أرسطو في علوم الحكمة١

ملحمة البداية والنهاية

(١) بعض الأحكام الشائعة

في منطق اللقاء الحضاري يتحول التاريخ إلى فكر، والواقع إلى تمثل، والخارج إلى الداخل، والموضوع إلى الذات. ولا ينطبق ذلك فقط على اللقاء بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية بل على كل لقاء حضاري في الشرق أو الغرب، بين الحضارة الهندية والحضارة الصينية، هندوكية الهند وبوذية الصين، بين الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية، عقل اليونان وتشريع الرومان، بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية في العصر الوسيط، بين التنزيه والتشبيه المسيحي. يتحول الواقع إلى مثال، والجزء إلى كل، والموقع إلى موقف، والحضارة الخاصة إلى الفلسفة الخالدة Philosophia Perennis.
وهذا هو حال «أرسطو في علوم الحكمة» أحد العلوم النقلية العقلية الأربعة في تراثنا القديم. لا يوجد أرسطو التاريخي ولا حتى عند اليونان. فأرسطو شخصية تاريخية ولكن الأرسطية أي أرسطو مفكرًا، جزء من الحضارة اليونانية الممتدة قبله وبعده، وأحد مكونات الفكر اليوناني. والأولى أن يكون كذلك إذا ما انتقل إلى الحضارة الإسلامية فيحدث تمثل آخر، يبعد عن أرسطو التاريخ مرتين بعد أن تمثلته الروح اليونانية ثم الروح الإسلامية. أرسطو التاريخ هو أرسطو الميت الذي لا يثير أحدًا، لا يحرك ولا يتحرك، لا يعترض ولا يُعترض عليه. في حين أن أرسطو الفكر أو الحضارة أي الأرسطية هي التي تبقى عبر التاريخ نموذجًا فكريًّا وموقفًا حضاريًّا يثير ويحرك، ويبعث على التساؤل، ويتجدد باستمرار. أرسطو التاريخ نقل، وأرسطو الحضارة إبداع. لذلك لا يوجد شيء اسمه «أرسطو عند العرب» بل «الأرسطية العربية»، ولا يوجد شيء اسمه «انتقال التراث اليوناني إلى الحضارة الإسلامية» بل «قراءة المسلمين لليونان». وكما يقول هيدجر «ولد أرسطو ومات».٢

ولا يعلم أرسطو التاريخ أحد ما دام قد دخل في دائرة الإدراك، ولا حتى في الذهن الإلهي الذي يرى الوحي متطورًا في الزمان والمكان طبقًا لدرجة الوعي الإنساني في الاستقلال عن قهر الطبيعة والسلطان. وهو إشكال الموضوعية والذاتية أو الواقعية والمثالية في الفلسفة. ولما تعددت الرؤى فلا يوجد أرسطو واحد بل تتعدد صوره طبقًا للرائي، الفيلسوف أو المتكلم أو الصوفي. فهو الحكيم عند الفيلسوف. والجدلي عند المتكلم، والمنطقي عند الفقيه، والإشراقي عند الصوفي. وتتعدد الصور بتعدد المواقف. كما تتعدد الصور طبقًا لمسار أرسطو–الفكر في تاريخ الحضارة في تحولها من النقل إلى الإبداع. فأرسطو عند المترجمين غيره عند الشرَّاح، وأرسطو عند الشرَّاح غيره عند الحكماء في درجة التمثل والقراءة وإعادة التوظيف. التقابل إذن بين أرسطو التاريخ وأرسطو الحضارة ليس تقابلًا حديًّا بين نقيضين بل هو تقابل تطوري في مسار واحد متصل مع اختلاف في الدرجة. وهو ما عرضه أرسطو نفسه في «كتاب الشعر» في تمييزه بين التاريخ والشعر لحساب التاريخ وليس لحساب الشعر، وجعل التاريخ نمطًا فكريًّا أعلى من الشعر لأنه كان فيلسوفًا طبيعيًّا أكثر منه شاعرًا على عكس أفلاطون الذي حول الواقع إلى أسطورة، والتاريخ إلى خيال.

ولا تختلف آليات صورة أرسطو في علوم الحكمة في الثقافة العربية الإسلامية وعن آليات صور سقراط وأفلاطون وفيثاغورس وجالينوس وأبقراط وبطليموس والطبائعيين قبل سقراط والأخلاقيين بعد أرسطو بل وشراح أرسطو، الإسكندر وثاسطيوس وأوديموس. فأرسطو ليس فيلسوفًا منعزلًا عن الفلاسفة السابقين عليه أو التالين له. بل إن أرسطو نفسه بالإضافة إلى كونه فيلسوفًا هو مؤرخ للفلسفة، له قراءته الخاصة للفلسفة اليونانية قبله. كما تحول إلى اختيار فلسفي أو «مذهب» عند المدارس الأخلاقية التالية له بل وعند الرومان والمسيحيين واليهود حتى الغرب الحديث. وفي التراث الإسلامي يذكر أرسطو وحده كما يذكر في ثنائية أفلاطون وأرسطو، وثلاثية سقراط وأفلاطون وأرسطو، وبين مجموع حكماء اليونان.

ولا تختلف آليات صنع صورة أرسطو خاصة وحكماء اليونان عامة في الثقافة العربية عن آليات صنع صور حكماء فارس مثل كسرى أنوشروان أو حكماء الهند مثل بيدبا الفيلسوف. إذ يتأكد نفس المنطق الحضاري في حالة اللقاء بين الحضاري الإسلامية والحضارات المجاورة، اليونانية والرومانية غربًا، والفارسية والهندية شرقًا. وقد يتم اللقاء حول حكيم يوناني مثل أرسطو أو حول نص روماني لإعادة كتابته من جديد مثل «تاريخ العالم» لأورسيوس أو زمن فارس مثل «جاويداد دخرد» الذي أعاد كتابته مسكويه في «الحكمة الخالدة». وقد يكون اللقاء حول حضارة بأكملها وإعادة كتابة تاريخها الثقافي كما فعل البيروني مع حضارة الهند في «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة».٣
ويستمر اللقاء الحضاري مع الغرب الحديث منذ الطهطاوي في «تخليص الإبريز» وخير الدين التونسي في «أقوم المسالك»، وإقبال في «ضرب الكليم»، والكواكبي في «طبائع الاستبداد» وغيرهم من زعماء الإصلاح ومفكري النهضة العربية الأولى، قراءة للآخر في مرآة الأنا، وقراءة للأنا في مرآة الآخر. هذه المرآة المزدوجة هي التي تعكس الصور المتبادلة بين الأنا والآخر.٤ وكما يمكن معرفة صورة أرسطو في الثقافة العربية قديمًا يمكن معرفة صورة ديكارت واسبينوزا وكانط وهيجل وماركس وفشته وبرجسون ووليم جيمس وسارتر وغيرهم في الثقافة العربية المعاصرة.

وهناك بعض الأخطاء الشائعة والصور النمطية حول أرسطو في الثقافة العربية. روَّج لها الاستشراق خاصة وامتداداته عند الباحثين العرب. فقد روج الغرب إلى أن العرب مجرد حلقة وسيطة بين اليونان والغرب الحديث، نقلوا التراث اليوناني، حمَّالو بضاعة وليسوا منتجين لها. اليونان هم المبدعون الأول، والعرب هم النقلة إلى المبدعين الثواني في الغرب الحديث. بل إن هذا النقل لم يكن أمينًا، نقلًا حرفيًّا، أرسطو اليوناني، بل كان خليطًا بين أرسطو وأفلوطين بنسبة أجزاء من «تاسوعات» أفلوطين إلى أرسطو حتى تكتمل إلهياته، ويصبح الفيلسوف الكامل. وقد وقعت هذه القراءة الدينية أيضًا في العصر الوسيط الغربي عندما تحوَّل إلى فيلسوف مسيحي عند الشرَّاح اليونان بعد المسيحية مثل الإسكندر الأفروديسي أو عند الأرسطيين اللاتين من أمثال بويثيوس في آخر عصر آباء الكنيسة أو توما الإكويني في العصر الوسيط المتأخر في القرن الثالث عشر، وعند دنزسكوت ووليم أوكام في القرن الرابع عشر حتى برنتانو وهيدجر في القرن العشرين.

ومن الأحكام الشائعة إعجاب المسلمين ﺑ «المعلم الأول». وتلقيب الفارابي بالمعلم الثاني، كما أن بطليموس هو الأول والحسن بن الهيثم بطليموس الثاني. وابن رشد هو «الشارح الأعظم» وكأن قيمته في شرحه لأرسطو وليس في قيمته الذاتية كما تجلت في «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» و«الكليات» في الطب و«بداية المجتهد ونهاية المقتصد» في الفقه. فعلى أقصى تقدير العرب شراح اليونان. ويعني الشرح، شرح لفظ بلفظ، وعبارة بعبارة، مجرد تكرار دون إضافة جديد. النص أصل والشرح فرع. النص إبداع والشرح تقليد. فإحصاء العلوم، وأقسام الحكمة، المنطق والطبيعيات والإلهيات، بل والإنسانيات التي أضافها إخوان الصفا قسمًا رابعًا «في العلوم الإلهية الناموسية والشرعية» كلها من أرسطو وتبعية له، وأن الحكمة كلها في الاتفاق بين الشريعة الإسلامية التي دنستها الجهالات والحكمة اليونانية الخالية من الشبهات. ولولا هذه الشروح لما عرف الغرب أرسطو وقبل أن يكتشفه مباشرة بعد عصر النهضة، ويعيد طبع نصوصه اليونانية بعيدًا عن الترجمات اللاتينية للشراح العرب.

بل إن المسلمين انتحلوا على أرسطو كما انتحلوا في الشعر. وألفوا على لسانه نصوصًا لم يكتبها وإن كانت تتفق في مجموعها مع نسق أرسطو. والانتحال كذب مثل الأحاديث الموضوعة. والحقيقة أن الانتحال الأرسطي قديم أيضًا عند اليونان كما تم في الشعر العربي. وهو مؤشر على درجة الإبداع داخل كل حضارة واستمرار لروح السابقين في اللاحقين. كما أنه مؤشر على درجة الإبداع في لقاء الحضارات، فالحقيقة الكلية الواحدة تتجاوز الحضارات المتعددة. وقد يكون الانتحال في كلتا الحالتين جزئيًّا، لعدة أبيات أو نصوص أو كليًّا لقصائد بأكملها أو لأعمال كاملة مثل كتب «النبات» لأرسطو أو لشخصيات من صنع الخيال أكثر من سرد الوقائع.

(٢) أرسطو عند المؤرخين

وتتراوح صورة أرسطو في علوم الحكمة في الثقافة العربية الإسلامية بين صورته عند المؤرخين، وعند المترجمين، وعند الشرَّاح، وعند الحكماء، وعند المبدعين إلى صورته عند النقاد في مراحل متتالية من النقل إلى الإبداع، ومن القبول إلى الرفض.

فالمؤرخون ليسوا مجرد راصدين ومجمعين لتواريخ الحكماء. بل هم قراء لها. يؤوِّلون ويبنون ويجدون الدلالات ويركبون. فهم يؤرخون للمتلقي أكثر مما يؤرخون للمتلقي، لصورة الوافد في الموروث وليس للوافد مباشرة. يدونون تاريخًا «ذاتيًّا» وليس تاريخًا «موضوعيًّا» أو على أقصى تقدير الموضوع من خلال الذات كما هو الحال في الفينومينولوجيا المعاصرة.

فمن تواريخ الحضارات العامة والخاصة ابن جلجل (٢٩٨ﻫ) في «طبقات الأطباء والحكماء». وهو أول أندلسي دوَّن تاريخ الحكمة قبل صاعد. يظهر أرسطو في المرتبة الرابعة بعد جالينوس واسقليبوس وحنين بن إسحاق. ويذكر شيخه ومعلمه أفلاطون. وعند صاعد الأندلسي (٤٦٢ﻫ) في «طبقات الأمم» يذكر أرسطو داخل الحضارة اليونانية ليس بشخصية بل بانتمائه إلى حضارة. فالفيلسوف كائن حضاري. ويذكر ابن أبي أصيبعة أرسطو في المرتبة الثانية بعد جالينوس في «عيون الأنبياء في طبقات الأطباء». وبالرغم من ذكر البيروني (٤٤٠ﻫ) لعديد من فلاسفة اليونان كإطار مرجعي لتاريخه عن الهند «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» إلا أنه لا يذكر أرسطو مما يدل على أن أرسطو لم يكن بؤرة لتدوين التاريخ. فغياب أرسطو له نفس الدلالة لحضوره، بين هامشيته ومركزيته في تاريخ التدوين.٥
وعند المؤرخين الذين دونوا علوم الحكمة بطريقة الوافد والموروث، علوم العجم وعلوم العرب، حضارة الآخر وحضارة الأنا مثل «مفاتيح العلوم» للخوارزمي (٣٨٧ﻫ) يذكر الوافد الفارسي أكثر من الوافد اليوناني. ويأتي أرسطو في المرتبة الثانية مع فرفوريوس بعد إقليدس وهرمس. وفي «صوان الحكمة»، لأبي سليمان السجستاني (٣٩١ﻫ) يأتي أرسطو في مقدمة حكماء اليونان، وصلته بالإسكندر التي ألهبت خيال المسلمين، النبي القائد، والفيلسوف الملك. ويتوالد حكماء اليونان بعضهم من بعض، أرسطو من أفلاطون، وأفلاطون من سقراط، وسقراط من فيثاغورس في سلسلة من الرواة أو الطبقات أو الأنبياء. وقد لقب أرسطو معلمه باسم العقل أو الروحاني. أسس أرسطو اللوقيوم كما أسس أفلاطون الأكاديمية. واعتمد في فلسفته على أوميروس الشاعر، فالأسطورة Mythos قبل العقل Logos. تتوزع مؤلفاته بين المنطقية والطبيعية والإلهية. ويعتمد أبو سليمان على الفارابي كأحد مصادره لمعرفة أرسطو. وأكمل البيهقي تاريخ أبي سليمان بالتتمة أو «تاريخ حكماء الإسلام» ضامًّا الموروث إلى الوافد. فتاريخ الآخر جزء من تاريخ الأنا. ويذكر ردود النصارى على أرسطو. فلم يكن أرسطو فقط موطن القبول. وفي «نزهة الأرواح وروضة الأفراح» للشهرزوري (٦٨٧ﻫ) يأتي أرسطو في المرتبة الخامسة بعد الإسكندر وسقراط وفيثاغورس وهرمس الهرامسة وأفلاطون.

ويتصدر أرسطو أعلام اليونان في «الملل والنحل» للشهرستاني (٥٤٨ﻫ) كجزء من تاريخ الفرق. ويقسم ابن النديم في «الفهرست» (٣٨٥ﻫ) كتب أرسطو قسمة رباعية: منطقيات وطبيعيات وإلهيات وخلقيات. ويتوارى أرسطو تدريجيًّا في كتب التاريخ مثل «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» لطاش كبرى زاده (٩٦٨ﻫ) نظرًا لتواري الوافد كله لصالح الموروث. فقد بعد العهد عليه. بل إن أرسطو لا يُذكر على الإطلاق. وفي «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي (٤٦٤ﻫ) يتم تصنيف أرسطو أبجديًّا دون أن تكون له أهمية خاصة. وفي «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٦٨١ﻫ) يتصدر أرسطو ثم إقليدس ثم أغسطس من مجموع ٤٣٦٩ عَلمًا.

