الفصل العاشر

جاء فصل الشتاء وصُبِغت المدينة بمزيجٍ من الألوان؛ حيث الأشجار السوداء تحت السماء الرمادية فوق الأرض البيضاء. وأصبح الليل يُسدِل ستائره مبكرًا وقتَ الأصيل خاصةً عندما تهبُّ العواصف الثلجية؛ تلك العواصف الهائلة اللانهائية التي تُقرِّب المسافة بين السماء والأرض، فتنعكس أضواء المدينة على السُّحب.

كان العمل أشدَّ قسوةً في مثل هذا الطقس. كانت أكوام الثلوج البيضاء تدخُل عبر فتحات سيارتي إلى أسفل ياقتي وخلال فتحات مِعطفي. وفي جولاتي لإجراء المقابلات الشخصية لم أقضِ إطلاقًا وقتًا كافيًا في مكانٍ واحدٍ حتى أستطيع الاستمتاع بالدفء كما ينبغي، بالإضافة إلى أن أماكن انتظار السيارات أصبحت نادرة في الشوارع التي ضيَّقتها الثلوج، وأصبح لكلِّ شخصٍ فيما يبدو قصة يُسدي من خلالها النصائح بشأن المشاجرات التي تنشب بسبب أماكن انتظار السيارات بعد هبوب العواصف الثلجية الكثيفة، وما ينتُج عن هذه المشاجرات من معاركَ عنيفة أو حوادث إطلاق النيران. أصبح حضور الاجتماعات في المساء غيرَ مُنتظم بصورةٍ أكبر؛ حيث كان الناس يتصلون بالهاتف في اللحظات الأخيرة ليقولوا إنهم أُصيبوا بالأنفلونزا أو إن سياراتهم لا تعمل، أما مَن كانوا يحضرون الاجتماعات فيحضرون والبلل على ملابسهم ويبدو عليهم الامتعاض. وفي بعض الأحيان — وأنا أقود سيارتي في طريقي للعودة إلى المنزل بعد هذه الاجتماعات المسائية بينما عواصف الرياح الشمالية تهز سيارتي عبر حواجز الطرق الضيقة — كنتُ أنسى للحظةٍ أين كنتُ وكانت أفكاري وقتئذٍ انعكاسًا للصمت.

اقترح مارتي أن أستقطِع لنفسي وقتًا أطول بعيدًا عن أعباء الوظيفة. وكانت اهتماماته عمليةً وأوضح أنه:

دون الحصول على بعض الدعم الشخصي خارج نطاق العمل يفقد المنظِّم رؤيته، وسرعان ما يتوقَّف عن العمل كما ينبغي. في الواقع كان هناك منطق صحيح فيما قاله؛ فالناس الذين قابلتُهم وأنا في هذه الوظيفة كانوا بصفةٍ عامة أكبر منِّي سنًّا بكثير، وكانت لهم اهتماماتٌ ومطالب أقامت سدودًا منيعةً بيني وبين صداقتهم. وعندما لم يكن لديَّ عمل في إجازات نهاية الأسبوع كنتُ في العادة أقضي هذه الإجازات وحيدًا في شقةٍ لا يقطنها غيري، وما من أنيس يُجالسني إلا الكتب فحسب.

لم ألتفت إلى نصيحة مارتي، وربما كان ذلك بسبب أنه كلما كانت الروابط بيني وبين القيادة تزداد قوة أجدهم يُقدِّمون لي أكثرَ من مجرد الصداقة. فبعد الاجتماعات كان من الممكن أن أخرج مع أحد الرجال إلى إحدى الحانات المحلية لمشاهدة الأخبار أو الاستماع إلى الأغاني القديمة مثل أغاني فرقة «تيمبتيشن» وفرقة «أو جايز» التي كانت تُذاع من خلال جهاز فونغراف آلي يعمل بالعملة موضوع في أحد الأركان ويصدِر صوتًا رنانًا. وفي أيام الآحاد كنت أزور الكنائس لأداء الطقوس الدينية المختلفة، والسماح للسيدات بالاستهزاء بي بسبب خلطي بين العَشاء الرباني والصلاة. وفي إحدى حفلات الكريسماس في الجاردنز رقصتُ مع أنجيلا ومُنى وشيرلي أسفل كرةٍ عكست أضواءً دائرية مُتلألئة في الغرفة، وتبادلتُ الحديث عن الأخبار الرياضية مع أزواجٍ اشتركوا في الحديث على مضض ونحن نتناول فطائر جبن رديئة المذاق وشرائح اللحم، وتشاورتُ مع أبناء وبنات بخصوص طلبات التقديم إلى الجامعة، ولعبتُ مع أحفادٍ كانوا يجلسون على ركبتي.

بدأتُ خلال هذه الفترات — التي أذابت فيها الألفة والإعياء الشديد الحواجزَ بين المنظِّم والقائد — فَهم ما كان يعنيه مارتي عندما أصرَّ على أن أنتقل إلى مراكز حياة الناس. إنني أتذكَّر على سبيل المثال الجلوس في مطبخ السيدة كرينشو بعد ظهر أحد الأيام وأنا أتناول الكعك المحروق الذي كانت تضغط عليَّ لتناوله في كل مرةٍ أزورها. كان الوقت قد تأخَّر، وبدأ سبب زيارتي يُصبح غامضًا، فطرأتْ على بالي فكرة أن أسألها عن سبب استمرارها في الاشتراك في جمعية الآباء والمعلِّمين مع أن أطفالها قد كبِروا منذ فترة طويلة. بدأت هذه السيدة تُخبرني بعد أن دفعتْ كرسيَّها بالقُرب من كرسيي سريعًا عن نشأتها في ولاية تينيسي، وكيف أُجبِرَتْ على أن تترك التعليم لأن عائلتها لم تستطِع تحمُّل تكاليف سوى ابنٍ واحد فقط في الجامعة، وهو أخوها الذي مات بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية. أما هي فقضت هي وزوجها سنواتٍ من العمل في أحد المصانع — كما قالت — للتأكد من أن ابنهما لن يُضطر إلى أن يترك تعليمه على الإطلاق؛ ولذا استمر في التعليم إلى أن حصل على شهادة التخرُّج في كلية الحقوق من جامعة ييل.

اعتقدتُ وقتَها أنها قصةٌ سهلة الفهْم؛ قصة عن تضحية جيل، وتبرير لمعتقدات أُسرة. إلا أنني عندما سألتُ السيدة كرينشو عما يفعل ابنها هذه الأيام، أخبرتني بأن الأطباء منذ بضع سنوات شخَّصوا حالته على أنها انفصامٌ في الشخصية، وأنه يقضي وقته الآن في قراءة الجرائد في غرفته خائفًا من ترْك المنزل. وفي أثناء تحدُّثها لم يرتعِد صوتها؛ فقد كان صوت إنسانة استخلصت من المأساة معنًى أكبر.

وأتذكَّر تلك المرة التي كنت أجلس فيها في غرفةٍ في الدور السُّفلي في كنيسة سانت هيلينا مع السيدة ستيفينز في انتظار بدء أحد الاجتماعات. ولم أكن أعرف السيدة ستيفينز معرفةً وثيقة، فلم أكن أعرف سوى أنها كانت مُهتمةً بإصلاح وتحديث المستشفى المحلي. وبينما كنا نتحدَّث في الأمور العامة سألتُها عن سبب اهتمامها الشديد بتحسين الرعاية الصحية في المنطقةِ ما دامت عائلتها في حالةٍ صحية طيبة. فأخبرتني أنها أوشكت أن تفقد بصرها وهي في العشرينيات من عمرها من جراء الإصابة بالمياه البيضاء. وكانت عندئذٍ تعمل سكرتيرة، ومع أن حالتها كانت قد ازدادت سوءًا وأعلن طبيبها أنها أصبحت عمياء رسميًّا فقد أخفت مرضها عن رئيسها في العمل خوفًا من الاستغناء عنها. ويومًا بعد يوم كانت تتسلل إلى دورة المياه لتقرأ بعدسةٍ مكبِّرة المذكرات التي يطلبها منها رئيسها في العمل، وتحفظ كلَّ سطرٍ فيها عن ظهر قلبٍ قبل أن تعود لمكتبها لكتابته على الآلة الكاتبة، وتظل في المكتب لمدةٍ طويلة بعد ذهاب الآخرين لإنهاء التقارير المفترَض أن تكون جاهزة في صباح اليوم التالي. وبهذه الطريقة حفظت السيدة سرَّها لما يقرُب من عام إلى أن وفَّرت مبلغًا كافيًا من المال لإجراء عملية لعلاج عينها.

