تمهيد

اعتزمتُ في الأصل تأليف كتاب مختلف تمامًا، وقد لاحت أول فرصة لتأليف هذا الكتاب وأنا ما زلتُ طالبًا في كلية الحقوق بعد انتخابي أولَ رئيسٍ أسودَ لمجلة «هارفارد لو ريفيو»، وهي مجلة قانونية غير معروفة إلى حدٍّ بعيد خارج الوسط القانوني. وتبِع انتخابي هذا موجةٌ مفاجئة من الشهرة حيث نُشِرت عدة مقالات في الصحف التي شهدت للمكانة المتميزة لكلية الحقوق بجامعة هارفارد في المعتقدات الأمريكية، وكذلك توقُ أمريكا الشديد لأيةِ إشارةٍ تدعو إلى التفاؤل على جبهة العنصرية؛ أي دليل بسيط على أن هناك تقدُّمًا أُحرِز، أكثر من شهادتها لإنجازاتي المتواضعة. واتصل بي بضعةُ ناشِرين ووافقتُ، وأنا أتخيَّل أن لديَّ شيئًا جديدًا يمكن أن أقوله عن الوضع الراهن للعلاقات العنصرية، أن أقتطع عامًا بعد التخرُّج وأنقل أفكاري إلى الورق.

وفي ذلك العام الأخير من الدراسة في كلية الحقوق بدأتُ أرتِّبُ في ذهني، بثقة مخيفة، كيف سيسير العمل في الكتاب بالضبط: مقال عن قصور قضايا الحقوق المدنية في تحقيق المساواة العنصرية، وأفكار عن معنى المجتمع وإصلاح الحياة العامة عن طريق القاعدة الشعبية من المجتمع التي تحتاج إلى تنظيم، وأفكار عن سياسة التمييز الإيجابي ومركزية أفريقيا، وملأت قائمةُ الموضوعات صفحةً كاملة. وكنتُ سأُضيف بالطبع بعضَ النوادر الشخصية وأحلِّل أسبابَ المشاعر التي تنتابني بصورةٍ مُتكررة. ولم يكن الأمر بصفةٍ عامة إلا رحلة فكرية كاملة تخيلتُها لنفسي، بالخرائط ونقاط التوقُّف ووضع خطِّ السير الدقيق، اعتزمتُ أن ينتهي الجزء الأول في مارس وأن أُرسِل الجزء الثاني للمراجعة في أغسطس …

ومع ذلك فعندما جلستُ وبدأت أكتب وجدتُ عقلي ينجرف إلى شواطئ أكثرَ اضطرابًا. فقفزت مشاعرُ اشتياقٍ قديمة لتجتاح قلبي، وظهرت أصواتٌ بعيدة وخفتت، ثم عادت لتظهر مرةً أخرى. تذكرتُ القصص التي كانت أمي ووالداها يقصونها عليَّ وأنا طفل، قصص عائلة تحاول تفسير نفسها. وتذكَّرت عامي الأول كمنظمٍ للمجتمع الأهلي في شيكاغو، وخطواتي المتعثرة تجاه مرحلة البلوغ. وسمعتُ صوتَ جَدتي وهي تجلس أسفل شجرة مانجو تُضفِّر شَعر أختي وتصفُ لي الأب الذي لم أعرفه حقَّ المعرفة قط.

ومقارنةً بذلك الفيضان من الذكريات، بدت جميع نظرياتي المرتَّبة واهيةً وغير ناضجة. ومع ذلك ظللتُ أُقاوم بشدةٍ فكرةَ عرض ماضيَّ على صفحات كتاب، ذلك الماضي الذي جعلني أشعر أني عارٍ، بل أشعر بالخزي بعض الشيء. ليس لأن ذلك الماضي مؤلم للغاية أو غير لائق؛ بل لأنه يخاطب تلك الجوانب من ذاتي التي تقاوم الاختيارَ الواعي والتي تناقض — على الأقل ظاهريًّا — العالَم الذي أعيش فيه الآن. وعلى أية حال أنا الآن في الثالثة والثلاثين من عمري أعمل محاميًا نشطًا في الحياة الاجتماعية والسياسية في شيكاغو، المدينة التي اعتادت جراحَها العنصرية وتفتخر للغاية بافتقادها العاطفة. فإذا كنتُ قادرًا على مقاومة اليأس والشك فإنني مع ذلك أحبُّ أن أرى نفسي حكيمًا في الحُكم على العالَم وحريصًا على ألا أتوقَّع الكثير.

