الفصل الثاني عشر

بذل رفيق كلَّ ما في وسعه لجعلِ المكان أنيقًا ومُنظمًا. ووُضِعت لافتة جديدة أعلى المدخل، وتُرك الباب مفتوحًا قليلًا للسماح بنفاذ ضوء الربيع إلى الداخل. ونُظِّفت الأرضيات وأُعيد ترتيب الأثاث في المكان. وكان رفيق يرتدي حلةً سوداء ورابطة عنقٍ جلدية سوداء، وكان حذاء الكونغوفو الذي يرتديه لامعًا لأقصى درجة. ولبضع دقائق ظلَّ شغله الشاغل هو طاولة طويلة قابلة للطيِّ موضوعة في أحد أركان الغرفة وهو يُوضح لبعضٍ من رجاله كيفية ترتيب الكعك وشراب البنش، أخذ يُحرِّك صورةَ هارولد المعلَّقة على الحائط يمينًا ويسارًا.

سألني قائلًا: «أتبدو لك الصورة في وضعٍ مُستقيم؟»

«نعم يا رفيق.»

كان العمدة سيأتي لقصِّ شريط مركز خدمات مكتب العمدة للتدريب والتوظيف في روزلاند وافتتاحه. وبالطبع اعتُبر ذلك إنجازًا عظيمًا، ولمدة أسابيع ظلَّ رفيق يُطالب ببدء النشاط في هذا المبنى الذي كان يملكه. لكنه لم يكن الوحيد الذي طلب ذلك. فقد قال عضو مجلس المدينة إنه سيكون سعيدًا باستضافة العمدة في مكتبه. أما عضو مجلس الشيوخ عن الولاية — الذي كان أحد التابِعين السياسيين القُدامى الذي ارتكب خطأ عندما ساند أحد المرشحين البِيض في انتخابات العمدة السابقة — فقد وعد بأن يُساعدنا في الحصول على الأموال اللازمة لتنفيذ أيِّ مشروعٍ نُريده إذا جعلناه يشترك في برنامج الحفل. بالإضافة إلى ذلك اتصل القس سمولز ليقول إننا يمكن أن نساعد أنفسنا عن طريق السماح له بتقديم صديقه «الصالح هارولد». وكلما دخلتُ مكتب مشروع التنمية المحلية أعطتني السكرتيرة مجموعةً من أحدث الخطابات التي تلقَّتها.

وقبل أن يرنَّ جرس الهاتف من جديدٍ قالت لي: «لقد أصبحتَ شخصيةً مشهورة بالفعل يا باراك.»

نظرتُ إلى الجماهير الكبيرة التي تجمَّعت داخل مخزن رفيق — وكان أغلبهم من السياسيين والعالة الطفيليين — ووجدتُ أن جميعهم يختلِسون النظر إلى الباب كلَّ بضع دقائق، في حين أن رجال الشرطة المرتدِين ملابسَ مدنية يتحدَّثون في أجهزة اللاسلكي ويتفقَّدون المكان. وبينما أُجاهد لأشقَّ طريقي إلى الغرفة وجدتُ ويل وأنجيلا فانتحيتُ بهما جانبًا.

«مستعدان؟»

فأومآ برأسيهما بالإيجاب.

«تذكَّرا أن عليكما إقناع هارولد بحضور اجتماعنا الحاشد في الخريف. على أن يكون ذلك في حضور المسئول عن جدول أعماله. وأخبِراه بكل المجهودات التي نبذلها هنا ولماذا …»

في هذه اللحظة، تهامس الحضور وبعدَها خيَّم الصمت فجأةً على الجميع. وتوقَّف صفٌّ من السيارات وفُتح باب سيارة ليموزين، ومن وراء كتيبةٍ من رجال الشرطة رأيتُ هارولد ذاته. كان يرتدي حُلة زرقاء ومعطفًا مُجَعَّدًا واقيًا من المطر، أما شعره الأشيب فقد بدا أشعثَ بعض الشيء، وكانت قامته أقصر مما توقَّعت. ومع ذلك فقد كان شخصيةً ذات حضور طاغٍ، وكانت ابتسامته ابتسامةَ رجلٍ في أوج عظَمته. وفي الحال بدأ الجميع يهتفون: «هارولد! هارولد!» وحينها استدار العمدة نحوهم ورفع يده إطراءً لهم. وبدأ هارولد — بعد أن سبقته السيدة ألفاريز ورجال الشرطة في ملابسهم المدنية — في شقِّ طريقه عبر الجمهور المحتشِد. فمرَّ بجانب عضو مجلس الشيوخ وعضو مجلس المدينة. ثم مرَّ بجانب رفيق ثم بجانبي. ثم تجاوز يدَ القس سمولز الممدودة له. حتى توقَّف في النهاية أمام أنجيلا مباشرةً.

قال لها «السيدة رايدر.» وحينها أخذ بيدِها وانحنى انحناءة بسيطة. واستكمل كلامه قائلًا: «تشرفتُ بلقائك. لقد سمعتُ أخبارًا ممتازة عن عملك.»

بدت أنجيلا وكأنها على وشك فقدان الوعي. وعلى الفور سألها العمدة هل ستُعرِّفه على شركائها، ضحكت وارتبكت قبل أن تستجمِع رِباطة جأشها وتأخذه ليتعرَّف على القادة. وكانوا جميعًا يقفون وقفةً عسكرية وكأنهم فريق كشافة. وتعلو وجوههم الابتسامة العريضة نفسها. وعندما انتهى من التعرُّف عليهم مدَّ العمدة يدَه لأنجيلا واتجها معًا نحو الباب ولاحقتهما الجماهير.

همست شيرلي لمنى في أذنها قائلةً: «أتُصدِّقين ما يحدث يا عزيزتي؟»

استمرَّت هذه المراسم ١٥ دقيقة. وأغلقت الشرطة مبنَيين في شارع ميشيجان، ونُصبت منصة صغيرة أمام المكتب الذي كان سيُفتتح فيه المركز التابع لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب بعد قليل. عرَّفت أنجيلا هارولد على كل أعضاء الكنيسة الذين كان لهم دور في المشروع، إلى جانب السياسيين الموجودين بين الحضور. وبعدها ألقى ويل كلمةً عن مشروع التنمية المحلية. هنَّأنا العمدة على مشاركتنا المدنية، في حين كان عضو مجلس الشيوخ والقس سمولز وعضو مجلس المدينة يحاولون الوقوف في أماكنَ متميزة خلف العمدة وهم يبتسِمون ابتساماتٍ عريضة أمام عدسات المصورين الذين استأجروهم. وبعد أن قُص الشريط وانتهى الأمر أسرعت السيارة الليموزين إلى الحدث التالي، وتفرَّقت الجماهير على الفور، ولم يتبقَّ سوى بعض منَّا يقف في الشارع المليء بالقاذورات.

اتجهتُ إلى أنجيلا وهي مشغولة بالتحدُّث مع شيرلي ومُنى. وكانت تقول لهما: «عندما سمعتُه يقول «السيدة رايدر» أُقسِم لكما إنَّني كنتُ على وشك الموت.»

هزَّت شيرلي رأسها. وقالت: «إنني أعرف هذا الشعور.»

قالت مُنى وهي ترفع لأعلى كاميراتها من طراز إنستاماتيك: «إن لدَينا الصور التي تشهد على صحة هذا الحدث.»

حاولتُ أن أُقاطع حديثهنَّ. قلت: «هل حددتنَّ ميعادًا للاجتماع الحاشد؟»

«بعد ذلك أخبرَني بأنني أبدو أصغرَ من أن تكون لديَّ ابنة عمرها ١٤ عامًا. أتتخيَّلون؟»

كررتُ سؤالي مرةً أخرى: «هل وافق على حضور اجتماعنا الحاشد؟»

نظر إليَّ الثلاثة بفراغ صبر. وقلن: «أي اجتماع حاشد؟»

شعرتُ باليأس من هذا الردِّ وأخذتُ أمشي عبر الشارع بخطواتٍ غاضبة سريعة. وعندما وصلتُ إلى السيارة سمعت ويل آتيًا من خلفي، وقال:

«إلى أين ستذهب بهذه السرعة؟»

«لا أعرف، إلى أي مكان.» حاولت إشعال سيجارة لكنَّ الرياح ظلت تطفئ عود الثقاب. رميت علبة الكبريت على الأرض بغضبٍ عارم واستدرت إلى ويل. قلت: «أتعرف يا ويل؟»

«ماذا؟»

«إننا تافهون. نعم، إننا كذلك. فقد كانت لدَينا فرصة لأن نُوضح للعمدة أن لنا أنشطة حقيقية في المدينة، وأنه ينبغي له أن يأخُذ أمرَنا مأخذَ الجِد. لكن ماذا نفعل؟ إننا نتصرَّف وكأننا مجموعة من الأطفال المولَعِين بذوي الشهرة. حيث نقف ونبتسِم للمصورين ونضحك ونقلق في النهاية هل التُقِطت لنا صور معه أم لا …»

«أتعني أنك لم تُلتقَط لك صورة معه؟» ابتسم ويل بابتهاجٍ وصوَّرَني بكاميرا فورية، ثم وضع يدَه على كتفي. وقال: «أتمانع أن أقول لك شيئًا يا باراك؟ إنك تحتاج إلى أن تهدأ قليلًا. إن ما تُسمِّيه تفاهةً كان ممتعًا لأقصى حدٍّ لأنجيلا وغيرها. ومن الآن حتى ١٠ سنوات قادمة سيظللنَ يتفاخرنَ به. ذلك لأنه أشعرهنَّ بأهميتهنَّ. وكنتَ أنت السبب في ذلك. لذا ماذا إذا نسينَ دعوة هارولد إلى الاجتماع الحاشد؟ سنتَّصِل به مرةً أخرى لنعرض عليه الأمر.»

قفزتُ إلى سيارتي سريعًا وأنزلتُ زجاج النافذة. وأنا أقول: «فلتنسَ الأمر يا ويل. إنني مُحبط.»