وأتذكَّر أيضًا السيد مارشال، وهو رجل أعزب في أوائل الثلاثينيات من عمره يعمل سائقَ حافلة في شركة ترانزيت للنقل الجماعي. لم تكن صفات القيادة تنطبق بالضبط على مارشال — لم يكن لدَيه أطفال وكان يعيش في شقة — ولذا تعجَّبتُ من سبب اهتمامه الشديد بالإسهام بشكلٍ إيجابي في قضية تعاطي المراهقين للمخدرات. وعندما عرضتُ عليه أن أُوصله بسيارتي ذات يوم ليُحضِر سيارته التي تركها في ورشة الإصلاح، طرحتُ عليه هذا السؤال. فأخبرني عن أحلام والده بتحقيق الثروة في مدينةٍ بعيدة في أركانساس، وكيف تعثَّرت مشاريع والده التجارية، وتعرُّضه للغش على يد رجالٍ آخرين، وكيف اتجه والده إلى القمار وشُرْب الخمور وفقدانه لمنزله ولعائلته، وكيف عُثر عليه في النهاية ميتًا في حفرةٍ بعد أن تسبَّب التقيؤ الناتج عن إفراطه في الشراب في وفاته.

كان هذا هو الدرس الذي تعلمته من القيادة يومًا بعد يوم، وهو أن الاهتمام الشخصي الذي كنتُ من المفترض أن أسعى إليه امتدَّ ليتجاوز أهمية القضايا، وأن الناس يحملون بداخلهم تفسيرات رئيسية لسلوكياتهم تظهر في الأحاديث المشتركة عن أمورٍ عامة وفي سَيْر حياتهم غيرِ المفصلة وفي آرائهم المختلفة. إنها قصص مليئة بالرعب والدهشة ومُرصَّعة بأحداثٍ لا تزال تسيطر عليهم أو تُلهمهم. يا لها من قصصٍ مُقدَّسة!

كان هذا الإدراك — في اعتقادي — هو الذي سمح لي في النهاية بأن أُشارك مَن كنتُ أعمل معهم الكثير من ذكرياتي، وساعدني أيضًا على هدْم جدار العزلة الذي حملتُه معي عندما جئتُ إلى شيكاغو. في بادئ الأمر كنتُ مُترددًا خوفًا من أن تكون حياتي السابقة غريبة للغاية على مدارك الجانب الجنوبي، وأن تتسبَّب إلى حدٍّ ما في إفساد تقديرهم لي. على أن ما كان يحدث عندما كان الناس يستمعون إلى القصص التي كنتُ أرويها عن جَدتي أو لولو أو أُمي وأبي، أو حكاياتي عن الطائرات الورقية في جاكرتا أو الذهاب إلى الحفلات الراقصة في أكاديمية بوناهو، هو أنهم كانوا يُومِئون برءوسهم أو يهزُّون أكتافهم أو يضحكون، مُتعجِّبين من كيف يمكن أن ينتهيَ الحال بشخصٍ لدَيه خلفية مثل خلفيتي — كما قالت مُنى — بأن يُصبح «ريفيًّا للغاية»، إلا أن ما تسبَّب في قدرٍ أكبر من الحيرة لهم هو لماذا يمكن أن يختار شخصٌ بمحض إرادته قضاء فصل الشتاء في شيكاغو في الوقت الذي بوسعه الاستمتاع بدفء أشعة الشمس على شاطئ وايكيكي. وبعد أن أروي لهم حكاياتي كانوا يُلقون على مسامعي قصصًا تماثِل قصصي أو تُفنِّدها بهدف ربط خِبراتنا معًا؛ قصصًا عن الأب الغائب، وتجارب المراهقة السيئة مع الجريمة، والقلب الهائم، ولحظات السمو. وبمرور الوقت وجدتُ أن هذه القصص — إذا ما جرى النظر إليها كوحدةٍ واحدة — ساعدتني في أن أجمع شتات عالمي، وأنها منحتني المعنى الذي كنتُ أبحث عنه للمكان والهدف. كان مارتي مُحقًّا عندما قال إنه يُوجَد دائمًا مجتمعٌ إذا بحثنا عنه أكثرَ في الأعماق. لكنه كان على خطأ في توصيف العمل. وكان بالأمر نوع من الشِّعر أيضًا؛ فقد كان هناك عالَم لامع مُضيء كامنٌ تحت السطح، عالم ربما قدَّمه الناس إليَّ كهدية إذا ما طلبت ذلك.

•••

وأنا لا أقصد أن كل شيءٍ تعلَّمته من القادة أسعدَ قلبي. فمع أنهم أظهروا قوَّة في الشخصية لم أتخيلها قط فإنهم أجبروني أيضًا على الاعتراف بالقوى غير المعلنة التي أعاقت مجهوداتنا، والأسرار التي أخفاها بعضنا عن بعض، بل أخفيناها عن أنفسنا أيضًا.

كذلك كان الحال مع روبي مثلًا. فبعد اجتماعنا الذي باء بالفشل مع قائد الشرطة انتابني القلق من أنها قد تبتعِد عن مجال التنظيم. لكن ما حدث هو أنها ركَّزت بغير تردُّد على المشروع، وعملت بجِدٍّ لتكوين شبكة من الجيران يمكن الاستفادة منها بصفةٍ منتظمة في المناسبات التي نُنظِّمها، وابتكرت أفكارًا يمكن استخدامها في تسجيل الناخِبين أو التعاون مع أولياء أمور طلبة المدارس. باختصار، كانت روبي تمتلك جميع الصفات التي يتمنَّاها أي مُنظم؛ كانت إنسانة تتمتَّع بموهبةٍ غير مُستغلة وذكية ويُعتمَد عليها، وأعجبتها فكرة الحياة العامة، وكانت تتوق للتعلُّم. كنتُ أحبُّ ابنها كايل الصغير. كان عندئذٍ قد بلغ ١٤ عامًا، كنتُ أرى في سرعةِ تقلُّبِ هذا الفتى الشكلَ العام لكِفاحي إبَّان شبابي؛ ففي لحظةٍ ما كان يفيض بالطاقة والحيوية ويظلُّ يصطدم بي أثناء لعبنا كرةَ السلة في الحديقة العامة في المنطقة، ثم في اللحظة التالية مباشرة يُصبح ضجِرًا ومُتجهِّم الوجه. وفي بعض الأحايين كانت روبي تسألني عنه وهي في حالةٍ من الغضب عندما يصِلها تقرير من المدرسة يقول إن مستواه الدراسي مُتوسط، أو عندما يُصاب بجرح في ذقنه، كانت في حالة من الارتباك والحيرة بشأنِ عِنْدِ ولدِها وعقله الجامح.

وكانت تقول لي: «قال لي في الأسبوع الماضي إنه سيُصبح أحد فناني موسيقى الراب.» والآن يقول إنه سيلتحق بأكاديمية الدفاع الجوي ليُصبح طيارًا عسكريًّا. وعندما أسأله عن السبب يقول لي ببساطة: «حتى أطير.» كما لو كنتُ حمقاء. أُقسِم لك يا باراك أنني في بعض الأحيان لا أعرف إن كنتُ أعانقه أم أُعاقبه بالضرب.»

وكنتُ أقول لها: «افعلي كليهما.»

قبل الكريسماس بيومٍ واحدٍ طلبتُ من روبي أن تحضُر إلى مكتبي حتى أُعطيها هديةً لكايل. وعندما دخلتِ المكتبَ كنتُ أتحدَّث في الهاتف، وعندما نظرتُ إليها بطرَفِ عيني ظننتُ أنني رأيتُ فيها شيئًا مختلفًا، لكنني لم أستطِع أن أُحدِّده. ولم أُدرك أن عينَيها — الدافئتَين البنيتَي اللون الغامقتَين اللتين كانتا مُتماشيتَين مع لون بشرتها — تحوَّلتا إلى ظلٍّ أزرق غير شفاف، كما لو أن أحدًا لصق زرَّين بلاستيكِيَّين أعلى قُزحِيَّتَي عينَيها، إلا بعدما أغلقتُ سماعة الهاتف واتجهَتْ هي نحوي. سألتني عما إذا كان هناك أمر سيئ.