والخلاصة أن أرسطو يذكر عند المؤرخين بين مشايخه وتلاميذه، كما تذكر ألقابه، وعلاقته بالإسكندر. وقد رد النصارى عليه قبل أن يرد عليه المسلمون. وهو أول من رتب المنطق عند القفطي. وهو شارح لأرسطو عند ابن خلدون. وهو أيضًا فيلسوف أخلاق وإلهيات أكثر منه فيلسوف منطق وطبيعيات. علمه موهبة من الله مما يدل على «أسلمة» أرسطو من المؤرخين. وقد وضح ذلك في حلم المأمون عندما ظهر أرسطو في المنام يسأله عن الحسن والقبح ليظهر اتفاق العقل والنقل.٦

ثم تتم قراءة أرسطو كجزء من قراءة الوافد من خلال الموروث. والقراءة غير التوفيق. القراءة نقل ثقافة الآخر إلى ثقافة الأنا، ورؤية الموضوع من خلال الذات كعدستين فوق بعضهما البعض في حين أن التوفيق رؤية الوافد والموروث بعدستين مختلفتين متجاورتين. قد تكون النتيجة واحدة وهي رؤية وحدة الموضوع من خلال ثنائية النظرة كما هو الحال في الرؤية البشرية لموضوع واحد بعينين متمايزتين. تعني القراءة تأويل التاريخ وإعادة صياغته تحقيقًا لوحدة الحضارة البشرية نظرًا لوحدة الحقيقة بصرف النظر عن مصادرها. والقراءة غير التوفيق. القراءة رؤية الموضوع من خلال الذات، وتفسير حضارة الرائي لحضارة المرئي. في حين أن التوفيق جمع خارجي بين موضوعين متساويين من أجل تركيب مصطنع ثالث.

وأرسطو من حكماء الشرق. تلميذ الأنبياء عند الشهرزوري. وهو نبي أكثر منه فيلسوفًا مع نبيين سابقين عليه، سقراط وأفلاطون مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. وهو صوفي صاحب مقامات. علاقته بالإسكندر علاقة الشيخ بالمريد. يقول بالتوحيد الفكري الذي حوَّله تلميذه الإسكندر إلى توحيد سياسي.٧ هو أقرب إلى النبوة منه إلى الحكمة. وربما كان إسلام أرسطو بوحي من الله في هيكل بوثيون. يقدس الباري ويتلقى العلم منه. والعدل ميزان الله في الأرض. عاش واحدًا وستين عامًا مثل الأنبياء. وربما رفعه الله إلى السماء في عمود من نور بعد أن أوحى الله إليه. والإسكندر الأكبر محقق رسالته على الأرض وفاتحًا باسم التوحيد.

سقراط وأفلاطون وأرسطو ثلاثي واحد في رؤية متكاملة. فالإنسان وهو سقراط، بين عالمين، عالم المثال عند أفلاطون وعالم الواقع عند أرسطو. سقراط أعرض عن الدنيا، وأفلاطون عبد ربه، وأرسطو هو العقل كما سماه أفلاطون. أرسطو أقرب إلى النبوة منه إلى الحكمة. فليس الوحي قاصرًا على بني إسرائيل وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ. وربما كان إسلام أرسطو بوحي من الله في هيكل بوثيون. ربما رفعه الله إلى السماء كما رفع عيسى ابن مريم. هو أقرب إلى الملك منه إلى الإنسان. وهو معلم الإسكندر التوحيد والنبوة. هو خاتم الفلاسفة كما أن محمد خاتم الأنبياء. اعتمد على العقل كما اعتمد محمد على النبوة. أرسطو هو المعلم الأول الذي وضع علم المنطق. ونسبته إلى المعاني كنسبة الوحي إلى الكلام والعروض إلى الشعر. تعلم النحو واللسان في الصغر فوضع المنطق في الكبر. فنسبة المنطق إلى المعاني كنسبة العروض إلى الشعر. وقد عذل أرسطو أفلاطون لإذاعته الحكمة للناس. يبدو أرسطو صوفيًّا صاحب مقامات وأحوال. يخطب في مسجد يوم الجمعة. ويحمد الله ويشكره على نعمه. وهو متصوف يقول بالذوق. ويتوجه نحو الله والطبيعة في آن واحد. وتضمحل قيمة أرسطو في العصور المتأخرة. ويظل إشراقيًّا موحدًا بالله مطيعًا لأوامره. هو الذي علم الإسكندر التوحيد ناشرًا له في ربوع مصر وفي آسيا. كما ترسم له صورة جسدية ابتداءً من سماته الخلقية وآرائه الفلسفية: أبيض اللون دليلًا على العلم والنور، حسن القامة للمهابة، عظيم العظام كالمنطق، صغير العينين لحدتهما، كث اللحية للمهابة، أقنى الأنف للدقة، صغير الفم للزهد، عريض الصدر لاتساع المعارف، مسرع بمفرده إحساسًا بالزمن، مبطئ مع أصحابه شفقة بهم، والرسول مع أصحابه نموذجًا، ناظر في الكتب لا يمل، يقف عند كل حكم، كثير السؤال قليل الجواب، يتجول في الطبيعة وهو فيلسوف الطبيعة، ويستمع للألحان وأصحاب الجدل، منصف مع نفسه، معتدل الملابس والمأكل والمشرب، فالفضيلة وسط بين طرفين. فالصورة من الفكر إلى الرسم كما توحي بذلك «الفراسة» العربية.

وهناك مسار طبيعي من تدوين التاريخ إلى القراءة إلى الانتحال. فالتاريخ رؤية، والقراءة تفسير، والانتحال خلق. الفكر يخلق واقعًا كما يخلق الله العالم. فالانتحال إبداع حضاري. ليس فقط في الشعر بل أيضًا في الحكمة. قد يكون جزئيًّا مثل «الألف الصفري» و«الكاف» في كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو. وقد يكون كليًّا لإكمال النسق. الانتحال درجة أعلى بعد القراءة والتأويل. القراءة تأويل للتاريخ، والانتحال إبداع لتاريخ. القراءة تحويل الموضوع إلى ذات، والانتحال تحويل الذات إلى موضوع. الهدف من الانتحال إكمال الناقص حتى تبدو الحقيقة كاملة عبر التاريخ بصرف النظر عن تعدد الحضارات.٨
ويتمثل الانتحال الأرسطي في علاقة أرسطو بالإسكندر، والجمع بين الفكر السياسي الفارسي واليوناني المنسوب إلى أرسطو. فليس اليونان بأقل قيمة من الفرس. وهو نتيجة طبيعية لتوحيد الغرب بالشرق بعد حملات الإسكندر إلى فارس والهند.٩ وهناك عدة رسائل منحولة من أرسطو إلى الإسكندر. فمن الطبيعي أن يتراسل الأستاذ والتلميذ في رسائل متبادلة، وأن يكتب الأستاذ وصية لتلميذه «وصية أرسططاليس إلى الإسكندر»، وأن يوصيه في السياسة مثل «رسالة أرسططاليس للإسكندر في السياسة»، و«سر الأسرار» تأليف يوحنا بن البطريق المنسوب إلى أرسطو الموغل في التصور الديني الذي يعبر عن أرسطو الإسلامي أكثر مما يعبر عن أرسطو اليوناني. ومنه أن أرسطو رُفع إلى السماء مثل عيسى ابن مريم في عمود من نور. وربما كان نبيًّا لم يذكره القرآن للعرب لأنه وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.

(٣) أرسطو عند المترجمين

المترجمون هم عرب مزدوجو الثقافة واللغة بين العربية واليونانية وربما السريانية. ولاؤهم الثقافي للعرب وللعلوم العربية، ويستخدمون اليونان ثقافة ولغة لصالح العرب القائمين الجدد وليسوا كبعض المترجمين الشوام اليوم الذين ولاؤهم للغرب واستعمال اللغة العربية للترويج للثقافة الغربية. السريان عرب ثقافة ولغة ونصارى دينًا. كان الدافع على الترجمة خدمة الثقافة العربية وإثراءها بالثقافة اليونانية وليس الترويج للثقافة اليونانية لدى العرب كنوع من التغريب، كما يفعل بعض المترجمين الشوام اليوم. كانت علوم العرب هي الغاية وعلوم اليونان هي الوسيلة، وإدخال الحضارة الوثنية العقلية الطبيعية داخل الحضارة الإسلامية التوحيدية العقلية الطبيعية. فالعقل والطبيعة يوحدان بين الحضارتين الإسلامية واليونانية. وكان المترجمون مؤلفين أيضًا بل ومبدعين. لم تكن الترجمة مجرد وثيقة تاريخية تقوم على نقل نص يوناني إلى نص عربي مطابق، بل تعبر عن موقف حضاري ونقل تصورات حضارة الآخر التعددية إلى تصور حضارة الأنا التوحيدية. لم تكن الغاية إبراز النص الأرسطي كتاريخ بل بلورة التوحيد الإسلامي كرؤية. ليس المهم صواب الترجمة أو خطئها قاموسيًّا ولغويًّا بل إعادة التعبير عن النص ونقله من حضارة إلى حضارة أخرى. لم يكن النص الأرسطي هو الأصل، والعربي هو الفرع بل كان النص العربي هو الأصل واليوناني هو الفرع وليس كالترجمات الحديثة التي تقوم على ضرورة المطابقة بين النصين طبقًا للقواميس والمعاجم. كانت الترجمة عملًا جماعيًّا بين أكثر من مترجم سعيًّا وراء هدف مشترك وهو إعادة إخراج النص المترجم في ثقافة مغايرة وربما لهدف آخر. كانت الترجمة مشروعًا «قوميًّا» من الدولة والأفراد على حد سواء. تمت بطريقتين: الأولى حرفية حفاظًا على اللفظ. والثانية معنوية حفاظًا على المعنى. وغلب عليها النقل والتعريب أي النقل الصوتي والترجمة حرصًا على دقة المعنى.١٠ وقد استقرت بعض الألفاظ المعربة وأصبحت عربية حتى الآن مثل سفسطة، موسيقى، هندسة. وتتداخل الترجمات في دوائر: النص اليوناني، الشروح العربية، الشروح السريانية، الترجمة العربية، الشروح والملخصات العربية. الترجمة وثيقة شرعية بين مؤلفها، ومترجمها وناقلها وصاحبها. هي عمل جماعي يُدخل عليها عديد من المترجمين إصلاحات عدة، نقل حضاري للنص من منظور حضاري إلى منظور حضاري آخر. فالجوهر والأعراض نفس بنية الذات والصفات. لا يهم ترتيب كتب أرسطو، بل وحدة العمل وبنية المذهب. والعجيب أن أهم نص لأرسطو وهو «الإلهيات» أو الفلسفة الأولى لم تحفظ ترجمته إلا من خلال شروح ابن رشد وتلخيصاته وجوامعه. ليست الترجمة مطابقة الأصل مع الفرع، النص المترجم منه مع النص المترجم إليه. الترجمة اختصار وحذف وشرح وبيان. الترجمة للمعنى وليس للفظ، للكيف وليس للكم مما يجعل الفرق بين الترجمة والشرح والتلخيص ليس كبيرًا. ولا يوجد خطأ وصواب، فالأمر سيان في الترجمة. كل ترجمة قراءة، وكل قراءة تأويل. الترجمة إعادة كتابة، فهم للمعنى من اللفظ اليوناني ثم إعادة التعبير عنه باللفظ العربي مع ما يتطلبه ذلك من حذف وإضافة وتأويل. هي موقف حضاري، إعادة التعبير عن مضمون حضارة بألفاظ حضارة أخرى، ونقل من تصور حضاري إلى تصور حضاري آخر. وقد تمت الترجمة للنص وتعليقاته وشروحه مما يسمح بالمقارنة بين النص داخل حضارته وخارجها. كانت الترجمة عملًا جماعيًّا، بين المترجم والمراجع. وكثيرًا ما ظهر التصور الديني الجديد للحضارة المترجم إليها الذي يقوم على تعدد الآلهة وتصور الحضارة الإسلامية الذي يقوم على وحدانية الله. تعبر الترجمة عن روح الحضارة وليس حرفية النقل. وما كان يمكن ترجمة أرسطو دون أن تضاف إليه «أثولوجيا» حتى يكتمل النسق، ويتحول الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني، وقدم العالم إلى خلق العالم.١١
لم تكن الترجمة نقلًا كميًّا بل كانت نقل الفكر من لغة إلى لغة طبقًا لخصوصية كل منهما. فالترجمة إعادة تعبير، وإعادة كتابة، وإعادة تأليف، وطبقًا لخصائص كل لغة في التركيز والإطناب. قد صاحبت الترجمة نشأة المصطلح الفلسفي ونقله من لغة يونانية إلى لغة عربية في الحياة اليومية مثل جوهر وعَرض، ومكان وزمان، وصورة ومادة، وعلة ومعلول. وهي ثنائيات لغوية قد تكشف عن نفس البنية، العقلية المثالية عند اليونان، والعقلية الدينية عند المسلمين. لا توجد أخطاء في الترجمة بل مستويات متفاوتة من القراءة من أجل إعادة توظيف النص. ليست الترجمة نظرية في المطابقة بل نظرية في القراءة والتأويل. وقد يكون التأويل مزدوجًا إذا ما كانت الترجمة عن اليونانية إلى العربية بتوسط السريانية التي تمهد الطريق من نقل التصور اليوناني إلى التصور الإسلامي. كانت الترجمة تتم بطريقتين: التعريب والنقل. التعريب نقل صوتي، والنقل ترجمة معنوية. كانت الترجمة نظرية في الإيضاح، ترجمة كيفية وليست كمية طبقًا لخصائص اللغتين، المترجم منها والمترجم إليها في الإطناب والتركيز. كانت الترجمة تتم لفظًا بلفظ، ولفظًا بعبارة، وعبارة بلفظ، وعبارة بعبارة. ولأول مرة ينشأ المصطلح الفلسفي من اللغة العادية مثل الجوهر والعَرض، والصورة والمادة، والعلة والمعلول. ويتطور المصطلح من الحرفية إلى المعنوية، ومن اللفظ إلى المعنى. تخضع الترجمة لمنطق اللغة، المترجم منها والمترجم إليها سواء من حيث التركيب أو الترتيب أو الإضمار. وقد تستعمل المصطلحات الإسلامية لترجمة المصطلحات اليونانية، مثل ترجمة ناموس بالشريعة، والملائكة بالإله، والإله بالله سبحانه وتعالى. وقد دُوِّنت المصطلحات في عدة رسائل أو قواميس مما يشير إلى الوعي بالمصطلح.١٢
ويأتي التعليق بعد الترجمة وقبل الشرح. مهمة التعليق تقطيع النص حتى يسهل ابتلاعه، ومصادر الوافد داخل الموروث. هو بداية الشرح والخروج على النص الأول إلى نص أكمل لا فرق فيه بين القارئ والمقروء. وقد يكون التعليق في بداية النص كمقدمة له أو في وسطه كامتداد له أو في آخره كخاتمة له. التعليق جزء من بنية النص وتكوينه. إذا انفصل عنه أصبح شرحًا. والتعليق من آراء المترجمين بل والقراء. فالمترجم والقراءة جزء من النص. مهمة التعليق أيضًا تقطيع النص حتى يسهل مضغه قطعة قطعة قبل تمثله وتحويله إلى طاقة إبداعية لكتابة نص جديد في مرحلة الإبداع الخالص. التعليق تعبير عن قصة المؤلف وغايته، ومسار فكره من البداية والوسط والنهاية. وقد يتم الربط بين التعليق والنص بعبارة «قال الحكيم». وهنا يكون قد قارب الشرح. ليست الترجمة إذن نقل لفظ بلفظ أو عبارة بعبارة، بل هو توجه نحو الموضوع وإعادة التعبير عنه بلفظ عربي طبيعي، وبعبارة عربية تلقائية تبتلع النص المترجم داخلها. الترجمة إذن مع التعليق إعادة كتابة للنص، وتأليف في موضوعه. ويشمل التعليق الحذف والإضافة وليس فقط الإضافة. تظهر فيه المصطلحات الإسلامية الأصلية مثل الشريعة. بل يظهر التصور الإسلامي للعالم الذي يكمن وراء النص الجديد في عبارات التعظيم لله مثل «جل وتعالى»، «جل وعلا». ومن وسائل التعليق العد والإحصاء حتى يساعد الترقيم على فهم مسار النص، بنيته وبراهينه. وقد يتضمن حكم قيمة وهو بداية تجاوز النص ونقده أو الشك في صحته مثل «المنسوب إلى أرسطو». وقد يتجاوز التعليق الحذف والإضافة إلى التأويل أي التفكير على التفكير. وقد يكون التعليق بيانًا لمجمل، وإحكامًا لمتشابه، وتقييدًا لمطلق، وتأويلًا لظاهر، وحقيقة لمجاز كما هو الحال في منطق الأصوليين. هدف التعليق إذن إيضاح معنى النص وضرب الأمثلة المحلية للتوضيح كما هو الحال في الأسلوب القرآني وتخصيص العام، وتعميم الخاص، وتجزيء الكل، وتجميع الأجزاء في كل واحد وإكمال بنية الفكر المتحدة مع بنية الموضوع نفسه، مع إثارة بعض التساؤلات حول مسار الفكر، مقدماته وبراهينه ونتائجه، قصده وغايته القريبة والبعيدة، وتعليل موقف النص. مادته من داخل النص وصورته ومنهجه من خارجه. ونموذج ذلك ترجمة منطق أرسطو.١٣
ثم ينفصل التعليق ويصبح نوعًا أدبيًّا مستقلًّا كما تنفصل الخلية الجديدة عن العضو القديم مثل «تعاليق عدة على معاني كثيرة» ليحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ). يعني التعليق هنا وجاهة رأي أرسطو في بعض مسائل المنطق في مبحث العبارة. ويتحول التعليق إلى ترجمة معنوية ثم إلى شرح عند ابن باجه الذي اختار لكثير من أعماله هذا النوع الأدبي «تعاليق» مثل «تعاليق في الأدوية المفردة». ثم يتحول التعليق من التعامل مع النص المترجم إلى التعامل مع النص المؤلف الشارح أو الملخص أو العارض مثل «تعاليق ابن باجه على كتاب إيساغوجي للفارابي». التعليق هنا على نص وسيط، تعليق على تعليق. ويؤيد التعليق النص الوسيط أو يغيره أو ينقده. التعليق في هذه الحالة عود إلى النص الأول والتعامل معه مباشرة. ويظهر الموروث في التعليق الثاني في نص جديد ثانٍ أقرب إلى التأليف لوضع الوافد في إطار الموروث. ويحيل ابن باجه إلى باقي مؤلفات الفارابي الأخرى في المنطق. فالتعليق الثاني مستمد من صاحب التعليق الأول أو من أصول الموروث مثل لسان العرب. ويبدو التناص واضحًا عند ابن باجه في «تعاليق على المقولات»، نص أرسطو من خلال شرح الفارابي من خلال تعاليق ابن باجه. كما يظهر في «تعاليق على العبارة» مع تقطيع النص بأفعال القول مثل «قال». وقد يضع التعليق نص أرسطو في تاريخ الحضارة اليونانية مقارنًا إياه بنصوص السابقين عليه أو اللاحقين له. ويظهر التمايز بين البيئة اليونانية التي نشأ فيها النص الأول، والبيئة الإسلامية التي يتم فيها تعليق ابن باجه بعد أن حول الفارابي نص أرسطو إلى نص عقلي مجرد خالص لا زمان له ولا مكان. وقد يتجه التعليق نحو المعنى مباشرة متجاوزًا اللفظ مثل «تعاليق كتاب باري ارميناس» وربما دون ذكر أرسطو. هنا يكون التعليق أقرب إلى التأليف. وقد يتحول التعليق إلى نوع أدبي مستقلٍّ تمامًا في «تعاليق على البرهان» لابن باجه، يكتب فيه نصًّا جديدًا في البرهان متجاوزًا نص أرسطو وشرح الفارابي.١٤

