الفصل الثالث عشر

«ما الدنيا إلا مكان.»

«ماذا؟ أتقول ما الدنيا إلا مكان؟»

«نعم هذا هو ما أقوله.»

عُدنا إلى السيارة بعد تناول العشاء في الهايد بارك وكان جوني في حالةٍ مزاجية سعيدة دفعَته للتحدُّث دون تحفُّظ. وعادةً ما يكون كذلك خاصةً بعد تناول وجبة رائعة واحتساء الخمر. في أول لقاء لي به — عندما كان لا يزال يعمل مع إحدى جماعات المجتمع المدني في وسط المدينة — بدأ يشرح لي العلاقة بين موسيقى الجاز والأديان الشرقية، وبعدها انحرف فجأةً للحديث عن مؤخرات السيدات السوداوات، ثم انتقل بعدها الحديث لسياسة البنك المركزي الأمريكي. في هذه اللحظات كانت تتَّسِع عيناه وتتسارع وتيرة حديثه ويتألق وجهه المستدير الملتحي بدهشةٍ طفولية. وكان ذلك جزءًا من سببِ تعييني لجوني؛ المتمثل — حسب اعتقادي — في فضوله وتقديره للأشياء المُنافية للعقل. لقد كان فيلسوفَ المآسي.

قال لي جوني: «سأضرب لك مثلًا.» وتابع: «منذ بضعة أيام ذهبتُ لحضور اجتماعٍ في مقر ولاية إلينوي. وبالطبع إنك تعلم كيف أن هذا المبنى مفتوح من المنتصف، أليس كذلك … بالإضافة إلى شكل الرَّدهة الكبيرة وما إلى ذلك. حسنًا، تصادف تأخُّر الرجل الذي كان من المفترض أن أقابله، فحدث — وأنا واقف أنظر إلى القاعة من الطابَق الثاني عشر ومتمعِّن في الفن المعماري الذي استُخدِم في البناء — أن طارت جثةٌ أمام عينيَّ على حين غِرة ساقطة على الأرض. كان حادث انتحار.»

«إنك لم تذكر لي شيئًا بخصوص هذا الأمر.»

«نعم، لا أعرف كيف أقول لك، إن هذا الحادث أثَّر فيَّ بصورةٍ كبيرة. تخيَّل أنني في هذا الارتفاع استطعتُ سماعَ صوت ارتطام الجثة بالأرض وكأنني بجانبها تمامًا. كم كان رهيبًا ذلك الصوت! وبعدما سقطت الجثة، وسرعان ما اندفع موظفو المبنى إلى درابزين السُّلَّم لرؤيةِ ما حدث. وكنا جميعًا ننظر لأسفل فتأكَّدنا أن الجثة راقدة على الأرض، منكمشة حول نفسِها وبلا حراك. وبدأ الناس يصرخون ويُغطُّون أعيُنَهم بأيديهم. لكنَّ الشيء الغريب هو رجوعهم إلى الدرابزين مرةً أخرى للنظر من جديد. ثم يصرخون ويغطُّون أعيُنهم من جديد. والسؤال هو لماذا يفعلون ذلك؟ وماذا كانوا يتوقَّعون أن يجدوا عندما عادوا لينظروا في المرة الثانية؟ لكن كما تعلم فالناس غرباء. ونحن لا نستطيع التحكُّم في أنفسنا في مثل هذه المواقف المروعة …

على أية حال، جاء رجال الشرطة وطوَّقوا المكان وأخذوا الجثة بعيدًا. وبدأ عمال النظافة في المبنى يُنظِّفون المكان بالمكنسة. هذا دون استخدام أية أدوات خاصة؛ فقط مكنسة وممسحة. كانوا يكنسون حياة. وفي قرابة خمس دقائق انتهت عملية النظافة. وبدا الأمر منطقيًّا على ما أعتقد … أقصد أن الأمر بدا وكأنهم ليسوا في حاجةٍ إلى أية معدَّات أو سترات خاصة أو شيء من هذا القبيل. لكنَّ هذا جعلني أُفكِّر في شعوري لو كنتُ واحدًا من هؤلاء العمَّال وأنا أُنظِّف المكان من أشلاء أحد الأشخاص. لا بد أن يُنظِّف أحد الأشخاص المكان، أليس كذلك؟ لكن ماذا سيكون شعورك وأنت تتناول عشاءك في المساء بعدما أدَّيتَ هذه المهمة؟»