قلت لها: «ماذا فعلتِ بعينَيكِ؟»

«آه، هذه؟» هزَّت روبي رأسها وضحكت. قالت: إنها عدسات لاصقة يا باراك. إن الشركة التي أعمل فيها تصنع عدسات التجميل اللاصقة وهم يمنحونها لي بخصم. هل تُعجبك؟»

«كانت عيناك جميلتَين في الأصل.»

قالت وهي تنظر لأسفل: «أرتديهما على سبيل التسلية فقط.» وتابعت: «ليس إلا للشعور بالاختلاف.»

وقفتُ عند هذا الحد دون أن أعرف ماذا أقول. وفي النهاية تذكَّرتُ هدية كايل وأعطيتُها إيَّاها. وقلت: «هذا لكايل.» وتابعتُ: «إنه كتاب عن الطائرات … اعتقدتُ أنه سيُحِب قراءته.»

أومأت روبي برأسها ووضعتِ الكتاب داخل حقيبتها. وقالت: «هذا لُطف منك يا باراك. إنني متأكدة من أنه سيُحِبُّ قراءته بالفعل.» بعد ذلك وقفَتْ على نحوٍ مفاجئ وهندمت جونلَّتها. وقالت وهي تُسرع تجاه الباب: «حسنًا، من الأفضل أن أذهب الآن.»

فكَّرتُ في عينَي روبي سائرَ اليوم واليوم الذي تلاه. وقلتُ لنفسي إنني لم أتصرَّف بصورة ملائمة معها، وجعلتُها تشعر بالخجل من استخدام شيءٍ يجعلها تُعجَب بنفسها في حياةٍ لا تُتيح سوى القليل من هذه الأشياء. أدركتُ أنَّ جزءًا منِّي توقَّع منها ومن القادة الآخرين أن يمتلكوا نوعًا من المناعة ضد وابل الصور التي تُغذِّي الشعور بعدم الثقة لدى كل مواطنٍ أمريكي؛ مثل صور عارضات الأزياء النحيفات في مجلات الموضة، أو صور الرجال ذوي الفكوك المربَّعة في سياراتهم السريعة، تلك الصور التي كنتُ أنا شخصيًّا يمكن أن أتأثَّر بها وأسعى للحصول على الحماية منها. وعندما ذكرتُ هذا الموقف لصديقةٍ لي من ذوي البشرة السوداء وصفت المسألة على نحوٍ أكثر صراحة.

قالت صديقتي بسرعة: «ما الذي أدهشك؟» وتابعت: «هل أدهشك أن السود لا يزالون يكرهون أنفسهم؟»

أجبتُ عليها بالنفي وقلتُ لها إن ما شعرت به لم يكن دهشة. فمنذ اكتشافي الأول المخيف لكريمات تفتيح البشرة في مجلة «لايف» أصبحتُ معتادًا على مجموعة من مفردات الوعي باللون داخل مجتمع السود، مثل: الشَّعر الجميل أو الشَّعر الرديء، والشفاه الغليظة أو الشفاه النحيفة، وإن كنتَ من ذوي البشرة البيضاء فأنتَ من السعداء، أما إن كنتَ من ذوي البشرة السوداء فتراجع للوراء. في الجامعة كانت ميول الموضة لدى السُّود وموضوعات الاعتداد بالنفس التي تدل عليها الموضة من الموضوعات المتكرِّرة — إن لم تكن حسَّاسة — في محادثات السود، خاصةً بين الطالبات اللاتي كنَّ يبتسِمنَ بمرارة عند رؤيتهنَّ أحد الطلبة السُّود وهو دومًا يُواعد الفتيات ذوات البشرة الفاتحة، كما كنَّ يتعرَّضنَ بالنقد اللاذع لأي رجلٍ أسود كان به من الحمق ما يكفي لأن يجعله يُعلِّق على تسريحة شعر الفتيات السوداوات.

كنت في الغالب أصمتُ عند التطرُّق لمثل هذه الموضوعات، وكنتُ أُقيِّم بيني وبين نفسي مدى تأثُّري بها. لكنني لاحظت أن هذه المحادثات نادرًا ما كانت تُدار بين مجموعة كبيرة من الطلاب، ولم تكن تُطرح إطلاقًا أمام أيٍّ من الطلاب البِيض. أدركتُ بعد ذلك أنه في الجامعات التي فيها الطلبة البِيض هم السواد الأعظم تكون مكانة معظم الطلاب السود ضئيلةً للغاية، وتضطرب فيها هوياتنا فنعجز عن الاعتراف لأنفسنا بأن فخرنا بلوننا الأسود لا يزال ناقصًا. وحقيقة أننا يمكن أن نعترف للبِيض باضطرابنا وبالشكوك التي تساورنا، وأن نضع ما في عقولنا تحت اختبار أولئك الذين تسبَّبوا في هذا القدْر الكبير من الأذى في المقام الأول، هذه الحقيقة في واقع الأمر مُضحكة، وتُعبِّر في ذاتها عن كراهية الذات حيث لا يُوجَد سببٌ يدعو لتوقُّع أن ينظر البِيض إلى كفاحنا على أنه مرآة لما في أرواحهم، فضلًا عن كونه دليلًا أكبرَ على سلوكيات السُّود المتطرفة.

أعتقد أنه بعد ملاحظتي هذا الاختلافَ بين ما نتحدَّث عنه سرًّا وما نتحدَّث عنه علنًا تعلمتُ ألا أُفرِط في تصديق أولئك الذين يقولون إن اعتداد السود بأنفسهم هو علاجٌ لجميع مشكلاتهم مثل تعاطي المواد المخدِّرة، أو الحمل في مرحلة المراهقة، أو جريمة يكون طرفاها من السُّود. عند وصولي إلى شيكاغو، كانت عبارة الاعتداد بالنفس تتوارد على شفاهِ الجميع؛ النشطاء السياسيين والاجتماعيين، وضيوف البرامج الحوارية التليفزيونية والإذاعية، والمعلِّمين، وعلماء الاجتماع. كانت هذه العبارة جامعةً وبارعة في وصف آلامنا وأصبحت أيضًا طريقةً مقبولة للتحدُّث عن الأشياء التي كنَّا نحتفِظ بها لأنفسنا. لكن كلما حاولتُ التأكيد على فكرةِ الاعتداد بالنفس هذه والخصائص المُعينة التي كنا نأمُل ترسيخَها في الذهن والوسائل المُعينة التي ربما كنا نشعر من خلالها بالرضا عن النفس، كانت المحادثات تسلك طريقًا من التراجُع يبدو وكأنه لا نهايةَ له. وكانت الأسئلة التي تطرح نفسها هي: هل تكره نفسك بسبب لونك أم لأنك لا تستطيع القراءة أو الحصول على وظيفة؟ أو ربما بسبب أنك لم تكن محبوبًا في طفولتك لأن لون بشرتك كان شديدَ السواد؟ أو شديد البياض؟ أم لأن والدتك كانت تتعاطى الهيروين … تُرى لماذا كانت تتعاطى ذلك الشيء على أية حال؟ هل كنتَ تشعر بالحزن بسبب شَعرك المجعَّد أم لأن الشقَّة التي تقطن فيها ليست دافئةً أو مشتملة على أثاث جيد؟ أم لأنك كنتَ تتخيَّل في أعماقك أن الكون ليس له رب؟

ربما لم يستطِع أحدٌ تجنُّب هذه الأسئلة وهو يشقُّ طريقه نحو الخلاص الشخصي، وما شككتُ فيه هو أن كل هذا الحديث عن الاعتداد بالنفس يمكن أن يكون لُبَّ سياسةٍ فعالة للسُّود. يتطلَّب الاعتداد بالنفس من الناس الكثيرَ من الاعتماد الصادق على أنفسهم، فمن دون هذا الصدق يتدهور الأمر بسهولةٍ ليُصبح مجرد نصيحةٍ مبهمة. فكَّرتُ بيني وبين نفسي أن عدد السود الفقراء يمكن أن يتناقص عن طريق التحلي بالمزيد من الاعتداد بالنفس، غير أن الشكوك لم تُساورني في أن الفقر لم يؤثِّر على اعتدادنا بأنفسنا. ورأيتُ أنه من الأفضل التركيز على الأشياء التي ربما نتَّفِق عليها جميعًا. هذا مثل تعليم رجلٍ أسودَ بعضَ المهارات الملموسة ومنحه وظيفة. وتعليم طفل أسود كيفية القراءة والحساب في مدرسةٍ ذات مستوًى تعليمي مُتميز وآمنة. ورأيتُ أنه عند الاهتمام بالأساسيات يستطيع كلٌّ منا البحث عن معنى شعورنا بقيمة الذات.