ثم يتحول التعليق إلى شرح بعد أن تحولت الترجمة المعنوية إلى تعليق. وقد يكون التعليق لنفس الشارح، وقد يكون الشرح لنفس المعلق. وقد يكون التعليق والشرح كلاهما لنفس المترجم مما يدل على وحدة التعامل مع النص في مراحل مختلفة من الترجمة الحرفية إلى الترجمة المعنوية إلى التعليق إلى الشرح، ثم من الشرح إلى العرض إلى التأليف إلى الإبداع. والخلاف بين هذه الأنواع الأدبية في الدرجة وليس في النوع، درجة القرب من النص المترجم أو البعد عنه. والشرح مثل الترجمة عمل جماعي تراكمي من معلقين وشراح سابقين. مهمته استيعاب النص المترجم وتحويله من وافد إلى وافد موروث. وظيفته إسقاط غير الدال من النص المترجم، وإكمال البنية العقلية للموضوع وإعادة توظيفها لأغراض الحضارة الجديدة واحتواؤها داخلها. وهذا ما تم أيضًا في ترجمة الطبيعة لأرسطو.

(٤) أرسطو عند الشرَّاح

الشرح نوع أدبي مستقل، غايته توضيح المعنى وإسهاب المركز حتى يسهل تمثله واستيعابه واحتواؤه مثل شروح ابن باجه وابن رشد. وأحيانًا يسمى الشرح التفسير إذا ما اتبع أسلوب التفسير القرآني. الفصل بين النص المشروح والنص الشارح. هو أكبر كمًّا من التلخيص والجوامع. وأحيانًا يستعمل مجازًا شاملًا التفسير والتلخيص والجوامع أي قراءة النص المترجم. الغاية منه تجاوز الازدواجية الثقافية بين الوافد والموروث. مزاحمة الوافد للموروث، ومقاومة الموروث للوافد، وتجاوز عزلة الوافد وحتى لا يصبح عنصر جذب وتغريب للموروث، وتجاوز الأنا الحضاري البدوي والإحساس بالدونية أمام الحاضر، وعدم الوقوع في تحجر الموروث وثباته وانغلاقه على ذاته، وإظهار إبداعات الأمة وقدرتها على التفاعل بين الوافد والموروث.

وإذا كان للفكر مستويات ثلاثة، اللفظ والمعنى والشيء فإن الشرح للفظ، والتلخيص للمعنى. والجوامع للشيء. الشرح يبدأ من اللفظ مبينًا معناه، والتلخيص يبدأ من المعنى موضحًا إياه. والجوامع يبدأ من الشيء ورؤيته. وإذا كان الشرح كمًّا ثلاثة أنواع، الأكبر والأوسط والأصغر فإن الشرح الأكبر للفظ وهو التفسير، والأوسط للمعنى وهو التلخيص، والأصغر للشيء وهو الجوامع.

الغاية من الشرح تحليل نص أرسطو وعرضه على العقل. فما اتفق معه أُخذ وما خالفه حُذف تلقائيًّا، وإكمال بنية العقل حتى يظهر الجزء داخل الكل، وإعادة التوازن لها ضد أحادية الطرف وفقد الاتزان. ثم يعرض الموضوع على الواقع والتجربة. فما اتفق معه أخذ، وما خالفه سقط تلقائيًّا. فالواقع محك النظر ومعيار العلم. والعقل والواقع معياران للوحي ومكونان له.١٥ كما يهدف الشرح أيضًا إلى إدماج الوافد في الموروث حفاظًا على وحدة الثقافة والفكر والوطن والأمة. ليس الشرح إذن مجرد تكرار لفظ بلفظ، وعبارة بعبارة، بل هو توحيد للفكر بالرغم من ازدواجية المصدرين.

وأكبر ممثل لذلك هو ابن رشد في شروحه الثلاثة: الأكبر والأوسط والأصغر. هدف الأكبر الانتقال من الترجمة إلى الشرح على مستوى اللفظ والعبارة من أجل التحول من الأسلوب العربي المترجم حرفيًّا أو معنويًّا إلى الأسلوب العربي المؤلف، والتخلي كليًّا عن المصطلحات المعربة إلى المنقولة إلى المترجمة، والبرهنة على صحة الأفكار المشروحة والتمثيل لها، ووضع الجزء في إطار الكل، والإحالة إلى الوافد أكثر من الإحالة إلى الموروث من أجل استدراجه داخله، وضبط المعنى غير المتوازن وجعله أكثر اتزانًا، وتقوية يسار الأرسطية ضد يمينها، وتخليص الأرسطي من التأويلات المسيحية اليونانية والإسلامية مع توظيفه إلى الداخل لنقد الأشعرية والتصوف والفلسفة الإشراقية.

والغاية من التلخيص الانتقال من الغموض إلى الوضوح على مستوى المعنى، والعرض العقل النظري الخالص بلا أمثلة، والترابط المنطقي في البنية العقلية على مستوى الاتساق الداخلي للموضوع، وحذف الزائد وإكمال الناقص وبلورة المعنى وتحديد الموضوع، والإقلال من المادة والأمثلة التوضيحية، وتخليص النص المشروع من الأقاويل الجدلية والخطابية وتحويلها إلى برهانية، ووضع الوافد في الموروث منعًا من التغريب والازدواجية.

والغاية من الجوامع التوجه مباشرة نحو الموضوع من أجل إعادة صياغته واستئناف عملية التحول من النقل إلى الإبداع، وترتيب كتب أرسطو المختلفة في الأرجانون وإعطائها عناوين أخرى، وإعادة عرضها بطريقة أكثر عقلانية بحيث تعبر عن بنيتها الداخلية، وتقديم صناعة المنطق بحيث تبدو متلائمة مع طريقة أرسطو، وعرض المذهب من حيث قول برهاني، وتخليصه من الشوائب الأفلاطونية والأفلوطينية.١٦
وقد قام بهذا الشرح قبل ابن رشد يحيى بن عدي والفارابي وأبو الفرج بن الطيب وابن باجه. فقد ساهم المترجمون في الشرح والتفسير مثل تفسير يحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ) للمقالة الأولى من كتاب أرسطوطاليس الموسوم بمطاطا فوسيفا أي ما بعد الطبيعة وهي الموسومة بالألف الصغرى. يقتبس من نص أرسطو ثم يشرحه.١٧
ويتابع الفارابي يحيى بن عدي في «تفسير كتاب المدخل». وهو أقرب إلى الجوامع منه إلى الشرح لتركيزه الشديد ولغياب الوافد والموروث فيه. ويعرض فيه الفارابي لأجزاء المنطق كله في نسق واحد. وله أيضًا «شرح العبارة»، فقرة فقرة، يبين القصد والغاية من الكتاب ككل. وهو شرح مسهب وطويل، أكبر من نص أرسطو نفسه. ويستخرج الفارابي كل إمكانيات النص. يقرأ ما بين السطور. وينطق بما سكت عند أرسطو. يدخل في فكره، ويتتبع مساره، ويعرض مقدماته ونتائجه. ويضع أرسطو في تاريخ الفلسفة اليونانية مقارنًا إياه بالسابقين وباللاحقين. ويحيل إلى باقي كتب المنطق مبينًا وحدته كعلم. ويعتمد على اللغة العربية والموروث البلاغي العربي لتقوية الشرح.١٨
ولأبي الحسن العامري (٣٨٧ﻫ) «شرح كتاب المقولات لأرسطو» يتصدر أرسطو الوافد. ويعتمد على الموروث عند الفارابي ثم متى بن يونس ثم السجستاني والخازن. وقد وضع أبو الفرج بن الطيب (٤٣٥ﻫ) «تفسير كتاب إيساغوجي لفرفريوس» دفاعًا عن الفلسفة ضد منكريها. ويتصدى أرسطو التفسير. ولابن باجه «شروح هي السماع الطبيعي» يرى فيها الطبيعة ثم يؤوِّل نص أرسطو طبقًا لرؤيته. فأرسطو هو الذي يشرح ابن باجه ويدعم مواقفه. يعطي أرسطو المثال ثم يستقرئ منه الفكرة. ثم يصححها ابن باجه ويعطي مثالًا آخر عليها. كما شرح ابن باجه «الكون والفساد» و«النفس». وبطبيعة الحال يأتي أرسطو ومؤلفاته في المقدمة.١٩

وأخيرًا يأتي ابن رشد (٥٩٥ﻫ) الشارح الأعظم في «شرح البرهان» و«تفسير ما بعد الطبيعة». وبطبيعة الحال أرسطو هو الأكثر ذكرًا. يبدأ ابن رشد بتحليل الموضوع، ويستشهد بأقوال أرسطو، ويتحقق من صدقها في الواقع. وينتقل من المقال اليوناني إلى المعنى العام ثم تجسيده بمثال عربي. وتبلغ ذروة الشرح عند ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة». ويأتي أرسطو في المقدمة أعظم القدماء في نيل الحق. ويعتذر ابن رشد نيابة عنه عما قد يكون في كتابه من تقصير. ويرد ابن رشد موضوعات أرسطو إلى المنهج وهو أنواع الأقاويل. كما يضع أرسطو في تاريخ الفلسفة اليونانية التي اكتملت فيه من سقراط إلى أفلاطون إلى أرسطو، من الإنسان إلى الله إلى الطبيعة. لذلك انتهت الفلسفة اليونانية واكتملت في أرسطو كما انتهت الفلسفة الإسلامية واكتملت في ابن رشد. ولذلك أصبح أرسطو مؤرخًا كما أصبح ابن رشد ناقدًا. ويقارن بين أرسطو وأفلاطون في موضوع نشأة النفس فيتضح الاتجاه الطبيعي عند أرسطو، والثنائي عند أفلاطون. ويحيل إلى نسق أرسطو كله كتابًا كتابًا، وعلمًا علمًا. فلا يفهم الجزء إلا في إطار الكل. وكل ذلك من أجل إعادة توظيف أرسطو في الداخل لنقد إشراقيات الفارابي وابن سينا، والخلط بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي. فأرسطو وسيلة وليس غاية، أداة وليس مقصدًا.

وشرح ابن رشد كتاب النفس لأرسطو على طريقة الشرح الكبير. وقد ضاع أصله العربي. ولا توجد إلا ترجمته اللاتينية التي أعيدت أخيرًا إلى العربية من جديد. ويتقدم أرسطو بطبيعة الحال. فهو صاحب النص المشروح. ومن المؤلفات تتصدر محاورة طيماوس لأفلاطون أي إن ابن رشد يقرأ أرسطو بأفلاطون وأفلاطون بأرسطو من أجل التعبير عن نظرة متكاملة للنفس.٢٠

والتلخيص نوع أدبي مستقل أيضًا يركز المسهب، ويضم المرسل، ويسقط بعض الأمثلة والتشبيهات من أجل بداية التعامل مع الموضوع نفسه المستقل عن أشكال التعبير عنه مثل تلاخيص ابن رشد، دون فصل بين النص المشروح والنص الشارح البداية بالمشروح والنهاية بالشارح. البداية بأرسطو والنهاية بالموضوع ذاته.

