الماضي الحي

ما أنسَ لا أنسَ أيامًا نعمت بها
في ظله وكلانا ضاحك الجذل
وقوله ليَ في دل ومعتبة
وقد رآني عن السمار في شغل
يا قاتل الله وسواس الغرام وما
كساك من صنعة الأشجان والغلل
أنصب حبائلك اللاتي عُرفت بها
فإن شعرك سحر نافذ العمل
ماذا تريد بإطراق وقد ضحكت
وجوه ليلتنا عن غرة الأمل
هذا الشراب وهذي الكأس مترعة
فاشرب وهات اسقنيها غير محتفل
أما نهيتك عن هذا؟ أما وأبي
لأوسعنك تأديبًا عن الزلل!
نفسي فداؤك من جافٍ كلفت به
سقانيَ الشهد في أيامنا الأول

•••

وليلة كظلام اليأس طاخية
بلا نجوم ولا بدر ولا شعل
مضيت فيها إليه غير متئد
يحدونيَ الشوق حدوًا غير ذي مهل
وقلت إنيَ ضيف لا يريد قرى
إلا الحديث وما أنتم ذوي بخل
وظَلْتُ أروي خرافات وأسمعه
حديث قلبيَ منحولًا إلى الأول
وسرَّني أنني فيما رويت له
عنهم أقول له في غير ما وجل
إني أحبك حبًّا طاغيًا فزعًا
عفًّا وما لي بهذا الحب من قِبل
وليس فدمًا ولا غرًّا فأخدعه
لكن نصيباه من فهم ومن خجل
فقال ويحك إما أنت مختبل
أو أنت تلهو بأصناف من الخطل
فقلت لم تخط بي خبل وبي عبث
مما دهاني من الأوجاع والعلل
وفي الفؤاد ضرام لا دخان له
وأخبث النار ما تخفى عن المقل
وفي العروق سموم لا طبيب لها
وفي المحاجر دمع غير منهمل
فلا يغرَّنْك ضحكي حين تبصرني
فذاك سخر فؤادٍ ضيق الحيل
والمرء يضحك من يأس ومن جذل
وقد ترى الوشي في الأكفان والحلل
كم همَّ قلبي بإفصاحٍ ولم يقلِ
وهم دمعي بتسكاب ولم يسلِ
صب الزمان بقلبي النار سائلة
وجف دمعي فيا لهفي على البلل
فإن تطق فأسل دمعًا شقيت به
إن الشفاء مسيل المدمع الخضل
فلم يطق وبكى عني فوا حزني
ليت الذي سحَّ من عينيه يُقسم لي

•••

إني لأذكر يومًا صالحًا معه
ما زلت من حسنه كالشارب الثمل
والشمس جانحة حتى لتحسبها
لاذت أمام جيوش الليل بالجفل
والنيل يجري كما نجري لغايتنا
وكل شيء من الدنيا إلى أجل
فقلت ألهو به، والجد متعبة
وأحسن القول ما ألهى عن الملل
لقد سبت قبلك الشمس التي غربت
ربَّ البحار ذوات الغارب الزجل
ألست تعلم أن الشمس زوجته
تبغيه تحت ستار الليل والطفل؟
فقال لا تهذِ يا هذا لتضحكنا
لقد عرتك وربي لوثة الدخل
أما تزال فتيَّ العقل طائشه
كهل المجانة وثابًا إلى الخبل
أما يجلُّ حديث عن مهازلة
ولا يردك عنها قحمة العقل
فقلت والله ما إن أفتري كذبًا
لكنما أنت في ليل من الجهل
سل عنهما صادةَ الأسماك هل سمعوا
في فحمة الليل مثلي رنة القبل
وربما هاجه صيفًا تلكؤها
فأمطر السخط شؤبوبًا من العذل
وظَلتُ أضحك منه وهو ينهرني
حتى انقضى الليل لم يقصر ولم يطلِ
ليت المحبين مثل الشمس كلهم
قد زوَّجوا النار ماء القرب والغزل

•••

ويوم قلت له والسن ضاحكة
والعين شاخصة والقلب في ثكل
أزمعت عنك رحيلًا لا إياب له
فقال بل أنت ظل غير منتقل
فقلت بشرى، ولكني على سفر
من ذا أقام كنجم القطب لم يحل
فقال ألشَّام؟ قلت الشام فاتنةٌ
جنَّاتها وسماء الأعين النجل
لكنَّني لست طيَّاشًا ولا رهقًا
ولست أحسن لعن الدين والملل
فقال بئس لعمري أنت من دَعِب
في كل أمر وبئس الخلق في الرجل
فقلت ويحيَ إني لا أريد ردًى
لكن حياة وإني لست بالبطل
وفي الشآم لحاظ لا أمان لها
يحوطها كل مِقدام على الأجل
لكن تأمل نجوم الليل قاطبة
وأين نجميَ بين الأنجم الحلل
أظنه ضلَّ بين الشهب غايته
مثلي على الأرض بين الوُهد والقلل

•••

يا معرضًا أنت نجمي غبت عن نظري
وما ضللتَ ولكن شيمة الملل
وأنت في العين أنوارُ ملمعة
وأنت في القلب برد العارض الهطل
وأنت تاج خلود لي أتيهُ به
وقد غنيت عن النِّسرين والنفل
وأنت بالليل حلم غير منقطع
وأنت في الصبح عزم غير متصل
وأنت جبريل توحي لي وأنظم ما
توحيه من غرر الآيات والجمل
وأنت فينا نبيُّ الحسن لا كذبًا
وللهوى مرسل من أفصح الرسل
إن كنت فكَّرت في هجر وفي بعد
فأنت في القلب ثاوٍ غير مرتحل
لا يخدعنَّك حسن أنت لابسه
فلابس الحلي في الدنيا إلى عطل
يا زهرة الحسن لا يخدعْكِ رونقها
إن الربيع قصير العمر والأجل
إن الندى لحياة الزهر يضربه
والحب للحسن طلٌّ ليس بالوشل
فصن جمالك إمَّا شئت في كلل
وادفنه إن شئت في قبر من الجهل
ليس اختيارًا رضانا ما يكلفنا
صرْف الغرام فلا تكثر من العذل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