غيَّرَت روبي اعتقاداتي تغييرًا جذريًّا، وهدمت الجدار الذي كنتُ قد أقمتُه بين مشاعر وسلوكيات السود والسياسة، بين مواردنا المالية وأرواحنا. وفي الواقع كان هذا الموقف بعينه المثالَ الأكثر أهميةً على ما كنتُ أسمعه وأراه يوميًّا. وها هو ذا قد عبَّر عنه أحد القادة السود عندما شرح لي أنه لم يلجأ مُطلقًا لشخصٍ أسود لأداء أي نوعٍ من الأعمال (لأن ذوي البشرة السوداء يُفسِدون الأمور وسينتهي بي الحال بالدفع إلى البِيض لعمل المهمة من جديد.) كما اتضح هذا المثال من الأسباب التي أوردتها قائدة أُخرى لعدم استطاعتها حشدَ أفرادٍ آخرين في كنيستها (إن السود مُتكاسلون ولا يُريدون فعل أي شيءٍ يا باراك.) في مثل هذه الملحوظات التي أبداها القادة كانت كلمة «زنجي» تحلُّ محلَّ كلمة «أسود» في المعتاد؛ تلك الكلمة التي كان يروق لي أن أُفكِّر في أنها تُقال على سبيل الدعابة، وأن هذه الدعابة قد ميزت مرونتنا كشعب. إلى أن سمعتُها لأول مرةٍ من أمٍّ شابة استخدمتها نعتًا لطفلها لإخباره بأنه عديم القيمة، ورأيتُ جماعة من الصبية في سن المراهقة يستخدمونها لجرح مشاعر أحدهم أثناء مشاجرةٍ سريعة بالألفاظ الجارحة. وبذلك لم يكن تغيير المعنى الأصلي للكلمة كاملًا على الإطلاق؛ فقد كنا نحن أول مَن ابتُلي ببلايا هذه الكلمة مثلما حدث مع الوسائل الدفاعية الأخرى التي استخدمناها لصدِّ جرحٍ مُحتمل.

إذا كانت لغة عوام الناس ومزاحهم وقصصهم أشياءَ اعتمدَت عليها العائلات والمجتمعات والاقتصاديات في بنائها، إذن فإنني لم أستطِع فصل تلك القوة عن الجرح والتشوُّهات التي استمرَّت بداخلنا. وأدركتُ أن أكثرَ ما أزعجني عندما نظرتُ إلى عينَي روبي هو تداعيات هذه الحقيقة. رأيت أن القصص التي اعتدتُ سماعها من القيادة وكل الحكايات المتواردة عن الشجاعة والتضحية والتغلُّب على الظروف الصعبة لم تحدث بسبب الطاعون أو القحط أو حتى مجرد الفقر. وإنما نبعت من تجربةٍ خاصة للغاية مع الكراهية. تلك الكراهية التي لم ترحَل عنا إطلاقًا، والتي شكَّلت قصصًا مُضادة — مدفونة في داخل أعماق كلِّ شخص — تتمحور حول البِيض الذين كانوا يَظهرون فيها أحيانًا قُساة القلوب وأحيانًا أخرى وهم يتَّصِفون بالجهل، وأحيانًا كانت هذه القصص تدور حول شخصٍ بعينه من البِيض وأحيانًا أخرى حول صورةٍ غيرِ مُحدَّدة لنظامٍ يدَّعي السيطرة على حياتنا. اضطُررتُ حينها إلى أن أسأل نفسي عما إذا كان من الممكن استعادة الروابط بين المجتمع دون أن يَطْرُد السُّود بصورة جماعية هذا الشكل المخيف الذي لازم أحلامَهم. تُرى هل كان يمكن أن تُحب روبي نفسها دون أن تكره العيون الزرقاء؟

•••

تعامل رفيق الشباز مع هذه القضايا بما يحقِّق رغباته الخاصة. ومع الوقت بدأتُ أراه بصورةٍ أكثر انتظامًا، وذات صباح بعد اجتماعٍ مع مكتب العمدة للتوظيف والتدريب بخصوص مشروع التنمية المحلية، اتصل بي وأخذ يتحدَّث سريعًا بخصوص مركز التوظيف الذي طالبنا به المدينة.

قال لي رفيق: «يجب أن نتحدَّث يا باراك.» وتابع: «إن كلَّ ما تحاولون فعله بخصوص التدريب الوظيفي يحتاج إلى أن يتلاءم مع خطة التنمية الشاملة العامة التي أعمل عليها. فلا يمكن التفكير في هذا الشيء بمعزلٍ عن الأمور الأخرى … يجب أن تنظروا للصورة بأكملها. فإنكم لا تفهمون القوى الموجودة هنا. إنها هائلة يا رجل. فالجميع هنا على استعداد لطعنِك من الخلف.»

«مَن هذا؟»

«رفيق. ما الخطْب، ألا يزال أمامك الكثير لتقوله؟»

نعم كان أمامه الكثير. طلبتُ منه أن ينتظر على الخط حتى أُحضِر لي فنجانًا من القهوة، وعندما عُدت طلبتُ منه أن يبدأ حديثه من جديد، لكن بصورةٍ أكثر بطئًا. وفي النهاية استنتجتُ أن رفيقًا كان لدَيه اهتمام بإقامة مركزٍ لخدمات مكتب العمدة للتوظيف والتدريب الذي كنا قد اقترحناه على المدينة في مبنًى مُعيَّن قريب من مكتبه في شارع ميشيجان. لكنني لم أسأل عن طبيعة هذا الاهتمام. إذ كنتُ أشكُّ في إمكانيةِ أن أحصل على إجابةٍ مباشِرة منه، وعلى أية حال تصوَّرتُ أننا ربما نستطيع الاستفادةَ منه كحليفٍ في سلسلة المفاوضات الصعبة مع السيدة ألفاريز. وفي هذا الصدد قلتُ إنه إذا كان المكتب الذي فكَّر فيه يفي بالمواصفات المطلوبة فسوف أكون مُستعدًّا لاقتراحه كأحد البدائل الممكنة.

وهكذا كوَّنتُ أنا ورفيق تحالفًا غير مُستقرٍّ لم يلقَ كثيرًا من استحسان قادة مشروع التنمية المحلية. كنتُ أفهم دواعي قلقِهم، فكلما جلسنا مع رفيقٍ لمناقشة استراتيجيتنا المشتركة قاطَعَ المناقشة وألقى على أسماعنا دروسًا عن المؤامرات السرية الجارية، وعن الشعب الأسود المستعد جميعه لخيانة أهله. كانت حيلةً فعَّالة من حِيَل المفاوضات، وكلما ارتفع صوته تدريجيًّا وانتفخت أوداجه لجأت أنجيلا وويل والآخرون فجأة إلى صمتٍ غريب، وهم يشاهدون رفيقًا كما لو كان في نوبة صرع. ولأكثر من مرةٍ كنتُ أُضطر إلى الاندفاع سريعًا والصياح في وجهه، ليس بصورةٍ غاضبة بقدْر ما كنتُ أحاول أن أجعله يُقلِّل من حدة انفعاله، وفي النهاية ترتسِم ابتسامة صغيرة أسفل شاربه ونستطيع بعدها العودة إلى العمل.