وقد ساهم المترجمون في التلخيص مثل «كتاب جالينوس في الطب» و«كتاب جالينوس إلى غلوقون في التأتي لشفاء الأمراض» لحنين بن إسحاق و«مختصر لكتاب الأخلاق لجالينوس» لأبي عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي. وفيه يستعمل أرسطو لشرح جالينوس. وقد لخص ثابت بن قرة (٢٨٨ﻫ) كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو، ويستعمل لفظ «تلخيص» مما يدل على أنه نوع أدبي مبكر قبل ابن رشد. ويعني التحول من الإقناع إلى البرهان مع شرح للمصطلح وتتبع مسار فكر أرسطو وتبين قصده.٢١
واستمر التلخيص عند الحكماء قبل ابن رشد كما فعل الكندي في «القول في النفس المختصر من كتاب أرسطو وأفلاطون وسائر الفلاسفة» جمعًا بين أرسطو وأفلاطون كوجهتي نظر في موضوع واحد بالرغم من ميل الكندي إلى أفلاطون وهو الأكثر ذكرًا أكثر من ميله إلى أرسطو. وله أيضًا «كلام في النفس، مختصر وجيز» لنفس الغرض.٢٢
وابن رشد هو الذي أعطى هذا النوع الأدبي مكانته حتى إنه قد اشتهر به. أعاد فيه ابن رشد كتابة كل أعمال أرسطو، المنطق، والطبيعة وما بعد الطبيعة. لخص المنطق كتابًا كتابًا. تتبع فكر أرسطو في «المقولات». وتجاوز موضوعاته في «العبارة» اعتمادًا على اللغة العربية، ومتنقلًا من اللغة اليونانية إلى وضع نظرية عامة في اللغة يطبقها على العربية لتوسيعها اعتمادًا على الأصوليين. ثم يضع نظرية ثالثة لألسنة الأمم. وتلخيص «القياس» أكبر حجمًا واضعًا الجزء في الكل ومعتمدًا على القياس الأصولي. وتلخيص «البرهان» أصغر حجمًا يتتبع فكر أرسطو واضعًا إياه في بيئة اليونانية وفي جدله مع السفسطائيين. وتلخيص «الجدل» وسط في الحجم، وظيفته الإقناع وليس البرهان. ويعتمد فيه ابن رشد على الشرَّاح اليونان. وتلخيص «السفسطة» صغير الحجم. ويعترف ابن رشد بصعوبته إما بسبب الترجمة أو بسبب التأليف. أما تلخيص «الخطابة» فهو أكبر حجمًا. تم بطريقة إسقاط الأمثلة اليونانية ووضع الأمثلة العربية مكانها من أجل توسيع نظرية الخطابة من الخطابة الخاصة اليونانية إلى الخطابة العامة التي تضم اليونانية والعربية معًا. ويضع ابن رشد أمثلة جديدة من الفقه مثل السنن والشهود والعقود والعذاب والإيمان والشريعة. وتلخيص «الشعر» أقل حجمًا من تلخيص الخطابة يظهر فيه التقابل بين الأنا والآخر. وينتقل فيه من الشعر اليوناني إلى صناعة الشعر ثم إلى الشعر العربي ثم إلى شعر الأمم من أجل الوصول إلى «قوانين الشعر».٢٣
ولخص ابن رشد كل أجزاء الطبيعيات. ففي تلخيص «السماء والعالم» يغير عدد المقالات بالجمع أو القسمة ويبحث عن نوع الأقاويل التي يستعملها أرسطو، خطابة أم جدلية أم برهانية. ويعتمد على باقي أعمال أرسطو بل على التراث اليوناني كله، واضعًا الجزء في الكل. وفي تلخيص «الكون والفساد» الذي ضاع أصله العربي وتم تحويله من العبرية إلى العربية يتم التلخيص ابتداءً من الوافد اليوناني وحده دون الموروث الإسلامي. وفي تلخيص «الآثار العلوية» الذي تم تحويله أيضًا من العبرية إلى العربية يظهر التقابل بين التصور اليوناني والتصور الإسلامي، ويستعمل الموروث كوعاء للوافد. وفي تلخيص «النفس» يصف ابن رشد مسار فكر أرسطو واستدلاله ويضعه في تاريخ الفكر اليوناني مع السابقين له واللاحقين عليه وكيف كان أرسطو يصحح آراء القدماء. ويضع تلخيص «الحاس والمحسوس» في مجموع فلسفة أرسطو.٢٤

والجوامع نوع ثالث مستقل يتجه نحو الموضوع مباشرة ورؤيته في تجربة مشتركة مع النص المترجم، وقد استعمل الفارابي النوع الأدبي والمصطلح قبل ابن رشد. وكتب «جوامع الشعر» ولا يوجد فيه ذكر للوافد حتى أرسطو. فالجوامع آخر نوع أدبي من الشروح وأقربها إلى التأليف. قد يظهر الموروث حتى يتم تركيب الوافد فيه، اليونان في العرب، والشعر اليوناني في الشعر العربي.

ويظل ابن رشد هو صاحب الجوامع. جوامع المنطق، الجدل والخطابة والشعر، وجوامع الطبيعيات، وجوامع ما بعد الطبيعة. ففي «جوامع الجدل» يحدد ابن رشد الغرض منه. ويحيل إلى باقي مؤلفات أرسطو المنطقية رادًّا الجزء إلى الكل. ويعتمد على الموروث مثل الفارابي. وفي «جوامع الخطابة» يتحدث ابن رشد، وأرسطو هو الشارح له. يدرس الموضوع، وأرسطو هو صاحب الأدبيات السابقة عليه. فالشارح هو المشروح، والمشروح هو الشارح. ويعتمد ابن رشد على الموروث من الغزالي والجويني. ويحيل إلى «التفرقة» و«القسطاس» للغزالي وإلى «الإرشاد» للجويني وإلى «المتكلمين من أهل ملتنا». فابن رشد الشارح هو ابن رشد الفيلسوف ناقد الكلام. وفي «جوامع الشعر» يتجه ابن رشد نحو الموضوع مباشرة، الأقاويل الشعرية والخيالات. ولا يظهر إلا الوافد، دون الموروث بالرغم من أن الموضع من الموروث أيضًا ويرجعه إلى الاستدلال عن طريق تحريك النفوس وإثارة الخيال. فالشعر في النهاية جزء من صناعة المنطق.٢٥

وجوامع الطبيعيات كاملة مثل تلاخيصها. غرضها تجريد الأقاويل العلمية من كتب أرسطو وكما يقتضيها مذهبه وحذف كل ما علق بها من أقوال القدماء؛ لأنها غير نافعة في معرفة مذهبه. الغرض إذن تخليص أرسطو من براثن الشراح والعودة إلى أرسطو كما يفعل الأصولي. وبها قدر كبير من وضوح الفارابي.

ويلخص ابن رشد الكتاب مقالة مقالة بعد حذف الأقاويل الجدلية التي اضطر أرسطو إلى استعمالها، محولًا إياها من التاريخ إلى البنية ويبحث عن اتساق أرسطو، ويعلل فكره، ويرد الجزء إلى الكل داخل الكتاب أو خارجه. وفي «السماء والعالم» يعبر عن غرض أرسطو الكلي، ويبين كيف انتقل أرسطو من العام إلى الخاص، ومن البسيط إلى المركب على ما يقتضيه التعليم المنظم. يقتصر على الضروري منه. وهو الذي يتحدث، وأرسطو وراءه شارحًا له. ويعتمد على الموروث من ابن سينا وابن باجه. كما يظهر الأسلوب العربي مثل «لعمري»، «ليت شعري»، و«الكون والفساد» أصغر الجوامع وأيسرها. يعرض ابن رشد بالجملة دون تفصيله مبينًا غرض أرسطو، ومعتمدًا على الفارابي. وفي «الآثار العلوية» يبين ابن رشد صلته بباقي الكتب الطبيعية، ومحددًا غرضه، ومعتمدًا على ابن سينا وابن حيان. وفي «النفس» يقدم ابن رشد رؤية طبيعية لها بالرغم من اعتماده على ابن سينا وابن باجه.٢٦
وجوامع «ما بعد الطبيعة» أكبر الجوامع. يحدد فيها ابن رشد العلم ويلخص المقالات الأربع عشرة في أربع مقالات بالرغم من إعلانه عن خمسة. يبين غرض العلم، ملخصًا أرسطو بأرسطو بعيدًا عن التأويلات اليونانية والمسيحية والإسلامية. وأرسطو مفترق الطرق في الفلسفة اليونانية يقسمها إلى قسمين، ما قبله وما بعده. فهو مؤرخ للسابقين وممحص لآرائهم. وهو ممهد للاحقين ومعد لهم. ويضع قضية الصور في إطارها التاريخي، ويؤرخ لدراستها. ويحيل إلى باقة أعمال أرسطو المنطقية والطبيعية. ويعتمد على ابن سينا أولًا ثم الغزالي والفارابي والزرقالي ثانيًا. ويستعمله مناسبة لنقد علم الأشعرية.٢٧

(٥) أرسطو عند الحكماء

وقد قام الحكماء بمهمة أخرى غير مهمة المترجمين والشرَّاح وهي مهمة العارضين للفكر من حيث هو فكر، والموضوع من حيث هو موضوع بصرف النظر عن ثنائية المصدر، الوافد أو الموروث، كما يفعل هيجل مع تاريخ الفلسفة. وله أشكال ثلاثة: العرض والتأليف والتراكم.

  • (أ)
    العرض: ويعني عرض الموضوعات الوافدة عرضًا مستقلًّا عن النص الأصلي، وكأن الحكيم هنا يأخذ موقف المؤلف للنص الأول، ويصبح هو مؤلفًا بديلًا. وذلك مثل عروض الفارابي. وهي على أنواع العرض الجزئي، والعرض الكلي خاصة عند الفارابي، والعرض النسقي المنطقي عند ابن سينا في موسوعاته الأربع وعند أبي البركات البغدادي، والعرض النسقي الشعبي عند إخوان الصفا.
    ويعني العرض الجزئي عرض مؤلَّف واحد من مؤلفات أرسطو مثل رسالة الفارابي (٣٣٩ﻫ) في «الإبانة عن غرض أرسطوطاليس في كتاب ما بعد الطبيعة». ويعني العرض الكلي عرض مذهب أرسطو بأكمله مثل رسالة الكندي (٢٥٢ﻫ) عن «كمية كتب أرسطوطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة». أما الجمع بين المذهبين فمثل رسالة الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين». أما ضم المذهبين في تصور ثالث فمثل ثلاثية الفارابي «تحصيل السعادة» و«فلسفة أفلاطون» و«فلسفة أرسطو». تحصيل السعادة من وضع الفارابي، وأفلاطون وأرسطو جناحان له. هو القلب وهما الرئتان.٢٨

    أما العرض النسقي المنطقي فقد وضعه ابن سينا في موسوعاته الأربع وأبو البركات البغدادي في «المعتبر في الحكمة». ففي الموسوعات الأربع «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» و«عيون الحكمة» ووضع بنية الفلسفة الثلاثية، الحكمة المنطقية والحكمة الطبيعية والحكمة الإلهية بإسهاب في «الشفاء» واختصار في «النجاة» وتركيز شديد في «عيون الحكمة»، وتحويل ذلك كله إلى فلسفة إشراقية بإضافة المقامات والأحوال في «الإشارات والتنبيهات».

