الفصل الرابع

الذئب

قرر الكونت العجوز الذي كان في حالة نفسية مشرقة ذلك اليوم، والذي كان يملك معدات كبيرة هامة للصيد، أسلم زمامها إلى ولده مؤخرًا، أن ينضم إلى البعثة.

لم تمضِ ساعة حتى كان كل شيء جاهزًا أمام المرقاة. سار نيكولا أمام ناتاشا وبيتيا دون أن يلقي بالًا إلى ما يُحدِّثانه عنه، مُبيِّنًا بتصرُّفه ذاك أن الوقت لا يتَّسع للتُّرهات، وبعد أن تفقد كل شيء حتى أتفه التفاصيل، وأرسل فصيلة من الكلاب مع كشافين تتقدمهم، اعتلى صهوة حصانه الأشقر «دونيتز»، وصفَّر ينادي كلاب موكبه الشخصي، واندفع عبر الحقول متجهًا صوب غابة أوترادنواي. وكان مرافق الكونت العجوز يقود حصانه «فيولان» (عنيف)؛ وهو حصان أشهب عاقر ذو ذؤابة بيضاء. أما الكونت نفسه فكان عليه بلوغ المركز المعيَّن له للمراقبة مستعملًا الزحافة.

أسلم زمام خمسين كلبًا عداءً إلى ستة من الخدم المختصين بالكلاب، وأطلَق ثمانيةٌ آخرون من الخدم أكثرَ من أربعين كلبًا سلوقيًّا، ولو جمعت فصائل كلاب السادة لبلغ عددها مائة وثلاثين كلبًا يواكبها عشرون صيادًا على خيولهم.

كان كل كلب يعرف اسمه وقائده، وكل صياد مركزه ودوره، وما إن خرج الجمع إلى الأرض الفراغ حتى تفرقوا جميعًا بصمت وسكون، وبخُطًى هادئة متزنة في الدروب المؤدية إلى الغابة.

كانت الخيول تتقدم في البرية وكأنها تطأ بساطًا مرنًا، لكنها عند تلاقي الطرق كانت تخوض في برك من المياه، وكان الضباب مستمرًّا في الذوبان البطيء غير الملموس مع الأرض، والهواء ساخنًا خفيفًا، ومن حين إلى آخر كانت صفارة أحد الصيادين تدوي، أو يرتفع شخير حصان، أو فرقعة سوط، أو نباح أليم لكلب طُلب إليه العودة إلى الصفوف والانتظام.

اجتاز الموكب ربع ميل تقريبًا عندما انفصل عن الضباب خمسة فرسان آخرين على رأسهم عجوز جميل الطلعة لا يزال وافر النشاط، ذو شاربين أبيضين ضخمين.

قال نيكولا عندما اقترب العجوز منه: «مرحبًا يا عماه.»

قال العم وهو قريبٌ بعيدٌ لآل روستوف غيرَ واسع الغنى، يقطن في جوارهم: «إنه واضح تمامًا إلى الأمام سِرْ! لقد كنت واثقًا من خروجكم. كنت أعرف أنك لن تقاوم، وأنك لعلى حق. إنه واضح، إلى الأمام سِرْ! وهذه عبارة العم المفضلة. هاجم الغابة فورًا؛ لأن رَجُلي جيرتشيك أعلمني أن آل إيلاجين متمركزون بموكبهم في كورنيكي. لسوف ينتزعون منك أسرة جِراء الذئاب، إنه واضح، إلى الأمام سِرْ!»

– «إننا ذاهبون إلى الغابة، هل نجمع فصائل الكلاب؟»

جمعت الفصائل ومضى العم ونيكولا ساقًا إلى ساق. أما ناتاشا المتدثرة بشالات عديدة يَبرُز خلالها وجهُها ذو العينين البراقتين المنفعلتين، فقد تبعتهما بصحبة بيتيا، يواكبهما قائد الكلاب ميخائيلو الذي أقامته خادمتها العجوز حارسًا عليها، وكان بيتيا مبتهجًا كل الابتهاج، يسوط حصانه ويثيره ليندفع به. أوقفت ناتاشا وهي كالطود الراسخ فوق سرجها، بحركة مُدرَّبة من يدها، حصانها الأدهم «نيجريون».