«نعم، أرى ذلك بوضوح. لكن عليك أن تسأل نفسك عن سبب شعورك الزائد بالإحباط.»

«ما هو هذا السبب في اعتقادك؟»

هزَّ ويل كتفيه. وقال: «أعتقد أنك لا تريد إلا أن تُنجِز عملًا ذا قيمة. لكنني أعتقد أيضًا أنك لا تشعر بالرضا إطلاقًا. فإنك تريد أن يحدث كل شيءٍ بسرعة. تريد ذلك كما لو أن لديك شيئًا تريد إثباته.»

«إنني لا أريد إثبات أي شيءٍ يا ويل.» أدرتُ محرك السيارة وبدأتُ أبتعِد عنه إلا أنني لم أنطلِق بها بالسرعة التي تجعلني لا أسمع كلمات وداعِه.

«ليس عليك أن تُثبت أيَّ شيءٍ لنا يا باراك. إننا نُحبك. والرب أيضًا يُحبك!»

•••

انقضى قرابة عام منذ وصولي إلى شيكاغو وبدأ يؤتي جهدنا أخيرًا ثماره. وازداد عدد مجموعات ويل وماري التي تُعقَد اجتماعاتها في زوايا الشوارع إلى أن بلغ عددها ٥٠ مجموعة، إلى جانب أن هذه المجموعات نظَّمت حملاتٍ لتنظيف الأحياء، ورَعَتْ أيام المهنة (التي تُطرح فيها الوظائف للعاطِلين عن العمل) لشباب المنطقة، وحصلت على موافقات من عضو مجلس المدينة لتحسين خدمات الصرف الصحي. وفي أقصى الشمال طالبت السيدة كرينشو والسيدة ستيفينز هيئة إدارة المتنزَّهات بشيكاغو بتحسين وتجميل المتنزَّهات الخربة، وقد بدأ العمل في ذلك بالفعل، وجرى إصلاح الشوارع وبالوعات الصرف الصحي، وبدأ تشغيل برامج مراقبة الجريمة. وأُسِّس مركز خدمات التوظيف الجديد الذي كان فيما سبق مخزنًا فارغًا غير مُستخدَم.

مع الوقت ازدادت الثقة بالمؤسسة وبي أنا شخصيًّا. وبدأتُ أتلقَّى دعواتٍ لحضور المناقشات العامة وإدارة ورش العمل، وعرف السياسيون المحليون اسمي وإن كانوا لم يُفلحوا في نُطقه كما ينبغي. وفيما يخصُّ قيادتنا فإنني لم أكن أُخطئ إلا قليلًا. وفي إحدى المرات سمعتُ شيرلي تُخبر قائدًا جديدًا عني ذات يوم قائلةً له: «كان يجب أن تراه عندما حضر لأول مرةٍ إلى هنا.» وتابعت قائلة: «كان مجرد صبي. لكنك عندما تنظر إليه الآن ستعتقِد أنه شخص مختلف.» كانت شيرلي تتحدَّث وكأنها أمٌّ فخورة بابنها، وبذلك أصبحتُ الابن البديل الذي عاد إلى رُشده بعد فترة من السلوك السيئ.

إن الحصول على تقديرِ مَن أعمل معهم والتحسُّن الملموس الذي أراه في الحي من الأشياء التي يمكنني الاعتزاز بها. كان ينبغي أن يكون كافيًا. لكنَّ ما قاله ويل كان صحيحًا لأنني لم أرضَ بكل ذلك.

ربما كان الأمر مُتعلقًا بزيارة أوما والأخبار التي أحضرتها معها عن أبي. ومع أنني شعرتُ ذات مرة بالحاجة إلى أن أعيش طبقًا لتوقُّعاته، فإنني شعرتُ في هذا الوقت كما لو كنت مُضطرًّا إلى أن أصلح كلَّ أخطائه. وكانت طبيعة هذه الأخطاء لا تزال غير واضحة في عقلي؛ فقد كنتُ لا أستطيع بَعْدُ قراءةَ معالم الطريق التي تُحذِّر من المنعطفات الخاطئة التي سلكها. وبسبب هذا الاضطراب ولأن الصورة التي رسمتُها له بقِيَت متناقضة للغاية — في بعض الأحيان تُوحي بشيءٍ وفي أحيان أخرى بشيءٍ آخر، دون أن تجمع بين الشيئين في آن — فإنني وجدتُ نفسي في لحظاتٍ مختلفة من اليوم أشعر كما لو كنت أعيش حياةً مُقدَّرة سلفًا كنتُ قد تخيلتُها من قبل، كما لو كنتُ أتَّبع أبي في طريق الخطأ وأنا سجين مأساته.

إلى جانب كل ذلك كانت لديَّ مشكلاتي مع مارتي. فقد فصَلنا رسميًّا مجهوداتنا الذاتية أحدنا عن الآخر ذلك الربيع. ومنذ ذلك الحين كان يقضي معظم أوقاته في كنائس الضواحي، حيث اتضح أن الأبرشيين — السود منهم والبِيض على حدٍّ سواء — كانوا مُهتمِّين بموضوع التوظيف بصورةٍ أقل من اهتمامهم برحيل البِيض من الأحياء التي يقطنها السود، ومسألة انخفاض قِيَم العقارات التي سادت الجانب الجنوبي منذ عقد من الزمان.

اتصفت هذه المسائل بصعوبتها؛ إذ كانت تحفل بالعنصرية والحساسية الزائدة التي كان يرى مارتي أنها مذمومة. لذا قرَّر أن يوقف هذا النشاط ويبدأ نشاطًا آخر من جديد. فعيَّن مُنظمًا آخر لأداء مُعظم المهام اليومية في الضواحي وأصبح مشغولًا بإنشاء منظمةٍ جديدة في جاري، وهي مدينة انهار فيها الاقتصاد منذ زمنٍ بعيد وكانت الأوضاع فيها سيئة للغاية — طبقًا لقول مارتي — لدرجةِ أنه لم يهتمَّ أحد هناك بلَون المنظِّم، وفي أحد الأيام طلب منِّي مارتي أن أذهب معه.

«إن هذا التدريب ليس جيدًا لك. فالجانب الجنوبي شاسع للغاية، ومليء بعناصر التشتت، لكن ليس هذا خطأك. كان عليَّ أن أتفهَّم الموضوع بصورةٍ أفضلَ من ذلك.»

«لا أستطيع أن أترك الأمر يا مارتي. لقد بدأتُ بالفعل من هنا.»

نظر إليَّ بصبرٍ شديد. وقال: «اسمع يا باراك. إن إخلاصك مُثير للإعجاب. لكنك الآن في موقفٍ لا بد أن تهتمَّ فيه بأمر نجاحك الشخصي. وإن بقِيتَ هنا فسيكون مصيرك الفشل لا محالة. وقبل أن تُحقق أيَّ إنجازٍ حقيقي ستتخلَّى عن العمل التنظيمي.»

كان مارتي قد خطَّط لكل شيء في عقله، مثل الوقت الذي ستستغرقه مسألة تعيين وتدريب مُنظِّمٍ بديلٍ عني، والحفاظ على ميزانية معقولة دون صرفها. وبينما كنتُ أستمع إليه وهو يعرض خططه خطر ببالي أنه لم تكن له أية صلةٍ شخصية بالناس أو بالمكان في سنواته الثلاث التي قضاها في المنطقة، وأن الشعور بالأُلفة والمودة لم يكن يحصل عليه إلا من زوجته الفاتنة وابنه الوسيم. وفي عمله كان ما يدفعه هو مجرد الفكرة التي يرمز إليها المصنع المغلق، لكنَّ الأمر كان أكبر من المصنع، وأكبر من أنجيلا أو ويل أو القساوسة الشاعرين بالوحدة الذين وافقوا على أن يعملوا معه. ربما كانت هذه الفكرة ستنطلق في أي مكان، لكن من وجهة نظر مارتي كان الأمر ببساطة مُتعلقًا بإيجاد الدمج الملائم للظروف والمزيج المناسب للعناصر.

«مارتي.»

«نعم؟»

«لن أذهب إلى أي مكان.»

في نهاية الأمر توصَّلنا إلى اتفاقٍ ينصُّ على أن يقدِّم لي الاستشارة التي كنت ما زلت في حاجة إليها إلى حدٍّ بعيد، وفي مقابل هذا العمل الاستشاري يحصل على أجرٍ يساعده في توفير الدعم المادي لعمله في مكانٍ آخر. وفي اجتماعاتنا الأسبوعية كان يُذكِّرني باختياري هذا وبأن إنجازاتي المتواضعة لا تشتمل على أية مخاطرة، وبأن الرجال الذين يرتدون ملابسَ أنيقة وسط المدينة لا يزالون في السلطة يُمارسون أنشطتها ويتخذون القرارات. وكان يقول: «إن الحياة قصيرة يا باراك.» ويتابع كلامه قائلًا: «وإن لم تحاول تغيير الأمور من حولك تغييرًا حقيقيًّا فربما تنساها.»