    ويحضر أرسطو ويغيب في منطق الشفاء. يغيب في المقولات والسفسطة. ويظهر لقب المعلم الأول في المقولات بعد أوميروش تحولًا من الشخص إلى اللقب. وفي منطق «النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» يحال أيضًا إلى المعلم الأول بعد فرفوريوس. وفي البرهان من الشفاء يحال إلى المعلم الأول. وفي «الجدل» في الشفاء يحال إلى التعليم الأول، انتقالًا من الشخص إلى العلم. وفي كتاب «الشعر» يذكر المعلم الأول بعد أوميروس. ويغيب أرسطو في «الرياضي» من الشفاء ويظهر إقليدس.٢٩ ويغيب في الطبيعيات وفي الجزء الأول من الإلهيات. ويحضر في الجزء الثاني كمعلم وتعليم، كشخص وعلم. وبطبيعة الحال يغيب أرسطو من «منطق المشرقيين». ويظهر في «المعتبر في الحكمة» عند أبي البركات البغدادي (٥٤٧ﻫ) مع لقب الحكيم قبل باقي حكماء اليونان. ويذكر الغزالي أرسطو في «مقاصد الفلاسفة» بعد القرآن والحديث مما يدل على غلبة الموروث على الوافد.
    وفي العرض النسقي الشعبي عند إخوان الصفا يظهر أرسطو بعد فيثاغورس والفيثاغوريين وإقليدس وكتاب إقليدس وأفلاطون مع بعض ألقاب أرسطو مثل الحكيم، والحكيم الفاضل، وحكيم اليونانيين، في المرتبة الرابعة. ويتحول المنطق من قواعد صورية إلى توجيه للسلوك العملي. وتتحول الطبيعة إلى أحد عوامل مجاهدة النفس. ويظهر أرسطو في رسالة «الجامعة» بنفس الصورة مع إعجابه بأستاذه الروحي أفلاطون، ورعايته للدولة من السقوط مثل فقيه الأمة وقاضي القضاة.٣٠
    وفي العرض الأدبي عند أبي حيان يذكر أرسطو في «المناسبات» كبداية للنقل من خلال المترجمين، وعلاقته بالإسكندر، وبألقابه مثل الفيلسوف الحكيم، وفرفوريوس تلميذ أرسطو ومفسره. وفي «الهوامل والشوامل» يذكر الحكيم أكثر مما يذكر أرسطو مع الاستشهاد بأحد أقواله مع تحويل المقولات إلى قواعد اللغة العربية. وفي «الصداقة والصديق» يأتي أرسطو في المرتبة الرابعة بعد أفلاطون والإسكندر وديوجانس مع لقب الحكيم باعتباره صاحب حكم وأمثال كالصوفية. وفي «الإمتاع المؤانسة» يظهر أرسطو مع الإسكندر كنموذج للصلة بين النظر والعمل، وأفلاطون وسقراط. ويذكر في أقوال أبي حيان وفي أقوال مناظريه مثل المناظرة الشهيرة بين المنطق والنحو بين أبي بشر متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي. النحو منطق العرب، والمنطق نحو اليونان، في صراع بين الوافد والموروث حتى يصبح الموروث ناقدًا للوافد عند الفقهاء. وفي «الإشارات الإلهية» يغيب الوافد كلية باستثناء ذكر لفظ «الحكماء» على العموم ودون تخصيص بحكماء اليونان.٣١
    وفي «الحكمة الشعبية» عند مسكويه في «الحكمة الخالدة» يتغلب الوافد الشرقي، فارس والهند على الوافد الغربي، اليونان والروم. وتتحول الفلسفة اليونانية إلى دائرة حضارية لا مشخصة مع فارس والهند والعرب والإسلاميين. ويأتي أرسطو وأفلاطون في المرتبة الثالثة بعد الإسكندر الأكبر وسقراط. ولا فرق بين اليونان والروم. وفي حكمة الروم يأتي أرسطو مع سقراط في المرتبة الثانية بعد أفلاطون مع الإحالة إلى بعض المنتحلات مثل «وصية أفلاطون لتلميذه أرسطوطاليس» و«وصية أرسطوطاليس للإسكندر» و«آداب أرسطوطاليس» ليعلمها إلى الإسكندر حتى يمكن أن تكون الفلسفة اليونانية بعد تطعيمها بالأخلاق والتصوف أحد مكونات الحكمة الخالدة. و«رسالة أرسطوطاليس إلى الإسكندر في السياسة» أيضًا من المنتحلات. تذكر مناقب الإسكندر بعد ظفره بدارا وتحويله إلى بطل شعبي مثل علي بن أبي طالب.٣٢
  • (ب)
    التأليف: والتأليف في الموضوعات تأليفًا شاملًا يتم بضم الوافد إلى الموروث بداية بتمثل الوافد، ثم تمثل الوافد قبل تنظير الموروث ثم تمثل الوافد مع تنظير الموروث عندما يستويان مثل عقارب الساعة عندما تتحرك من الصفر إلى العشر دقائق ثم إلى الثلث ثم إلى النصف.
    في «تمثل الوافد» يظهر أرسطو بعد أفلاطون عند قسطا بن لوقا في «الفرق بين النفس والروح». ويتصدر أرسطو بعض أعمال يحيى بن عدي. ويذكر في أقل الحدود في بعض الرسائل الطبيعية.٣٣ ولا يحضر أرسطو إلا في أقل الحدود عند السجستاني في رسالته «في المحرك الأول».٣٤ وعند الفارابي في «معاني العقل» يستحوذ أرسطو على أربعة معانٍ من معانٍ ستة للعقل، في المنطق والأخلاق والنفس وما بعد الطبيعة. وفي «المسائل الفلسفية» يظهر أرسطو في ثلاث مسائل، الأولى في حد الخير والشر الإنساني، والثانية في حد النفس، والثالثة في الفرق بين الإرادة والاختيار. ويذكر أرسطو في «الإبصار والمبصر» للعامري مع إقليدس وبطليموس وجالينوس والإسكندر وثامسطيوس الذين اكتفوا بشعاع واحد من المحسوس إلى الحاس حتى تتم الرؤية دون مقابلته بشعاع آخر من الحاس إلى المحسوس كما هو الحال في نظرية الشعاع المزدوج في الظاهريات المعاصرة.
    ويحضر أرسطو عند ابن سينا كتاريخ للفلسفة اليونانية ومصطلحاتها أو في أحوال النفس وارتباطها بالبدن ضد إشراقية أفلاطون.٣٥ ويحضر عند الحسن ابن الهيثم أقل مما يغيب. وإذا حضر فإنه يأتي في المرتبة الثانية بعد بطليموس أو إقليدس أو أرشميدس.٣٦ وعند علي بن رضوان يظهر أرسطو في «المستعمل في المنطق في العلوم والصنائع» مختصرًا، علم المنطق ومحولًا إياه من منطق صوري إلى منطق مادي، ومطبقًا إياه في الصناعة أكثر من الفكر.
    ويحيل ابن باجه إلى أرسطو في «الغاية الإنسانية» ورأيه في مجاهدة النفس. كما يحيل إليه في «قول يتلو رسالة الوداع» و«الصورة الأولى والمادة الأولى» كنقطة بداية لتمثل الوافد، ويغيب في «تراتب العقول وخلودها». أما عند ابن رشد فيأتي أرسطو في المرتبة الثانية بعد جالينوس في «في المزاج». ويظهر أرسطو وحده في «البذور والزروع».٣٧
    وأرسطو ليس كل وافد؛ إذ يغيب أرسطو في كثير من مؤلفات المترجمين مثل المؤلفات الطبية والعلمية لحنين بن إسحاق٣٨ ويغيب من أهم رسالة للكندي «رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى» ومن بعض الرسائل الطبيعية.٣٩ فأرسطو ليس ضروريًّا كباعث علمي في التأليف. ويغيب كلية عند الرازي والخازن والقوهي.٤٠ كما يغيب في بعض أعمال العامري (٣٨١ﻫ) وابن سهل (النصف الثاني من القرن الرابع).٤١ ويغيب أيضًا في بعض أعمال الفارابي. فإبداع الفارابي في معظمه مستقل عن أرسطو.٤٢ ويغيب أيضًا في بعض رسائل ابن سينا المعروف بأنه نموذج المشائين الإسلاميين لأن الموضوع لا يحتاج إلى الوافد مثل النفس.٤٣ كما يغيب في بعض أعمال ابن الهيثم، بطليموس الثاني.٤٤
    وفي «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث». يساهم المترجمون أيضًا. وهم أصحاب ثقافتين، وافدة يونانية وموروثة عربية مثل ثابت بن قرة ويحيى بن عدي. ويحضر أرسطو في «تعاليق عدة في معانٍ كثيرة» ليحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ) خاصة الكتب المنطقية. ويبين منطقها الداخلي التربوي. وفي نفس الوقت يحال إلى أبي سليمان وأبي بشر. وفي «كتاب أجوبة بشر اليهودي عن مسائله» يتصدر أرسطو مع بعض مؤلفاته المنطقية والطبيعية مع الاعتماد على يحيى النحوي ومتى بن يونس غيرهم من الداخل. وفي مقالة «التوحيد» يذكر أرسطو ومتكلمو عصرنا في آن واحد.٤٥
    ويحضر أرسطو في «الحاوي» في المرتبة الرابعة عشرة بعد جالينوس. وفي «الشكوك للرازي على كلام فاضل الأطباء جالينوس في الكتب التي نسبت إليه» يأتي أرسطو بعد جالينوس بالإضافة إلى الموروث العربي عند حنين بن إسحاق والسرخسي وآخرين. ويحضر في «المعدة وأعراضها». ويحضر أيضًا في «تدبير الحبالى والأطفال والصبيان وحفظ صحتهم ومداواة الأمراض العارضة لهم» للبلدي (٣٨٠ﻫ) ويأتي في المرتبة الخامسة بعد أبقراط وجالينوس. ويحضر في «مفتاح الطب ومنهاج الطلاب» لابن هندو (٤٢٠ﻫ). ويأتي في المرتبة الثالثة بعد جالينوس وأبقراط. ويذكر حوار أرسطو مع الأطباء.٤٦
    ويظهر في «تهذيب الأخلاق» لمسكويه (٤٢١ﻫ) في المرتبة الأولى قبل باقي حكماء اليونان. ويحيل إلى «كتاب الأخلاق» لأرسطو من أجل تأسيس الأخلاق على المنطق (التأسيس النظري) وعلى التربية (التأسيس العلمي). ويبدو أرسطو شارحًا لمسكويه ومؤيدًا له. فسهل تعشيق الأخلاق اليونانية في الأخلاق الإسلامية. ثم يتحول أرسطو من الشخص إلى النموذج، ومن الواقع إلى المثال عندما يصبح الحكيم الأول أو الحكيم أو هذا الرجل الفاضل. كما يعتمد على الكندي وعلي بن أبي طالب والحسن البصري وغيرهم وعلى قصص الأنبياء. كما يظهر أرسطو في «في النفس والعقل» في المرتبة الثانية بعد روفس الطبيب من أجل تفنيد حجج الطبيب في الشك. ويجمع بينه وبين أفلاطون.٤٧
    ويحضر أرسطو في الرسالة «الأضحوية» لابن سينا (٤٢٨ﻫ) في المرتبة الثانية لمناقضته القائلين بالتناسخ وإبطاله، والاستشهاد به في أن النفس ليست من المفارقات. وهي معركة ابن سينا أيضًا. هنا يبدو أرسطو هو الشارح وابن سينا هو المشروح، وبالاعتماد على الموروث من القرآن والحديث. كما يظهر أرسطو في «المبدأ والمعاد» بلقب الفيلسوف وليس بشخصه أي واضع الحقيقة كذهن بشري يتجاوز الزمان والمكان. وفي «مبحث القوى النفسية» يأتي في المرتبة الثانية بعد أفلاطون وفي سياق واحد من أجل التوفيق بينهما في موضوع البصر ونظرية الشعاع المزدوج بالإضافة إلى الموروث الأصلي من القرآن. وفي «رسالة العشق» يحال إلى شرح ابن سينا نفسه للسماع الطبيعي دون ذكر أرسطو. وفي «القانون للطب» يتصدر الوافد الشرقي في الهند والصين على الوافد الغربي عند اليونان. ويأتي أرسطو في المرتبة الرابعة بعد ديسقوريدس وجالينوس وأبقراط وروفس. ويشير في موضوع الأسماء والمسميات تمييزًا بين الشيء واسمه. وفي «أجوبة الشيخ الرئيسي عن مسائل أبي الريحان البيروني» يتصدر أرسطو مع ألقاب الحكيم والفيلسوف وصاحب المنطق. كما يحال إلى بعض أعماله الطبيعية. وتبدأ المسائل بأرسطو لأنه يمثل آخر ما وصلت إليه ثقافة العصر. ويعتمد البيروني (٤٤٠ﻫ) على أرسطو في «كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» في المرتبة الثانية مع هرمس والمجسطي وبعد بطليموس.٤٨
    وبالرغم من أن أرسطو ليس طبيبًا إلا أن حضوره استمر عند الأطباء. فهو فيلسوف طبيعة، والطب أحد العلوم الطبيعية. ففي «رسالة في الطب والأحداث النفسانية» لابن بختيشوع (٤٥٠ﻫ) يظهر أرسطو في المرتبة الرابعة بعد جالينوس وأفلاطون وأبقراط. ويعتمد على أرسطو في كون العشق ظاهرة طبيعية من «كتاب الفراسة» المنحول ولإثبات النفس من خلال البدن. وفي «الكتاب النافع في كيفية تعليم صناعة الطب» لعلي بن رضوان (٤٥٣ﻫ) يأتي أرسطو مع أفلاطون في المرتبة الخامسة بعد جالينوس وأبقراط وثاسلس وديسقوريدس. فأرسطو هو الذي أعطى جالينوس المبادئ العامة الطبيعية. ويغيب أرسطو في «مصادرات إقليدس» لعمر الخيام (٥١٥ﻫ) نظرًا لارتباط الرياضيات بإقليدس.٤٩
    ويستمر حضور أرسطو في القرن السادس عند الطغرائي واللوكري وابن باجه. ففي «حقائق الاستشهاد» للطغرائي (٥١٥ﻫ) يأتي أرسطو في المرتبة الرابعة بعد هرمس وبليناس وأفلاطون وفيثاغورس وديموقراطيس لإثبات علم الكيمياء ضد إنكار ابن سينا له. وفي «بيان الحق بضمان الصدق» للوكري (٥١٧ﻫ) يظهر أرسطو تحت لقب المعلم الأول في الفلسفة الأولى انتقالًا من الشخص إلى الموقف. والموضوع العلم الإلهي اعتمادًا على «أثولوجيا» أرسطوطاليس. وفي «تدبير المتوحد» لابن باجه (٥٣٣ﻫ) يظهر أرسطو في المرتبة الثانية بعد أفلاطون، في موضوع نشأة اليقين في التصورات والتصديقات، وفي الحس والمحسوس، وفي الخطابة والأخلاق. ويحال إلى مؤلفات أرسطو بداية بنيقوماخيا ثم البرهان والسماع وأخبار الحيوان والنفس، ثم الحس والمحسوس وحفظ الصحة والمقولات وريطوريقا وما بعد الطبيعة. وفي «رسالة الوداع» يتصدر أرسطو ليفصل ما تركه مجملًا في الحادية عشرة من كتاب «الأخلاق». وفي «اتصال العقل بالإنسان» يتصدر أيضًا أرسطو في رفضه نظرية المثل عند أفلاطون. وفي الوقوف على العقل الفعال» يأتي الحكيم في المرتبة الثانية بعد جالينوس في أن آخر الفكرة أول العمل.٥٠
    ويستمر حضور أرسطو عند ابن زهر وابن رشد والعرضي في القرن السادس. ففي «التيسير في المداواة والتدبير» لابن زهر (٥٥٧ﻫ) يأتي أرسطو في المرتبة الثالثة بعد جالينوس وأبقراط. يمثل أرسطو مذهبًا طبيًّا علميًّا وجالينوس إليه أقرب اعتمادًا على العقل والتجربة. وفي «الكليات» في الطب لابن رشد (٥٩٥ﻫ) يأتي أيضًا في المرتبة الرابعة بعد جالينوس وأبقراط. ويحاول ابن رشد أيضًا التوفيق بينهما اعتمادًا على العقل والطبيعة مع التأكيد على أهمية الطب العملي.٥١