«مَن قفز؟»

«هذا موضوع آخر يا باراك!» أخذ جوني نفَسًا من سيجارته وتصاعدت دوائر الدخان من فمه. وقال: «كانت فتاة بيضاء صغيرة، ربما في السادسة أو السابعة عشرة من عمرها، وكانت تُشبه عازفي موسيقى البانك روك، إلى جانب أن شعرها كان أزرقَ اللون وكانت تضع حلقةً في أنفها. بعد فترةٍ تساءلتُ عما كانت تُفكِّر فيه عندما كانت في المصعد. أقصد أنه لا بد أن أفرادًا آخرين كانوا بجانبها وهي في طريقها لأعلى. ربما أمعنوا النظر إليها واستخلصوا أنها غريبة الأطوار، ثم عادوا إلى التفكير في شئونهم الخاصة. هذه الشئون تشمل الترقِّي الوظيفي أو في مباراة فريق شيكاغو بولز لكرة السلة أو غير ذلك. وفي كل هذه الأثناء كانت الفتاة واقفة بجانبهم، وكل هذا الألم يعتصِرها. لا بد أن ما بداخلها كان ألمًا هائلًا لأنها قبل أن تقفز مباشرةً حتمًا كانت تنظر لأسفل وتعرف أن ما ستفعله سيؤلمها.»

أطفأ جوني السيجارة. وقال: «إذن هذا هو ما أقوله يا باراك. تمثَّلت بانوراما الحياة بأكملها في هذا الحدث. أشياء مجنونة تحدُث من حولنا. وتجد نفسك تتساءل: هل تحدث هذه الأشياء في مكانٍ آخر؟ وهل كانت لها سابقة من قبل؟ ألم تسأل نفسك هذه الأسئلة إطلاقًا؟»

أعدتُ ترديد عبارته الأولى: «ما الدنيا إلا مكان.»

«انظر هناك! إنه أمرٌ جِديٌّ حقًّا.»

كنا قد وصلنا تقريبًا إلى سيارة جوني عندما سمعنا فرقعةً صغيرة لم تستمر وقتًا يُذكر، مثل فرقعة البالون. نظرنا في اتجاه الصوت ورأينا شابًّا يظهر من أحد الأركان ويتقدَّم في اتجاهنا في خطٍّ مائل. لا أتذكَّر بوضوحٍ ملامحه وماذا كان يرتدي، مع أني لاحظتُ أن عمره لا يتخطى الخامسة عشرة. ولا أتذكَّر إلا أنه جرى بخطواتٍ يائسة ودبَّت قدماه بحذائه الخفيف على الرصيف بلا صوت تقريبًا وتحرَّكت أطرافه الطويلة الرفيعة بقوة وعنف وتضخَّم صدره كما لو كان يحاول التحرُّر من حبلٍ وهمي ملفوف حوله.

انبطح جوني على أرضٍ عشبية أمام إحدى الشقق، وسرعان ما حذوتُ حذوه. وبعد ثوانٍ قليلة ظهر صبيَّان آخران في الركن نفسه يجريان بأقصى سرعة. لوَّح أحدهما بمسدسٍ صغير، وكان قصير القامة وإلى حدٍّ ما مُمتلئ القوام ويرتدي بنطلونًا مطويًّا حول الكاحلَين. أطلق هذا الصبيُّ ثلاث طلقات نارية في اتجاه الصبي الأول دون أن يتوقَّف محاولًا أن يُصيبه. وبعد أن أدرك أنه لم يُصِبْه مشى ببطءٍ واضعًا السلاح تحت قميصه. وبجانبه جاء زميله النحيف الكبير الأذنين.

قال الصبي النحيف: «حقيرٌ غبي!» ثم بصق بارتياح، وضحك الاثنان معًا قبل الاستمرار في المشي إلى أسفل الشارع، وكان لجسدَيهما ظلَّان قصيران ممتلئان على الأسفلت.