ألقى العم نظرة استياء إلى حيث وقف الشابان: «ما كان يجب أن يجتمع عبث الصبيان بالأمور الجدية.» هتف بيتيا: «صباح الخير يا عماه، إننا هنا نحن أيضًا.»

– «صباح الخير، صباح الخير، ولكن حاذرا أن تسحقا الكلاب.»

قالت ناتاشا وهي تتحدث عن كلبها العدَّاء المفضل: «نيكولا، يا له من كلب لطيف «تاكان» مشاكس هذا. لقد عرفني!»

قال نيكولا في سره: «إن مشاكس ليس كلبًا، بل كلب عدو.» وبنظرة صارمة أوضح لأخته المسافة التي يجب أن تحتفظ بها بينهما، فامتثلت ناتاشا وعملت بما يطلب.

استأنفت تقول: «لا تقلق يا عماه، لن نزعجكم في شيء، لن نتحرك من مكاننا.»

أجاب العم: «هذا أفضل، هذا أفضل أيتها الكونتيس الصغيرة، فقط لا تسقطي عن جوادك؛ ففي هذه الحالة إذن كل شيء واضح. إلى الأمام سِرْ! لن تبقى لديك وسيلة للحاقك بنا.»

كانت الجزيرة التي تشكلها غابة أوترادنواي تلوح على بضع مئات من الأمتار، وقد بلغها رؤساء فصائل الكلاب. درس نيكولا مطولًا مع العم خير الأمكنة التي يشرع فيها بإطلاق الكلاب، وبعد أن حلَّا هذه المعضلة الخطيرة دلَّ ناتاشا على المكان الذي يجب أن تقف فيه، مراعيًا في ذلك النقطة التي لا يمكن لحيوان بلوغها، ثم دخل الغابة من أعلى الوادي.

قال العم: «انتبه يا ابن أخي. إنك إزاء ذئب ضخم؛ فلا تدعه يفلت.»

صاح نيكولا دلالة على أخذه العلم بملاحظات العم: «سوف نرى … «رافاجور» مدمر، تعال هنا!»

كان رافاجور هذا أمغر اللون، قبيح الشكل، منتفخ الحنكين، عليه أن يهاجم الذئب الضخم وحده. مضى كلٌّ إلى مرقبه.

خشي الكونت العجوز — وهو الذي يعرف مدى حماس ابنه — أن يصل إلى مركزه متأخرًا، لكن الصيادين لم يكونوا قد احتلوا أمكنتهم بعدُ عندما وصل إيليا آندريئيفيتش، مرحًا قرمزي الخدين يرتجُّ خداه من الانفعال، مارًّا بين سوق القمح الخضراء، تسابق خيول زحافته السوداء الريح، إلى المركز المعين له عند الغابة. وبعد أن أحكم كل أدوات الصيد فوق فروته النصفية، امتطى صهوة «فيفليانكا»؛ وهو حصان هادئ جيد التغذية، لامع الجلد وخَطه المشيب كصاحبه. وعلى الرغم من أن الكونت لم يكن صيادًا في روحه، فإنه كان يعرف قوانين الصيد كلها؛ لذلك فقد اتجه إلى مكانه عند حدود الغابة، وجمع الأعنَّة في يده، واستقام فوق سرج الحصان. ولما شعر بأنه على استعداد سرَّح حوله نظرة باسمة.

كان يرافقه وصيفه سيميون تشيكمار؛ وهو فارس هرم بدأ ينثني تحت ثقل السنين، وكان يمسك بيده مقاود ثلاثة كلاب قوية، ولكن كثيرة الشحم كالحصان وصاحبهما، بينما رقد قريبًا منها كلبان آخران طليقان. وعلى بُعد مائة خطوة، عند طرف الغابة، يربض ميتكا، وهو مرافق آخر للكونت، فارس ماهر وصيَّاد دنف. تجرع الكونت وفاءً منه لتقليد قديمٍ جرعة كبيرة من العرق في كأس فضية، ثم التهم قطعة من التوابل بسرعة بعد أن أغرقها في نصف زجاجة من نبيذ بوردو المفضل عنده، فزادت تلك الوجبة من تضرج وجهه، وراحت عيناه اللتان يغرقهما الماء تلتمعان كالوميض المبهر. استوى فوق سرج الجواد متدثرًا بفرائه القصير، فبدا أشبه بطفل أُخرج إلى النزهة.