ومع ذلك فإن أكثرَ ما يُدهشني عندما أفكِّر في قصة عائلتي هي تلك السلسلة الممتدة من البراءة؛ براءة تبدو مستحيلةً حتى بمقاييس الطفولة. لكن أحد أقرباء زوجتي فقدَ هذه البراءة بالفعل وهو لا يزال في السادسة من عمره؛ إذ أخبر أبوَيه قبل بضعة أسابيع أن بعض زملائه في الصف الأول رفضوا اللعب معه لأن بشرته سوداء حالكة. ومن الواضح أن أبويه — اللذين وُلِدا وترعرعا في مدينتَي شيكاغو وجاري — قد فقدا براءتهما قبل ذلك بوقتٍ طويل، ومع أنهما لم يُظهِرا استياءهما — فكلاهما يتمتَّع بالقدْر نفسِه من القوة والفخر وسَعة الحيلة مثل كل الآباء الذين أعرفهم — فإن المرء يسمع نبرةَ الألم التي تتردَّد في صوتيهما وهما يعيدان النظرَ في فكرة انتقالهما من المدينة إلى ضاحيةٍ معظمُ قاطنيها من البِيض، وقد انتقلا لحمايةِ ابنهما من احتمالِ أن يقع ضحيةَ تبادلٍ لإطلاق النيران بين العصابات، ولثقتهما بأنه سيتلقَّى تعليمَه في مدرسةٍ لا تحظى بالتمويل المادي الكافي مما يجعلها متواضعةَ المستوى.

إنهما يعرفان الكثير؛ فقد رأينا جميعًا الكثيرَ، ولنأخذ قصةَ زواجِ والديَّ القصيرِ — رجل أسود وسيدة بيضاء، أفريقي وأمريكية — دليلًا على ذلك. ونتيجة لذلك الاقترانِ يجد بعض الناس صعوبةً في تقبُّلي. فعندما يكتشف البعض ممن لا يعرفونني معرفةً وثيقة — البِيض أو السود على حدٍّ سواء — قصةَ عائلتي (وعادة ما يكون هذا اكتشافًا بحقٍّ؛ إذ إنني توقَّفت عن إعلان عِرق أمي وأنا في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري عندما بدأتُ أشكُّ أن في هذا تودُّدًا وتملقًا للبيض)، أرى التغيير الذي يستغرق جزءًا من الثانية الذي عليهم أن يقوموا به، وبحثهم في عينيَّ عن أية إشارةٍ لكشف مكنون نفسي. إنهم لم يعودوا يعرفون مَن أنا، وأظن أنهم يفكِّرون في أنفسهم في قلبي المضطرب والدم الخليط والروح الممزقة والصورة المخيفة للإنسان الخليط البائس المولود من أبٍ زنجي وأم بيضاء الذي يقع أسيرًا بين عالمَين. وإذا كنتُ أنوي أن أقول لهم لا، المأساةُ ليست مأساتي، أو على الأقل ليست مأساتي وحدي، إنها مأساتكم يا أبناء صخرة بلايموث وجزيرة إيليس، إنها مأساتكم يا أطفال أفريقيا، إنها مأساة قريب زوجتي ذي السنوات الست وزملائه البِيض في السنة الأولى، ومن ثَم فإنكم لستم بحاجةٍ لأن تتخيَّلوا ما يُكدِّر حياتي؛ فإنه يظهر في النشرة المسائية ليراه الجميع، وإننا إذا كان بإمكاننا الاعترافُ على الأقل فإن الدائرة المأسوية ستبدأ في الانكسار … حسنًا، أظن أنني أبدو شديد السذاجة، أتمسك بآمالٍ ضائعة مثل أولئك الشيوعيين الذين يروِّجون صحفَهم على أطرافِ كثيرٍ من المدن الجامعية، أو الأسوأ من هذا، أبدو وكأني أحاول الاختباء من نفسي.

لا أستطيع انتقاد شكوك الناس. فقد تعلمتُ منذ وقتٍ طويل أن أرتابَ في طفولتي والقصص التي شكَّلتها. ولم أستطِع أن ألتفتَ وأُقيِّم هذه القصص القديمة لنفسي إلا بعد مرور سنواتٍ كثيرة، بعد أن جلستُ على قبرِ أبي وتحدَّثت إليه عبر تربةِ أفريقيا الحمراء. أو كي أكونَ أكثرَ دقة، حينها فقط فهمت أنني قضيتُ جزءًا كبيرًا من حياتي أحاول أن أعيدَ كتابة هذه القصص وأن أسدَّ الثغرات في القصة، وأن أتكيَّف مع التفاصيل غير المحبَّبة، وأن أُسلِّط الضوءَ على الخيارات الفردية في مواجهةِ الانجراف الأعمى للتاريخ، كلُّ هذا على أملِ أن أستخرج لوحًا صلبًا من الحقيقة يمكن أن يقفَ عليه أولادي — الذين لم يُولَدوا بعد — بأقدامٍ ثابتة.

