. إنني لا أستطيع احتمال عمله الجسدي المخيف؛ لأنه سيقتلني في بحر أسبوع إذا مارسته، كذلك فإن بطالتي ستجعله عظيم السمنة وستقتله. ثالثًا … ماذا كنت تقول؟ آه، لقد تذكرت.»

وثنى إصبعه الثالث وأردف: «المستشفيات والمداواة، فهو إذا أصيب بضربة دمٍ مات، أما أنت فتريد أن تُعالجه ليشفى، سيعيش عشر سنين بعد شفائه، لكنه سيكون مقعدًا عاجزًا، عالة على الآخرين، ومن الخير له أن يموت مرة واحدة. إن غيره يولدون بكثرة، وسيحلون محله باستمرار، وسيكون عددهم أبدًا كافيًا، فإذا كنت تأسف لخسارة عامل — وإنني أعتبر الأمر كذلك — فليكن! لكن كلا، إنك تريد معالجته حبًّا به ليس إلا. إنه ليس في حاجة إلى مساعدتك. ثم من الذي شفاه الطبُّ حتى الآن؟ إن الطبَّ لا يعرف إلا القتل.»

وأشاح بوجهه غاضبًا. كان آندريه يتحدث بطلاقة ووضوح الرجل الذي ناقش هذه الأفكار في نفسه طويلًا، والذي وجد أخيرًا مجالًا للتعبير عما يجيش في صدره، فكلما كانت استنتاجاته كئيبة مظلمة ازداد بريق عينيه وميضًا.

قال بيير: «آه! إن هذا مريع، إن هذا مريع! كيف يمكن أن يعيش المرء بمثل هذه الآراء؟! لقد عرفت — والحق يقال — دقائق من هذا الطراز في موسكو وأثناء سفري، لكنني لم أشعر بسقوطي في مثل هذا الإسفاف. لا أشعر بالحياة، بل إن كل شيء يبدو لعيني بشعًا كريهًا، اعتبارًا من نفسي؛ وعندئذ أعزف عن الطعام والاغتسال. وأنت؛ لمَ إهمال النفس؟ إن ذلك يعتبر قذارة! يجب على العكس أن يَجهدَ المرء ليجعل حياته على أقصى ما يستطيع من درجات الرفاهية. إذا كنتُ أعيش فليس ذلك خطئي؛ فلنعش إذن على خير ما نستطيع بانتظار لحظة الموت.»

– «ولكن كيف يمكنك مع ذلك أن تتمتع بالحياة وتشعر بلذة العيش؟ عندما يكون المرء في مثل هذه الحالة فإن من الأفضل أن يدفن نفسه في أحد الأركان، وأن يستغرق في تأملاته ويضرب أخماسه بأسداسه. ألا ترى أن الحياة لا تترك لنا مجالًا للراحة، ولولا ذلك لأسعدني أن أعيش دون أن أعمل شيئًا؟ لكن فئة النبلاء في المقاطعة أرادت بادئ الأمر أن تنتخبني قيمًا على مصالحها، ولقد وجدت صعوبات كبيرة في إقناع هؤلاء السادة بأنني لم أكن رجلهم المنشود؛ لأن المنصب يتطلب استعدادًا نفسيًّا مرحًا ودناءة مستمرة، مما لا يتوفر فيَّ، ثم اضطررت إلى تشييد هذا البيت لأجد لنفسي ركنًا خاصًّا أشعر فيه بالراحة، وأخيرًا جاء دور الميليشيا.»

– «لمَ لم تعد إلى الخدمة العسكرية؟»

فأجاب الأمير بصوت كئيب: «بعد أوسترليتز! كلا، مع عظيم الشكر. لقد آليت على نفسي ألا أعود إلى الخدمة الفعلية، ولسوف أحافظ على وعدي، ولو أن بونابرت وصل إلى أبواب سمولنسك وبات يهدد ليسيا جوري؛ فإنني لن أعود إلى الخدمة الفعلية.»

ثم تابع بصوت استعاد بعض هدوئه: «إنني كما قلت لك وجدت أن خير وسيلة للإفلات من الخدمة الفعلية هي أن أعمل ملحقًا لأبي الذي يقود المنطقة الثالثة لإعداد الميليشيا.»

