صورة مجملة

من كلمات الإمام التي لم يقلها أحد غيره كلمته في خطاب الدنيا، حيث يقول: «يا دنيا غُري غَيري … غري غيري!»

وإنها لأكثر من كلمة، وأكثر من دعاء …

إنها لسان قدر، وعنوان حياة …

فقد خلق الإمام، وفي كل خليقة من خلائقه الكبار اجتراء على الدنيا، على ضرب من ضروب الاجتراء.

خلق شجاعًا بالغًا في الشجاعة، وزاهدًا بيِّن الزهد، ودارسًا محبًّا للحقيقة الدينية يتحراها حيث اهتدى إليها …

والشجاع جريء على الدنيا؛ لأنه لا يبالي الحياة …

والزاهد جريء على الدنيا؛ لأنه لا يبالي النعيم …

وطالب الحقيقة جريء على الدنيا؛ لأنها طريق عنده إلى غاية من ورائها …

فأي مصير لهذا الرجل غير الشهادة في زمن لم يعرف بطارئ من الطوارئ، كما عرف بالإقبال على الدنيا؟ …

صام الناس قبله عن الدنيا، ثم أقبلوا على الدنيا العريضة بحذافيرها …

هدأت حماسة الدعوة النبوية، وثابت الطبائع إلى مألوفها الذي أشربت عليه، وتدفقت الأموال من الأمصار المفتوحة على نحو لم تعهده الجزيرة العربية قط في تاريخها القديم …

وأقبل الناس على الدنيا، بل هرولوا إلى الدنيا …

وإذا بخليفة جريء عليها زاهد فيها، يقف لهم في طريقها ويصدهم عنها …

يصد ماذا؟

يصد الطوفان، وهو مندفع من وراء السدود …

يصد الطبيعة الإنسانية، وهي منطلقة من عقال التقوى …

يصد ما لا سبيل إلى صده بحال …

فهو مستشهد لا محالة ولو مات على سريره … فإن الإنسان قد يعيش عيشة الشهداء، ولا يلزم بعد ذلك أن يموت ميتة الشهداء …

وقد لزمته آية الشهادة في كل قسمة كتبت له، وكل حركة سعى إليها أو سعت إليه …

فمن آيات الشهادة أن يساق إلى الخلافة، ولا حيلة له في اجتنابها …

ومن آيات الشهادة أن يساق إليها في ساعة الفصل بينها وبين الملك، وتقوم الحوائل كلها بينه وبينها قبل الأوان …

ومن آيات الشهادة أن يساق إليها، ولا حيلة له في تحقيق أغراضها، ولا في الخروج من مآزقها …

ومن آيات الشهادة أن يبتلى بأنصاره أشد من بليته بأعدائه، ولا حيلة في تبديل أولئك الأنصار …

ومن آيات الشهادة ألا تغره الدنيا، وقد غرت حوله كل إنسان … فهو شهيد، شهيد، شهيد …

خرج إلى الدنيا والشهادة مكتوبة على جبينه، وخرج منها والشهادة مكتوبة على ذلك الجبين بضربة حسام …

وصورته المجملة لا تشق على مصور ولا على متفرس؛ لأنها صورة المجاهد في سبيل الله بيده وقلبه وعقله، أو صورة الشهيد …

وكل امتحان لقدرته أو لعمل من أعماله، ينبغي أن ينعزل عن محنة القدر التي لا يغلبها غالب …

وقد كان له رأي عالم، وفطنة حكيم، ومشورة مدبر … ولكننا إذا قلنا: إنه أخفق في العمل؛ لأنه لم يغلب القدر، فذلك تكليف بما لا يطاق.

وإنما نقول: إنه أخفق في العمل ونمسك، ولعله لو تولى الخلافة قبلها أو تولى الملك بعدها لما ظهر منه ذلك الإخفاق …

•••

وحق لا شك فيه أنه أخفق حيث يشرفه إخفاقه، وحيث يخفق الآخرون لو نصبتهم الأقدار في مثل مكانه …

ومات وقد حل مشكلة الخلافة بلسانه، وهو إلى اليوم موضع الخلاف عليها وعليه بين أصحاب المذاهب، وأصحاب الأقوال في التاريخ.

فقد كان يود لو أن رسول الله استخلفه من بعده، ولكنه لم يطلب إليه ذلك … ولا رأى من الحكمة أن يطلبه إليه، قال له ابن عباس ورسول الله في مرض الوفاة: «اذهب إلى رسول الله، فسله فيمن يكون هذا الأمر … فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا؟» … قال: «والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدًا والله لا أسألها رسول الله أبدًا» …

وآمن الإمام بحكمة الرسول إيمان محبة وتصديق، ولكنه لم يفارق الدنيا حتى كان قد آمن بها إيمان تعليم وتطبيق، فلما سألوه: «أنبايع الحسن؟» قال: «لا آمركم ولا أنهاكم.» فأنصف الذين سبقوه ولم يفرضوا على الناس استخلافه؛ لأنهم رأوا في موقفه منها مثل ما رأوا في موقف الحسن ابنه، على حكم سواء …

•••

أي ختام أشبه بهذا الشهيد المنصف من هذا الختام …

لقد ولد كما علمنا في الكعبة، وضرب كما علمنا في المسجد … فأية بداية ونهاية أشبه بالحياة، التي بينهما من تلك البداية وتلك النهاية؟! …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