شرع تشيكمار النحيل ذو الخدين المتدليين، بعد أن فرغ من استعداداته، يسأل سيده الكبير الذي كان يعيش معه على أتم وفاق منذ ثلاثين عامًا، والذي تبين له من انبساط أساريره ومزاجه الممتاز أنه على استعداد للدخول في حديث طلي. خرج شخص ثالث من الغابة باحتراس — والقط الذي حرقته المياه الحارة يخشى من الماء البارد — وجاء يتمركز وراء الكونت. كان هذا القادم هو «المهرج» العجوز ذا اللحية البيضاء المُزمِّل بمعطف نسائي، وقلنسوة عالية جدًّا. وكان يجيب على الاسم النسائي المستعار: ناستاسيا إيفانوفنا. قال له الكونت بصوت خافت وهو يغمز له بعينيه: «آه يا ناستاسيا إيفانوفنا! حاول ألا ترهب الوحش وإلَّا. حذار من دانيلو!»

أجاب ناستاسيا إيفانوفنا: «إن لساني ليس في جيبي أنا الآخر!»

أهاب به الكونت.

– «صه.» ثم استدار إلى سيميون وسأل: «هل رأيت ناتالي إيلينيتشنا؟ أين هي؟»

أجاب سيميون باسمًا: «إنها قائمة مع بيوتر إيليتش عند مخرج أدغال جاروف. إنها رغم كونها امرأة مولعة أشد الولع بالصيد.»

– «ويا لها من فارسة ماهرة يا سيميون! إنها تتفوق على الرجل في الركوب!»

– «نعم، إنها تركب الخيل بمهارة، إنها ذكية وجذابة!»

سأل الكونت بصوت خافت: «وابني نيكولا، أين هو؟ في وادي ليادوف بدون شك؟»

فأعلن سيميون الذي يعرف نقطة الضعف في سيده: «بالتأكيد. أوه! إنه يعرف المركز الجيد، ثم إنه فارس لا يشق له غبار! إننا دانيلو وأنا لا نصدق أعيننا كلما رأيناه على صهوة جواده.»

– «هه، إنه يتقن الركوب، وبأية براعة!»

– «إنه يصلح للتصوير! ذاك اليوم عندما اكتشف ثعلبًا في آجام زافارزينو، قفز قفزة لله ما أروعها! إن حصانه يساوي حتمًا ألف روبل. أما الفارس فإنه لا يقدر بثمن. إن فتى مثل هذا — كما ترى — ليس من السهولة إيجاد شَبيه له.»

ردد الكونت وكأنه يأسف لأن سيميون لم يجد عبارة أقوى من هذه لوصف ابنه: «شبيه له … شبيه له.»

وعاد يكرر هذه العبارة بصورة آلية وهو يرفع أطراف فروته القصيرة ليأخذ علبة السعوط.

– «وذلك اليوم بينما كان خارجًا من الصلاة بأبهى منظر، ميخائيل سيدرويتش.» لم يتمم سيميون جملته؛ لأنه أحس في ذلك الهدوء بالمطاردة والعواء المكتوم الصادر عن كلبين عداءين أو ثلاثة كلاب، فأحنى رأسه وأصاخ السمع، ثم أشار بيده إلى سيده أن يلزم الصمت ودمدم: «لقد عثروا عليها، إنهم يطاردونها هابطين في الوادي.»

ظل الكونت محتفظًا بالابتسامة على شفتيه ينظر أمامه إلى حيث توقع هجوم الكلاب، وعلبة السعوط في يده دون أن يستعملها، ولم يلبثا بعد سماعهما العواء أن تبَيِّنَا نداء: إلى الذئب. ينطلق من حنجرة دانيلو ذي الصوت الغليظ الرنان. اتحدت فصائل الكلاب كلها واتحدت بالثلاثة الأول، وارتفعت زمجرة الكلاب السلوقية التي تظهر فيها اهتزازات خاصة تدل على أنها في إثر الذئب. ولم يعد الخدم يصرخون: «تايوت!» بل «هارلو!» وكان صوت دانيلو المنخفض الخطير حينًا، والثاقب حينًا آخر يطغي على الأصوات الأخرى، وكأنه يملأ الغابة كلها فيبلغ حدودها، ثم ينتشر بعد ذلك في أبعاد البرية.

