إلى صديق قديم

كان لنا صديق أخلصنا له الولاء، وصدقناه الإخاء، فما زال يوهن من حبلنا، ويفصم من عرى ودنا، حتى انفرجت الحال، ووقعت النبوة، وجرى بيننا كلام، فبعثنا له بهذه القصيدة:

بعض بغضائكم أولى البغضاء
إنما الشتم شيمة السفهاء
ليس يشفي السبابُ غلَّ حسود
قد طوى صدره على الشحناء
إن داء القلوب داءٌ عياء
مثل داء المنون للأحياء
فاستر الضغن إن تشأ أو فجاهر
قد عرفناك فاسد الأهواء
أنت كالذئب خدنُ غدر ولؤم
ليس للذئب في الورى من وفاء
ما رأيناك بالإخاء خليقًا
ورأيناك أهل هذا الجفاء
قد تكلفت أن أعارض طبعي
وأجاريك مرة في الهجاء
فرأيت الكريم يعجز عنه
عجز برد الشتاء عن إدفاء
ورأيت الهجاء يرفع منكم
إنَّ ذمَّ الوضيع كالإطراء
ما يبالي مستهتكٌ نلتَ منه
أم عليهِ وقَّفت كلَّ ثناء
لا تغضُّ العيوبُ طرفَ بغيٍّ
نشأتْ بين بيئة شنعاء
كيف يندى جبينُ من غاض منه
كل ماء وغار كل حياء
رُبَّ قول لو كان في الصمِّ بضت
لم يؤثر في أنفس اللؤماء
ومقال تسوخ منه جبالٌ
عاد كالسيف نابيًا عن مضاء

•••

يا حماة الآداب نمتم طويلًا
نومة نبَّهت جيوش البلاء
من لستر الحياء يهتكه الغـ
ـرُّ ويفري في جوفه كالداء
من لوجه الأحساب يخدشه الغـ
ـرُّ ويُنعي بالخدشة النكراء
ولقلب الأخلاق يطعنه الغـ
ـرُّ ويجري دماءه كالماء
ولروض الآداب جف وأمسى
ظاهر الجدب لابسًا من عفاء
ذهب الود والحياء جميعًا
لهفَ أرضي عليهما وسمائي
وتبدلتُ من رجالِ وفاءٍ
كل غر مماذق في الوفاء
يتلقاك بالطلاقة والبِشـ
ـرِ وفي قلبه قطوبُ العداء
كالسراب الرقراق يحسبه الظمـ
ـآن ماءً وما به من ماء
عاجز الرأي والمروءة والنفـ
ـس ضئيل الآمال والأهواء
ألِف الذلَّ فاستنام إليهِ
وتباهى به على الشرفاء
ينسج الزور والأباطيل نسجًا
والأكاذيب ملجأ الضعفاء
لو تراه بالليل يخطر عجبًا
في مسوك الفرنجة السوداء
قلت قردٌ من آل «دروين» ناشٍ
أخذت منه سورة الصهباء
مستميت إلى المكاسب والربـ
ـح دنيء الأسفاف والكبرياء
فاسق يُظهر العفاف ويُخفي
تحته الخزي يا له من مراء
مظلم الحسِّ والبصيرة كالتمـ
ـثال خلوٌ من الحجا والذكاء
قد زهاه الشموخ فاختال تيهًا
ولوى شدقه على الخلصاء
وعدا طوره فأركبه الجهـ
ـل جموحًا ألقته في عوصاء
فغدا كالحمار أوهمه الشيـ
ـطان أمرًا فصاح من خيلاء
هو حمَّى الجليس يدفع في الصد
رِ ثقيل الكلام والإيماء
أعجميُّ اللسان فهٌّ عييٌّ
يدَّعي أنه من الفصحاء
يملأ السمعَ والقلوب كما يز
عم رطب اللسان عذب الأداء
يا قطيع اللسان مالك والشعـ
ـر وصوغ الكلام جم العناء
أنت في الأرض نقمة الله للنا
سِ جميعًا قريبهم والنائي
قد لعمري نكبتَ عن جدد الرُّشـ
ـد وأوغلتَ في شعاب الرياء
أنت في الزهو والسفاهة واللؤ
مِ عديم المثال دون مراء
لو على قدر بطء حسِّك يومًا
كنت كيسًا ذا أربة وذكاء
لبلغت السنام من قلل المجـ
ـد وجاوزت رتبة الأنبياء
ضجَّ من لؤمك الخلائق في الأر
ضِ وعاذوا من شرِّه في السماء
صار إبليسُ عند ربك مقبو
لًا وقد كان قبلُ في الأشقياء
عشَّش اللؤم في فؤادك وارتا
ش فيا رحمة على الأحياء