ثم في مرحلةٍ ما، ومع الرغبة القوية في أن أحمي نفسي من التدقيق المفرط، ومع الحافز الذي كان يدفعني من حينٍ لآخر إلى أن أترك المشروعَ بأكمله، فإن ما وجد طريقَه إلى هذه الصفحات هو سجِلٌّ لرحلةٍ شخصية داخلية، رحلةِ بحثِ صبيٍّ عن والده، ومن خلال ذلك البحث يجد معنًى عمليًّا لحياته كأمريكي أسود البشرة. وكانت النتيجة سيرة ذاتية، مع أنه كلما سألني أحدٌ على مدار تلك السنوات الثلاث الأخيرة عن موضوع الكتاب، كنتُ عادةً أتجنَّب استخدام هذا الوصف. فالسيرة الذاتية تَعِدُ بالحديث عن إنجازاتٍ جديرةٍ بأن تُسجَّل، وأحاديث مع مشاهير، ودور محوري في أحداثٍ مُهمة. ولا يُوجَد شيء من هذا في الكتاب. أو على الأقل، تعني السيرةُ الذاتية ضمنًا أنها مُلخَّص أو نهاية محدَّدة وهو ما لا يناسب شخصًا في مثل عمري لا يزال مُنشغلَ الذهن برسمِ الطريق الذي سيسلكه في العالم. إنني حتى لا أستطيع أن أعتبر تجربتي تمثِّل تجربة الأمريكيين السود (كما أوضح لي ناشرٌ من مانهاتن: «فرغم كل شيء، إنك لا تنتمي إلى خلفية محرومة ومعدمة») وفي الواقع فإن تعلُّم قبول تلك الحقيقة بالذات — أنني يمكنني معانقةُ إخوتي وأخواتي السود، سواء في هذا البلد أو في أفريقيا، والتأكيد على وجودِ مصيرٍ مشترَك دون أن أتظاهر بالتحدُّث إلى، أو عن، جميعِ صراعاتنا المختلفة — جزءٌ مما يدور حوله هذا الكتاب.

وفي النهاية هناك المخاطر المتأصِّلة في تأليف أية سيرةٍ ذاتية؛ إغراء أن يلوِّن المؤلِّفُ الأحداث بالطريقة التي يُفضِّلها هو، والنزعة للمبالغة في تقديرِ أهمية تجربةِ الفرد للآخرين، وزلات الذاكرة المتعمَّدة. وتتعاظم مثل هذه المخاطر عندما يفتقر الكاتبُ إلى الحكمة التي يكتسِبها المرء بتقدُّم العمر؛ أي المسافة التي يمكن أن تداوي المرء من تفاهاتٍ بعينِها. ولا يمكنني أن أقول إنني تجنَّبتُ كلَّ هذه المخاطر بنجاح، أو أيًّا منها. ومع أن جزءًا كبيرًا من هذا الكتاب يعتمد على تسجيلٍ متزامنٍ للأحداث أو التاريخ الشفهي لعائلتي فإن الحوار تقريب ضروري لما قيل بالفعل أو ما رُوي لي. وبدافع الاختصار فإن بعض الشخصيات التي ظهرت ما هي إلا مُركَّب من أناسٍ عرفتُهم، وبعض الأحداث تظهر خارج الترتيب الزمني الدقيق لها. وباستثناء عائلتي وحفنة من الشخصيات العامة، فإن أسماءَ معظم الشخصيات قد غُيِّرَت للحفاظ على الخصوصية.

ومهما كان الوصفُ الذي سيلتصق بهذا الكتاب؛ سيرةً ذاتية أم مذكراتٍ أم تاريخَ أسرةٍ أم شيئًا آخر، فإن ما حاولتُ أن أفعله هو كتابة سردٍ صادقٍ لجزء مُحدَّد من حياتي. وعندما شردْتُ بذهني استعنتُ بوكيلةِ أعمالي جين ديستل لإخلاصها وصلابتها، وبالمحرِّر هنري فيريس لتصحيحاته التي يُقدِّمها بأسلوبٍ لطيف لكن حازم، وبروث فيسيش وفريق العمل في شركة تايمز بوكس لحماسهم واهتمامهم بالاعتناء بالنص في مراحله المختلفة، وبأصدقائي، ولا سيما روبرت فيشر، لقراءتهم الكريمة للنص، وبزوجتي الرائعة ميشيل لخفةِ ظلِّها ورِقَّتها وصراحتها وقدرتِها على دفعي للأمام.

لكنني أَدين بعميق الفضل لعائلتي، أُمي وجَدي وجدتي وإخوتي المنتشِرين عبر المحيطات والقارات، وإليهم أهدي هذا الكتاب. فمن دون حبهم ودعمِهم المستمرَّين، ومن دون استعدادهم لأن يتركوني أتحدَّث بلسانهم وتسامُحهم مع ما أقعُ فيه من أخطاءٍ بين الحين والآخر، لم يكن بإمكاني حتى أن آمُل أن أنتهي من الكتاب. وأتمنَّى أن يسطعَ الحب والاحترام، إذا لم يكن شيء آخر، اللذان أشعرُ بهما تجاههم على كلِّ صفحةٍ من صفحات هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