نعم. التغيير الحقيقي! بدا هذا الأمر كهدفٍ سهل تحقيقه أيام الجامعة، وكامتداد لإرادتي الشخصية وإيمان أُمِّي، مثل زيادة متوسط درجاتي أو الإقلاع عن شُرب الخمور؛ إنها مسألة تحمُّل المسئولية وتحديد مهامها. والآن فقط — بعد مرور عام على بدء نشاط التنظيم — لم يبدُ أن هناك شيئًا واحدًا بسيطًا وسهلًا. من كان المسئول عن مكانٍ مثل ألتجيلد؟ هكذا وجدتُ نفسي أتساءل. لم يكن هناك رجال بِيض ماضغو تبغٍ من أمثال عضو الحزب الديمقراطي بول كونور، ولا مجرمون أقوياء لاحقَتْهم هيئة بنكرتون للأمن. لم يكن هناك سوى مجموعة صغيرة من الرجال والسيدات السُّود المتقدِّمين في العمر الذين اتصفوا بالخوف والقليل من الطمع أكثرَ من اتصافهم بالحقد أو القدرة على التخطيط للأمور عن عمد. ربما اشتملت هذه المجموعة على أفرادٍ مثل السيد أندرسون — مدير مشروع ألتجيلد — الأصلع المتقدم في العمر الذي لم يتبقَّ له سوى عامٍ واحد على التقاعد. أو السيدة ريس الممتلئة الجسم ذات الوجه المفتوح المسامِّ التي كانت رئيس مجلس المستأجِرِين الرسمي، وقضت معظم حياتها وهي تحاول الحفاظ على استمرار المميزات التي تحصل عليها من عملها؛ الراتب الذي كانت تتقاضاه بصفة شهرية ومقعد في المأدبة التي كانت تُقام سنويًّا، إلى جانب حصول ابنتها على شقةٍ رائعة وابن أخيها على وظيفةٍ في هيئة الإسكان بشيكاغو. أو القس جونسون — قس السيدة ريس ورئيس الكنيسة الكبيرة الوحيدة في ألتجيلد — الذي أوقفني عن الحديث عند رؤيتي للمرة الأولى والأخيرة عندما ذكرت كلمة «تنظيم».

قال القس الجليل: «إن المشكلة لا تكمن في هيئة الإسكان بشيكاغو.» وتابع: «بل تكمن في الأساس في أن الفتيات هنا ينخرطنَ في كل أنواع الفجور.»

قال لي بعض المستأجرين في ألتجيلد إن السيد أندرسون لم يُصلِح شققَ أحدٍ ممن يُعارضون السيدة ريس وقائمة المرشحين في أثناء انتخابات المكتب الاستشاري المحلي، وإن السيدة ريس كانت بذلك تابعةً للقس جونسون، وإن القس كان يملك مكتبًا لتقديم خدمات الحراسة الأمنية بموجب عقدٍ أُبرم مع هيئة الإسكان بشيكاغو. لم أستطِع تحديد هل ما قيل صحيح أم لا، أو هل سيُحدِث الأمرُ برمَّته فرقًا أم لا. إن هؤلاء الأفراد الثلاثة عكسوا آراء وتصرفات مُعظم مَن كانوا يعملون في ألتجيلد؛ المدرسين وإخصائيي علاج الإدمان ورجال الشرطة. كان المال هو السبب الذي دعا البعض للذهاب إلى ألتجيلد في حين كان للبعض الآخر رغبة حقيقية في تقديم يد المساعدة. وأيًّا كانت دوافعهم فإنهم اعترفوا في مرحلةٍ مُعينةٍ بشعورهم الجماعي بالملل الذي نخر في عظامهم. وفقدوا ثقتَهم السابقة بقُدرتهم على تغيير حالة التدهور التي رأوها في كل شيءٍ حولهم. وفي ظلِّ فقدان الثقة شعروا بفقدان القدرة على التمرُّد على كلِّ ما حدث لهم. وببطءٍ شديد تلاشت فكرة المسئولية — عن أنفسهم وعن الآخرين — وحلَّ محلها تواضُعُ توقعاتهم وكوميديا نابعة من المواقف السوداوية التي تعرَّضوا لها.

كان ويل مُحقًّا إلى حدٍّ ما؛ فإنني شعرتُ أن هناك شيئًا لا بد من إثباته: إلى أهل ألتجيلد، إلى مارتي، إلى أبي، وإلى نفسي. ما فعلتُه كان له أهمية أثَّرت على أشياء أخرى. ولم أكن ساعيًا بجنونٍ وراء أوهامٍ يستحيل تحقيقُها. وفيما بعدُ عندما حاولتُ شرح بعض هذه الأمور إلى ويل ضحك وهزَّ رأسه مُفضِّلًا أن يعزو موقفي الغاضب يوم قصِّ الشريط إلى غيرةٍ صبيانية. وقال لي: «أرى أنك مثل الدِّيك الصغير يا باراك، وهارولد مثل الديك الكبير. فما حدث أن الدِّيك الكبير عندما حضر التفَّت جميع الدجاجات حوله ومنحْنَه كلَّ الاهتمام. مما جعل الدِّيك الصغير يُدرك أن عليه تعلُّم أشياء لم يكن يعرفها.»

بدا ويل مُستمتعًا بالمقارنة التي عقدَها، وضحكتُ أنا أيضًا معه عندما ذكرَها. لكن بيني وبين نفسي علمتُ أنه أساء فهْم طموحاتي وأساء استيعابها. إن أكثرَ ما أردتُه في الواقع هو نجاح هارولد، ومثله مثل أبي الحقيقي، فإن العمدة — وإنجازاته — بدا وكأنه قد أوضح نطاقَ ما كان ممكنًا فعله، وأما مواهبه ونفوذه فكان لهما الفضل في تقييم آمالي. وفي أثناء سماعي له وهو يتحدَّث إلينا في هذا اليوم، وهو في قمة بهائه ومَرحِه، لم أستطِع فعْل أيِّ شيءٍ سوى التفكير في القيود المفروضة على هذا النفوذ. ربما استطاع هارولد أن يجعل الخدمات في المدينة أكثرَ عدلًا وإنصافًا. فقد حصل المتخصِّصون السُّود، الحاصلون على درجات علمية عالية، على حصصٍ أكبرَ من الأعمال في المدينة. وأصبح هناك مشرفون سُود على المدارس، ومأمور شرطة أسود ومدير أسود لهيئة الإسكان. وهكذا فإن وجود هارولد في السلطة قدَّم المواساة للناس، مِثلما فعل تديُّنُ ويل وقوميةُ رفيق. لكن بين طيات تألُّق النصر الذي حقَّقه هارولد في ألتجيلد أو أي مكانٍ آخر، لم يبدُ أن شيئًا واحدًا قد تغيَّر.

لقد تساءلتُ هل فكَّر هارولد — بعيدًا عن دائرة الضوء — في هذه القيود. وهل شعر — مثل السيد أندرسون أو السيدة ريس أو أي عددٍ من المسئولين السود الآخرين الذين يتولَّون الآن مسئولية حكم الضواحي الفقيرة المكتظة بالسكان — بأنه مُقيَّد مثله مثل مَن يحكمهم، وبأنه وريث تاريخٍ بائس، وجزء من نظامٍ مُنغلق ليس به إلا القليل من العوامل المحفِّزة؛ نظام ظلَّ يفقد حماسَه كلَّ يومٍ وينحدِر إلى حالةٍ مُنخفضة المستوى من الثبات.

تساءلتُ هل شعر هو أيضًا بأنه سجين القدَر.

•••

كانت الدكتورة مارثا كوليار هي الشخص الذي تمكَّن في النهاية من انتشالي من حالة الجُبن التي عِشتُها. والجدير بالذكر أن مارثا كانت مديرة مدرسة كارفر — التي كانت إحدى المدرستَين الابتدائيتَين في ألتجيلد. وعندما تحدَّثت معها للمرة الأولى هاتفيًّا لتحديد موعدٍ معها لم تطرح عليَّ الكثير من الأسئلة.

«يُمكنني أن أستغلَّ أية مساعدةٍ أحصل عليها.» وتابعت: «أراك في الثامنة والنصف.»

كانت المدرسة على الحد الجنوبي لألتجيلد، واشتملت على ثلاثة مبانٍ ضخمة من الطوب صنعَت شكلَ حدوة حصان أحاطت بساحةٍ كبيرة مشتملة على حفرٍ مليئة بالقاذورات. عندما دخلتُ المدرسة أرشدني الحارس إلى المكتب الرئيسي الذي كانت فيه سيدة سوداء قوية البنية في منتصف العمر ترتدي زيًّا أزرقَ اللون وتتحدَّث إلى سيدةٍ أصغر سنًّا منها كانت عصبية وفي حالةٍ يُرثى لها.

قالت الدكتورة كوليار وهي تضع ذراعها فوق كتف السيدة: «اذهبي الآن إلى المنزل واستريحي قليلًا. وأنا سأُجري بعض المكالمات الهاتفية، وأرى إن كان في مقدورنا اتخاذ الإجراءات الضرورية لتسوية الأمر.» أوصلَتِ السيدة إلى الباب واستدارت نحوي. قالت: «لا بد أنك أوباما. فلتتفضَّل هنا. أتشرب قهوة؟»

قبل أن تُعطيني الفرصة لأن أردَّ اتجهت ناحية السكرتيرة. وقالت لها: «أعدي فنجانًا من القهوة للسيد أوباما. ألم يصِل عاملو طلاء الجدران بعد؟»

هزَّت السكرتيرة رأسها وعبست الدكتورة كوليار. وقالت وأنا أتبعها إلى مكتبها: «امنعي أية مكالمات هاتفية عدا ما تستقبلينه من مهندس المباني عديم القيمة. أودُّ إخباره صراحة برأيي فيه.»

كان مكتبها مفروشًا بأثاثٍ بسيط، وجُدرانه عارية إلا من بعض جوائز خدمات المجتمع القليلة المعلَّقة وصورة كبيرة لطفلٍ أسود مكتوب عليها «الربُّ لا يخلق أنجاسًا». سحبت الدكتورة كوليار مقعدًا وقالت لي: «إن الفتاة التي غادرت مكتبي الآن أمٌّ لأحد أبنائنا هنا في المدرسة. مدمن للمخدرات، وصديقها أُلقِي القبض عليه الليلة الماضية، لكنها غير قادرة على دفع الكفالة المطلوبة لإطلاق سراحه؛ لذا أخبِرني بما يمكن أن يفعله عملك التنظيمي لشخصٍ مثلها.»

دخلت السكرتيرة ومعها القهوة التي طلبتها لي. قلتُ لها: «كنتُ آمُل أن تكون لديك بعض الاقتراحات.»

«ليس لديَّ أيُّ اقتراحات سوى الإطاحة بهذا المكان وإعطاء الناس فرصةً ليبدءوا من جديد.»

