رائحة الدجاج

بكفِّها البضَّة تُوقظني، أعرف تلك اللمسة الحريرية، «كف عز» كما تصفها دائمًا، قبل أن تستطرد في حديثها عن الزبدة البلدية، والخضار الذي لم يَضِع مذاقه وفائدته بفعل المُبيدات وأشياء أخرى. مخيِّلتي مصمصة شفتَيها وهي تترحم على أيام «خيرها».

تتوقف عن النداء الخافت حينما تتأكد من استيقاظي، وتحثُّني على الإسراع للحاق بها؛ حيث أعلم جيدًا أين سأجدها.

تنتظرني على مدخل مطبخها. بحرصٍ شديد تُمسِك بيمينها «الكزرولة»؛ حيث ترقد بيضاتها في سلام، وباليسرى ذلك الكرسي الخشبي ذا الأرجُل المستطالة الذي صنعه جدي خصِّيصى ليُرافقني ويُطيل قامتي في مهمتي الصباحية التي تتسبَّب في جرعاتٍ مُتتالية من توبيخات أمي؛ بسبب تأخري عن موعد المدرسة، واتساخ ملابسي.

اعتادت جدتي أن تحتال على دجاجاتها، وتستعير منها بيضاتها، وتنقلها إلى «عيون الحمام» كما كانت تُسميها، بيضة واحدة لكل زوج حمام. في البداية، لم يُعجبني الأمر، واعتبرت الأمر «سرقةً»، وأضفت بشكلٍ استعراضي: السرقة حرام كما تُخبروننا أنتم الكبار عادةً، مُتسائلةً في حيرةٍ حقيقية: ألا يسبِّب ذلك اضطرابًا لفراخ الدجاج بين ولائها لأمهاتها الجينية والأخرى بالتبنِّي؟

كانت جدتي تُهدهدني، وتُخبرني أن دفء الحمام يسرِّع من نمو الصغار، ويقلِّل من الفترة التي يحتاجها البيض للفقس، كما أن الحمام حَنون، فإذا أرادت الأم أخذ استراحة من الرقاد، تناوَب ذَكرها معها على الرقاد بنفسٍ راضية، أما الديك فأناني؛ يترك المهمة، مهما طالت، للدجاجة.

ننتهي من المهمة الصباحية. حصاد اليوم عشر بيضات كاملة، اعتدت بعدها التسلل لأكشاك الدجاجات، أهمس لها كي تطمئنَّ على مصير بيضاتها. تستعجلني أمي لحلول موعد المدرسة، فأخرج من العش وأنا أرمق هذا المُختال بريشه وعُرفه بنظرة حقد وعتاب.

تلتقط أذن جدتي نقر الحياة، وأول نداءاتها، فتُناديني مسرعةً: «تعالَي! البيض بدأ يفقس.» تُنبهني للحذر، أحمل الفراخ الصغيرة، أُدغدغ زغبها المُنتشي، وأتحسَّس نعومته. كطفلٍ جديد، تحمله جدتي إلى أعشاش الكتاكيت المصنوعة خصِّيصى كحضَّانات للصغار، فيما أنشغل أنا بمُواساة الحمام. أشعر أن صغار الدجاج سترثُّ منها حنانها وبعضًا من روائحها؛ عرفانًا بجميلها.

تدلِّل جدتي صغارها؛ ربما لتعوِّض شيخوختها، أو تمرد أطفالها عليها. تحضِّر لهم البيض المسلوق المفتَّت، والقمح، وبقايا الطعام، والخبز المبلول، طوال فترة حضانتهم، وحتى انتقالهم إلى أعشاش الدجاج الأكبر سنًّا.

حينما كبِرنا بعض الشيء، وكثُر المُتزوجون والأحفاد، استغنى جدي عن فيلَّته ذات الغرف التي تُشبِه في اتساعها شقق الأفلام العربية القديمة، وأسقفها العالية، التي لا تحتاج لتهويةٍ اصطناعية، وحديقة تتسع لشغبنا نحن الأطفال، واستبدل بها عمارة ليحتلَّ كل ابن شقةً فيها، نتقابل فيها بالصدفة على بسطات طوابقها وسلالمها.

حملت جدتي دجاجاتها، واكتفت بأعشاش لها من الخوص مُنتصبة فوق سطح منزلنا الجديد، وازدادت تحذيرات أمي خشيةً عليَّ من سور سطحنا، ومن صعودي السُّلم الخشبي الذي كان يربط الطابق الأخير بالسطح.