    وفي مقالات ابن رشد في المنطق والعلم الطبيعي يتصدر أرسطو والحكيم الوافد. ويحال إلى كتبه المنطقية كلها باعتبار المنطق العلم الشامل. ويتصدر في «لزوم جهات النتائج من المقدمات» لتخليصه من سوء تأويل الشراح وتصورهم المقدمات وجودية في الزمان. وفي «المقول على الكل» يتصدر أيضًا ضد الشراح اليونان والمسلمين عودًا إلى نص أرسطو نفسه. وفي «المقاييس المختلطة» يتقدم أرسطو ويبين ابن رشد غرضه ومخالفة المشائين له. وفي «المقدمة الوجودية أو المطلقة» يتصدر أيضًا من أجل تخليصه من سوء وتأويل الشراح، ويحكم أقواله المتشابهة. وفي «جهات النتائج» يتصدر أرسطو والحكيم دفاعًا عن مذهبه المنطقي الذي يجعل النتائج تابعة للمقدمات الكبرى. وابن رشد هو الذي يقول وأرسطو هو الشارح له بعد عرض أقوال الشرَّاح على نفس أرسطو وعلى الواقع نفسه. وفي «القياس الحملي والشرطي ونقد القياس الاقتراني عند ابن سينا» يتصدر أرسطو والحكيم. وفي «كتاب الحد» يأتي أرسطو في المرتبة الثانية بعد الإسكندر. وأرسطو إلى الحق أقرب من شراحه اليونان والمسلمين. وفي «كليات الجواهر وكليات الأعراض» يتصدر أرسطو والحكيم وحده نظرًا لوضوح كلامه وسهولته على عكس الفارابي في شروحه على القياس. وفي «القول في محمولات البراهين» يتصدر أيضًا أرسطو والحكيم ولكن ابن رشد يؤوِّل نفس البرهان لديه بمصطلحات الأصول. وفي «السابعة والثامنة من السماع الطبيعي» يتصدر أرسطو ضد انحراف الشراح عنه. واستمر حضور أرسطو في القرن السابع عند مؤيد الدين العرضي في كتاب «الهيئة» إلا أنه في المرتبة السادسة بعد بطليموس.٥٢
    ومع ذلك يغيب أرسطو أحيانًا من بعض الأعمال في هذا النوع الأدبي. يغيب في أعمال بعض المترجمين مثل «الذخيرة للطب» لثابت بن قرة (٢٨٨ﻫ). كما يغيب في «المنصوري» للرازي (٣١٣ﻫ). فالتأليف ممكن في الطب بدون أرسطو. ولا يظهر في «زاد المسافر وقوت الحاضر» لابن الجزار (القرن الرابع الهجري)، وفي «المعدة وأعراضها ومداواتها». ولا يظهر أرسطو في بعض الأعمال الفلكية لابن سينا (٤٢٨ﻫ) مثل «جواب الشيخ الرئيس على سؤال أبي الحسن أحمد السهلي عن علة قيام الأرض وسط السماء» لأن أرسطو ليس هو المصدر الوحيد للعلم لأن المسألة من الداخل وليست من الخارج، من الموروث وليست من الوافد. كما يغيب أرسطو في «الآثار الباقية عن القرون الخالية» للبيروني (٤٤٠ﻫ) لحساب الموروث.٥٣
    و«تمثل الوافد مع تنظير الموروث» حالة افتراضية لا يمكن ضبطها حسابيًّا. فهناك مساحة صغيرة من التذبذب في أولوية أحدهما على الآخر. ففي «الأمد على الأبد» للعامري (٣٨١ﻫ) يأتي أرسطو في المرتبة الثالثة مع فيثاغورس وأفلاطون بعد ذي القرنين والإسكندر. فأرسطو معلم الإسكندر الذي حارب الشرك دفاعًا عن التوحيد. وهو تلميذ أفلاطون. وفي رسالة «إثبات النبوات وتأويل رموزهم» لابن سينا يتصدر أرسطو. فقد عزل أرسطو أفلاطون لإذاعته الحكمة. وبصرف النظر من عزل من إلا أن الحكمة لا تذاع للجمهور لأنها «المضنون به على غير أهله». وفي «سر القدر» يذكر الحكيم تحولًا من الشخص إلى الرمز. ومع ذلك يمكن التأليف دون ذكر لأرسطو مثل «جواب عن كتاب أبي الجيش النحوي في ما ظنه أن العدو غير متناهٍ» ليحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ).٥٤
    ويتأرجح حضور أرسطو وغيابه في رسائل ابن باجه (٥٣٣ﻫ). ففي «كلامه ما بعث به لأبي جعفر بن يوسف بن حسداي» ذكر أرسطو مع الإسكندر في المرتبة الثانية بعد بطليموس للرد على من زعم أن ما أتي به أرسطو في الحركة والمحرك ليس برهانًا ويضع ابن باجه له نسقًا في موضوع واحد عبر مؤلفاته كلها. ويستشهد به تدعيمًا لموقفه فأرسطو هو الشارح وابن باجه هو المشروح. وفيما «كتب رضي الله عنه إلى الوزير أبي الحسن بن الإمام» يأتي أرسطو مع ثامسطيوس في المرتبة الثانية. وهو موضوع بين الرياضة والمنطق كرؤية واستعداد في «نيقوماخيا». وفي «النفس النزوعية» يتصدر أرسطو ويحال إلى بعض أعماله الطبيعية. وفي «النزوعية» يحال أيضًا إلى أرسطو أولًا وإلى بعض الأعمال المنطقية والطبيعية. وفي «الوحدة والواحد» يتصدر أرسطو ويحال إلى كتاب ما بعد الطبيعة. وفي «المعرفة النظرية والكمال الإنساني أو في الاتصال بالعقل الفعال» يتصدر أرسطو، نموذج العقل الكامل، مثل الأولياء، الإشراقي وليس المنطقي الطبيعي. وفي «الفطر الفائقة والتراتب المعرفي» يذكر أرسطو وحده نموذجًا للمتدين الكامل. ويغيب في عديد من رسائل ابن باجه الأخرى فإبداعه غير مشروط به.٥٥
    ويستمر حضور أرسطو في التأليف في القرن السابع الهجري عند المجوسي. ففي «كامل الصناعة الطبية» للمجوسي يظهر أرسطو في المرتبة الرابعة بعد أبقراط وجالينوس وأوريناسيوس.٥٦
    ثم يعود أرسطو للظهور في القرن العاشر عند داود الأنطاكي والقليوبي والمنذري. ففي «تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب» لداود الأنطاكي (١٠٠٨ﻫ) تظهر ألقاب أرسطو بدلًا عنه مثل المعلم الأول، المعلم، الحكيم في المرتبة الثالثة بعد جالينوس وأبقراط والأستاذ بعد أن استقرت نظرياته في تاريخ العلم. وفي «النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة» له أيضًا تظهر نفس الألقاب مثل المعلم والحكيم في المرتبة الثالثة بعد جالينوس وأبقراط مع الإحالة إلى بعض كتبه الطبيعية. وفي «كشف الأسرار الخفية في علم الأجرام السماوية والرقوم الحرفية» للمنذري (١١٦٠ﻫ) يتصدر أرسطو مع غيره من حكماء اليونان كتراث فلكي دون غيره خاصة. ويغيب في «تذكرة القليوبي في الطب» بعد أن قارب الإبداع الخالص.٥٧
  • (جـ)
    التراكم: التراكم هو استمرار للتأليف بداية بتنظير الموروث قبل تمثل الوافد ثم تنظير الموروث ثم الإبداع الخالص. إذ تستمر عقارب الساعة بعد منتصفها إلى أربعين دقيقة ثم إلى خمسين ثم إلى ستين فتكتمل الدورة من النقل إلى الإبداع.
    ففي «تنظير الموروث قبل تمثل الوافد» يحضر أرسطو ويغيب عند عديد من المؤلفين، بل عند المؤلف الواحد مثل صدر الدين الشيرازي. ففي «البيزرة» لبازيار المعز بالله الفاطمي (٣٨٦ﻫ) لا يوجد إلا أرسطو من الوافد اليوناني. وفي «السعادة والحجج العشرة على أن النفس الإنسانية جوهر» لابن سينا (٤٢٨ﻫ) يتقدم أرسطو على الإسكندر وثامسطيوس. ويخلص ابن سينا أرسطو من سوء تأويل الشارحين اليونانيين عن علاقة النفس بالبدن عند أرسطو، فلا هي اتحاد ولا هي مفارقة. وفي «رسالة في الحيلة في دفع مضار الأبدان بأرض مصر» لعلي بن رضوان (٤٦٠ﻫ) يأتي أرسطو مع بطليموس وغورس في المرتبة الثالثة ناقدًا آراء السابقين. وفي «جامع الحكمتين» لناصر خسرو (٤٩٨ﻫ) يتصدر أرسطو وألقابه مثل الحكيم اليوناني، الحكيم الفيلسوف، الفيلسوف، سيد المنطق. بل يأخذ أرسطو عنوانًا لأحد الفصول. و«في السعادة المدنية أو السعادة الأخروية أو دفاع عن أبي نصر» لابن باجه (٥٣٦ﻫ) يحال إلى أرسطو من أجل إكمال السعادة الدنيوية لديه بالسعادة الأخروية. وفي «ملحق رسالة الوداع» يتصدر أرسطو بمفرده. وفي «الفاعل القريب والفاعل البعيد وخلود العقل» لا يحيل إلا إلى كتاب «السماع» دون الإشارة إلى صاحبه. فالعلم مستقل عن العالم. وفي «حي بن يقظان» لابن طفيل (٥٨١ﻫ) يتصدر أرسطو وحده من خلال كتبه أو من خلال عرض الفارابي أو ابن سينا له، الوافد من خلال الموروث.٥٨
    ويحضر أرسطو في ثلاثية ابن رشد (٥٩٥ﻫ) «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت». ففي «فصل المقال» يأتي أرسطو في المرتبة الثانية بعد أفلاطون في قضية خلق العالم وقدمه. وفي «مناهج الأدلة» يأتي أرسطو ولقب الحكيم مع أفلاطون وجالينوس أيضًا في قضية خلق العالم وهل كل جائز محدث. ويبدو أرسطو العقلاني الذي يبحث عن الاتساق العقلي والمنطقي. وفي «تهافت التهافت» يتصدر أرسطو مع الحكيم. ويحال إلى عديد من مؤلفاته المنطقية والطبيعية. وهو الرئيس الأول للفلاسفة. براهينه منطقية. وأقواله صحيحة طالما كانت برهانية بعيدة عن تأويلات المشائين اليونانيين والمسلمين. ويضع ابن رشد أرسطو داخل الفلسفة اليونانية مع السابقين عليه واللاحقين له. فهو جزء من التاريخ. ويحاول أن يضع نسقًا لمؤلفاته لبناء مذهبه.٥٩
    ويستمر حضور أرسطو في القرن السادس. ففي «حدوث العالم» لابن غيلان ردًّا على قدم العالم عند ابن سينا يتصدر أرسطو وغيره من حكماء اليونان الذين تحدثوا عن المبدأ الأول وهو الله، لا يعلم إلا ذاته توحيدًا بين الذات والصفات كما هو الحال عند المعتزلة. وفي «المناظرة بين فخر الدين الرازي وفريد الدين الغيلاني في مسألة حدوث العالم» لا يظهر إلا أرسطو واضع علم الجدل واحتمالات الحركة.٦٠
    ويستمر حضور أرسطو في القرنين السابع والثامن. ففي «أزهار الأفكار في جواهر الأحجار» للتيفاشي (٦٥١ﻫ) يتصدر أرسطو مع إحالة إلى كتاب الحيوان. وفي «مصارع المصارع» لنصير الدين الطوسي (٦٧٢ﻫ) ردًّا على «مصارعة الفلاسفة» للشهرستاني يتصدر أرسطو الذي ينتسب إليه ابن سينا مدعيًا عليه منطقًا ليس له. وفي «نخبة الدهر في عجائب البر والبحر» لشيخ الربوة (٧٢٧ﻫ) يتصدر أرسطو في نص منتحل عن الأحجار. وفي «مختصر تذكرة الإمام السويدي» للشعراني يأتي أرسطو في المرتبة الثالثة بعد جالينوس وأبقراط. وفي «اتحاد العاقل والمعقول» لصدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ) يحضر المشَّاءون والمتأخرون بدلًا من أرسطو بعد أن تحول أرسطو إلى مدرسة أو فرقة انتقالًا من أرسطو إلى الأرسطية.٦١
    ويستمر حضور أرسطو في القرن الحادي عشر عند الداماد (١٠٤١ﻫ). ففي «كتاب المقابسات» يتصدر أرسطو وألقابه مثل الحكيم، الحكيم المعلم، المعلم الأول، معلم الصناعة، معلم المشائين، معلم المشائين ومفيدهم، معلم المشائين اليونانيين، معلم اليونانيين، مفيد الصناعة ومصلحها، مفيد المشائين ومعلمهم. وما زالت «أثولوجيا» تنسب إليه إلى هذا الوقت المتأخر. وفي «أجوبة المسائل القاشانية» لصدر الدين الشيرازي.٦٢
    وأرسطو ليس كل الوافد؛ إذ يغيب أرسطو ويحضر آخرون مثل أفلاطون أو سقراط أو جالينوس أو إقليدس، منذ القرن الثالث إلى عصر متأخر سواء كان في العلوم الطبيعية أو العلوم الرياضية أو في الفلسفة النظرية الخالصة. والأمثلة على ذلك كثيرة. في الطب يتقدم جالينوس وأبقراط، وفي الطبيعة ديموقريطس، وفي العلوم الرياضية أرشميدس وفيثاغورس، وأبولونيوس وبطليموس وأفلاطون. وفي الحكمة الخالصة سقراط.٦٣
    «وفي تنظير الموروث» يستمر التأليف بعيدًا عن الوافد كله، أرسطو وغيره من حكماء اليونان. فالتأليف ممكن ابتداءً من تنظير الموروث أي بالمصدر الداخلي دون الخارجي. ويمثل الفكر الشيعي هذا النوع الأدبي لأنه يبدع من الداخل وليس من الخارج، بتفاعل الواقع الاجتماعي والسياسي مع الأصول الأولى. لذلك حل القرآن والحديث محل أرسطو٦٤ ونظرًا لأن قصص الأنبياء نموذج للثورة ضد الحاكم الظالم في التاريخ فقد استلهم الفكر الشيعي نمطه منه وكثرت الإحالة إليه في الأصول الأولى للموروث، القرآن والحديث، وصياغة العقائد في الإبداع والخلق، والنبوة، والمعاد، والإمامة.٦٥ لجأ الفكر الشيعي في تاريخ الأديان بحثًا عن العمق التاريخي لزعزعة النظام السياسي للحاضر في الثقافات الموروثة للشعوب وليس في الوافد إليها.٦٦ وكثير من أعمال ابن سينا، وهو المشائي، لا تعتمد إلا على الموروث الأول، القرآن والحديث.٦٧ بل إن بعض الأعمال المنطقية والعلمية وهي من العلوم الوافدة اعتمدت على تنظير الموروث وحده.٦٨
    وفي «الإبداع الخالص» يغيب الوافد كله بما في ذلك أرسطو والموروث كله بما في ذلك القرآن والحديث. فقد استقل العقل الفلسفي عن مصدريه المباشرين وأصبح قادرًا على التفكير البرهاني واكتشاف بنية الموضوع. فالعقل والطبيعة شيء واحد. والوحي ضام لهما ومؤسس عليهما. وقد تجلَّى الإبداع في المنطق والرياضيات والفلسفة والعلم. ساهم في الإبداع المنطقي المترجمون مثل يحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ) والمؤلفون مثل عمر بن سهلان الساوي (٤٥٠ﻫ)، وابن رشد (٥٩٥ﻫ)، والخونجي (٦٤٦ﻫ)، وابن العسال (القرن السابع)، والكاتبي (٦٧٥ﻫ)، والجرجاني (٨١٦ﻫ)، والسنوسي (٨٩٥ﻫ).٦٩
    وهناك إبداع فلسفي خالص ساهم فيه المترجمون مثل يحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ)، وحكماء الشيعة مثل السجستاني (٣٣١ﻫ)، والعامري (٣٨١ﻫ)، وابن سينا (٤٢٨ﻫ)، وابن هندو (٤٢٠ﻫ)، وبهمنيار بن المرزبان تلميذ ابن سينا (٤٥٨ﻫ)، وابن باجه (٥٣٣ﻫ)، ونصير الدين الطوسي (٦٧٢ﻫ)، وصدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ).٧٠
    وقد ساهم في الإبداع الرياضي في الحساب والجبر المترجمون مثل يحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ)، والقبيصي (٣٨٠ﻫ)، والكرخي (٤٢٩ﻫ)، والفارسي (٧١٨ﻫ)، والمراكشي (٧٢١ﻫ)، والمقدسي (٧٥٣ﻫ)، والقلصاوي (٨٩١ﻫ)، والعاملي (١٠٣١ﻫ)، وشرف الدين الطوسي (النصف الثاني من القرن السادس).٧١ وفي الهندسة أبدع الكندي (٢٥٢ﻫ) في هذا الوقت المبكر، والبوزجاني (٣٨٨ﻫ)، والعلاء بن سهل (القرن الرابع)، وتقي الدين (٩٩٣ﻫ)، والزردكاشي (٨٦٧ﻫ)، والأحدب (٦٩٥ﻫ)، ونصير الدين الطوسي (٦٧٢ﻫ)٧٢ وفي الفلك أبدع ابن الهيثم (٤٣٢ﻫ)، ونصير بن عبد الله المهندس.٧٣ وفي الموسيقى أبدع ابن باجه (٥٣٣ﻫ)، والأرموي (٦٩٣ﻫ)٧٤ وفي العلم الطبيعي وفي المعادن والكيمياء أبدع الكندي (٢٥٢ﻫ)، وفي الإبداع الطبي الرازي (٣١٣ﻫ)، وابن سينا (٤٢٨ﻫ)، وابن النفيس (٦٨٧ﻫ)، والقليوبي (القرن الحادي عشر)، وابن شقرون (القرن الثاني عشر).٧٥

