الفصل الثالث

أصفياء الأمير

في عام ١٨١٠، كان الطبيب العصري في موسكو فرنسيًّا اسمه الدكتور ميتيفيه، كان ذا قامة هائلة ودودًا ككل مواطنيه، وبارعًا براعة خارقة إذا آمن المرء بأقوال الناس، يُستقبل من قبل العظماء وفي المجتمع الراقي استقبالَ الند أكثر مما يحتفون به كطبيب.

بناء على توصيات الآنسة بوريين، وافق الأمير نيكولا آندريئيفيتش الذي كان يسخر عادة من الطب، على أن ينهل من معلومات هذا الشخص، فألِفَه لدرجة أنه بات يستقبله مرتين كل أسبوع.

في عيد القديس نيكولا، جاءت موسكو بأسرها إلى باب الأمير لزيارته، لكنه ما كان يريد استقبال أحد باستثناء بعض خلصائه الذين أعطى ابنته قائمة بأسمائهم، مع أمر يقضي بأن تستبقيهم لتناول الطعام.

ظن ميتيفيه، الذي جاء في الصباح يقدم تهانيه، أن من المناسب أن «يخرق الأمر» بوصفه طبيبًا، كما قال للأميرة ماري. وكأنه كان أمرًا متعمدًا، كان الأمير في يوم من أسوأ أيامه، دأبه الذهاب والمجيء في النزل، موبخًا كل الأشخاص، متصنعًا عدم فهم ما يقال له وعدم فهم الآخرين ما يقول، وكانت ماري أدرى الناس بذلك المزاج المتبرم المشاكس الذي ينتهي عادة بانفجار غاضب؛ لذلك فقد شعرت طيلة ذلك الصباح وكأنها أمام بندقية محشوة مرفوعة الزناد، تنتظر الضربة التي لا مفرَّ منها. مع ذلك، فإن أي انفجار لم يحدث قبل وصول الطبيب. وبعد أن أدخلته، ذهبت تجلس في البهو قرب الباب حاملةً كتابًا في يدها، تستطيع من مكانها أن تسمع كل ما يحدث في المكتب.

لم تسمع بادئ الأمر إلا صوت ميتيفيه، ثم صوت أبيها، ثم الصوتين يتكلمان معًا، وعندئذ فُتح الباب على مصراعيه وظهر جسم الطبيب الضخم بناصيته السوداء مروع الأسارير، ثم الأمير وعلى رأسه قلنسوة من القطن، مرتديًا ثوبًا منزليًّا، وقد شوَّه الغضب وجهه، وجحظت عيناه خارج محجريهما، كان يزمجر: «ألا تفهم؟ لكنني أنا أفهم جيدًا. جاسوس فرنسي، خادم بونابرت! اخرج من هنا يا جاسوس، اخرج من هنا أقول لك!» ثم صفق الباب وراءه.

هزَّ ميتيفيه كتفيه واقترب من الآنسة بوريين التي استنفرتها الصيحات وأتت بها إلى هناك من الغرفة المجاورة. قال لها وهو يشير إليها أن تصمت: «إن الأمير في حالة غير جيدة. إنها الصفراء والانتقال إلى المخ. هدِّئي من روعك.» ثم أسرع خارجًا.

وفي تلك الأثناء، كانت تسمع من وراء الباب أصوات خطوات في خفين مصحوبة بهتافات: «جواسيس! خونة! خونة في كل مكان! لا وسيلة لهدوء المرء في منزله!»

استدعى الأمير ابنته بعد رحيل ميتيفيه، وصبَّ جام غضبه كله عليها. أخذ عليها سماحها لجاسوس بالدخول عليه. مع ذلك، فقد أوعز إليها، إليها شخصيًّا، بأن تغلق الباب في وجه كل من لم يُسجِّل اسمه في القائمة. لمَ إذن أدخلت ذلك الحقير؟ لقد كانت هي سبب كل شيء. ما كان يستطيع إيجاد لحظة راحة معها، ما كان يستطيع أن يموت بهدوء. أعلن وهو يتجه نحو الباب: «نعم يا عزيزتي، يجب أن نفترق. اعلمي ذلك، نعم، اعلمي ذلك. إنني في أقصى درجات الإنهاك.»