عمِلَت هذه السيدة مُدرسةً ٢٠ عامًا ومديرة مدرسة ١٠ أعوام، وكانت معتادة على المناقشات الحادة مع رؤسائها — الذين كانوا من البِيض فيما مضى وأصبح مُعظمهم من السود الآن — بخصوص الاعتمادات المالية والمناهج وسياسات التعيين. ومنذ أن تعيَّنَت في مدرسة كارفر أنشأت مركزًا لتعليم الأُمهات والأبناء، وظيفته تعليم الأمهات الشابَّات مع أبنائهنَّ في فصلٍ واحد. أوضحت دكتورة كوليار هذا الأمر بقولها: «تريد معظم الأمَّهات هنا الأفضل دائمًا لأبنائهنَّ.» وتابعت قائلة: «لكنهنَّ لا يعرفن كيف يوفِّرن ذلك لهم. لذا نُقدِّم لهنَّ الاستشارات الخاصة بالتغذية والرعاية الصحية وكيفية التعامُل مع التوتر. ونحن نُعلِّم منهنَّ مَن لا تستطيع القراءة حتى يتمكنَّ من القراءة لأطفالهنَّ في المنزل. وقدْر استطاعتنا نُساعِدهنَّ في الحصول على شهادةٍ تُعادل الثانوية العامة، أو نُعيِّنهن مساعداتٍ للمدرسين.»

ارتشفَت دكتورة كوليار رشفة من فنجان القهوة. وأضافت: «إن ما لا نستطيع فِعْله هو تغيير البيئة التي يعود إليها هؤلاء الفتيات وأبنائهنَّ بعدما يخرجون من المدرسة يوميًّا. وعاجلًا أو آجلًا سيترك الأطفال المدرسة وتتوقَّف الأمهات عن الحضور …»

رنَّ جرس هاتفها ليُخبرها بحضور عامل طلاء الجدران.

قالت دكتورة كوليار وهي تنهض من مقعدها: «اسمع يا أوباما.» وتابعت: «فلتحضُر الأسبوع التالي لتتحدَّث مع مجموعة الأمهات. وحاول أن تعرِف ما يدور بعقولهنَّ. إنني لا أُشجِّعك على فعل ذلك الآن. لكن إذا ما اختلفت آراء الأمهات مع آرائك واحتججنَ بغضبٍ عارم فلن أستطيع إيقافهنَّ، أليس كذلك؟»

ضحكتْ بابتهاجٍ ومشت معي حتى أوصلتني إلى المدخل، حيث كان هناك صفٌّ غير مُنتظم من الأطفال في الخامسة والسادسة من أعمارهم يقفون استعدادًا لدخول الفصل. لوَّح بعضهم لنا وابتسموا، وأخذ اثنان منهم كانا يقفان بالقُرب من مؤخرة الصف يدوران حول نفسيهما وذراعاهما قريبتان جدًّا من جانبيهما، وحاولت فتاةٌ صغيرة ضئيلة الحجم أن تنزع سترتها عنها وتُخرِجها من رأسها إلا أنها واجهت صعوبةً في إخراج ذراعَيها من كُمَّي السترة. وبينما كان يحاول المدرس أن يقودهم لصعود السُّلَّم فكَّرت في قدْر السعادة والثقة بالآخرين اللتَين بدَوا مُتَّسِمين بهما، وأنه على الرغم من المصاعب والمآسي التي عانوها — مثل الولادة المبكرة أو التعرُّض للإدمان وتجربة معظمهم القاسية للفقر — فإن السعادة التي وجدوها في تنقُّلهم من مكانٍ لآخر، والفضول الذي أظهروه عند التطلُّع إلى أي وجهٍ جديد كانا مماثِلَين لسعادة وفضول جميع الأطفال في شتَّى الأماكن. لقد جعلوني بالفعل أتذكَّر الكلمات التي قالتها ريجينا منذ سنوات في مكانٍ وزمان مختلفَين: «إن الأمر ليس متعلقًا بك.»

قالت دكتورة كوليار: «أليسوا لُطفاء؟»

«نعم إنهم كذلك بالفعل.»

«إن التغيير سيحدُث لاحقًا. في غضون خمس سنوات، مع أن حدوثه يبدو وشيكًا في جميع الأحيان.»

«ما هذا التغيير؟»

«عندما تتوقَّف أعينهم عن الضحك. يمكن أن تظلَّ أصواتهم مسموعة، لكن إذا نظرتَ إلى الأعيُن فستجد أنها تُخبِّئ شيئًا ما داخلها.»

•••

بدأتُ أقضي ساعاتٍ عديدة أسبوعيًّا مع هؤلاء الأطفال وآبائهم. كانت أمهاتهم جميعًا قد اقتربنَ من بلوغ سِن العشرين أو تجاوزنها بقليل، قضى معظم هؤلاء الأمهات حياتهنَّ في ألتجيلد وتربَّين على يدِ أمهاتٍ في سن المراهقة. لقد وَصَفنَ بغير حرجٍ الحملَ في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، وترْكَهنَّ مقاعد المدرسة، والروابط الضعيفة التي تربطهن بآباء أطفالهن والذين يَظهرون ويختفون من حياتهن وقتما شاءوا. وأخبرنني أيضًا عن تعايُشهن مع نظام الحياة الذي اشتمل في معظم حالاته على الانتظار؛ الانتظار لرؤية الإخصائي الاجتماعي، والانتظار في المكاتب لكي يصرفوا شيكات الرعاية الاجتماعية، والانتظار لركوب الأتوبيس للذهاب إلى أقرب سوبر ماركت يبعُد بمسافةِ خمسةِ أميالٍ لشراء حفَّاضات للأطفال بسعرٍ أرخص.

برعَ هؤلاء الأمهات في استخدام ما يُساعدهنَّ في البقاء على قيد الحياة في عالمهنَّ المفروض عليهنَّ ولم يتذمَّرنَ من ذلك. مع أنهنَّ لم يكنَّ ساخرات؛ وهذا ما فاجأني. ولا يزال لديهنَّ طموحات. كانت المدرسة تضم فتياتٍ مثل ليندا لوري وبيرناديت لوري، الأختَين اللتين ساعدتهما الدكتورة كوليار في الحصول على شهاداتٍ تعادل الثانوية العامة. والآن كانت بيرناديت تُدرِّس في الجامعة المحلية، أما ليندا فإنها حملت مرةً أخرى ومكثت في المنزل لتعتني بابن بيرناديت — تايرون — وابنتها جويل، لكنها قالت إنها ستلتحِق بالجامعة هي الأخرى بمجرد أن يُولَد ابنها الجديد. بعد ذلك قالتا إنهما ستبحثان عن وظيفتَين في مجال إدارة الأغذية أو ربما السكرتارية. وبعدها ترحلان عن ألتجيلد. وذات مرةٍ عندما ذهبتُ إلى شقة ليندا أرتْني الأختان ألبومَ صور مليئًا بقصاصاتٍ مأخوذة من مجلة «بيتر هومز آند جاردنز». وأشارتا إلى المطابخ البيضاء البرَّاقة والأرضيات المصنوعة من الخشب الصلب، وأخبرتاني أنهما ستعيشان في منزلٍ كهذا في أحد الأيام. كما قالتا إن تايرون سوف يتلقَّى دروسًا في السباحة وجويل سترقُص البالية.

في بعض الأحيان، وأنا أستمع إلى مثل هذه الأحلام البريئة، كنتُ أجد نفسي أحاول مقاومة الرغبة العارمة في أن أضمَّ هاتَين الفتاتَين وابنَيهما بين ذراعيَّ، وأن أتشبَّث بهم جميعًا ولا أسمح لأيٍّ منهم بالابتعاد عني. وفي الواقع أعتقد أن الفتاتَين شعرتا برغبتي هذه، وكانت ليندا بجمالها الأسمر المبهر ترتسِم على وجهها ابتسامة وهي تنظر إلى بيرناديت وتسألني عن سبب عدم زواجي حتى الآن.

وكنتُ أردُّ عليها قائلًا: «أعتقد أنني لم أجد الزوجة المناسبة.»

وكانت بيرناديت تمازح ليندا بالضرب على ذراعها وهي تقول: «توقَّفي عن قول ذلك! إنك تجعلين وجنتَي السيد أوباما تحمرَّان خجلًا.» وتضحكان معًا، وأُدرك حينها أنني بأسلوبي الخاص أبدو دون شكٍّ بريئًا لهما كما تبدوان كلاهما لي.

كانت خُطتي بسيطة لمثل هؤلاء الأمَّهات. فلم نكن نملك بعدُ القوة لتغيير سياسة الرعاية الاجتماعية أو توفير وظائف محلية أو جلب أموالٍ أكثر لتمويل المدارس. لكن ما نستطيع فعْله هو البدء في تحسين الخدمات الأساسية في ألتجيلد، مثل إصلاح الحمامات والمدافئ والنوافذ. تخيلتُ أنه بتحقيق بعض النجاحات هناك يمكن أن يُكوِّن هؤلاء الأمَّهات بالفعل القاعدةَ الرئيسية لمؤسسةٍ مُستقلة للمستأجِرين. وفي ضوء هذه الاستراتيجية التي فكَّرت فيها وزَّعت مجموعةً من استمارات الشكاوى في اجتماع الأمهات التالي، وطلبتُ من كلٍّ منهنَّ أن يحصلنَ على آراء جيرانهنَّ في المبنى السكني الذي يَسكُنَّ فيه. ووافقنَ على هذه الخطة، لكن عندما انتهى الاجتماع اقتربت مني إحدى الأمهات — تُسمَّى سادي إيفانز — حاملةً في يدِها قصاصةً صغيرة من جريدة.

قالت: «رأيتُ هذا الخبر في الجريدة بالأمس يا سيد أوباما.» وأضافت: «لا أعرف ماذا يعني لكنني أردتُ أن أعرف رأيك فيه.»

كان هذا الخبر إشعارًا قانونيًّا منشورًا في القسم المبوَّب بالجريدة بخطٍّ صغير. وفحواه أن هيئة الإسكان بشيكاغو تطلُب من المقاولين المؤهلين تقديمَ عروضهم لإزالة مادة الأسبستوس من مكتب الإدارة في ألتجيلد. سألتُ الأمهات هل أُبلِغَت إحداهن بالتعرُّض المحتمل للأسبستوس. فهززنَ رءوسهنَّ بالنفي.