وبعد أن أصغيا فترة صامتين، تأكد الكونت ومرافقه أن الصيد انقسم إلى قسمين؛ الأول — ويضم العدد الأوفر والصخب الأعلى والأشد: يبتعد عن جهتهما تدريجيًّا، والثاني — وهو الذي تنبعث فيه صيحات دانيلو «هارلو»: يمر عبر الغابة على مقربة من مكان الكونت. أخذت أصوات الفرقتين تختلط وتتجاوب، ولكن تُمعِن ابتعادًا.

زفر سيميون وانحنى ليخلِّص كلبه الشاب من المقود الذي التف حوله، وكذلك زفر الكونت بدوره. ولما تبيَّن أنه يحمل علبة سعوطه فتحها وأدخل فيها إبهامه وسبابته، وفجأة صاح سيميون بكلب خرج في تلك اللحظة من جانب الغابة: «إلى الوراء.» وانتفض الكونت وسقطت علبته من يده، فترجل ناستاسيا إيفانوفنا ليلتقطها تحت أنظار الكونت وسيميون اللذين لم يحركا ساكنًا.

وفجأة، كما يحدث غالبًا، اقترب صخب الصيد منهم حتى خُيِّل إليهم أن رءوس الكلاب النابحة التي يشجعها دانيلو بصرخاته تبرز أمام أعينهم.

أدار الكونت رأسه، فرأى على يمينه ميتكا الذي كان ينظر إليه جاحظ العينين، وقلنسوته مرفوعة بيده يشير له بها إلى شيء ما في الناحية الأخرى إلى الأمام. صاح ميتكا بصوت شبه الانفجار: «حذار!»

وأطلق كلابه واندفع على حصانه باتجاه سيده. ابتعد الكونت وسيميون عن حدود الغابة فرأيا إلى يسارهما الذئب الذي كان يتجه نحو البقعة التي بارحاها بقفزات صغيرة من جسمه المرن، فثارت الكلاب وانتزعت مقاودها من يد قائدها، واندفعت نحو الذئب مُعرِّضة نفسها لخطر الدهس تحت حوافر الخيل.

توقف الذئب فجأة بغباء شأن المصاب بالخناق، وأدار رأسه باتجاه الكلاب المهاجمة، ثم قفز قفزتين أو ثلاثًا بمثل حركته المتأرجحة، وتسلل عبر الآجام وهو يحرك ذؤابة ذيله. وفي ذات اللحظة، اندفع من الجانب المضاد وسط زمجرات شاكية، كلب ثم اثنان ثم ثلاثة من الكلاب العدَّاءة، تتبعهم فصائل الكلاب كلها مندفعة كتلة واحدة في غير انتظام نحو المكان الذي اختفى فيه الذئب. وأخيرًا، انشقت أدغال البندق عن دانيلو فوق حصانه الأصهب وقد سوَّده العرق. كان دانيلو متكورًا فوق ظهر الحصان العريض منحنيًا إلى الأمام، عاري الرأس، وشعره الأبيض مشعث مبعثر فوق وجهه القرمزي السابح في العرق. كان يصيح ملء حنجرته: «هارلو، هارلو …» لكنه ما إن رأى الكونت حتى التمعت الصاعقة في نظره، وزمجر وهو يهدده بسوطه: «يا الله! لقد أفلت منهم الذئب. يا للصيادي النحس!»

ودون أن يتنازل بالتحدث أكثر من ذلك، ترك الكونت في مكانه مذهولًا مشدوهًا، وانهال بالضربات التي أعدَّها لسيده على كشح حصانه الغارق في العرق، واندفع يتبع كلابه. أذهلت هذه البادرة الكونت، فالتفت نحو سيميون يستجدي عطفه بابتسامة، لكن هذا لم يكن في مكانه، كان يلف حول الأدغال ليرغم الذئب على الخروج من الغابة، كذلك كانت الكلاب السلوقية تطارد الحيوان من اليمين والشمال، لكنها ما كانت تستطيع التغلغل عبر الأدغال، وهكذا ولم يستطع أحد أن يقطع الطريق على الذئب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