– «إنك إذن في الخدمة، أليس كذلك؟»

وصمت فترة طويلة. سأله بيير بإلحاح: «ولمَ تخدم؟»

– «إليك السبب: إن أبي من أبرز شخصيات عصره وأهمها، لكنه أصبح اليوم هرمًا، وأضحى تصرفه على شيء من العنف دون أن تكون فيه قسوة. والآن قد منحه الإمبراطور سلطة غير محدودة بوضعه على رأس فِرق الجيش الفني، إضافة إلى عاداته الآمرة، فقد أصبح خطرًا يخشى جانبه، لقد كاد منذ خمسة عشر يومًا أن ينفذ حكم الإعدام شنقًا في واحد من المقيدين في إيوخنوف لو تأخرت ساعتين عن الوصول.»

وابتسم آندريه وأردف: «وإذن إذا كنت أخدم فلأنه لا يوجد سواي من يستطيع التأثير على عقلية أبي، وإنني من حين إلى آخر أستطيع منعه عن القيام ببعض الأعمال التي يمكن أن يأسف عليها فيما بعدُ أسفًا عميقًا.»

– «أرأيت؟»

– «نعم، ولكن ليس كما تتصور الأمر وتفسره. إنني ما كنت أطلب ولن أطلب أي خير لذلك المقيد الذي سرق أحذية الميليشيا، بل إنني كنت سأنظر إليه وهو يُشنق بسرور، لكنني أشفقت على أبي، وأعني أنني أشفقت على نفسي مرة أخرى.»

أخذ انفعال الأمير يزداد تدريجيًّا، وبينما كان يجهد في أن يبرهن لبيير أن أعماله لا تضم شيئًا من إرادة الخير للآخرين، كانت عيناه تتوقدان بحماسة محمومة، استأنف القول: «وإذن فإنك تنوي تحرير العبيد وإقرارهم. إنها نية ممتازة، لكنها لن تكون ذات نفع لك — وأنت الذي لم تأمر بجلدهم قط أو نفيهم إلى سيبيريا كما أعتقد — ولا لهم، بل إنني أعتقد أنهم إذا جُلدوا أو أبعدوا فإن ذلك لن يكون في رأيهم شيئًا كل السوء، ولو أرسلوا إلى سيبيريا لتابعوا حياتهم الحيوانية هناك وكأن شيئًا لم يحدث، فإذا ما التأمت جروح السياط وبرئت؛ فإنهم سيشعرون بمثل سعادتهم السابقة. مع ذلك، فإن التحرير والإقرار ضروريان، ولكن لأولئك الذين يخنقون في أنفسهم صوت تبكيت الضمير بعد أن فقدوا تدريجيًّا الإحساس الروحي، فيقسون في عادتهم الرديئة التي يعتبرونها حقًّا لهم، وهي إنزال العقاب بعدل أو بغير عدل. هؤلاء هم الذين أشفق عليهم، والذين أتمنى أن يصار إلى تحرير العبيد الفلاحين بسببهم. لعلك لا تعرف بعضًا من هؤلاء، لكنني رأيت أشخاصًا بارزين نشئوا في تقاليد السلطة المطلقة، فأصبحوا مع السنين أكثر استجابة للغضب، وأشد قسوة ووحشية، وهم يعرفون ذلك عن أنفسهم، لكنهم لا يستطيعون السيطرة على رغائبهم؛ فيزدادون تعاسة وحزنًا.»

كان آندريه يتحدث بحرارة. فكَّر بيير في سرِّه مرغمًا: «لا شك أن هذه الأفكار قد تسربت إلى نفسه من تأثير عقلية ابنه.» لم يجب، بينما أعقب آندريه قائلًا: «نعم، هؤلاء هم الذين يوحون إليَّ بالشفقة، وأعني كرامة الإنسان، راحة الضمير ونقاء الروح. أما الظهور والرءوس، ظهور هؤلاء الأشخاص ورءوسهم، فإنك مهما جلدت وحلقت فإنها ستبقى أبدًا ظهورًا ورءوسًا.»

فقال بيير: «كلا وألف كلا، لن أكون أبدًا من رأيك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