وخشي بلا شك ألا تعتبر الأمر جديًّا، فعاد أدراجه وأضاف وهو يجهد في تمالك هدوئه: «لا تظني أنني أقول لك هذا في فترة غضب، إنني هادئ كل الهدوء. لقد فكرت طويلًا واتخذت قراري لنفترق. ابحثي لك عن مأوى!»

لم يتمالك نفسه أكثر من ذلك، فرفع قبضتيه باتجاه ابنته بحركة غاضبة قد لا تتوفر إلا في الرجل الذي يحب في أعماق نفسه، وصاح وهو نفسه فريسة ألم عميق: «لو أن بعض الحمقى يتزوجها فيريحني منها!»

ثم صفق الباب واختلى مع الآنسة بوريين في مكتبه؛ حيث عاد تدريجيًّا إلى هدوئه.

وفي الساعة الثانية، وصل الأشخاص الذين دعاهم إلى مائدته وهم ستة.

كانوا الكونت روستوبتشين الشهير، والأمير لوبوخين، وابن أخيه الجنرال تشاتروف، وهو صديق سلاح قديم للأمير، وبيير بيزوخوف، وبوريس دروبيتسكوي، ممثلين عن الشباب، وكانوا جميعًا ينتظرونه في البهو.

وكان بوريس خلال عطلته في موسكو قد نجح في تقديم نفسه مؤخرًا للأمير نيكولا آندريئيفيتش، وحصل على رضاه بحذاقة، حتى إن هذا استثناه فدعاه خلافًا لعادته باستبعاد الشباب غير المتزوجين.

لم يكن بيت الأمير يدخل في عداد ما يسمونه «بالمجتمع العصري» تمامًا؛ إذ لم يكن أحد يتحدث عن هذه الدائرة الصغيرة. مع ذلك، فإن ما من شيء كان أكثر فتنةً من أن يُقبَل المرء فيه. وقد فهم بوريس هذه الحقيقة تمام الفهم عندما سمع الكونت روستوبتشين منذ ثمانية أيام مضت يرفض دعوة الجنرال — الحاكم — بمناسبة عيد القديس نيكولا، بالعبارة التالية: «إنني في مثل هذا اليوم أذهب دائمًا لتكريم بقايا الأمير آندريئيفيتش.»

فأجابه الجنرال: «آه! نعم، هذا صحيح وكيف حاله؟»

كان المدعوون المجتمعون قبل الغداء في البهو الأعلى على الطريقة القديمة، ذي الأثاث الأثري، يذكِّرون الناظر بمقام محكمة جليلة. كان الجميع صامتين، وإذا خرق بعضهم حجاب الصمت فإنما كان يتحدث بصوت منخفض. ظهر الأمير نيكولا آندريئيفيتش رزينًا رصينًا، وبدت الأميرة ماري أكثر خجلًا، وأكثر شرودًا من عادتها. ولم يكن المدعوون ليوجهون إليها الحديث؛ لأنهم كانوا يعرفون أنها ليست على مستوى ما يتحدثون به. كان الكونت روستوبتشين يُمسك وحده بدفة الحديث شابكًا الثرثرات المحلية بالأخبار السياسية الأخيرة. أما لوبوخين والجنرال العجوز فكانا يُدليان بعبارة بين حين وآخر.

كان الأمير نيكولا آندريئيفيتش يصغي كما يصغي الحاكم الأعلى لتقرير ما، دون أن يظهر استيعابه لما يعرض عليه إلا بصمته، أو بتفوهه ببضع كلمات مقتضبة. كانت لهجة المحادثة توحي بسخط وتبرُّم عامَّين. كانوا يستشهدون ببعض الوقائع الخاصة ولا شك بتأييد النظرية القائلة أن كل شيء يسير من سيئ إلى أسوأ، ولكن — وهذا ما يدهش ويذهل — كان المتحدث يتوقف أو يجد نفسه متوقفًا عند الحد الذي إذا تجاوزه دخلت شخصية الإمبراطور في مجرى البحث.

دار الحديث خلال الطعام حول الحادثة التي كانت حديث اليوم، وهي احتلال نابليون لدوقية أولدنبورج١ الكبيرة، والمذكرة العدائية للإمبراطور، التي طوفتها الحكومة الروسية في تلك المناسبة على كل بلاطات أوروبا.