ومع ذلك فإنني عندما أُصبح بمفردي مع رفيقٍ كانت تدور بيننا في بعض الأحيان محادثات عادية. وبمرور الوقت انتهى بي المطاف إلى الإعجاب رغمًا عني بتصميمه وجُرأته وبإخلاصه لمفاهيمه الخاصة. أكَّد لي رفيق حقيقة أنه كان رئيسًا لإحدى العصابات وأنه تربَّى في ألتجيلد، وقال إنه اعتنق الإسلام بفضل زعيمٍ مُسلم محلي لا ينتمي إلى منظمة «أمة الإسلام» التي يرأسها الزعيم لويس فرقان. وأخبرني ذات يوم: «إن لم أعتنق الإسلام لأصبحتُ الآن في عداد الأموات.» وأضاف: «في الواقع كانت عندي اتجاهاتٌ هدَّامة. إذ تربيتُ في ألتجيلد وتجرَّعتُ كلَّ السموم التي كان البِيض يُرضعوننا إيَّاها. وكما ترى فإن مَن تعمل معهم يُعانون المشكلةَ نفسها، حتى إن لم يكونوا قد أدركوها بعد. إنهم يقضُون نصف حياتهم قلقِين مما يُفكِّر فيه البِيض. ويبدءون بتحميل أنفسهم مسئولية كل المساوئ التي يرَونها كلَّ يوم، مُعتقِدِين أنهم لن يستطيعوا تحسينَ أيِّ وضعٍ إلى أن يُقرِّر البِيض أنهم صالحون. إلا أنهم في أعماقهم يعرفون أنهم ليسوا صالحين. وهم يعرفون ماذا فعل هذا البلد في أُمهاتهم وآبائهم وأخواتهم. لذا فإن الحقيقة هي أنهم يكرهون البِيض، لكنهم لا يستطيعون الاعترافَ بذلك لأنفسهم. بل يكبحونه داخلَهم ويُحاربون أنفسهم. ويُهدرون كثيرًا من طاقتهم بهذه الطريقة.»

أكمل رفيق حديثه وقال: «سأُخبرك شيئًا يُعجبني في البِيض.» وتابع كلامه: «إنهم يعرفون مَن هم. انظر مثلًا إلى الإيطاليين. إنهم لا يهتمون بالعَلَم الأمريكي أو أي شيءٍ من هذا القبيل عندما يأتون إلى هنا. وأول شيءٍ يفعلونه هو إنشاء مافيا للتأكُّد من أن مصالحهم سوف تتحقَّق. وانظر إلى الأيرلندِيِّين الذين يتولون السلطة في مجلس المدينة ويحصلون لأبنائهم على الوظائف. والأمر نفسه ينطبق على اليهود … أتريد إخباري أنهم يهتمُّون بالأطفال السود في الجانب الجنوبي من شيكاغو أكثرَ من اهتمامهم بأقاربهم في إسرائيل؟ اللعنة، إن الأمر مُتعلِّق بقرابة الدم يا باراك. وكلٌّ يعتني بمن هو منه. قُضي الأمر. ويمكنني أن أقول لك إن السود هم بمفردهم مَن يتَّصِفون بذلك القدْر من الحمق الذي يجعلهم يهتمُّون بأمر أعدائهم.»

كانت تلك هي الحقيقة كما رآها رفيق؛ الحقيقة التي لم يهدِر طاقته في انتقادها وتفنيدها. كان رفيق يعيش في عالمٍ يُشبه عالم الفيلسوف توماس هوبز، وفي هذا العالم كان الشك حقيقةً مُسلَّمًا بها، وكان الولاء يبدأ من الأسرة ويمتدُّ إلى المسجد ثم إلى العِرق الأسود … ونتيجة لذلك لم يَعُد من الممكن تطبيق مفهوم الولاء. قدَّمت هذه النظرة المحدودة لرابطة الدم والقبيلة لرفيق وسيلةً لتركيز اهتمامه. وكان يُجادل بقوله إن احترام الذات لدى السود هو الذي منح العمدة منصبه حيث إن احترام الذات لديهم غيَّر حياةَ مُدمِني المخدِّرات في ظل تعاليم المسلمين. وكان التقدُّم في حوزتنا ما دُمنا لا نخون أنفسنا.

لكن ما الذي أدَّى إلى الخيانة بالضبط؟ منذ أن تعرَّفتُ على السيرة الذاتية لمالكولم إكس حاولتُ أن أفكَّ لُغز القومية السوداء، وجادلتُ بأن الرسالة الإيجابية للقومية — عن التضامن والاعتماد على النفس والنظام والمسئولية المشتركة — ليست في حاجةٍ إلى أن تكون مُعتمِدة على كراهية البِيض أكثرَ من اعتمادها على سماحتهم. وكنتُ أُحدِّث نفسي وأحدِّث أصدقائي السود بأننا بوسعِنا أن نُخبر هذا البلد عن مواطن الأخطاء، وكان هؤلاء الأصدقاء يستمعون إليَّ دون التوقُّف عن الإيمان بقدرة البلد على التغيُّر.

في تحدُّثي مع القومِيِّين المجاهرين بهويتهم القومية — من أمثال رفيق — اكتشفتُ كيف لعب الاتهام العام لكلِّ ما هو أبيض دورًا رئيسيًّا في رسالتهم عن الشعور بالأمل، وفي الطريقة التي أصبح يعتمِد فيها كل طرفٍ على الآخر على الأقل نفسيًّا. ذلك لأنه عندما يتحدَّث القومي عن إحياء القِيَم باعتباره الحلَّ الوحيد للتغلُّب على فقر السود، فإنه كان ينتقِد الجمهور الأسود من المستمِعين إليه نقدًا ضمنيًّا — إن لم يكن نقدًا صريحًا — بحجة أننا لسنا مُضطرِّين لأن نحيا بالطريقة التي حيينا بها. وما دام هناك أشخاصٌ استطاعوا استيعاب هذه الرسالة البسيطة واستخدامها لخلق حياةٍ جديدة لأنفسهم — هؤلاء الأشخاص الذين كانت لدَيهم الميول ذات المشاعر المتبلِّدة التي طالب بها «بوكر تاليافيرو واشنطن» أتباعَه ذات مرة — فإن هذا الحديث بدا في آذان العديد من السود وكأنه يُذكِّرهم بالتفسيرات التي دومًا ما كان يُقدِّمها البِيض كأسبابٍ لفقر السود؛ التفسيرات التي استمررنا نعاني بسببها، إن لم يكن من الشعور الموروث بالدونية، فإنه من الضَّعف الثقافي بعد ذلك. كانت رسالة تجاهَلَت السببية والأخطاء، رسالة خارج حدود التاريخ وتخلو من السيناريو أو الحبكة التي ربما تُصرُّ على تسلسل الأحداث. وفيما يتعلَّق بأناسٍ جُرِّدوا من تاريخهم ولا يملكون ما يؤهلهم لاستعادة هذا التاريخ بأي شكلٍ من أشكاله — بخلاف الشكل الذي يُرفرف على شاشات التليفزيون — فإن الدليل على ما كنا نراه يوميًّا كان يؤكد أسوأ شكوكنا في أنفسنا.

قدَّمت القومية هذا التاريخ في صورةِ قصةٍ أخلاقية واضحة كان من السهل تناقُلها وفهْمها. وكان الهجوم المعتاد على العِرق الأبيض والسرد المستمر للتجربة القاسية التي تعرَّض لها السود في هذا البلد هو عصا التوازُن التي استطاعت منْعَ أفكار المسئولية الشخصية والجماعية من إلقاء نفسها في بحرٍ من اليأس والإحباط. نعم، كان القوميون يقولون إن حالة السود المُزرية لم تحدث بسبب عيبٍ مُتأصِّل فيهم كسُود، بل تَسبَّب فيها البِيض. وفي الواقع فإن البِيض ليس لدَيهم مشاعر، بل مخادعون أيضًا لدرجةٍ تجعلنا لم نَعُد نتوقع أيَّ شيءٍ منهم. فشعورك بكراهيتك لذاتك — الذي يدفعك إلى الإفراط في شُرب الخمر أو إلى السرقة — غُرِس بداخلك على أيديهم. لذا اطردهم بعيدًا عن تفكيرك، وحرِّر قواك الحقيقية. أو كما تقول الأغنية: «انهض أيها العِرق الجبار.»