سألَتْ ليندا: «أتعتقِد أن شُقَقنا بُنِيَت باستخدام هذه المادة؟»

«لا أعرف. لكن بإمكاننا كشْف النقاب عن الأمر. مَن منكنَّ تريد الاتصال بالسيد أندرسون في المكتب الإداري؟»

نظرتُ في أرجاء الغرفة، لكن لم يرفع أحدٌ يدَه. «فلتتطوَّع إحداكنَّ. لا أستطيع أن أجري الاتصال الهاتفي بنفسي. ذلك لأنني لا أعيش هنا.»

وأخيرًا رفعت سادي يدَها. وقالت: «سأتصل أنا.»

لم أكن أُفضِّل أن تكون سادي هي مَن تقوم بهذه المهمة. فهي سيدة قصيرة ضئيلة الحجم صوتها رفيع تبدو معه خجولة. كانت ترتدي فساتين لا يتجاوز طولُها ركبتَيها، وتحمل معها أينما ذهبت إنجيلًا له غلاف من الجلد. وعلى عكس الأُمهات الأُخريات كانت متزوجةً من شابٍّ كان يعمل موظفًا في أحد المتاجر نهارًا ويتدرَّب ليُصبح خادمًا في الكنيسة، ولم يكن للزوجَين تعامُلات مع أحدٍ خارج كنيستهما.

كل هذه الأشياء جعلتها غيرَ مناسبةٍ من بين مجموعة الأمهات ولم أكن متأكدًا من أنها ستكون جادةً بصورة كافية للتعامُل مع هيئة الإسكان بشيكاغو. لكنني عندما عُدت إلى المكتب ذلك اليوم أخبرتني السكرتيرة بأن سادي حدَّدت موعدًا بالفعل مع السيد أندرسون وأنها اتصلت بالأمَّهات كافةً لإخبارهنَّ بهذا الأمر. وفي صباح اليوم التالي وجدتُ سادي واقفة بالخارج أمام مكتب إدارة ألتجيلد، تبدو كاليتيمة، بمفردها في الضباب الرطب.

قالت لي وهي تنظر إلى ساعتها: «إنك لا تنتظِر مجيء أحدٍ يا سيد أوباما، أليس كذلك؟»

«ناديني باراك. استمعي إليَّ، ألا تزالين تُريدين فعْل هذا الأمر؟ إن لم تكوني تشعرين بالارتياح بخصوصه يمكننا إعادةُ تحديد ميعادٍ آخر للاجتماع إلى أن نجد أُمًّا أخرى تقوم به بدلًا منك.»

«لا أعرف، هل تعتقد أنه يمكن أن تُواجهني أية مشكلات؟»

«أعتقد أن لدَيك الحقَّ في سرْد المعلومات التي يمكن أن تؤثِّر على صحتك. لكنَّ ذلك لا يعني أن السيد أندرسون سيُفكِّر بهذه الطريقة. سأقف بجانبك وكذلك سائر الأمهات، لكن عليكِ فعْل ما يبدو منطقيًّا لكِ.»

جذبت سادي مِعطفها إلى الأمام ونظرت مرةً أخرى إلى ساعتها. وقالت وهي تتَّجه فجأة ناحية الباب: «يجب ألا نجعل السيد أندرسون ينتظر أكثرَ من ذلك.»

كان واضحًا من التعبير المرسوم على وجه السيد أندرسون عندما دخلْنا مكتبه أنه فوجئ بمجيئي. طلب منا الجلوس وسألَنا هل نُريد احتساء قهوة.

قالت سادي: «لا شكرًا كثيرًا.» وتابعت: «إنني أقدِّر فعليًّا موافقتك على مقابلتنا في غضون هذا الوقت القصير.» أخرجت سادي — وهي لا تزال ترتدي معطفها — الإشعار القانوني وقدَّمته بحذرٍ على مكتب السيد أندرسون. وقالت: «رأت بعض الأمهات في المدرسة هذا الخبر وكنَّا قلقِين … حسنًا أردْنا أن نعرف إن كانت مادة الأسبستوس قد استُخدِمت في بناء شُقَقنا.»

ألقى السيد أندرسون نظرةً متعجلة على الخبر، ووضعه جانبًا. قال: «لا داعي للقلق يا سيدة إيفانز. وتابع: «إننا نُجدِّد هذا المبنى وبعد أن أزال المقاولون أحد الجدران وجدوا الأسبستوس في الأنابيب. وقد أُزيلت المادة كإجراءٍ وقائي.»

«حسنًا … ألا يجب أن يُتَّخذ الإجراء الوقائي ذاته في شُقَقنا، أعني ألا تُوجَد مادة الأسبستوس في شُقَقنا أيضًا؟»

وهكذا نُصب الفخ وتلاقت عينا السيد أندرسون مع عينيَّ. وقلتُ لنفسي إن التعتيم يمكن أن يحظى بشهرةٍ مماثلة للشهرة التي تُثيرها قضية الأسبستوس. ولا شك في أن الشهرة ستجعل مهمتي أسهل. ومع ذلك، فإنني عندما رأيتُ السيد أندرسون يتململ على مقعده محاولًا تقدير الموقف أردتُ أن أُسدي إليه النصيحة بأن يتوقَّف عما سيحاول فعْله. لقد كان لديَّ شعورٌ ما بأن روحه مألوفة لي؛ روح رجل مُتقدِّم في السن خدعته الحياة وكانت له نظرة كثيرًا ما رأيتُها في عينَي جَدي. وإلى حدٍّ ما أردتُ أن يعرف السيد أندرسون أنني فهمتُ المأزق الذي وقع فيه، وأردتُ أن أُخبره بأنه ليس عليه إلا أن يشرح أن المشكلات في ألتجيلد كانت موجودة قبل وصوله، ويعترف بأنه هو أيضًا في حاجةٍ إلى المساعدة، فربما يظهر عندئذٍ أيُّ حلٍّ لهذه المشكلة.

على أنني لم أتفوَّه ببنت شفة، وانصرف نظر السيد أندرسون عني. وقال لسادي: «لا، سيدة إيفانز.» وتابع: «لا يُوجَد الأسبستوس في الوحدات السكنية. ذلك لأننا وضعنا هذه الوحدات تحت الاختبار بصورةٍ كاملة.»

قالت سادي: «حسنًا، هذا أمرٌ مريح. شكرًا لك. أشكرك كثيرًا.» بعد ذلك نهضت من مقعدها وصافحت السيد أندرسون وتوجَّهت ناحية الباب. لكنها عادت إليه مرةً أخرى عندما كنتُ على وشك قول شيء.

قالت سادي: «عذرًا.» وتابعت: «نسيتُ أن أسألك عن شيء. إن الأمهات الأخريات … حسنًا … يُردن الاطلاع على نسخةٍ من هذه الاختبارات. أقصد النتائج. والهدف من ذلك أن نجعل الجميع مُطمئنين على الأطفال.»

تلعثم السيد أندرسون وهو يقول: «إنني … إن النتائج جميعها موجودة في مكتب وسط المدينة.» وتابع: «محتفظ بها في الأرشيف هناك.»

«أتعتقد أن باستطاعتك إحضار نسخةٍ منها الأسبوع القادم؟»

«نعم، حسنًا … بالطبع. سأرى ما الذي أستطيع فعله. موعدنا الأسبوع القادم.»

عندما خرجنا من المكتب أخبرتُ سادي أنها أحسنَت صنعًا.

«هل تعتقد أنه يقول الحقيقة؟»

«لا أعرف. سنرى قريبًا.»

•••

مرَّ أسبوع. واتصلَتْ سادي بمكتب السيد أندرسون وأُخبرت بأن إحضار نتائج الاختبارات سيستغرق أسبوعًا آخر. مرَّ أسبوعان ولم يردَّ أحدٌ على مكالمات سادي. حاولنا الاتصال بالسيدة ريس ثم مدير المقاطعة لهيئة الإسكان بشيكاغو، ثم أرسلنا خطابًا إلى المدير التنفيذي لهيئة الإسكان بشيكاغو، إلى جانب نسخةٍ أخرى منه إلى مكتب العمدة. ولم نحصل على أي رد.

سألت بيرناديت: «ماذا سنفعل الآن؟»

«سنذهب إلى وسط المدينة. إذا لم تأتِ النتائج إلينا فسنذهب نحن لإحضارها.»

في اليوم التالي خطَّطنا لما سنقوم به. وكتبْنا خطابًا آخر إلى المدير التنفيذي لهيئة الإسكان بشيكاغو نُخبره فيه بأننا سنكون في مكتبه بعد يومَين للحصول على إجاباتٍ وافية بخصوص الأسئلة المطروحة بشأن الأسبستوس. ثم أصدرنا بيانًا صحفيًّا مُقتضبًا. وعاد أطفال مدرسة كارفر إلى منازلهم بمنشورٍ ملصق في ستراتهم يحثُّ أمهاتهم على الاشتراك معنا في الأمر. وقضت سادي وليندا وبيرناديت معظم ساعات المساء يتَّصلنَ هاتفيًّا بجيرانهنَّ.

وعندما جاء يوم الحساب لم أجد سوى ثمانية أشخاص في الأتوبيس الأصفر الذي كان واقفًا أمام المدرسة. وقفتُ أنا وبيرناديت في موقف السيارات محاولِين اجتذاب أمَّهات أُخريات وقت حضورهنَّ لأخذ أولادهنَّ من المدرسة. لكنهنَّ قُلنَ إن لديهنَّ مواعيدَ مع الأطباء أو لا يستطعنَ إيجاد جليسات أطفال ليجلسنَ معهن وقتَ غيابهنَّ. إلى جانب ذلك لم يهتم بعضهن بإبداء أي اعتذارات، بل مررنَ بجانبنا كما لو كنَّا مُتسولين نستجدي الطعام والمال. وعندما وصلت أنجيلا ومنى وشيرلي لمعرفة كيف تطوَّرت الأمور أصررتُ على أن يركبنَ معنا لتقديم دعم معنوي. حيث بدا الجميع مُحبطًا ما عدا تايرون وجويل اللذَين كانا مشغولين برسم تعبيراتٍ مُضحكة على وجوههما وهما ينظران إلى السيد لوكاس، الأب الوحيد في المجموعة. اتجهت الدكتورة كوليار نحوي ووقفت بجانبي.