•••

لا أقال الإلهُ من خانني الغيـ
ـب وجازى الحفاظ شر جزاء
ظنَّ أني على التحلم ماضٍ
فمضى ضلَّةً على الغُلواء
وغلا في الضلال فاشتبه الأمـ
ـر عليه وبات في عشواء
وأراه الغرورُ أنَّا سواءٌ
فتباهى وليس من نظرائي
كيف تعطو وليس عندك نَوطٌ
وتُسامي وأنت في البوغاء
أسفًا للعقول ضلت وزاغت
عن سبيل الهدى ووضْح السواء
كنتَ في ظلِّنا الوريف مقيمًا
آمن البال وادع الأحشاء
فاستثرت المنسيَّ من فارط الذنـ
ـب وأوغرت صدرنا بالبذاء
أنت أسخطتنا عليك فحلنا
عنك لمَّا جهلت وجهَ الرضاء
أنت وثَّبتنا عليك وقد كنـ
ـت موقًّى في غرَّة ورخاء
أنت ضاغنتنا وخشَّنت صدرًا
كان يحنو عليك في البأساء
أنت قطَّعت حبل خلِّك بالغدْ
رِ وأيبست ثديَ هذا الإخاء
أنت ناوأتنا وعلمتنا الثلـ
ـب فرشنا لكم سهام الهجاء
حزت ذمي وللرياح السوافي
مثل ذم التراب والحصباء
لا يغرَّنْك ما ترى من أناتي
واحتبائي بالحلم والإغضاء
ربما استُنزل الحليم عن الرفـ
ـقِ وثارت سكينة الحكماء
قد أذقناك حين أصفيتنا الوُ
دَّ وفاءً أعذِب به من وفاء
كان ودِّي مصفَّقًا لم أعكِّرْ
ه برنقٍ من القلى والرياء
ولقد أينع الودادُ على الأ
يَّام واستحصفت حبالُ الإخاء
كم ركضنا إلى المسرة واللهـ
ـوِ برغم الهموم والبرحاء
واغتبقنا الشراب حتى اصطحبنا
لم نشعشع صراحهُ بالماء
لم أطع فيك واشيًا يزرع الحِقـ
ـدَ ويجني ثمارهُ في الخفاء
ضمَّنا عاطفُ المودة دهرًا
وافترقنا على القلى والجفاء
فلك اليوم في المحافل ذمي
ولماضيك عُنفوانُ الثناء
لستُ أبكي على فراقك ما عشـ
ـت فإن البكا على الأوفياء
لن ترى البين فاجعي أبد الدَّهـ
ـرِ فما كل خلة بسواء
كان شأني الحفاظ والرعيُ فالآ
نَ أرى الرعيَ أعظم الأرزاء
فيك أبصرتُ كيف يكدر صفوي
بصنوف الأكدار والأقذاء
كنت أرجوك للزمان فأنت الـ
ـيوم دائي في البعد منك شفائي
ربَّ قُربٍ أفضى إليَّ بضرَّا
ءَ وبُعدٍ أفضى إلى السرَّاء
طبتُ نفسًا عن ذكركم وشفا السلـ
ـوان قلبي من لاعج العرواء
كنتَ بالذكر بين عيني وقلبي
فجررنا عليك ذيلَ العفاء
قد كبا بيننا الوداد فلا قا
م وغصَّ الهوى بماء الهجاء
خلت جهلًا أن الفؤاد هواءٌ
ليس يصميه كثرة الإيذاء
لا أرتني الأيام وجهك ما عشـْ
ـتُ ولا قرَّبتْك بعد التنائي
وتنائي الدارين خيرٌ وأحرى
من تدانيهما على البغضاء
قد مضينا كما مضيتَ وما دمـ
ـتَ ودمنا فما لنا من إخاء
لن تراني بالباب بابك أستغـ
ـزر فيضَ الدُّجُنَّة الوطفاء
أقرع السنَّ نادمًا وأذم الـ
ـدَّهر ذمًّا ولات حين عزاء
علَّ ماء الشئون يطفئ نارًا
قد أذابت لفائف الأحشاء
واقفًا أندب اعتدال زمان
طال فيهِ بين الكرام ثوائي
بين أهل اللَّيان والخلق السكـ
ـب الشآبيب والحجا والذكاء
حيث عز الوقارُ والجانب السهـ
ـل وذلت طيرورة الضرساء
يا خليلي قد صرت جلدًا على الهجـ
ـر متين العرى وسيع الفناء
ولئن قدَّر الزمانُ اجتماعًا
فبكرهي يكون لا برضائي
بأبي أنت. أنت أوَّل إلفٍ
ردَّني من بلابلي للعراء
كنتُ لا أملك الدموع فقد صر
تُ ألاقي النوى بالاستهزاء
حبَّذا أنت غير أنك تبغي
أن تداني أهل السنا والسناء
تلك أحلام نائم وأحاديـ
ـثُ لمستمسك بحبل الهباء
وغبيُّ الأنام من ظن أن الـ
ـزرعَ يزكو في التربة المِظماء
كل ماضيك قد وسعت بحملي
غير ما جئت ليلة الأربعاء
قضي الأمرُ بيننا فسلامٌ
وسقى الله عهدَ ذاك الإخاء

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