قال الكونت روستوبتشين الذي كان منذ بعض الوقت ينقل جملته تلك في كل مكان: «إن بونابرت يعامل أوروبا كما يعامل القرصان سفينة كسبها. إن ما يذهل هو طول الأناة والتعامِي من جانب رؤساء الدول. ها إن الباب مهدد: يزعم بونابرت الذي لم يعد يرتبك بشيء أنه خلع رئيس الكثلكة عن كرسيه. مع ذلك، فإن كل الناس صامتون! إن الإمبراطور وحده احتج على اغتصاب دوقية أولدنبورج الكبرى. وهذا أيضًا …»

ما كان روستوبتشين ليوغل في الحديث أكثر من ذلك. لقد بلغ الحد الأقصى الذي لا يجوز تخطِّيه.

وقال الأمير العجوز: «لقد عرضوا على الغراندوق أملاكًا أخرى لقاء أولدنبورج. إنه يتصرف مع الدوقات كما أتصرف مع فلاحيَّ حينما أنقلهم من ليسيا جوري إلى بورتشارفو أو إلى أملاكي في ريازان.»

سمح بوريس لنفسه أن يقول بالفرنسية بلهجة محترمة: «إن الدوق أولدنبورج يحتمل مصابه بقوة شخصية وامتثال يستحقان الإعجاب.»

وفي الواقع أنه تشرف بتقديمه إلى الدوق خلال سفره من بيترسبورج إلى موسكو. نظر إليه نيكولا آندريئيفيتش وكأنه يريد الإجابة عليه، لكنه أمسك وقد قدَّر ولا شك أنه لا زال يافعًا.

قال روستوبتشين بلهجة منطلقة شأن الرجل الذي يحيط تمامًا بالمسألة التي يتحدث عنها: «لقد قرأت اعتراضنا بصدد هذه القضية، وإنني أرثي للترجمة الهزيلة التي سطرت بها المذكرة.»

أمعن بيير النظر فيه بدهشة ساذجة: «بأي شيء يمكن أن تقلق الترجمة الهزيلة نفس الكونت؟» قال: «ما أهمية الأسلوب يا كونت إذا كان الأساس حازمًا؟»

فقال روستوبتشين بالفرنسية: «يا عزيزي، إنه من السهل أن يكون لنا أسلوب جميل بالخمسمائة ألف رجل الذين يشكلون جيشنا.»

وحينئذٍ فقط، فهم بيير لماذا كانت تلك الترجمة تثقل على الكونت. قال الأمير العجوز: «يُخيل إليَّ مع ذلك أن الكتبة متوفرون. إنهم لا يعملون شيئًا في بيترسبورج أكثر من الكتابة. ليس كتابة المذكرات فحسب، بل والمجلدات كذلك والقوانين الجديدة. إن «آندريوشاي» — يقصد ابنه آندريه — ألَّف منها مجلدًا كاملًا.»

وكرر وهو يضحك ضحكة مغتصبة: «نعم، إنهم الآن لا همَّ لهم إلا الكتابة.»

أعقب ذلك فترات صمت، ثم اجتذب الجنرال العجوز الأنظار إليه بسعال خفيف: «هل اطلعتم على الحادث الأخير الذي وقع في بيترسبورج خلال الاستعراض الأخير؟ لقد أظهر سفير فرنسا الجديد نفسه على شكل بديع!»

– «موضوع المسألة على الضبط؟ لقد حدثوني عنها بإبهام. يقال إنه ارتكب هفوة في حضرة جلالته.»

– «بينما كان جلالته يلفت انتباهه إلى فيلق قاذفي القنابل الذي كان يمر في العرض بخطوات الاحتفالات، ظل السفير على ما يبدو جامدًا تمامًا حيال هذا المشهد، بل وسمح لنفسه كذلك بأن يقول إنهم في فرنسا لا يهتمون بهذه التفاهات، فلم يعقب الإمبراطور بشيء، لكنه في الاستعراض التالي أمسك عن توجيه الحديث إليه.»

عم السكون، بما أن الأمر يتعلق بالإمبراطور، فإنه لم يكن ممكنًا أن يعلق أحد بحكم عليه، وأخيرًا صخب الأمير العجوز: «إنهم سفهاء وقحون! هل تعرفون ميتيفيه؟ لقد طردته من منزلي هذا الصباح.»

ثم أضاف وهو يلقي نظرة غاضبة إلى ابنته: «لقد سمحوا له بالدخول رغم أنني أعطيت الأمر بألا يُستقبل أحد.»