•••

جاء الخريف التالي والشتاء الذي تلاه. وتعافيتُ من الشعور باليأس والإحباط الناتج عن حملة الأسبستوس وتعاملتُ مع قضايا أخرى وقادة آخرين. وساعد وجود جوني في التخفيف عني من ضغط العمل وكانت ميزانيتنا مُستقرة، وبذلك فإن ما أضعته في حماسة الشباب استطعتُ تعويضه بالخبرة العملية. وفي الواقع ربما كانت الألفة المتزايدة مع المكان — إلى جانب خبرة الزمان — هي التي منحتني الشعور بأن هناك شيئًا مختلفًا يحدث لأطفال الجانب الجنوبي في ذلك الربيع عام ١٩٨٧م؛ جرى تخطِّي حدودٍ خفية، وعادت تظهر صفحة من صفحات القُبح.

لم يكن هناك شيء مُحدَّد استطعتُ الإشارة إليه أو إحصائيات حاسمة، فلم يكن هناك شيء مختلف عن حوادث إطلاق النار من السيارات المتحركة، وصافرات عربات الإسعاف، والأصوات الصادرة ليلًا من الأحياء التي هجرها ساكنوها وتركوها أرضًا خصبة للمُخدِّرات وحروب العصابات والسيارات الهاربة بسرعة الريح، والتي نادرًا ما كانت الشرطة أو الصحافة تتجرأ على دخولها حتى يُعثَر على جثةٍ مُلقاة على الرصيف، وبِرك الدم المبعثر بغير انتظام. في أماكنَ مثلَ ألتجيلد تتناقل سجلات السجون من الآباء إلى الأبناء على مدارِ أكثرَ من جيل، وفي أوائل أيامي في شيكاغو رأيتُ جماعاتٍ صغيرة من الصبية — في الخامسة أو السادسة عشرة من عمرهم — يعيشون في زوايا شارع ميشيجان أو شارع هولستيد، مُغطِّين رءوسهم وأعناقهم، وأحذيتهم مفكوكة الرباط ويضربون بأرجلهم الأرض في إيقاعٍ غيرِ مُنظَّم في شهور السنة الباردة، وفي الصيف يرتدون قمصانًا، ويتصلون من الهواتف العامة على مَن يتصل بهم على أجهزة الاستدعاء التليفوني الخاصة بهم، على أن هذه الجماعة الصغيرة سرعان ما ينفرط عِقدها عندما تَعبر سيارات الشرطة بجانبهم بِصمتِها المباغِت.

كان التغيُّر الذي شعرتُ به أكثرَ من تغيُّرٍ في الحالة العامة، مثله مثل الشعور بالكهرباء الصادرة من عاصفةٍ على وشْك أن تهُبَّ. وقد شعرتُ به وأنا عائد إلى المنزل ذات مساء عندما رأيت أربعة صبيةٍ طوال القامة يمشون بجانب مبنًى سكني محاط بالأشجار بكسلٍ شديد ويقطعون صفًّا من الشتلات الصغيرة التي كان زوجان مُسنَّان قد انتهيا للتوِّ من زراعتها أمام منزلهما. شعرت به كلما نظرت إلى أعين الشباب الجالسين على كراسي متحركةٍ الذين بدءوا يظهرون في الشوارع في هذا الربيع؛ هؤلاء الشباب الذين أصابهم الشلل وهم في ريعان الشباب والذين إذا نظرت إلى أعيُنهم وجدتها خاليةً من أيِّ دليل على التأثُّر بحالهم، كانت نظرات أعينهم هادئة وقاسية وتخيف أكثرَ مما تُلهِم.

وهذا هو الشيء الجديد؛ أعني التوصُّل إلى توازنٍ من نوع جديد بين الأمل والخوف، الشعور الذي يشترك فيه الكبار والشباب على حدٍّ سواء بأن بعض أولادنا — إن لم يكن معظمهم — كانوا ينحرفون عن بَرِّ الأمان. حتى إن أمضوا كلَّ حياتهم في الجانب الجنوبي مثل جوني فقد لاحظوا هذا التغيير. قال لي في أحد الأيام ونحن جالسان في شقته نحتسي الجِعَة: «إنني لم أرَ شيئًا مثل ذلك مطلقًا يا باراك.» وتابع: «أقصد أن الظروف كانت قاسية وأنا في مراحل نُضجي، لكن كانت هناك حدود. كنا نُسيء التصرُّف ونتشاجر، لكن في حضور الآخرين في المنزل إذا رآك شخصٌ أكبرُ سنًّا وأنت تتحدَّث بصوتٍ مرتفعٍ أو تسيء التصرُّف كانوا يوبِّخونك. وكان مُعظمنا يستمِع إليهم ويحترمهم. أتفهم ما أعني؟