ساعدت عملية الاستبدال هذه — أي الاشتراك في انتقاد الذات في الوقت الذي نُبعِد فيه أنفسنا عن موضوع الانتقاد — في تفسير النجاح الباهر لمنظمة أُمة الإسلام في تغيير حياة مُدمِني المخدرات والمجرمين. على أنه إذا كانت قد تناسبت بصفةٍ خاصة مع هؤلاء الذين يعيشون في قاع المجتمع الأمريكي، فإنها خاطبت أيضًا جميع الشكوك المستمرة لذلك المحامي الذي سعى بكلِّ ما أوتي من قوة لتحقيق النجاح الباهر في حين كان يتعرَّض لصمت الناس جميعًا عند دخوله أماكنَ الاجتماعات، وطلاب الجامعة من الشباب الذين كانوا يُقدِّرون بحذرٍ المسافة بين أنفسهم وبين الحياة في شوارع شيكاغو المتدنِّية وهم يشعرون بالخطر الذي توحي به هذه المسافة، وجميع الأفراد السود الذين اتضح أنهم شاركوني صوتًا كان يهمس بداخلهم قائلًا لهم: «إنكم لا تنتمون إلى هذا المكان.»

إلى حدٍّ ما، كان رفيق مُحقًّا عندما أصرَّ على أن جميع السود كانوا في أعماقهم قومِيين. هذا في حين كان الغضب موجودًا باستمرار، بداخلهم، مُتراكمًا في أعماقهم. وعندما فكَّرتُ في روبي وعينَيها الزرقاوَين، وفي الصِّبية وهم ينادون بعضهم بعضًا بالزنجي وما هو أسوأ، تساءلتُ عما إذا كان رفيق — الآن على الأقل — مخطئًا في تفضيلِ إعادة توجيه هذا الغضب؛ أي هل كانت سياسة السود التي منعت الغضب من البِيض بصفةٍ عامة — أو فشلت في السمو بالولاء للعِرق عن كافة مستويات الولاء الأخرى — سياسةً غير ملائمة للمهمة.

كان من المؤلِم وضْع هذه الفكرة في الحسبان؛ ألمٌ لم يختلف الآن عما كان قبل سنوات طويلة. فقد تناقضَتْ مع الأخلاقيات التي علَّمَتْني إياها والدتي؛ أخلاقيات الفوارق الدقيقة بين أصحاب النية الحسنة والذين يرجون إلحاق الضرر بي، بين سوء النية والجهل أو اللامبالاة. لقد كانت لي مساهمة شخصية في هذا الإطار الأخلاقي حيث اكتشفت أنني لن أستطيع الهروب منه مهما حاولت. ومع ذلك فربما كان هذا الإطار الأخلاقي هو الإطار الذي لم يَعُد السود في هذا البلد قادرِين على احتماله، وربما يكون قد أضعف عزيمتهم وتسبَّب في إحداث الاضطراب بين الطبقات. واستدعت الأوقات العصيبة وجود إجراءات عصيبة مثلها، ورأى كثيرون من السود أن الأوقات كانت عصيبةً بصفةٍ دائمة. ربما لو كانت القومية قد استطاعت أن تخلق حالةً فعَّالة وقوية من التقوقُع، والوفاء بوعدِها باحترام الذات، لقلَّت أهميةُ الجرح الذي أصاب حَسَني النية من البِيض أو الاضطراب الداخلي الذي سبَّبَتْه لأفرادٍ مثلي.

•••

هذا لو كانت القومية استطاعت. أصبح من الواضح أن القضايا المتعلقة بالكفاءة، وليس العواطف، سبَّبت معظم خلافاتي مع رفيق، وذات مرة — بعد انقضاء اجتماعٍ شائك للغاية مع مكتب العمدة للتدريب والتوظيف — طلبتُ منه إن كان في مقدوره حشدُ أتباعه إذا كان من الضروري أن تكون هناك مواجهة حاسمة بين العامة من جهة ومجلس المدينة من جهة أخرى.

قال رفيق: «ليس لديَّ وقتٌ حتى أتَّجه إلى أماكنَ عديدة لتوزيع النشرات محاولًا شرح كل شيءٍ للعامة.» وتابع قائلًا: «معظم الأفراد هنا لا يهتمون بالأمر بطريقةٍ أو بأخرى. ومن يهتمُّ منهم بالأمر زنجيٌّ خائن سيحاول إفساد الأمور. والمهم الآن هو أن نجعل خطتنا محكمة للغاية ونحصل على موافقة مجلس المدينة. تلك هي طريقة تنفيذ الأعمال. وبعد ذلك يمكنك إعلانها بأية طريقة تُفضِّل.»

اختلف أسلوبي مع أسلوب رفيق؛ فمع كل هذا الحبِّ الذي كان يُعلن أنه يُكنُّه للسُّود، بدا وكأنه لا يثِقُ بهم كثيرًا. لكنني عرفتُ أيضًا أن أسلوبه كان ناتجًا عن عدم قدرة لأنني اكتشفتُ أن مؤسسته وكذلك المسجد التابع له لم يستطيعا الحصولَ على عضويةِ أكثر من ٥٠ شخصًا. ولم ينبع تأثيره من أي دعمٍ مؤسَّسي قوي، لكن من استعداده لحضور أي اجتماعٍ يمُتُّ بِصِلة — ولو من بعيد — لروزلاند ومن دحض آراء معارضيه فيها.

إن ما كان رفيق يعتبره صحيحًا كانت المدينة كلُّها تعتبره كذلك، ودون التأثير المركَّز لحملة هارولد، انحلت القومية إلى أن أصبحت موقفًا أكثرَ منها برنامجًا ماديًّا، مجموعة من المظالم وليست قوة مُنظمة، وصورًا وأصواتًا ملأت وسائل الإعلام ولكنها خلَت من أي وجودٍ مادي. ومن بين المنظمات القليلة الهادفة إلى رفع الراية القومية، لم يكن لأية منظمةٍ عددٌ كبير من الأنصار والأتباع سوى منظمة أمة الإسلام؛ فقد كانت خُطَب الزعيم فرقان التي كان يرفع فيها صوته ويخفضه على نحوٍ إيقاعي يحضرها جمهور كبير، وكان هناك أيضًا عددٌ كبير يستمِعُ إلى برامجه الإذاعية. لكنَّ العضوية النشطة في المنظمة بشيكاغو كانت أصغرَ من ذلك بكثير — إذ بلغت بضعةَ آلافٍ وربما بلغت قرابة عدد جماعة المصلِّين في إحدى أكبر أبرشيات السُّود في شيكاغو — وكانت قاعدة هذه المنظمة نادرًا ما تُشجِّع على المناقشة السياسية أو تدعم البرامج الواسعة النطاق. وفي الحقيقة فإن الوجود الملموس للمنظمة في الأحياء كان وجودًا اسميًّا فقط، ومُقتصرًا بصفةٍ أساسية على الأفراد الحَسَني المظهر الذين يرتدون الحُلل وأربطة العنق ويقِفون في تقاطُعات الطرق العامة الرئيسية لبيع جريدة الأمة التي حملت اسم «ذا فاينال كول».

كنت بين الحين والآخر أشتري الجريدة من هؤلاء الرجال المهذَّبين دائمًا. وكان سبب شرائي لها أحيانًا هو شفقَتي عليهم بسبب ارتدائهم حُللًا ثقيلةً في الصيف ومعاطف خفيفةً في الشتاء، أو بسبب أن عناوينها شديدة الإيجاز على غرار صحف «التابلويد» كانت تلفتُ انتباهي (مثل: سيدة قوقازية تعترف: البِيض أبالسة.) وعلى الصفحة الأولى كنتُ أجد إعادة نشْر خُطَب الزعيم، بالإضافة إلى أخبارٍ مُقتطفة مباشرةً من وكالة «أسوشيتد برس» ما لم يكن مقصودًا بها أغراض تحريرية تجميلية (مثل: أعلن السناتور اليهودي ميتزنبوم اليوم …). واحتوت الجريدة أيضًا على بابٍ للصحة، مُشتملًا على وصفات أطعمةٍ قدَّمَها الزعيم فرقان خالية من لحم الخنزير، وإعلانات عن شرائط فيديو مُسجَّل عليها خُطَب الزعيم (وكان يمكن شراؤها باستخدام بطاقات الفيزا أو الماستركارد)، علاوةً على بعض الإعلانات عن مُستلزمات النظافة والزينة — مثل معجون الأسنان وما شابه ذلك — التي طرحَتْها المنظمة تحت العلامة التجارية «باور» كجزءٍ من استراتيجيةٍ لتشجيع السود على إنفاق أموالهم داخل نطاق مُجتمعهم.