كانت جدتي تسبقني إليه، بينما أبقى أنا بجانب درجته السفلى، مُمسكةً بعمودَيه لمنع تراقصه تحت وقع خطواتها، حتى إذا اطمأننت لوصولها لقمَّته، أبدأ رحلتي في صعوده.

نُعيد الكرة يوميًّا، نُطلِق سراح دجاجاتها، ونُنظف أعشاشها من مخلفاتها، ونستبدل بورق الجرائد المفروش أسفلها آخر نظيفًا، ونُعيد ملء أحواض مياهها، وننثر حُبيباتها، ونضع الخبز الممزوج بالماء، ثم نحمل البيض، لا إلى «عيون الحمام»، فلم تعد باحتنا تكفي لأبراجها، ولكن إلى «شقق» العائلة، كلٌّ حسب عدد أفراد أسرته.

يومًا، عُدتُ من مدرستي، وعلى ناصية الشارع انتفض جسدي على وقع صيحات وصرخات مصدرُها بيتنا، أكَّدت ظنوني تلك الجموع المُتجمهرة على عتبته ومدخله.

علِمت أن أحدهم اختار الانتحار حرقًا فوق سطح منزلنا؛ لاعتقاده بأن طيور جدتي وعششها الخشبية ستُسرع من إنهاء حياته. تفحَّمت دجاجات جدتي، ولكن المُنتحر، طبقًا لشهود عيان رأوا ملامحه المُنتصبة رعبًا، مات خوفًا. تُرى، هل الموت خوفًا أسرع أم الحرق؟

أسرعت أبحث عن جدتي، فوجدتها متكوِّمةً تحت السُّلم الخشبي، تنتحب لمنعها من الصعود لإلقاء النظرة الأخيرة على طيورها قبل أن يجمعوا أجسادها المُتصلبة في أجولة.

عاد الهدوء بعد أيام إلى منزلنا، وأصدر جدي فرمانًا بحرمان جدتي من مزاوَلة عادتها فوق السطح، مُكتفيًا ببناء قفص داخل شرفتها اليتيمة بشقتها.

كبِرنا، وازدادت انشغالاتنا، وقلَّت نوبات تسلُّلي إلى شقة جدتي. وحينما رحل جدي، وتعالى الصغار على تناول البيض، واستبدلوا به الكورن فليكس والكرواسون، لجأت جدتي لبيع بيضها في السوق القريب من شارعنا.

أصبحت رائحة جدتي تُشبِه رائحة طيورها، وانتقلت إليها عاداتها. كنا نتنادر نحن مُراهقي العائلة لأحاديثها مع طيورها، وإطلاقها عليها الأسماء والألقاب، واحتضانها وتفتيشها بين ريشها عن الطفيليات. وقلَّت زيارات أبنائها لها؛ بحجة تأفُّفهم من رائحة قاذورات طيورها. كنت أتساءل: هل قلَّت الزيارات لهذا السبب فعلًا، أم إن قِلَّتها جعلت جدتي تستأنس بدجاجاتها عوضًا عنهم؟

زحفت الشيخوخة على جسد جدتي وعقلها، أصبحت تنقر على بابنا، تشكو محاولات سرقة دجاجاتها، واللص الذي أراد حرقة قلبها، فأشعل النيران في طيورها. تسمعها أمي غيرَ مُبالية وهي تقطف أوراق الملوخية، وتدفعنا للدخول للمذاكرة وسط ضحكاتنا المُستترة.

بعد سنوات، يجتمع الإخوة ويقرِّرون الانتقال إلى أحياءٍ أخرى، متعلِّلين برائحة الدجاج العالقة بجدران البيت.

تنشغل أمي بحزم أمتعتنا، وإخوتي يلتقطون صورًا تذكارية لأركان منزلنا، وأتسلَّل إلى الطابق الخامس، فتلفحني رائحة القمح والخبز العفن منذ سنوات، ألمح على الجدران ريشاتٍ عالقة، أمنحها بضع زفرات تُطلِق سراحها. أجلس القرفصاء، وأجمع أطلال الأعشاش، وأحتفظ بأعواد من الخوص، أُخفيها في حقيبة يدي أثناء رحيلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