روى كل ما دار بينه وبين ميتيفيه، وبيَّن الأسباب التي من أجلها يرى فيه أنه جاسوس، وعلى الرغم من أن حججه لم تكن على جانب كبير من الإقناع؛ فإن ما من أحد أبدى اعتراضًا.

قُدمت الشامبانيا بعد الشواء ونهض المدعوون لتهنئة الأمير، فاقتربت ماري كذلك. ألقى عليها الأمير نظرة باردة زوراء ومدَّ لها خدَّه المغضن الحليق. كانت أساريره تنطق بأنه لم ينس محاورتهما الصباحية، وأن قراره لا زال لا يقبل الإلغاء، لكنه إذا كان لم يتحدث في الموضوع قط، فما ذلك إلا على سبيل المجاملة في حضرة ضيوفه.

وعندما انتقل المدعوون إلى البهو لتناول القهوة عقد الشيوخ حلقة، احتد الأمير فيها قليلًا واندفع في ملاحظاته عن الحرب المتوقعة.

كانت حملاتنا ضد بونابرت لا يمكن إلا أن تكون فاشلة — على زعمه — طالما كنا نبحث عن الاتحاد مع الخارج، ونشرك أنفسنا في مشاكل أوروبا، وهي السياسة التي جرَّتْ علينا معاهدة الصلح في تيلسيت. ما كان يجب علينا أن نحارب لا مع النمسا ولا ضدها، لقد كانت مصالحنا كلها مركزة في الشرق، وإن موقفنا الوحيد المحتمل حيال بونابرت كان في تسليح حدودنا ودعمها وإظهار حزمنا. بهذه الطريقة ما كان يجرؤ أبدًا على الدخول في أراضينا كما سمح لنفسه بذلك عام ١٨٠٧.

حينئذ قال الكونت روستوبتشين: «وكيف يا أميري نحارب الفرنسيين؟ هل نستطيع حقًّا أن نثور على أسيادنا وآلهتنا؟ انظر إلى شبيبتنا، انظر إلى نسائنا. إن آلهتنا هم الفرنسيون، وجنتنا هي باريس.»

رفع صوته قاصدًا ولا شك أن يبلغ قوله كل المسامع: «الأزياء فرنسية، والأفكار فرنسية، والعواطف فرنسية، كل شيء فرنسي! لقد طردتُ منذ حين ميتيفيه؛ لأنه فرنسي، ولأنه حقير، لكن سيداتنا يفكرون على غير هذا النحو؛ إنهن يتهافتن على ركبتيه: كنتُ البارحة في سهرة، وكان ثلاث من السيدات الخمسة الموجودات في السهرة كاثوليكيات يطرزن في يوم الأحد بإذن خاص من البابا. أضف إلى ذلك أنهن عاريات تمامًا تقريبًا، ويصلحن — حاشا احترامكم — إعلانًا لحماقات عامة. آه يا أميري! إنني عندما أرى شبيبتنا تستبد بي رغبة انتزاع هراوة بطرس الأكبر من المتحف، وتحطيم أضلاعهم جميعًا بها على الطريقة الروسية القديمة. كان ذلك سيشفيهم من جنونهم.»

لم يجبه أحد. كان الأمير ينظر إلى روستوبتشين باسمًا ويؤيده بهزِّ رأسه.

أردف روستوبتشين وهو ينهض ويمد يده إلى العجوز بخشونة طبائعه المألوفة التي كان يمتاز بها: «هيا، وداعًا يا أميري، حافِظْ على صحتك.»

فقال الأمير وهو يستبقي يد روستوبتشين بين يديه: «الوداع يا عزيزي الأعز، إنني لا أتعب من سماع أغنياتك.»

ثم مد له خده ليقبله.

وحذا كل المدعوين حذو روستوبتشين، فانصرفوا جميعًا.

١  مقاطعة في ألمانيا تتبع الرايخ، مقسمة إلى ثلاثة أقسام، القسم الرئيسي في وسط هانوفر، عاصمته أولدنبورج، والثاني لوبيك إلى الشرق من هولستن على البلطيق، وعاصمته أوتن، والثالث بيركانفليد، وعاصمته بنفس الاسم. كانت حتى عام ١٩١٩ غراندوقية، ثم أصبحت جمهورية. إن سكان أولدنبورج العاصمة وحدها ٣٢٠٠٠ ألف نسمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