بعد فترةٍ من الوقت أصبحت الإعلانات المروِّجة لمنتجات «باور» أقلَّ ظهورًا في جريدة «ذا فاينال كول»، وبدا أن العديد ممن كانوا يستمتِعون بخُطَب الزعيم فرقان استمروا في تنظيف أسنانهم ولكن بمعجون كريست. بالإضافة إلى ذلك نشرت حملة «باور» أخبارًا عن الصعوبة التي تُواجهها أيةُ شركةٍ سوداء؛ مثل الحواجز التي تعوق الدخول إلى السوق، ونقص التمويل، وتَقدُّم المنافسين عليها بعدما أخرجوها من نطاق المنافسة منذ أكثر من ٣٠٠ عام.

على أنني ظننتُ أنها قد عكست أيضًا الاضطراب الحتمي الذي نشأ عندما اختُزلت رسالة الزعيم فرقان إلى الحقائق الدنيوية المتعلقة بشراء معجون أسنان. وحاولتُ أن أتخيَّل مدير إنتاج «باور» وهو يستعرض توقُّعات مبيعاته. ورأيتُ أنه ربما تساءل لوهلةٍ إن كان هناك معنًى لتوزيع هذه المنتجات على سلاسل محلات السوبر ماركت القومية حيثما يُفضِّل السود الشراء أم لا. وإذا كان قد رفض هذه الفكرة، فربما كان سيضع في حسبانه ما إذا كان سيستطيع أي سوبر ماركت يملكه السود — في محاولاته للتنافُس مع السلاسل القومية — توفير مساحةٍ على أرفُفه لمنتجٍ كان هدفه استبعاد الزبائن البِيض. وهل كان الزبائن السود سيشترون معجون أسنان بالبريد؟ وماذا عن احتمالية كون المورِّد الأرخص لأية مادة من المواد التي تدخل في تصنيع معجون الأسنان من البِيض؟

كانت القضايا المتعلقة بالمنافسة والقرارات التي فرضها اقتصاد السوق وقاعدة الأغلبية موضوعاتٍ جميعها متعلقة بالسلطة. وكانت تلك الحقيقة القاسية — المتمثلة في أن البِيض لم يكونوا أشباحًا من السهل طردُهم من أحلامنا، لكنهم كانوا موجودين في حياتنا اليومية باعتبارهم حقيقةً نشطة ومُتغيرة — هي التي شرحت لنا أخيرًا كيف يمكن أن تزدهِر القومية كعاطفةٍ وأن تتعثَّر في خطواتها كبرنامج. وما دامت القومية بقِيَت كلعنةٍ تطهيرية على العِرق الأبيض فيُمكنها إذن أن تحظى بتصفيق المراهقين العاطلين عن العمل المنصتين إلى الراديو أو رجال الأعمال المشاهِدين للبرامج التليفزيونية التي تُعرَض في وقتٍ مُتأخِّر من الليل. لكنَّ التدنِّي من مثل هذه الحماسة الموحدة إلى الخيارات العملية التي واجهها السود كلَّ يوم كان انحدارًا شديدًا للغاية. حيث انتشرت الحلول الوسط انتشارًا واسعًا، وتساءل المحاسِبون السود عن أشياءَ مثل: كيف سأفتح حسابًا في البنك الذي يملكه السود إذا كان سيُكلفني مبالغَ إضافية عند الإيداع ولن يُعطيني حتى قرضًا تجاريًّا لأنه لا يستطيع تحمُّل المخاطرة؟ كما ذكرت إحدى الممرضات السوداوات أيضًا قائلةً: «البِيض الذين أعمل معهم ليسوا شديدي السوء، لكن حتى إن كانوا كذلك لا أستطيع أن أترك وظيفتي؛ مَن ذا الذي سيدفع إيجار شقتي غدًا أو يُطعِم أطفالي اليوم؟»

لم يكن لدى رفيق أية إجابات جاهزة عن هذه الأسئلة؛ فقد كان مُهتمًّا بتغيير قواعد السلطة بصورةٍ أقل من اهتمامه بلَون مُتولِّيها الذين يستمتِعون بنعيمها. لم يكن هناك قطُّ مكانٌ على قِمة الهرم، ومع ذلك ففي أي سجالٍ يُشكل في هذا الإطار كان يُنتظَر وقت طويل إلى أن يفيد السود بأي آراء علنًا. وفي أثناء هذا الانتظار كانت تحدث أشياء مُضحكة. فما كان يبدو في يد مالكولم إعلانًا للحرب — وهو الإعلان بأننا لم نَعُد نستطيع تحمُّل ما لا يمكن تحمُّله — كان في الأصل شيئًا سعى مالكولم للتخلُّص منه؛ كان عنصرًا آخر من العناصر المثرية للخيال، وقناعًا آخر للنفاق، وعُذرًا آخر للكسَل وللتراخي. اكتشف سياسيون سود أقلُّ موهبةً من هارولد ما عرفه السياسيون البِيض منذ وقتٍ طويل الذي يتمثَّل في أن الحملات المعادية للعِرق يمكن أن تخلق مجموعة كبيرة من القيود. أما القادة الأصغر في السن الذين يتوقون لصُنْع اسمٍ لأنفسهم فقد دخلوا بكل ثِقَلهم وهم ينشرون نظريات التآمُر في جميع أنحاء المدينة؛ فقالوا إن الكوريين يموِّلون منظمة كلو كلوكس كلان، وإن الأطباء اليهود يَحقنون الرُّضَّع السود بفيروس الإيدز. وبذلك كانت هذه الأمور طريقًا مختصرًا لتحقيق الشهرة، إن لم يكن المال دائمًا. كان غضب السُّود يجد دائمًا سوقًا رائجة مِثله مثل الجنس أو العنف على شاشة التليفزيون.

لم يبدُ أن أي شخصٍ تحدَّثتُ معه في الحي قد حمل هذا الحديث على محمَل الجِد. وكما كان الحال فقد كفَّ الكثيرون بالفعل عن الأمل في أن السياسة بإمكانها تحويل حياتهم إلى الأفضل، وفرض مطالب أقلَّ عليهم، وفيما يتعلق بهم فقد كانت ورقة الاقتراع — إذا ما اشتركوا في التصويت من الأساس — تذكرةً لمشاهدة عرضٍ جميل. وقال لي البعض إنه لم يكن لدى السُّود أية سلطة حقيقية للتأثير في الحوادث العارضة المتعلقة بمعاداة السامية أو انتهاك حقوق العمَّال الآسيويين، وعلى أية حال كان السود في حاجةٍ إلى فرصةٍ للتنفيس عن غضبهم بين الفَينة والفينة، وكنا نقول بعضنا لبعض: تُرى ماذا يقول في اعتقادك هؤلاء الناس عنا من وراء ظهورنا؟

مجرد كلام. لكن ما أثار قلقي بالفعل لم يكن الضرر الذي ألحقَه الهراء بالمجهودات المبذولة في مبنى الاتحاد أو الألم النفسي الذي سبَّبه للآخرين. بل كان المسافة بين كلامِنا وأفعالنا، والتأثير الذي كنا نشعُر به كأفرادٍ وجماعات. وهذه الفجوة أفسدت كلًّا من اللغة والتفكير، وجعلتنا مُهمِلين وشجَّعتنا على أن نحيد عن الحقيقة، وفي النهاية قتلت قُدرتَنا على تحميل أنفسنا المسئولية من ناحيةٍ وتحميل بعضنا بعضًا إيَّاها من ناحية أخرى. وبينما لم يُعتبر أيٌّ من هذه الأمور جديدًا على السياسيين أو القوميين السود — حيث استطاع رونالد ريجان التعامُل مع الأمور بصورةٍ جيدة باستخدام مهارته في اللعب بالألفاظ، وبدت الطبقة البيضاء من الشعب الأمريكي مُستعدةً لإنفاق أموالٍ كثيرة على الأراضي في الضواحي وقوات الأمن الخاصة لإنكار وجود صِلة دائمة بين البِيض والسود — كان السود هم الذين قدَّموا هذا التصوُّر. إن بقاء السود في هذا البلد كان مُعتمدًا بصفةٍ دائمة على أقل قدْرٍ من الأوهام، وكان غياب هذه الأوهام هو الذي استمرَّ في الحياة اليومية لمعظم مَن قابلتُهم من السود. وبدلًا مِن تبنِّي مثل هذه الأمانة الثابتة في أعمالنا العامة فإننا بدَونا وكأننا نفقِد سيطرتَنا على الأمور وندَع أرواحنا الجماعية تُحلِّق أينما يحلو لها حتى ولو انغمَسْنا في يأسٍ جديد.