قلت: «أعتقد أننا اكتملنا.»

قالت لي: «أفضل مما توقَّعت.» وتابعت: «إنه جيش أوباما.»

«هذا صحيح.»

قالت وهي تُربِّت على ظهري: «حظ سعيد.»

تحرَّك الأتوبيس ومرَّ بجانب مُستوقد حرق القمامة القديم ومصنع رايرسون ستيل للصلب، واتجه نحو مُتنزَّه جاكسون بارك، ومنه إلى طريق ليك شور درايف. وعندما اقتربنا من وسط المدينة وزَّعتُ نسخةً من الخطة وطلبتُ من الجميع قراءتها بدقة. وفي أثناء انتظاري انتهاءهم من القراءة لاحظتُ أن السيد لوكاس قاطبُ الجبين وعابسٌ. وفي الواقع كان السيد لوكاس رجلًا لطيفًا قصيرَ القامة، وكان يتلعثم قليلًا في حديثه ويعمل في ألتجيلد في وظائف لبعض الوقت، وكان يساعد أمَّ أطفاله قدْر استطاعته. اتجهتُ نحوَه وسألتُه هل ضايقه شيء.

قال بهدوء: «لا أُجيد القراءة.»

وبعدها نظرنا معًا إلى الصفحة الممتلئة بالكلمات.

قلت له: «لا تُوجَد مشكلة.» سرتُ نحو مقدمة الأتوبيس وتابعت: «استمعوا إليَّ جميعًا! سنقرأ الخطة معًا للتأكد من أننا فهمناها على نحوٍ صائب. ما مطلبنا؟»

«عقْد اجتماع مع المدير!»

«أين؟»

«في ألتجيلد!»

«ماذا لو قالوا إنهم سيردُّون علينا لاحقًا؟»

«إننا نريد الرد الآن!»

«ماذا إن فعلوا شيئًا لا نتوقَّعه؟»

«إننا يدٌ واحدة!»

صاح تايرون: «محتالون!»

كان مقرُّ مكتب هيئة الإسكان بشيكاغو في مبنًى رمادي قوي في وسط مدينة شيكاغو. نزل الجميع من الأتوبيس ودخلنا الرَّدهة وازدحم المصعد بنا. وفي الدور الرابع دخلنا قاعة الانتظار المضاءة إضاءةً ساطعة حيث كانت تجلس موظفة استقبال خلف مكتبٍ فخم.

قالت وهي لا تكاد ترفع عينَيها من المجلة التي كانت تتصفحها: «هل أستطيع مساعدتكم؟»

قالت سادي: «إننا نريد مقابلة المدير من فضلك.»

«هل لديكم موعد معه؟»

«إنه …» استدارت سادي نحوي، فقلت:

«إنه يعلم أننا قادمون.»

«حسنًا، إنه ليس بمكتبه الآن.»

قالت سادي: «من فضلكِ اعرضي الأمر على نائبه.»

نظرت موظفة الاستقبال لنا نظرةً عدائية، لكننا أصرَرْنا على موقفنا. فقالت في النهاية: «تفضلوا بالجلوس.»

جلس أولياء أمور الأطفال وعمَّ الصمتُ الجميع. وأشعلت شيرلي سيجارة لكن أنجيلا ضربتها في ضلوعها بمرفقها.

«من المفترض أننا مهمومون بأمر الصحة، هل تتذكَّرين؟»

همهمت شيرلي بتذمُّر وهي تقول: «فات أوان ذلك لي»، لكنها أعادت علبة السجائر إلى حقيبتها مرةً أخرى. وخرج مجموعة من الرجال في ملابسهم الرسمية من الباب الموجود خلف مكتب موظفة الاستقبال ونظروا إلينا نظرةً سريعة في طريقهم إلى المصعد. همست ليندا في أذن بيرناديت وردت لها الأخرى الهمسة.

فقلتُ بصوتٍ مرتفع: «بمَ تتهامسان؟»

قهقهتا. وقالت بيرناديت: «أشعر بأنني في انتظار مقابلة مديرة المدرسة.»

قلت: «أعيروني أسماعكم.» وتابعت: «إنهم يؤسِّسون هذه المكاتب الكبيرة لغرس الشعور بالخوف بداخلكم. ولكن تذكَّروا أن هذه هيئة «عامة». الناس الذين يعملون هنا مسئولون أمامكم.»

قالت لنا موظفة الاستقبال بصوتٍ عالٍ يُطابق علو صوتي: «عذرًا.» وتابعت: «لقد أُخبرتُ بأن المدير لن يكون قادرًا على مقابلتكم اليوم. عليكم إخبار السيد أندرسون في ألتجيلد بأية مشكلاتٍ تُعانونها.»

قالت بيرناديت: «استمعي إليَّ.» وتابعت: «لقد قابلنا السيد أندرسون بالفعل. وإذا لم يكن المدير موجودًا الآن فإننا نريد مقابلة نائبه.»

«إنني آسفة لكن هذا غير ممكن.» وتابعت: «إذا لم تُغادروا المكتب الآن فسأُضطر إلى استدعاء الأمن.»

في هذه اللحظة، فُتحت أبواب المصعد ودخل العديد من مصوري التليفزيون والعديد من الصحفيين. وسألني أحدُهم قائلًا: «هل هذا هو احتجاج بشأن الأسبستوس؟»

أشرت إلى سادي. وقلت: «هذه هي المتحدثة الرسمية عنا.»

بدأ طاقم المصورين في الاستعداد وأخرج الصحفيون مذكراتهم. واستأذنَتْ منهم سادي وأخذتني جانبًا.

قالت: «لا أريد التحدُّث أمام الكاميرات.»

«لماذا؟»

«لا أعرف. لكنني لم أظهر في التليفزيون من قبل.»

«ستُبلين بلاءً حسنًا.»

وفي غضون بضع دقائق بدأتِ الكاميرات تُصوِّر وعقدت سادي بصوتها المرتعد قليلًا أول مؤتمرٍ صحفي لها. وعندما بدأت الرد على الأسئلة أسرعت سيدة — ترتدي حلةً حمراء وتضع بإفراط زينة على رموشها — تجاه منطقة الاستقبال. ابتسمَت هذه السيدة بتحفُّظ لسادي وقدَّمت نفسها على أنها الآنسة برودناكس، مساعدة المدير. وقالت: «إنني آسفةٌ جدًّا لعدم وجود المدير. وتابعت قائلة: «تفضَّلوا معي وأنا متأكدة من أننا سنحلُّ هذا الأمر.»

صاحت صحفية: «هل تحتوي الوحدات السكنية التي تُقدِّمها هيئة الإسكان بشيكاغو على الأسبستوس؟»

«هل سيقابل المدير الأمهات؟»

صاحت الآنسة برودناكس من خلف الصحفية: «إننا معنيون بالمحصلة النهائية الأفضل للقاطنين هناك.» بعد ذلك تَبِعناها إلى غرفةٍ كبيرة بها العديد من المسئولين العابسين الذين كانوا جالِسين بالفعل حول طاولة اجتماعات. علَّقت الآنسة برودناكس على مدى لُطف الأطفال وعرضت على الجميع احتساءَ القهوة وتناوُلَ الكعك.

قالت ليندا: «لا نريد تناول الكعك.» وأردفت: «إننا نُريد إجابات عن أسئلتنا.»

وهكذا كان الحال. دون أن أنطق بأيةِ كلمةٍ اكتشف أولياء الأمور أنه لم يُجْرَ أيُّ اختبار، ووُعِدوا بأن الاختبارات ستبدأ فعليًّا بنهاية هذا اليوم. بالإضافة إلى ذلك اتفقوا على عقد اجتماع مع المدير وحصلوا على مجموعةٍ من بطاقات التعارُف، وشكروا الآنسة برودناكس على منحهم وقتَها. أُعلن عن يوم الاجتماع إلى الصحافة قبل أن يزدحِم بنا المصعد للنزول لأسفل لركوب الحافلة. وعندما خرجنا إلى الشارع أصرَّت ليندا على أن أدعو الجميع — بما فيهم سائق الحافلة — على فشار بالكراميل، وعندما بدأ الأتوبيس يتحرَّك حاولتُ تقييم خُطتنا، موضحًا أهمية الإعداد وكيف تكاتف الجميع في عملٍ جماعي كفريق.

قالت: «هل رأيتم وجهَ السيدة عندما رأت الكاميرات؟»

«وهل رأيتموها وهي تتعامل بلطفٍ مع الأطفال؟ كلُّ ما هنالك أنها تحاول أن تكون لطيفةً معنا حتى لا نطرح أيَّ سؤال.»

«ألم تكن سادي رائعة؟ لقد جعلتِ كلًّا منا يشعر بالفخر يا سادي.»

«اتصلتُ بابنة عمِّي للتأكُّد من أن جهاز الفيديو الخاص بها يعمل. إننا سنظهر على شاشة التليفزيون.»

حاولتُ أن أمنع الجميع من أن يتحدثوا فورًا، لكنَّ مُنى شدَّتني من قميصي. وقالت لي: «توقَّف عن ذلك يا باراك. أسمعت؟» وأعطتني كيس فشار. وقالت: «تناوله.»

جلستُ بجانبها. وحمل السيد لوكاس الأطفال على حجره لمشاهدة نافورة باكينجهام. وفي حين كنتُ أمضغ حبَّات الفشار الصلبة وأنظر إلى البحيرة — الهادئة الفيروزية اللون — حاولت استدعاء لحظةٍ أكثرَ إرضاءً لذاتي.