(٦) تجاوز أرسطو

لم يكن أرسطو غاية في ذاته، بداية الفلسفة ونهايتها، غايتها ومنتهاها، بل كان مجرد وسيلة يتم التحول بعدها من النقل إلى الإبداع. والمبدعون هم الحكماء أيضًا لولا طغيان العرض كنوع أدبي على أعمالهم. تكونت الفلسفة ونشأت ليس من أرسطو بل بفضل نقد علم الكلام وتطويره بالتفاعل مع الوافد كله دون اكتفاء بالموروث، وتحويل الجدل إلى برهان بعد نقد المنهج الجدلي وما يسببه من مخاسر على مستوى الاختلاف في الدين والتفرق في العقيدة. وقام بهذا الدور إخوان الصفا وأبو حيان التوحيدي وابن سينا. وبلغ الذروة عند ابن رشد في «الكشف عن مناهج الأدلة والتعريف بما وقع فيها من الزيغ والبدع المضلة» ناقدًا الفرقة الناجية، الأشعرية كما بلورها أبو حامد وجعلها العقيدة الرسمية للدولة السنية تدعيمًا لنظام الملك في بغداد، والشافعية جعلها المذهب الفقهي الرسمي للأمة وواضعًا أيديولوجية السلطة في «الاقتصاد في الاعتقاد»، لا فرق لديه بين صفات الله وصفات الحاكم، وأيديولوجية الطاعة للناس في «إحياء علوم الدين»، الصبر والتوكل والورع والخوف والخشية والرضا والاستسلام. فالأشاعرة لا هم أحسنوا استخدام العقل ولا هم بقوا على إيمان العام. والشافعية، الأيديولوجية الوسطية لا هي أبقت على الرأي والقياس، الحنفية، ولا هي قامت على المصالح العامة، كالمالكية. وشرع السلطة بالشوكة وليس بالبيعة وأقصى المعارضة بكل أنواعها العلنية بالعقل مثل المعتزلة، وبالسلاح مثل الخوارج، والسرية تحت الأرض مثل الباطنية.٧٦
وتتأسس علوم الحكمة بالتأكيد على وحدة الفلسفة والدين أو الحكمة والشريعة تطويرًا للموقف الاعتزالي بأن العقل أساس النقل، والحسن والقبح العقليين. الفلسفة ليست دفاعًا عن الدين بل الدين هو الذي يدافع عن الفلسفة لأن الفلسفة والدين طريقان لهدف واحد وهو الحقيقة. أكد ذلك الكندي دون تأويل، وابن سينا وإخوان الصفا بتأويل النصوص الدينية مجازًا حتى تتفق مع العقل. وأكد ذلك أيضًا ابن سينا، وابن طفيل في «حي بن يقظان»، تأكيدًا للدين الطبيعي والعقل البديهي، بين التنزيل والتأويل، بين الوحي والعقل، بين الخلق والتولد الذاتي، بين مراحل الوحي ومراحل الوعي. بل إن ابن رشد يدافع عن الفلسفة باسم الدين، وأنه لو صح أن الفلاسفة قد قالوا بقدم العالم فإن بعض آيات القرآن يمكن تأويلها على هذا النحو وكذلك باقي الصفات وإعطاء الأولوية للحكمة على الإرادة دفاعًا عن السببية بل والقول بخلود النفس كلية. وفي «فصل المقال» يؤكد على وجوب النظر بالشرع، وأنه لا فرق بين القياس الفقهي والقياس العقلي، وأن الخلاف في أنواع الأقاويل الخطابية والجدلية التي يستعملها الدين أحيانًا لمخاطبة العوام، والبرهانية لمخاطبة الخواص. ومن هنا أتت ضرورة التأويل ووضع تهمة التكفير عن الفلاسفة. الشريعة تعطي الحدس، والفلسفة تؤسس البرهان.٧٧
وفي «إحصاء العلوم» ضمت الحكمة الوافد إلى الموروث في نسق كلي للعلم يتجاوز أرسطو في بنية ثنائية تضم اليونان والقرآن، علوم العرب وعلوم العجم أو ثلاثية بإضافة نظرية المعرفة ومناهج البحث عند الكندي جمعًا بين الحس والعقل، والمقدمات والبراهين، والقسمة العقلية والتحليل اللغوي، الإشراق والمعرفة التاريخية، المعرفة النظرية والمعرفة العملية، العلم الجزئي والعلم الكلي. ويجعلها إخوان الصفا قسمة رباعية بإضافة العلوم الإنسانية «العلوم الإلهية الناموسية والشرعية». ويجعلها الفارابي قسمة خماسية، علوم اللسان، والمنطق، والتعاليم، والعلم الطبيعي والإلهي، والعلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام. فاللغة أم العلوم، يتلوها المنطق والرياضة، والطبيعة والله علم واحد، الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى. الفلسفة وصف للوعي الفردي والمحيط الإنساني والعالم الطبيعي في ثلاث دوائر متداخلة مركزها الوعي الإنساني.٧٨
وتأسست الحكمة النظرية متجاوزة أرسطو في المنطق والطبيعيات والإلهيات. فقد تعددت أنواع المنطق ودخل في تزاحم مع النحو باعتباره منطق العرب في مقابل المنطق باعتباره نحو اليونان. فالنحو منطق عربي، والمنطق نحو يوناني، طبقًا للمحاورة الشهيرة حول المنطق والنحو بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي. وتمت صياغة المنطق بنية ثنائية مزدوجة: المنطق إما تصور أو تصديق. والتصور ينال بالحد والتصديق ينال بالبرهان. ووضع منطق الظن، الخطابة والجدل والسفسطة والشعر في مقابل منطق البرهان. المقولات والعبارة والقياس والبرهان ليس فقط كبنية بل أيضًا كتطور في الفكر البشري من الظن إلى اليقين أو كانهيار فيه من اليقين إلى الظن. دخلت اللغة وأسسها النفسية باعتبارها المدخل إلى المنطق لتأسيس شعوري لمنطق جديد إحساسًا بالتمايز بين «منطق المشرقيين» في مقابل منطق اليونان خاصة عند ابن سينا وإخوان الصفا. وحاول ابن حزم تأسيس منطق متكامل مُدخلًا الفقه كمادة منطقية من أجل توسيع منطق الاستدلال في «التقريب إلى حد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية»، كما حاول الغزالي ذلك أيضًا في ثلاثيته: معيار العلم، ومحك النظر، والقسطاس المستقيم. كما تم اكتشاف المنطق الطبيعي التلقائي الفطري في «أقيسة الرسول»، وتفكيك المنطق الصوري وإعادة بنائه على التجربة والعلاقات بين الذوات في الرد على المنطقيين و«نقض المنطق» لابن تيمية.٧٩
وتم ضم الطبيعيات والإلهيات في علم واحد وتحويلهما معًا إلى علم إنساني. فقد رفع إخوان الصفا الطبيعيات إلى مستوى المجسمات في جدل بين الجسد والنفس وبين الحيوان والإنسان وبين الإنسان والطبيعة. وأنزل الحكماء الطبيعيات الكونية إلى مستوى الطبيعيات الإنسانية. فقد رفض الكندي علم التنجيم، ونقد الفارابي علم أحكام النجوم، وبيَّن أبو حيان عدم فائدته، وعاد إخوان الصفا إليه كعلم إنساني يغلب عليه السحر والطلسمات. ثم دخلت الطبيعيات الجزئية عند الفارابي وأبي حيان في الطبيعيات الكلية، الإشراقية عند الإخوان، والثنائية عند ابن سينا، وأصبحت الطبيعة والله علمًا واحدًا يتجلى في نظرية الخلق عند الكندي أو الفيض عند الفارابي وابن سينا أو قدم العالم عند الرازي وابن رشد. تجعل نظرية الخلق الصلة بينهما صلة الأول والثاني، الموجب والسالب، الكامل بالناقص، الخالد بالفاني. وعلى الإنسان أن يدور حول نفسه من الثاني إلى الأول بالعمل الصالح. وفي نظرية الفيض الخلَّاق بين الله والعالم في الدرجة وليس في النوع، والوعي بذلك بالتأمل العقلي. فالعمل ضعف النظر. وتعيد نظرية القدم إلى التوحيد قوته بالتوحيد بين الله والعالم والشعور بهذه الوحدة في النفس كاقتضاء ومطلب.٨٠
وتم الارتفاع بالنفس الطبيعية عند الكندي والجسمية عند ابن باجه وقواها عند الفارابي وإنزال النفس «الروحية» عند أبي حيان إلى النفس الشعورية أو أحوال النفس عند ابن سينا. وتم اكتشاف العقل داخل النفس في نظرية العقول عند الكندي، والاتصال عند الفارابي، واللغة عند أبي حيان، والصور عند ابن باجه. وفيها ظهرت المنامات والأحلام عند إخوان الصفا والوحي والرؤى عند الفارابي وتأويل الرموز عند ابن سينا. ثم تحولت النفس الناطقة إلى النفس الأخلاقية ابتداءً من الانفعالات عند الكندي، وطب النفوس عند الفارابي، وبواعثها، الإرادة والاختيار، وفضائل النفس عند أبي حيان حتى إشراق النفس عند ابن سينا وغاياتها عند ابن باجه. وفي النهاية يثبت خلود النفس من النوم والرؤيا عند الكندي. والتناسخ عند الرازي، والإشراق عند إخوان الصفا، والبرهان عند ابن سينا. وإذا ثبت خلود النفس ثبت البعث والمبدأ أو المعاد عند الإخوان وابن سينا.٨١
وفي الحكمة العملية، في الأخلاق، والاجتماع والسياسة، والتاريخ، تجاوز الحكماء أرسطو في الأخلاق النفسية عند الكندي من أجل تطهير النفس ودفع الأحزان، وفي اللذة والطب والروحاني عند الرازي، وفي طب الأبدان وطب النفوس وأخلاق الفطرة والاعتدال وتحصيل السعادة عند الفارابي، وفي الأخلاق الطبيعية والدينية عند إخوان الصفا، وفي وصف ماهية القيم الدينية مثل الإيمان، والتوكل والإخلاص، والصبر والرضا والقضاء والقدر والطاعة انتقالًا إلى الأخلاق الصوفية، الخلاص بالزهد، والعشق طريقًا إلى الله، والأخلاق الإشراقية عند ابن سينا، أخلاق الطبيعة والفطرة. ثم ظهرت الأخلاق الإنسانية العامة عند أبي حيان، فالإنسانية أفق. وتأكدت في الإنسان كموجود أخلاقي عند مسكويه، ارتقاءً من اللذة إلى الخير إلى السعادة، ومن العدالة كوسط بين طرفين إلى التربية وتهذيب النفس ونهاية بالأخلاق الإلهية، أخلاق الملائكة في العبادة والمحبة وأخلاق البشر في الصداقة والقناعة والاستحقاق قالب الأخلاق الشرعية.٨٢
ثم يتم التحول من الأخلاق إلى الاجتماع ومن الاجتماع إلى السياسة والاقتصاد بعيدًا أيضًا عن أرسطو، ابتداءً من السحر إلى أخلاق الطبقة إلى أخلاق المهنة إلى أخلاق الاقتصاد والتشريع. فالأخلاق جزء من البنية الاجتماعية. ويفصلها الفارابي في أنواع المدن، الفاضلة والجاهلة، الجاهلة والفاسقة والمبدلة والضالة، وتحليل أسسها الإنسانية في التوتر القائم بين الصراع والتآلف، والعدل والخشوع، والآراء والأفعال، وتحليل وسائل حفظ الثورة. وفي مقابل الإنسان الاجتماعي بالطبع عند الفارابي يظهر نموذج الإنسان المتوحد بالطبع عند ابن باجه في «تدبير المتوحد». ويرجع تقسيم المدن إلى أنواع البشر. ويتم التحول من الأخلاق إلى الاجتماع عن طريق التربية السياسية طبقًا لنظام رئاسي واحد يعم البدن والكون والدين. وخصال الرئيس واحدة لا فرق بين الرئاسة الأخلاقية والأخلاق الرئاسية. ومن تجلياتها الخلافة والإمامة والنبوة.٨٣
ويتجاوز الحكماء أرسطو أيضًا في التاريخ، التاريخ الرأسي، النازل في نظرية الفيض، فيض الوجود وفيض المعرفة، والتاريخ الصاعد في الإشراق، والتاريخ الأفقي كما مثَّله قصص الأنبياء ودورات التاريخ. والتاريخ الدائري ليس هو التاريخ الأسطوري الكوني واليوناني بل هو زمان النبوة ونسخ الشرائع، والأكوار والأدوار وحساب الجمل. وقد قارب الحكماء فلاسفة التاريخ المعاصرين بتناولهم موضوع العلاقة بين الضرورة والحرية، وتفصيل أنواع الضرورة، الجغرافية والتاريخية متجاوزين الضرورة الإلهية. وبحثوا في نشأة الحضارة الإنسانية ابتداءً من اللغة أو الملة. وحاولوا تحديد خصائص الشعوب التي تتحكم في مسار الحضارات، تأكيدًا على الوحدة والتنوع، وحدة الحضارة الإنسانية وتعدد الثقافات البشرية مع مركزية الثقافة العربية. ولأول مرة يظهر تاريخ العمران عند الحكماء وقبل ابن خلدون الأشعري الذي كتب «في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها». فتاريخ العمران هو التاريخ السياسي الذي يقوم على الوعي بحركة التاريخ الذي يتأسس بدوره في الوعي السياسي بالظلم وعلاقة الرعية بالسلطان والسلطان بالرعية وواجبات المرأة الجميلة أي تناول المحرمات الثلاثة في الثقافة العربية المعاصرة: الدين والسلطة والجنس. ويؤسس الحكماء فلسفة في التاريخ تقوم على تحليل طبائع العرب وقيام الدولة وسقوطها وتحقيب التاريخ.٨٤

هذه ملحمة أرسطو في الثقافة العربية الإسلامية خاصة في علوم الحكمة تبين كيف أن أرسطو جزء من الوافد وأن الوافد اليوناني جزء من الوافد الغربي، اليوناني الروماني، وأن الوافد الغربي جزء من الوافد العام الغربي والشرقي، وأن الوافد العام أحد عنصري عملية التفاعل بين الوافد والموروث، وأن كليهما جزء من تفاعل الفكر والواقع، والعقل والتاريخ. أليس دور أرسطو في الثقافة العربية مبالغًا فيه، وحكمًا استشراقيًّا شائعًا في الغرب وعند بعض العرب المحدثين. وشتان بين البداية والنهاية، بين النقل والإبداع.