ألم يكن الاعتداد بالنفس مُعتمدًا فقط على الكفاح المستمرِّ للموازنة بين الكلمات والأفعال، والرغبات الصادقة وخُطط العمل القابلة للتطبيق؟ كان هذا الاعتقاد هو الذي قادني إلى العمل في مجال التنظيم، وهو أيضًا الذي أرشدَني إلى التوصُّل — ربما للمرة الأخيرة — إلى أنَّ مفاهيم نقاء العِرق والثقافة لم تكن ستستطيع الاستمرار بكونها الأساس للاعتداد بالنفس النموذجي للأمريكيين السُّود أكثر مما كانت لي. وكان إحساسُنا بالوحدة ينشأ من شيءٍ أكثر نقاءً من السلالات التي ورثناها، وكان له جذور في قصص السيدة كرينشو والسيد مارشال وروبي ورفيق … في كل التفاصيل المشوشة المتناقضة لخبراتنا.

•••

ابتعدت عن العمل لمدة أسبوعين لزيارة عائلتي. وعندما عُدت اتصلتُ بروبي وأخبرتُها بأنني كنتُ في حاجةٍ إليها لحضور اجتماعٍ في مساء يوم السبت.

صمت طويل. ثم قالت: «بخصوص ماذا هذا الاجتماع؟»

«سترين. لكن استعدِّي في السادسة مساءً … سنتناول الطعام في البداية.»

كان مكان الاجتماع يبعُد بساعةٍ كاملة عن شقة روبي، حيث كان في حيٍّ من أحياء الجانب الشمالي حيثما هاجَر المغنُّون وراقصو الجاز سعيًا وراء جمهورٍ يدفع لهم المال. وجدنا مطعمًا فيتناميًّا طلبنا فيه طبق نودلز وجمبري وتحدَّثنا في أثناء تناول الطعام عن رئيسها في العمل، وعن المضاعفات التي كانت تُعانيها بسبب آلام ظهرها. بدت المحادثة مُتكلفة، مع أننا لم تمرَّ علينا لحظات صمتٍ أو تفكير، وفي أثناء حديثنا كنا نتجنَّب نظرات كلٍّ منا للآخر.

بعدما دفعنا الحساب ومَشينا إلى مبنى المسرح كان المسرح قد امتلأ بالفعل عن آخره. أرشدَنا أحد العامِلين في المسرح إلى مقاعدنا التي اتضح لنا أنها تقع أمام مقاعد مجموعةٍ من الفتيات السوداوات اللاتي كنَّ في رحلةٍ ميدانية. كان بعض الفتيات يتصفحنَ بحرصٍ شديد الكُتيبات التي كانت معهنَّ ويحذون حذو سيدةٍ معهنَّ أكبر في السن — اعتقدتُ أنها المدرسة — كانت تجلس بجانبهنَّ. وكان معظمهنَّ يشعر بعدم الراحة بسبب الجلوس لفترةٍ طويلة، حيث كنَّ يهمسنَ ويستهزئنَ باسم المسرحية الطويل، نتوزيك شانج، ويسألنَ أسئلة عن المدرِّسة المصاحبة التي كانت صبورةً على نحوٍ مُثير للإعجاب طوال الوقت.

على حين غِرَّة عمَّ الظلام المسرحَ وصمتت الفتيات. وبعدَها أُنيرت الأضواء، وكان ضوءًا أزرقَ باهتَ اللون، وظهرت سبع سيدات سوداوات على خشبة المسرح يرتدينَ جونلَّات وأوشحة فضفاضة، وكنَّ يؤدِّين حركاتٍ التوائية غريبة للإيحاء بشعورهنَّ بالبرد القارس. صرخت إحداهنَّ وكانت ضخمةَ الجثة مُرتديةً ثوبًا بُنيَّ اللون قائلةً:

… تبعثرت النوت الموسيقية،
دون إيقاع أو نغمات،
تحيَّرت الضحكات،
متناثرةً فوق كتف إحدى الفتيات السوداوات،
كم هو مضحك وهيستيري
رقصها الخالي من النغمات!
لا تَقُل لمخلوقٍ إنها
ترقص فوق كئوس البيرة والحصوات …

بينما كانت تتحدَّث تقدَّمت ببطءٍ السيدات الأُخريات اللاتي شكَّلنَ جوقةً من مختلف الظلال والأشكال — منهنَّ البُنية اللون المائلة للحُمرة والبيضاء المائلة للصُّفرة بفعل كريم التفتيح، منهنَّ الممتلئة الجسم والنحيفة، منهن الصغيرة السن والأخرى الأكبر منها سِنًّا — ومددنَ أذرعهنَّ عبر المسرح وقلن:

كلٌّ منكم، أيٌّ منكم،
أنشدوا ترنيمةَ الفتاة السوداء،
ادفعوها
لتعرف نفسها منكم
وتعرفكم
أنشدوها بإيقاعاتها
المحبة، المكافحة، إيقاع الصعوبات،
أنشدوا ترنيمتَها عن الحياة …

على مدار الساعة التالية تبادلت السيداتُ الأدوارَ في رواية قصصهنَّ وإنشاد أغانيهنَّ. غنَّينَ عن الزمن الضائع والأحلام المهملة وما حدث لهنَّ في الماضي. وقصصنَ غنائيًّا حكاياتهنَّ مع الرجال الذين أحببنَهم لكنهم خانوهنَّ واغتصبوهنَّ، وحكاياتهنَّ عن الألم الدفين في أعماق هؤلاء الرجال؛ الألم الذي كان مفهومًا في بعض الأحيان ومصفوحًا عنه في أحايين أخرى. وعرضَتْ كلٌّ منهنَّ على الأخرى العلامات الجلدية في أجسادهن والنتوءات العظمية في أقدامهن، وكشفت هؤلاء السيدات عن جمالهنَّ بتأرجُح طبقات أصواتهنَّ وارتعاد أيديهنَّ، إنه جمال مخادع يزيد وينقُص. وبعد ذلك ندبنَ أطفالهنَّ المجهَضين والآخرين المقتولين والضائعين منهنَّ. وفي أثناء تقديم الأغاني في مراحلها المختلفة — العنيفة والغاضبة والرقيقة والحازمة — رقصت كلُّ واحدةٍ منهن رقصة الرومبا ورقصة الفالس المنفردة ورقصنَ وهن يقفزنَ على الحبل، واصطدمنَ بعضهنَّ ببعضٍ في رقصاتٍ ينفطر لها القلب. واستمررنَ في الرقص إلى أن اندمجت أرواحهنَّ وأصبحنَ شخصًا واحدًا. وفي نهاية المسرحية أنشدت هذه الروح بيتًا شعريًّا واحدًا:

اكتشفتُ إلهًا في نفسي،
وإني أُحبها حبًّا جمًّا

أضيئت الأنوار وانحنت الجوقة لتحية الجمهور، وهلَّلت الفتيات تهليلًا عظيمًا تشجيعًا لهنَّ. وفي النهاية ساعدتُ روبي في ارتداء معطفها وخرجْنا معًا إلى ساحة انتظار السيارات. كانت درجة الحرارة قد انخفضت عما كانت عليه، وأومضتِ النجوم كقِطَع الثلج في صفحة السماء السوداء. وفي أثناء انتظارنا في السيارة حتى تصِل إلى درجة حرارة التشغيل، مالت روبي نحوي وقبَّلتني على وجنتي.

وقالت لي: «شكرًا لك.»

في ذلك الحين كانت عيناها — البُنِّيتان الغامقتان — مُتلألئتَين. أخذتُ بيدِها المخبَّأة داخل قفاز بسبب البرد وشددتُ عليها سريعًا قبل أن أبدأ القيادة. ولم تُنطَق كلمة أخرى بعدَها، ومنذ بداية رحلة عودتنا إلى الجانب الجنوبي إلى أن أوصلتُها حتى باب منزلها وتمنيتُ لها أحلامًا سعيدة، لم نكسِر حاجز الصمت النفيس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