•••

لقد تغيَّرتُ نتيجةً لهذه الرحلة تغيُّرًا جوهريًّا. كان تغيُّرًا مُهمًّا ليس لأنه غيَّر ظروفي المادية الملموسة بطريقةٍ أو بأخرى (حيث الثروة والأمان والشهرة)، لكن لأنه أشار ضمنًا إلى ما يمكن أن يكون مُتاحًا، ومِن ثَم دفعني وقدَّم لي الدعم والتشجيع الكافِيَين — بصرف النظر عن الشعور الحالي بالفرحة البالِغة وأي شعورٍ تالٍ بالإحباط — لاستعادة شيءٍ كان في حوزتي من قبل، حتى ولو لبرهةٍ قصيرة. كان الطريق الذي سلكناه بالحافلة هو ما شجَّعني على الاستمرار. وأعتقِد أنه ربما لا يزال يُشجعني.

كانت الشهرة أمرًا لطيفًا دون شك. وفي مساء اليوم التالي لعودتنا من مكتب هيئة الإسكان بشيكاغو كان وجه سادي يظهر على جميع شاشات التليفزيون. واكتشفَتِ الصحافة — التي اشتمَّت رائحة المشكلات — أن مشروعًا آخرَ بالجانب الجنوبي استُخدِمت فيه أنابيب مبطنة بالأسبستوس الفاسد. وبدأ أعضاء مجلس المدينة يُطالبون بإجراء تحقيقات فورية. واتصل المحامون للإعداد لرفع دعوى قضائية جماعية.

على النقيض من ذلك، فإن الأمر، من وجهة نظري، كان بعيدًا كلَّ البعد عن هذه الجوانب، في أثناء إعدادنا للاجتماع مع مدير هيئة الإسكان بشيكاغو بدأتُ أُلاحظ حدوث أشياء رائعة. فقد بدأ أولياء الأمور يتحدَّثون عن أفكارٍ مُتعلقة بحملاتٍ مستقبلية. واشترك بالفعل أولياء أمور جُدد. ووُضِع الاستفتاء الذي خطَّطنا له فيما سبق موضعَ التنفيذ، وبدأت ليندا — التي اقتربت من وضْع طفلِها — تتهادى في مِشيَتِها وهي مُنتفخة البطن من منزلٍ لآخر لتجميع استمارات الشكاوى، وشرَح السيد لوكاس لجيرانه كيف يملئون هذه الاستمارات بصورةٍ صحيحة، مع أنه هو نفسه كان يعجز عن قراءة هذه الشكاوى. حتى إن هؤلاء الذين عارضوا مجهوداتنا بدءوا يُغيِّرون آراءهم ويشتركون معنا؛ فقد وافقت السيدة ريس على دعم الحدث وسمح القس جونسون لبعض أعضائه بالإعلان عن حملتنا في خدمة الأحد. وهكذا فجَّرت خطوات سادي المحدودة والصادقة ينابيع الأمل لتسمح للناس في ألتجيلد باستعادة سلطةٍ كانت في حوزتهم من البداية.

كان من المقرَّر أن يُعقَد الاجتماع في صالة الألعاب الرياضية بكنيسة أوار ليدي لأنها كانت المبنى الوحيد في ألتجيلد الذي كان بمقدوره استيعاب ٣٠٠ شخصٍ أملنا في حضورهم. وصل القادة إلى مكان الاجتماع مبكرًا عن الموعد بساعةٍ وراجعنا مطالبنا للمرة الأخيرة، التي تمثلت في أن تتعاون مجموعة من السكان مع هيئة الإسكان بشيكاغو لضمان استمرار مراقبة وجود الأسبستوس وعدم انتشار استخدامه، وأن تضع الهيئة جدولًا زمنيًّا صارمًا لإجراء الإصلاحات. وفي أثناء مناقشة مجموعةٍ من التفاصيل في اللحظات الأخيرة لفت نظري عامل الصيانة هنري إلى نظام تكبير الصوت.

«ما المشكلة؟»

«إن النظام لا يعمل. يبدو أن هناك اختلالًا في تشغيل الدائرة الكهربية أو ما شابه.»

«إذن أليس لدَينا ميكروفون؟»

«نعم. وبذلك ستُضطر إلى استخدام هذا.» أشار عامل الصيانة إلى مُكبِّر صوت واحد بحجم حقيبة سفر صغيرة ملحق به ميكروفون حالته سيئة مُعلَّق بسلكٍ واحد يكاد أن ينقطع. جاءت سادي وليندا بجانبي وحملقتا في الصندوق البدائي.

وقالت ليندا: «لا بد أنك تمزح.»

ضربتُ على المايك. وقلت: «سيفي بالغرض، وليس عليكما إلا أن تتحدَّثا فيه.» بعد ذلك قلت وأنا أنظر إلى مكبِّر الصوت: «لكن حاوِلا ألا يمسك المدير بالميكروفون أكثرَ من اللازم. وإلا فإنه سيتحدَّث لساعات. امسكا به حتى لا يتحدَّث إلا بعد أن تطرحا عليه الأسئلة. تمامًا مثل أوبرا وينفري.»

قالت سادي وهي تنظر إلى ساعتها: «إن لم يأتِ أحد فلن نحتاج إلى ميكروفون.»

حضر الناس. حضروا من جميع المناطق في الجاردنز؛ الشيوخ والمراهقون والأطفال. وفي تمام السابعة كان قد وصل ٥٠٠ شخص، وفي السابعة و١٥ دقيقة وصل عدد الحضور إلى ٧٠٠ فرد. وبدأ أعضاء أطقم العمل في التليفزيون يضعون كاميراتهم وطلب منَّا السياسيون المحليُّون الحاضرون أن نُعطيهم فرصةً لإثارة حماسة الجمهور. أما مارتي الذي جاء لمشاهدة الحدث فإنه لم يستطِع الاحتفاظ بهدوئه وعدم التحدُّث.

قال: «لقد حققتَ شيئًا هنا بالفعل يا باراك. وهؤلاء الناس جاهزون للتحرك.»

كان كل شيءٍ على ما يُرام ما عدا مشكلة واحدة، وهي أن المدير لم يكن قد وصل بعد. وقالت الآنسة برودناكس إنه عالق بالطريق؛ لذا قررْنا أن نبدأ بأول جزءٍ من برنامج العمل المحدَّد. وبعد انتهاء المناقشة التمهيدية كانت عقارب الساعة قد أعلنت تمام الثامنة. وسمعتُ الناس يتذمَّرون وهم يحرِّكون الهواء حول وجوههم في هذا المكان الحار الخالي من الهواء النقي. بالقُرب من الباب رأيتُ مارتي وهو يحاول قيادة الجمهور في أنشودة. وانتحيتُ به جانبًا:

«ماذا تفعل؟»

«إنك تفقد الناس. ولا بد من فعلِ شيء للإبقاء على حماسِهم.»

«اجلس من فضلك.»

كنتُ على وشك إلغاء الاجتماع والتحدُّث مع الآنسة برودناكس بهذا الخصوص، عندما علت الضوضاء من الجزء الخلفي لصالة الألعاب الرياضية ودخل المدير من الباب ومن حوله عددٌ من المساعِدين. كان رجلًا أسودَ اللون أنيقًا متوسط البنية في بداية الأربعينيات من عمره. أخذ يُعدِّل رابطة عنقه ويتَّجه نحو مقدمة الغرفة وعلى وجهه ملامح الجِدية.

قالت سادي في الميكروفون: «مرحبًا.» وأضافت: «إن لدَينا جمهورًا كبيرًا في حاجةٍ إلى التحدُّث معك.»

صفَّق الحضور وسمعنا بعض صيحات الاستهجان. ودارت أضواء التليفزيون.

قالت سادي: «إننا مجتمعون هنا الليلة للتحدُّث بشأن مشكلةٍ تهدِّد صحة أطفالنا. لكن قبل أن نتحدَّث عن الأسبستوس نحتاج إلى التعامُل مع المشكلات التي ننصهِر معها يوميًّا في بوتقةٍ واحدة. ليندا؟»

سلَّمَت سادي الميكروفون إلى ليندا التي استدارت ناحية المدير وأشارت إلى مجموعة استمارات الشكاوى.

«السيد المدير، إننا لا نتوقَّع جميعنا في ألتجيلد حدوث معجزات. لكننا نتوقَّع الحصول على الخدمات الأساسية. هذا هو كلُّ ما في الأمر. الخدمات الأساسية. والآن فإن هؤلاء الناس أتعبوا أنفسهم في ملء هذه الاستمارات بنظامٍ ووضوح شديدَين لذِكر الأشياء التي طالما طالبوا هيئة الإسكان بشيكاغو بإصلاحها، لكنَّ يد الإصلاح لم تطُلها قط. لذا فإن سؤالنا الآن هو: هل تقبل التعاون معنا — هذه الليلة أمام كل هؤلاء السكان — لإجراء هذه الإصلاحات؟»

في الواقع، الأحداث التي جرت في اللحظات التالية مختلطة في ذاكرتي وغير واضحة. لكن حسبما أتذكَّر فإن ليندا قدَّمت الميكروفون إلى المدير ليُدلي بإجابته، وعندما اقترب من الميكروفون أخذته ليندا مرةً أخرى.

وقالت: «فلتكن إجابتك بنعم أو لا من فضلك.» ذكر المدير شيئًا أوحى بأنه سيرد بأسلوبه الخاص ومدَّ يدَه مرةً أخرى لأخْذِ المايك. لكنَّ ليندا سحبَتْه تجاهها هذه المرة أيضًا، وفي هذه المرة فقط بدا الأمر وكأنه استهزاءٌ ما بالرجل مثله مثل حركة الطفل الذي يغيظ أحدَ أقرانه ببسكويت الآيس كريم. حاولتُ أن أُلوِّح إلى ليندا لتتغاضى عما قُلته قبل الاجتماع بخصوص الميكروفون وتُعطيه للمدير، لكنني كنتُ واقفًا في المؤخرة بعيدًا جدًّا عنها. وفي الوقت نفسه أمسك المدير بسلك المايك وللحظةٍ نشأ نزاعٌ بين المسئول الشهير والسيدة الحامل التي كانت ترتدي بلوزةً وبنطلونًا ضيقَين. ومن خلفهما وقفت سادي ثابتة دون حراك، وجهها لامع وعيناها واسعتان. بدأ الجمهور — وهم غير فاهمين ما يحدث — في الصياح، بعضهم في وجه المدير والبعض الآخر في وجه ليندا.