١  «أرسطو وامتداداته الفكرية في الفلسفة العربية والإسلامية»، أعمال الملتقى الدولي الثاني في الفلسفة ١٢–١٤ فبراير ٢٠٠١م، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر، ص٢٦–٧٠.
٢  عبد الرحمن بدوي: أرسطو عند العرب، دراسة ونصوص غير منشورة، ط٢، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٧٨م. عبد الرحمن بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين ألَّف بينها وترجمها من الألمانية والإيطالية عبد الرحمن بدوي، ط٢٤، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٨٠م.
٣  أورسيوس: تاريخ العالم، الترجمة العربية القديمة، حققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٨٢م، مسكويه: الحكمة الخالدة «جاويداد خرد»، حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي، النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٢م. البيروني: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة. دائرة المعارف العثمانية، حيدر أبادر الدكن ١٣٧٧ﻫ/١٩٥٨م، عالم الكتب، بيروت.
٤  انظر دراستنا: جدل الأنا والآخر. دراسة في «تخليص الإبريز» للطهطاوي، هموم الفكر والوطن، ج٢، الفكر العربي المعاصر، دار قباء، ١٩٩٨م، ص٢١٩–٢٥٠.
٥  من النقل إلى الإبداع، مج١ النقل، ج١ التدوين، دار قباء، القاهرة، ٢٠٠٠م، ص٨٦، ٩١، ٩٧، ١٠٧–١٠٨.
٦  انظر دراستنا: الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديموقراطية في وجداننا العربي المعاصر في الدين والثورة في مصر، ج٢ الدين والتحرر الثقافي، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩م، ص٩٩–١١٨.
٧  السابق ص٨٦، ١١٩، ١٢٠، ١٢٧، ١٤٨، ٢٠١، ٢٠٨، ٢١٨.
٨  وهناك منتحلات صغرى مثل الحيلة لدفع الأحزان للكندي، والرسالة الذهبية للإسكندر، والوصية الذهبية لفيثاغورس. وهناك المنتحلات الأفلاطونية مثل معازلة النفس والروابيع لأفلاطون، والعهود اليونانية والرسائل، ورسالة في آراء الحكماء اليونانيين، ورسالة أفلاطون إلى فرفريوس، ووصية أفلاطون الحكيم، ووصية أفلاطون في تأديب الأحداث، السابق، ص٣٠٢–٣٣٥.
٩  مثال ذلك النص الشهير «العالم بستان سياجه الدولة، والدولة سلطان تحجبه السنة، والسنة سياسة يسوسها الملك. والملك راعٍ يعضده الجيش، والجيش أعوان يكفله المال، والمال رزق يجمعه الرعية، والرعية عبيد يستكملهم العدل، والعدل ألفة به صلاح العالم»، السابق، ص٣٣٩، وهو نص منسوب أيضًا إلى كسرى أنوشروان وإلى كل حكيم عادل.
١٠  مثل قاطيغورياس (المقولات)، باري ارمنياس (العبارة)، أنالوطيقا (التحليلات)، أنالوجيا (القياس)، ريطوريقا (الخطابة)، سفسطيقا (الجدل)، بويتيقا (الشعر) …
١١  السابق، ص٧–١٤٤.
١٢  مثل الكندي، والخوارزمي، وابن سينا، والغزالي، والآمدي والجرجاني وابن عربي والتهانوي وصدر الدين الشيرازي وأبي البقاء ومعاجم مجامع اللغة العربية الحديثة.
١٣  السابق، ص٢٥١–٢٩٧.
١٤  السابق، ص٢٩٧–٣١٧.
١٥  استعمل الفارابي لفظ شرح في «شرح العبارة» وابن سينا وابن رشد في «شرح البرهان»، وابن باجه في «شرح السماع الطبيعي». في حين استعمل ابن رشد وحده «تفسير ما بعد الطبيعة».
١٦  من النقل إلى الإبداع مج١، ج٣، الشرح، ص٩–٢٩.
١٧  وله أيضًا «شرح معاني مقالة الإسكندر الأفروديسي في الفرق بين الجنس والمادة على ما فهمته أنا يحيى بن عدي بن حميد بن زكريا»، ويبدو فرق كبير بين الشرح والتفسير.
١٨  ولا يقتصر الشرح على أرسطو وحده بل يمتد إلى غيره مثل «شرح رسالة زينون الكبير اليوناني» للفارابي، وهو زينون الرواقي وليس زينون السفسطائي. ومستعملًا أرسطو ومحيلًا إليه.
١٩  السابق، ص٣٣–٨٧، مج٢، التحول، ج٢، التأليف، ص٩١–٩٣.
٢٠  ولم يكن الشرح مقصورًا على الوافد خاصة أرسطو، بل انصب أيضًا على الموروث مثل شرح ابن رشد لأرجوزة ابن سينا في الطب. ولم تنتهِ الشروح والتفاسير بابن رشد بل استمرت عند ابن البيطار وابن النفيس. ففي «تفسير كتاب ديسقوريدس في الأدوية المفردة» لابن البيطار (٦٤٦ﻫ) يغيب استعمال أرسطو فيه. وفي «شرح فصول أبقراط» لابن النفيس (٧٨٧ﻫ) يغيب الاعتماد على أرسطو ويستبدل به جالينوس. السابق، ص٨٧–١٣٠، ١٦٠–١٦٨، ١٨٨–١٩٣، ١٩٥–٢٠٧.
٢١  السابق، ص٢٠٩–٢١٦.
٢٢  السابق، ص٢١٦–٢١٨.
٢٣  السابق، ص٢١٨–٢٨٠.
٢٤  السابق، ص٢٨٠–٣٠٦. ولم يقتصر ابن رشد على تلخيص أرسطو بل لخص أيضًا كتاب السياسة لأفلاطون في «الضروري في السياسة» محاولًا تجاوز السياسة اليونانية والنظرية اليونانية إلى السياسة العربية لوضع نظرية عامة في السياسة. ولم يقتصر ابن رشد على تلخيص الوافد، بل إنه أيضًا لخص الموروث في «مختصر المستصفى» أو «الضروري في أصول الفقه» رادًّا الأركان الأربعة للعلم عند الغزالي المثمر، والثمرة والمستثمر وطرق الاستثمار إلى طرق الاستثمار وحدها، أي إلى الاستدلال باعتباره لب علم الأصول. وكتب أيضًا «الضروري في اللغة» في الموروث، وليس فقط في الوافد.
٢٥  السابق، ص٣٢٩–٣٣٧.
٢٦  السابق، ص٣٣٧–٣٥٨.
٢٧  السابق، ص٣٥٨–٣٦٨.
٢٨  السابق، ص١١–٦٥.
٢٩  السابق ص٧٢، ٨٣، ٩٧، ١٠١–١٤٩.
٣٠  السابق، ص١٦٤–١٦٦، ١٧٠–١٧٧.
٣١  السابق، ص٢٥٨–٢٥٩، ٢٨٠–٢٨١، ٣٠٢.
٣٢  السابق، ص٣٠٩–٣٣٩.
٣٣  مثل مقالة «في غير المتناهي» مع الإحالة إلى السماع الطبيعي و«قاطيغورياس». وفي «تبيين وجود الأمور العادية والنحو الذي عليه تكون محمولة والنحو الذي تخرج به من أن تكون محمولة» يتصدر أرسطو وكتاب البرهان. وفي مقالة في تزييف قول القائلين بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، و«مقالة بينه وبين إبراهيم بن عدي الكاتب ومناقضته في أن الجسم جوهر وعَرض» و«قول فيه تفسير أشياء ذكرها عند ذكره فضل صناعة المنطق»، ومقالة «تبين أن الشخص اسم مشترك» وفي مقالة في الموجودات، وفي «إثبات طبيعة الممكن وتقصي حجج المخالفين لذلك والتشبيه على فسادها». السابق، ص١٩–٢٤.
٣٤  مثل «رسالة الجو»، «في ماهية النوم والرؤيا»، و«في العقل»، السابق ص٢٤–٣٧.
٣٥  مثل: «رسالة الحدود»، «أحوال النفس».
٣٦  يحضر أرسطو في «حل شكوك حركة الالتفات». السابق ص٥٥–٦٦.
٣٧  السابق، ص٦٦–٧١.
٣٨  مثل: «في حفظ الأسنان واللثة واستصلاحها»، في المسائل الطبية، «كتاب العشر مقالات في العين»، «كتاب المولدين»، «في الضوء وحقيقته»، السابق، ص١٣–١٨.
٣٩  مثل: «سجود الحرم الأقصى»، «الجواهر الخمسة»، «الحيلة لدفع الأحزان».
٤٠  الرازي: ما الفرق أو الفروق بين، أو كلام في الفروق بين الأمراض. الخازن: في المثلثات القائمة الزاوية المنطلقة الأوضاع. القوهي: كتاب صنعة الاصطرلاب بالبرهان، السابق، ص٣٧–٤١.
٤١  مثل: «كتاب الحراقات» و«البرهان على أن الفلك هو في غاية الصفاء» و«مسألة هندسية» للعلاء بن سهل.
٤٢  مثل: «عيون المسائل»، «فصوص الحكم»، «السياسة»، «آراء أهل المدينة الفاضلة»، «السياسات المدنية»، «كتاب الملة»، السابق ص٤١–٤٩.
٤٣  مثل: «الجوهر النفيس»، «دفع الغم من الموت»، «في الأجرام العلوية»، «القولنج»، السابق، ص٥٠–٥٥.
٤٤  مثل: «الشكوك على بطليموس»، «مقدمة ضلع المسبع»، «رسالة في الكرة المحرقة»، مقالة في ثمرة الحكمة، السابق، ص٥٨–٦٤.
٤٥  السابق، ص٧٣–٨٠.
٤٦  السابق، ص٨٠–٩٧.
٤٧  السابق، ص٩٧–١٢٤.
٤٨  السابق، ص١٢٤–١٥٣، ٢٥٢.
٤٩  السابق، ص١٥٣–١٦٣.
٥٠  السابق، ص١٦٣–١٨١.
٥١  السابق، ص١٨١–١٨٨.
٥٢  السابق، ص١٨٨–٢٢٥.
٥٣  السابق، ص٧٣–٧٤، ٨٠–٨٣، ٨٧–٩٠، ١٤٦–١٤٧، ١٤٩–١٥٢.
٥٤  السابق، ص٢٢٧–٢٣٨.
٥٥  السابق، ص٢٣٨–٢٥٣، وذلك مثل «من كلامه على إبانة فضل عبد الرحمن بن سيد المهندس» و«في الفيض والعقل الإنساني والعلم الإلهي».
٥٦  السابق، ص٢٥٣–٢٥٧.
٥٧  السابق، ص٢٦٧–٢٨٣.
٥٨  من النقل إلى الإبداع، مج٢ التحول، ج٢ التراكم، ص١٥–١٧،  ٢٣–٢٨،  ٣٠–٤١.
٥٩  السابق، ص٤١–٩٢.
٦٠  السابق، ص٩٢–٩٥.
٦١  السابق، ص١٠٢–١١٦، ١٢٦–١٢٨.
٦٢  السابق، ص١١٨–١٢٤، ١٢٨–١٣٦.
٦٣  جابر بن حيان (٢٠٠ﻫ): تدبير الإكسير الأعظم (سقراط). القوهي (٣٣٥ﻫ): شرح صنعة الاصطرلاب (أبولونيوس). ابن الهيثم (٤٣٢ﻫ): مساحة المجسم المتكافئ (أبولونيوس). البيروني (٤٤٠ﻫ): تسطيح الصور وتبطيح الكور (بطليموس، مارينوس). البيروني (٤٤٠ﻫ): استخرج الأوتار من الدائرة (أرشميدس). الخازن (القرن السادس): ميزان الحكمة (أرشميدس). القلانسي (٥٩٠ﻫ): أقرباذين (مانالاوس). الجزري (٦٠٢ﻫ): الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل (أرشميدس). الفارسي (آخر السادس): تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر (جالينوس). الكاتب (٦٢٥ﻫ): كمال أدب الغناء (فيثاغورس). الكاشي (القرن التاسع): مفتاح الحساب (أرشميدس). الصبيري (القرن الحادي عشر): مختصر الرحمة في الطب والحكمة (أبقراط). المراكشي (١٠٦٥ﻫ): أرجوزة الفواكه الصيفية والخريفية (جالينوس). مؤلف مجهول (القرن الحادي عشر): الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغام (أفلاطون، فيثاغورس) صدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ): في تفسير سورة التوحيد (ديموقريطس).
٦٤  وذلك مثل: أبو جعفر بن منصور: كتاب العالم والغلام. السجستاني: كتاب الينابيع، إثبات النبوات، تحفة المستجيبين. القاضي النعمان: الرسالة المذهبية. حاتم بن عمران: الأصول والأحكام. قيس بن منصور: رسالة الأسابيع. محمد بن سعيد بن داود: الرسالة الكافية، السابق، ص١٥٥–١٦٩.
٦٥  السابق، ص١٨٥–٢٠٧.
٦٦  السابق، ص٢٠٧–٢٥٠.
٦٧  أبو الحسن العامري: إنقاذ البشر من الجبر والقدر (جعفر الصادق، أبو حنيفة). التقرير لأوجه التقدير (القرآن). مسكويه: في اللذات والآلام (الحكماء). ابن سينا: «معرفة النفس الناطقة» (القرآن)، ماهية الصلاة (القرآن والحديث). في الحث على الذكر (القرآن)، الرسالة النيرونية (في معاني الحروف الهجائية) (القرآن)، في تفسير المعوذتين (القرآن)، العرشية (القرآن)، الفعل والانفعال (القرآن)، رسالة الطير (القرآن المرسل)، ارتياض في تصور القوة المتخيلة والناطقة (القرآن)، في العلم الإنساني والعقول الثواني والعلم الإلهي أو في مراتب العالم (الزرقالة). الشيخ حسن المعدل: معرفة النفس الناطقة والعلوم الغامضة (الأنبياء). علي بن حنظلة المحفوظي الوداعي: ضياع العلوم ومصباح العلوم (القرآن). الطوسي: شرح مسألة العلم (الفرق). ابن النفيس: الرسالة الكاملية في السيرة النبوية (خاتم النبيين، النبي). العرشي: زهور المعاني (القرآن).
٦٨  مثل الفارابي: العبارة، انعكاس القضايا، البرهان، ابن عرفة: المختصر في المنطق. أحمد السجاعي: في الجواهر المنتظمات في عقود المعقولات. السنوسي: فن المنطق وحاشية إبراهيم الياجوري عليه. الخلخالي: شرح الدائرة الهندسية في معرفة سمت القبلة. القسائي، المغني في البيطرة، السابق، ص٢٧٨–٢٨٧.
٦٩  مثل: في تبيين الفصل بين صناعتي المنطق الفلسفي والنحو العربي، مقالة في أن العرض ليس جنسًا للتسع مقولات العرضية. الساوي: البصائر النصيرية في علم المنطق. ابن رشد: في حد الشخص. الخونجي: الجمل. ابن العسال: مقالة في المنطق. الكاتبي: الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية. الجرجاني: الغرة. السنوسي: مختصر في المنطق. السابق، ص٢٨٧–٣٠٠.
٧٠  مثل: الرازي: في إمارات الدولة. أبو سليمان السجستاني: في أن الأجرام العلوية ذوات أنفس ناطقة، في الكمال الخاص بنوع الإنسان. يحيى بن عدي: مقالة تبين أن كل متصل إنما ينقسم إلى منفصل وغير ممكن أن ينقسم إلى ما لا ينقسم، رؤيا في تعريف النفس، في الكل والأجزاء. في نقد الحجج التي أنفذها إليه في نصرة قول القائلين إن الأفعال خلق الله واكتساب للعبد، تهذيب الأخلاق العامري: الفصول في المعالم الإلهية. ابن سينا: رسالة فيما تقرر عنده من الحكومة من حجج المثبتين للماضي مبدأً زمانيًّا وتحليلها إلى القياسات. ابن هندو: الرسالة المشوقة، في المعاد الفلسفي. بهمنيار بن المرزبان: ما بعد الطبيعة، مراتب الوجود (إثبات المفارقات وأحوالها). ابن باجه: في ماهية الشوق الطبيعي، في النيلوفر، بين العقل والقوة المتخيلة واتصال العقل الإنساني بالأول، نظر آخر يقوي تصور ما تقدم، فيض العلم الإلهي في الواجب والوجود والممكن الوجود. نصير الدين الطوسي: رسالة في بقاء النفس بعد فناء الجسد. صدر الدين الشيرازي: الخلسة، السابق، ص٣٠٠–٣٣٦.
٧١  يحيى بن عدي: في استخراج العدد المضمر من غير أن يسأل المضمر عن شيء. البحوث الثلاثة عن غير المتناهي. القبيصي: في جميع أنواع الأعداد. الكرخي: الكافي في الحساب. الفارسي: تذكرة الأحباب في بيان التحاب. المراكشي: تلخيص أعمال الحساب. المقدسي: ملجأ الاضطراب في الفرائض، الحاوي في الحساب. القلصاوي: كشف أسرار عن علم حروف الغبار. العاملي: الخلاصة في الحساب والجبر والمقابلة، مسائل الحساب والجبر والمساحة الواردة في كتاب الكشكول. شرف الدين الطوسي: في الخطين اللذين يقربان ولا يلتقيان، في عمل مسألة هندسية. السابق، ص٣٣٧–٣٤٥.
٧٢  الكندي: في عمل الساعات. البوزجاني: ما يحتاج إليه الصانع من علم الهندسة. العلاء بن سهل: خواص القطوع الثلاثة. تقي الدين: الطرق السنية في الآلات الروحانية. الزرقاشي: الأنيق في المنجانيق. الأحدب: الفروسية والمناصب الحربية. نصير الدين الطوسي: مأخوذات لأرشميدس، الكرة والأسطوانة لأرشميدس، في جرحى وبعدهما لأرسطخرس، كتاب الطلع والغروب لأرطولوقس، كتاب في المطالع لايسقلاوس، كتاب معرفة مساحة الأشكال لبني موسى، كتاب المفروضات لثابت بن قرة، الرسالة الشافية عن الشك في الخطوط المتوازية، السابق، ص٣٤٥–٣٥٣.
٧٣  ابن الهيثم: كتاب المناظرة، الهندسة الكرية. كيفية الأرصاد. الأثر الظاهر في وجه القمر. نصر بن عبد الله المهندس: في استخراج سمت القبلة، السابق، ص٣٥٣–٣٥٨.
٧٤  ابن باجه: من كلامه رضي الله عنه في الألحان. صفي الدين الأرموي: كتاب الأدوار في الموسيقى، السابق، ص٣٥٨–٣٥٩.
٧٥  الكندي: السيوف وأجناسها. الرازي: الزكام المزمن عند تفتح الورد. ابن سينا: رفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية أو تدارك أنواع الخطأ الواقع في التدبير، رسالة الأدوية القلبية، أرجوزة في تدبير الصحة في الفصول الأربعة. ابن النفيس: رسالة الأعضاء، المختار من الأغذية، الموجز في الطب، المهذب في الكحل المجرب. القليوبي: تذكرة. ابن شقرون: الأرجوزة الشقرونية، السابق، ص٣٥٩–٣٧٨.
٧٦  من النقل إلى الإبداع مج٣، ج١ تكوين الحكمة، فصل ١ نقد علم الكلام.
٧٧  السابق، فصل ٢، الحكمة والشريعة.
٧٨  السابق، فصل ٣، إحصاء العلوم.
٧٩  السابق، مج٣، ج٢، فصل ١.
٨٠  السابق، مج٣، ج٢، فصل ٢.
٨١  السابق، مج٣، ج٢، فصل ٣.
٨٢  السابق، مج٣، ج٣، فصل ١.
٨٣  السابق، مج٣، ج٣، فصل ٢.
٨٤  السابق، مج٣، ج٣، فصل ٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