بعد ذلك … حدث هرجٌ ومرَج. أخلى المدير سبيل سلك الميكروفون، واتَّجه نحو باب الخروج. وأسرع الناس الجالسون بالقُرب من الباب وراءه لكنَّه انطلق سريعًا. جريت وراءه، وعندما تمكنتُ من الخروج بشِقِّ الأنفس كان المدير قد أمَّن نفسه وركب سيارته الليموزين التي أحاطتها أعدادٌ كبيرة من الناس، الذين وضع بعضهم وجوههم أمام زجاج النوافذ الملوَّن وضحك بعضهم الآخر، وتذمَّر آخرون ووقف معظمهم في أماكنهم مذهولين. أخذت السيارة تتقدَّم ببطءٍ شديد، بمقدار بوصةٍ في كل حركة إلى الأمام، إلى أن فُتح الطريق أمامها، وأسرعت — متحركةً بصعوبة فوق الشارع المليء بالحفر — وتخطَّت الرصيف إلى أن اختفت عن الأنظار.

عُدت إلى صالة الألعاب الرياضية ماشيًا وأنا في حالةٍ من الذهول والاضطراب وأمامي جماهير غفيرة عائدة إلى منازلها. وبالقُرب من الباب تجمَّع الناس في دائرةٍ صغيرة حول شابٍّ يرتدي سترةً جلدية بُنية اللون، عرفتُ أنه مساعد عضو مجلس المدينة.

كان هذا الشاب يقول للناس من حوله: «إن هذا من عمل فردولياك. لا بد أنكم رأيتم الرجل الأبيض وهو يُثير الناس. إنهم يحاولون تشويه صورة هارولد.»

بعد هذا التجمُّع ببضعة أقدامٍ رأيتُ السيدة ريس والعديد من مُساعديها وهي تتحدَّث. أشارت إليَّ بكلماتٍ لاذعة: «أرأيتَ ما فعلت!» وتابعت: «إن هذا ما يحدث عندما تحاول إشراك هؤلاء الشباب في الأمر. إنك تسبَّبتَ في إحراج أهل الجاردنز في التليفزيون وكل وسائل الإعلام. ورآنا ذوو البشرة البيضاء ونحن نتعامل مثل الزنوج الحمقى! تمامًا مثلما توقَّعوا منَّا.»

لم يتبقَّ داخل مكان عقد الاجتماع سوى بعض أولياء الأمور. ووقفَتْ ليندا في أحد الأركان تبكي بحرقة. اتجهتُ نحوَها ووضعتُ ذراعي حول كتفها.

وقلت: «هل أنت بخير؟»

قالت وهي تحاول إرجاع دموعها: «إنني مُحرجة للغاية.» وتابعت: «لا أعرف ماذا حدث يا باراك. في ظل حضور كل هؤلاء الناس … يبدو أنني دائمًا ما أُفسد الأمور.»

قلتُ لها: «إنك لا تفسدين الأمور. وإذا كان هناك مَن فعل ذلك فلا بد أنه أنا.» جمعتُ الآخرين حولها وحاولتُ أن أُشجِّعهم. وقلتُ إن عدد الحضور كان هائلًا، وهذا يعني أن الناس كانوا مُستعدِّين للمشاركة وأن معظمهم لا يزالون يدعمون مجهوداتنا. ولا بد أن نتعلَّم من أخطائنا.

قالت شيرلي: «ومِن المؤكَّد أن المدير الآن يعرِف مَن نكون.»

أثارت هذه الجملة بعض الضحكات الواهنة. وقالت سادي إنها مُضطرة للعودة إلى المنزل، أما أنا فقد أخبرتُ المجموعة أن باستطاعتي ترتيبَ المكان. وعندما شاهدتُ بيرناديت وهي تحمل تايرون نائمًا بذراعٍ واحدة وتشعُر بالتعب من ثقل وزنه وهي تتجوَّل في المكان، شعرتُ بتقلُّصٍ في معدتي. ربَّتت دكتورة كوليار على كتفي.

وسألتني: «إذن مَن يستطيع أن يخفِّف عنك ما تشعر به؟»

هززتُ رأسي.

«لقد أقبلتَ على المخاطرة أملًا في تحقيقِ ما تريد، وستتحسَّن الأحوال بين الحين والآخر.»

«لكنَّ النظرات التي تعلو وجوههم …»

قالت كوليار: «لا تقلق.» وتابعت: «إنهم صامدون. لكن ليس كما يبدو — بما فيهم أنت ونحن جميعًا. وهم سيتغلبون على المشكلة. ذلك لأن حدوث شيءٍ كهذا يُعَدُّ جزءًا من بلوغ مرحلة النضج. وفي بعض الأحيان تكون هذه المرحلة مؤلمة.»

•••

كان يمكن أن تصبح النتائج العكسية أسوأ. لكن لأننا بدأنا الاجتماع في وقتٍ مُتأخِّر عن الوقت المحدَّد له فلم تستطِع سوى محطة تليفزيونية واحدة إعادة عرض تلك الحرب بين ليندا والمدير. وعلَّقت إحدى الصحف صباحًا على الإحباط الذي شعر به السكان نتيجةَ استجابة هيئة الإسكان البطيئة لمشكلة الأسبستوس وتأخَّر المدير مساء الاجتماع. وفي الواقع فإنه كان باستطاعتنا أن نُعلن أن الاجتماع كان نصرًا من نواحٍ عدة؛ ففي الأسبوع التالي رأى البعض في منطقة الجاردنز رجالًا يرتدون ملابسَ واقية وأقنعة يمنعون تسرُّب الأسبستوس الذي هدَّد بإلحاقِ مخاطرَ فورية. وأعلنت هيئة الإسكان بشيكاغو أنها طالبت وزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأمريكية بإيداع عدة ملايين من الدولارات في صناديق التمويل الطارئة لعمليات الإصلاح.

ساعدت هذه الامتيازات في رفع الروح المعنوية لبعض أولياء الأمور، وبعد بضعة أسابيع من تضميد جراحنا والخروج من حالة الإحباط التي عشنا فيها بدأنا تنظيم اجتماعٍ آخرَ للتأكد من أن هيئة الإسكان أوفت بالتزاماتها. وعلى الأقل في ألتجيلد فقط، لم أستطِع أن أزعزع شعورهم بأن نافذة الاحتمالات التي لم تكد تُفتَح إلا لوقتٍ وجيز أُغلِقت وبعنفٍ مرةً أخرى. استمرت ليندا وبيرناديت والسيد لوكاس في العمل في مشروع التنمية المحلية، وإن كان على مضض، إخلاصًا منهم لي أكثر من إخلاصهم بعضهم لبعض. أمَّا عن السكان الآخرين الذين اشتركوا معنا في الأسابيع السابقة للاجتماع فإنهم أقلعوا عن المشاركة. ورفضت السيدة ريس التحدُّث معنا نهائيًّا. وفي حين لاحظ بعض الناس اتهاماتها لنا ولأساليبنا ودوافعنا فإن الشجار الذي حدث فقط هو الذي أكَّد الشكَّ بين السكان في أن المشاركة النشطة مهما كان قدْرها لن تُغيِّر أحوالهم، إلا أنها ربما تُسبِّب مشكلاتٍ هم في غنًى عنها.

بعد قُرابة شهرٍ من عمليات الإصلاح المبدئية تقابلنا مع وزارة الإسكان والتنمية الحضرية لمحاولة إقناع المسئولين بشأن طلب الميزانية الخاصة بهيئة الإسكان بشيكاغو. وإلى جانب صناديق التمويل الطارئة لعمليات الإصلاح طالبت هيئة الإسكان بشيكاغو المسئولين الفيدراليِّين بأكثر من مليار دولار لإجراء الإصلاحات الأساسية على المشاريع في جميع أنحاء المدينة. وأخذ رجلٌ أبيضُ طويلُ القامة حازمٌ يعمل في وزارة الإسكان والتنمية الحضرية يقرأ المبالِغ المُطالب بها.

«دعوني أكن واضحًا معكم.» وتابع: «إن هيئة الإسكان بشيكاغو ليست أمامها أية فرصة في الحصول حتى على نصفِ ما طالبت به. ولا نستطيع أن نفعل شيئًا إلا إزالة الأسبستوس من المباني. أو تركيب مواسير جديدة وبناء أسطح للمنازل عند الحاجة. لكن في الواقع لا يمكنكما الحصول على المطلبَين.»

قالت بيرناديت: «إذن فإنك تُخبرنا أننا بعد كل ذلك سنكون في حالٍ أسوأ مما كنَّا عليها.»

«حسنًا، ليس بالضبط. لكن تلك هي الأولويات المتاحة أمامنا للميزانية القادمة من واشنطن هذه الأيام. أنا آسف.»

رفعت بيرناديت تايرون على حجْرها. وقالت: «أخبِره بذلك.»

قرَّرت سادي ألا تشترك معنا في هذا الاجتماع. واتصلت بي لتُخبرني أنها قرَّرت أن تتوقَّف عن العمل في مشروع التنمية المحلية.

«لا يعتقد زوجي أنها فكرة جيدة؛ أن أقضي كلَّ هذا الوقت في العمل بدلًا من أن أعتني بعائلتي. ويقول إن الشهرة جعلتني مُتكبرة … وإنني أصبحت مُتعجرفة.»

اقترحتُ عليها أنها لا بد أن تظلَّ معنا ما دامت عائلتها تعيش في الجاردنز.

لكنها قالت: «لن يتغيَّر شيءٌ يا سيد أوباما.» وتابعت: «إننا لن نُركِّز إلا على ادخار أموالنا حتى نستطيع الانتقال من هنا سريعًا قدْرَ استطاعتنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