ولكن الآن، في ظل انتشار المخدرات والأسلحة اختفى كل ذلك. لا تظن أن الصبية كلهم يحملون مُسدسات. فربما لا يحملها إلا واحد منهم أو اثنان. وفي هذا التجمُّع يقول أحدهم للآخر شيئًا فيرد عليه آخر برصاصةٍ ويُرديه قتيلًا! وعندما يسمع الناس قصصًا من هذا القبيل لا يصنعون شيئًا حتى محاولة التحدُّث إلى هؤلاء الصبية. وبذلك بدأنا نُعمِّم في حديثنا عنهم مثلما يفعل البِيض. وعندما نراهم مُتمركزين في أحد الأماكن نتخذ طريقًا آخرَ بعيدًا عنهم. حتى إن الأطفال المتميزين يبدءون بعد فترةٍ يُدركون أنه لن يَعتني بهم أحد. لذا يقومون هم بهذه المهمة ويعتنون بأنفسهم. وخلاصة القول إنه سيكون لديك أطفال في الثانية عشرة من عمرهم يضعون قوانينهم الخاصة.»

احتسى جوني رشفةً من الجِعَة وتجمَّعت الرغوة فوق شاربه. وأكمل حديثه: «إنني لا أعرف يا باراك. أحيانًا أخاف منهم. لا بدَّ للمرء أن يخشى من شخصٍ لا يهتمُّ بأي شيء. لا بد أن يفعل ذلك مهما كان صغيرًا.»

بعد أن عُدتُ إلى شقتي فكَّرتُ فيما قاله جوني. هل كنتُ أخاف منهم؟ لمْ أعتقد ذلك … على الأقل ليس بالطريقة التي قصدها جوني. وعند تفكيري في ألتجيلد وأحوال المناطق الأخرى التي من العسير العيش فيها، كانت مخاوفي دائمًا تعتمِل داخل نفسي، مخاوفي القديمة المتعلقة بعدم الانتماء. ولم تخطر ببالي مُطلقًا فكرة الإيذاء البدني. والأمر نفسه انطبق على الفرْق الذي قدَّمه جوني بين الأطفال المتميزين والأطفال العدوانيين لأن هذا الفرْق لم يبدُ منطقيًّا لي. وبدا الأمر مُعتمدًا على افتراض تَعارُضٍ مع تجربتي مُتمثِّل في أن الأطفال ربما يكونون إلى حدٍّ ما قد وضعوا شروط تطورهم. فكَّرتُ في ابن بيرناديت البالغ من العمر خمسة أعوام وهو يجري مُسرعًا فرحًا في شوارع ألتجيلد غير المستوية بين مبنى معالجة مياه الصرف الصحي ومقلب النفايات. أين موقعه في دائرة الخير؟ إذا انتهى به الأمر وهو عضو في عصابة أو مسجون، هل هذا سيُثبِت وجوده إلى حدٍّ ما أم سيُعتبر خارجًا عن القانون، أم سيكون ذلك نتيجةً للبيئة غير الملائمة التي عاش فيها؟

وماذا عن كايل: كيف كان يمكن لأحدٍ تفسيرُ ما مرَّ به؟ اتكأتُ إلى الخلف على كرسيي مُفكِّرًا في ابن روبي الذي أتمَّ السادسة عشرة فقط. ولم يزِدْه العامان التاليان لوصولي إلى شيكاغو سوى العديدِ من البوصات طولًا وكُبْرِ حجمٍ وظهورِ أثرٍ قليل فوق شفته العُليا تمهيدًا للشارب. كان لا يزال مُؤدبًا في تعامُله معي ولا يزال مُستعدًّا للتحدُّث معي بخصوص فريق شيكاغو بولز لكرة السلة. وقال لي إن هذا العام قاد جوردن الفريق إلى النهائيات. لكن كلما ذهبتُ لزيارتهما أجِدْه قد غادر المنزل للتوِّ أو خرج مع أصدقائه. وفي بعض الليالي كانت روبي تتصل بي في المنزل للتحدُّث عنه وتُخبرني كيف أنها لم تَعُد تعرف أين يذهب، وكيف أصبحت درجاته تنخفض في المدرسة، وكيف يفعل أشياء ويُخفيها عنها، وأن باب غرفته كان دائمًا مغلقًا.

كنتُ أطمئنها دائمًا بقولي: «لا تقلقي، كنتُ أسوأ بكثير عندما كنتُ في مثل عمره.» لكنني لا أعتقد أنها صدَّقت هذه الحقيقة، على أن مجرد سماع هذه الكلمات كان يبدو وكأنه يجعلها تشعر بحالٍ أفضل. وفي أحد الأيام حاولتُ معرفةَ ما يفكِّر فيه كايل وما ينوي فعْله، فدعوته ليُصاحبني للعب كرة السلة في صالة الألعاب الرياضية بجامعة شيكاغو. كان هادئًا في معظم الطريق إلى هايد بارك محاولًا منعي طرْح أيِّ سؤالٍ بإصدار أصواتٍ مُتذمِّرة أو هز كتفيه. لكنني سألته ألا يزال يُفكِّر في الالتحاق بالقوات الجوية، فهزَّ رأسه وقال إنه سيظل في شيكاغو ويبحث عن وظيفةٍ ويحصل على مركزٍ مرموق في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك سألته لماذا غيَّر رأيه فقال إن القوات الجوية لن تسمح أبدًا لرجلٍ أسودَ بقيادة طائرة.

نظرتُ إليه بغضب. وقلت له: «مَن أخبرك بهذا الهراء؟»

هزَّ كايل كتفَيه: «لستُ في حاجةٍ لأن يُخبرني أحدٌ بذلك. الأمر دومًا ما يسير على هذا النحو.»

«هذا تفكير خاطئ. إن بوسعِكَ فعْل ما تريد إذا كنتَ مُستعدًّا لأن تبذلَ ما في استطاعتك لفعله.»

ابتسم كايل ابتسامةً مصطنعة، وأدار وجهه ناحية النافذة وتركَتْ أنفاسه بصمات على الزجاج. وقال: «حسنًا، كم عدد الطيارين السود الذين تعرفهم؟»

لم تكن صالة الألعاب الرياضية مزدحمةً عندما وصلنا، واضطُرِرنا إلى انتظار انتهاء مباراة واحدة قبل أن ندخل إلى الملعب. وكان ذلك بعد أن مرَّ على الأقل ستة أشهر على آخر مرةٍ لعبتُ فيها كرة السلة وأصبح للسجائر تأثيرها علي؛ في الشوط الأول من المباراة نجح اللاعب الذي يُراقبني في انتزاع الكرة مني دون مخالفة إلا أنني طالبتُ الحكَم بأن يحتسب مخالفةً مما جعل اللاعبين الجالِسين على حدود الملعب يَصيحون بسخرية. وفي الشوط الثاني مشيتُ على خط مُنتصف الملعب وأنا أشعر بدوار خفيف.

حتى أتجنَّب التعرُّض لإحراجٍ أكثرَ من ذلك قرَّرتُ أن أخرج في الشوط الثالث وأشاهد كايل وهو يلعب. لم يكن أداؤه سيئًا، لكنه كان يُراقب لاعبًا يتجاوزني في العمر ببضع سنوات، كان يعمل ممرِّضًا في مُستشفًى، وكان قصير القامة، لكن أداءه في الملعب عنيف وسريع جدًّا. وبعد بضع لعبات أصبح واضحًا أن الرجل عرف طريقةَ لعبِ كايل. وبعد أن أحرز ثلاث نقاط على التوالي بدأ يتحدَّث معه الحديث المعتاد.

«ألا تستطيع أن تلعب أفضل من ذلك أيها الصبي؟ كيف ستسمح لرجلٍ كبير مثلي بأن يجعل صورتك بهذا السوء؟»

لم يردَّ كايل عليه لكن اللعب بينهما أصبح عنيفًا. وعندما تحرَّك الرجل تجاه السلة ارتطم به كايل بشدة فوقع الرجل على الأرض. وبعدها ألقى الرجل الكرة تجاه صدر كايل، ثم استدار ناحية أحد زملائه. وقال: «أترى؟ هذا الوضيع لا يستطيع الدفاع …»

على حين غِرة ودون سابق إنذار استدار كايل. ولَكَمَ فَكَّ الرجل بقبضة يدِهِ وأسقطه على الأرض. جريتُ إلى الملعب بعد أن أبعد اللاعبون الآخرون كايل بالفعل عن الرجل. كانت عيناه مُتَّسِعتَين وصوته مرتعدًا وهو يشاهد محاولة وصول الممرِّض إلى قدمَيه بصعوبةٍ وهو يبصق قدرًا كبيرًا من الدماء.

همهم كايل بتذمُّر: «لست وضيعًا.» وأعادها قائلًا: «لست وضيعًا.»

كنا محظوظين لأنه حين اتصل أحد الحضور بضابط الأمن في الطابق السفلي لم يعترف الممرِّض بالحادث لشعوره بالإحراج. وفي طريق عودتنا أعطيتُ كايل محاضرة طويلة عن الاحتفاظ بهدوئه، وعن العنف، وعن المسئولية. بدت كلماتي سخيفةً وخالية من أيِّ معنًى وجلس كايل دون أن يردَّ عليَّ بكلمةٍ واحدة، وكان لا ينظر إلا إلى الطريق. وعندما انتهيتُ استدار ناحيتي وقال: «لا تقُل لأمي شيئًا، اتفقنا؟»

اعتقدتُ وقتئذٍ أن هذا مؤشر طيب. وقلتُ إنني لن أذكرَ لروبي شيئًا مما حدث ما دام أنه لن يتحدَّث معها بشأنه ووافق على مضض.

كان كايل صبيًّا حسنًا لأنه كان لا يزال مهتمًّا بشيءٍ ما. لكن هل كان هذا كافيًا لإنقاذه؟

•••

بعد أسبوع من مغامرتي أنا وجوني في هايد بارك، قرَّرتُ أنه حان الوقت للتعامل مع المدارس العامة.

بدا هذا الموضوع منطقيًّا لنا. ولم يَعُد الفصل العنصري يثير اهتمامنا كثيرًا؛ فقد تخلَّى البِيض عن نظام المدارس العامة. ولم تَعُد مدارس البِيض أو السود مكتظة بالطلاب، على الأقل في المدارس الثانوية بأحياء السود لأن نصف الطلاب الجدد فقط كانوا يضطرون إلى البقاء في المدارس لحين التخرُّج. وخلافًا لذلك، فقد ظلت مدارس شيكاغو في حالةٍ من الأزمات الدائمة؛ فعجزُ الميزانية السنوية يصل إلى مئات الملايين من الدولارات، وهناك نقص في الكتب المدرسية وورق الحمَّامات، واشتراك نقابة المعلمين في إضرابٍ مرة كل سنتين على الأقل، والتعامل من منطلق بيروقراطية قاسية وتشريع دولة غير مبالٍ. وكنتُ كلما ازدادت معرفتي بالنظام ازداد اقتناعي بأن إصلاح المدارس هو الحل الممكن الوحيد لمأساة الشباب الذين رأيتهم في الشارع، وأنه في ظلِّ عدم وجود عائلات مُستقرة أو احتمالات للعمل في وظائفَ مهنيةٍ معتمِدة على المجهود البدني، يكون التعليم هو آخِر أملٍ لهم. لذا ففي شهر أبريل — في أثناء عملي في قضايا أخرى — وضعتُ خطة عملٍ للنشاط التنظيمي وبدأتُ أُوزِّعها على القادة.

على أن هذه الخطة لم تترك في نفوسهم انطباعاتٍ قوية مؤثرة.

كان سبب ذلك إلى حدٍّ ما ينبع من مشكلةِ عدم وجود مصلحةٍ شخصية وعدم توافق الآراء. فمثلًا أخبرني أعضاءُ كنيسةٍ مُسنُّون أنهم بالفعل ربَّوا أبناءهم، أما أولياء الأمور الأصغر سنًّا — مثل أنجيلا وماري — فقد أرسلوا أطفالهم إلى المدارس الكاثوليكية. ولم يتحدَّث أحدٌ عن أكبر مصدر للمقاومة إلا نادرًا، وهو في الواقع يتمثَّل في الحقيقة المُرة التي فحواها أن كل كنيسةٍ من كنائسنا كانت مليئةً بالمدرسين ومديريها ومراقبيها. ولم يُرسِل من هؤلاء المعلِّمين أطفاله إلى المدارس العامة إلا قليل لأنهم كانوا يَعلمون كثيرًا عن هذا الأمر. لكنهم كانوا يُدافعون عن الحالة الراهنة بالمهارة والحماسة نفسها التي كان أقرانهم من البِيض يدافعون بها عنها منذ عقدَين. وكانوا يقولون لي إنه لم يكن هناك مواردُ مالية كافية لإجراء الإصلاح كما ينبغي (وكانوا بالفعل مُحقِّين في ذلك.) كانت مجهودات الإصلاح — مثل اللامركزية أو الحد من البيروقراطية — جزءًا من مجهوداتٍ بذلَها البِيض لاستعادة السيطرة من جديد (وهذا أمرٌ غير صحيح مائة بالمائة.) أما الطلاب فقد كانوا صِعابَ المِراس. كانوا كسالى. كانوا عنيدِين. كانوا بطيئين. لكن ربما لم يكن ذلك خطأهم، ومن المؤكد أنه لم يكن خطأ المدارس أيضًا. في الواقع لم يكن هناك أيُّ أطفال سيئين لكنَّ المؤكَّد أنه كان هناك العديد من الآباء السيئين.

في مخيِّلتي كانت هذه المحادثات رمزًا للتسوية غيرِ المعلنة التي توصَّلنا إليها منذ ستينيات القرن العشرين، والتي سمحت لنصف أطفالنا بإحراز تقدُّمٍ حتى إن لم يستطِع النصف الآخر فعْل ذلك. والأكثر من ذلك أن المحادثات أغضبتني وبسبب الدعم الفاتر المفتقد للحماسة الذي تلقيناه من القيادة قرَّرتُ أنا وجوني أن نُعالج الأمرَ ونبدأ بزيارة بعض المدارس في المنطقة على أمل تجميع أصوات تدعمنا بخلاف أولياء الأمور الشباب في ألتجيلد.

بدأنا حملتنا بمدرسة كايل الثانوية التي كانت تنعم بأفضل سُمعة في المنطقة. وكانت المدرسة تتكوَّن من مبنًى واحد جديدٍ نسبيًّا لكنه مُفتقِر للمسات الشخصية والجمالية، حيث كان مشتملًا على أعمدةٍ صلبةٍ جرداء وممراتٍ عارية طويلة ونوافذ زجاجها ضبابي لا يمكن فتحها، مثلها مثل النوافذ في الصوبات الزجاجية. قال لنا المدير — وكان رجلًا كَيِّسًا حسن المظهر اسمه دكتور لوني كينج — إنه كان مُتحمسًا للعمل مع مجموعاتٍ مجتمعيةٍ مثل مجموعتنا. بعد ذلك ذكر أن أحد المستشارين في مدرسته — وكان يُدعى السيد أسانتي موران — كان يحاول بدء برنامجٍ إرشادي للشباب في المدرسة واقترح أن نُقابله.

اتبعنا المسار الذي أشار علينا به دكتور كينج إلى أن وصلنا إلى مكتبٍ صغير بالقُرب من مؤخرة المبنى. وكان المكتب مُزينًا ببعض اللمسات الأفريقية مثل: خريطة للقارة وصور لملوك وملكات أفريقيا القدماء، ومجموعة من الطبول، وأوانٍ من نبات القرع، وقطعة من القماش منسوجة يدويًّا بألوانٍ مبهجة مُعلَّقة على الحائط. وخلف المكتب كان يجلس رجلٌ طويل القامة مهيب له شارب طويل كثيف ملفوف لأعلى وفكٌّ بارز. كان الرجل يرتدي زيًّا أفريقيًّا وسوارًا من شَعر الفيل حول معصمه السميك. وقد بدا في بادئ الأمر غيرَ سعيد حيث كان أمامه على المكتب كومةٌ متراصة من امتحانات القبول في الجامعات. لذا شعرتُ أن اتصال دكتور كينج به كان مقاطعةً لعملِه غيرَ مرحَّب بها. على العكس من ذلك طلب منا الجلوس وأخبرنا أن نُناديه باسمه دون ألقاب، وعندما أصبحَت قضيتُنا أكثرَ وضوحًا بدأ يشرح لنا بعض أفكاره.

قال لنا وهو ينظر إليَّ وإلى جوني تباعًا: «إن أولَ شيء عليكما إدراكه هو أن نظام المدارس العامة لا يهتم بتعليم الأطفال السُّود. ولم يكن كذلك على الإطلاق. والمدارس التي تقع في قلب المدينة شغلُها الشاغل هو الانضباط الاجتماعي الذي لا يُطبَّق إلا في أثناء الحصة الدراسية. انتهى الأمر. وفي الواقع فإن هذه المدارس تعمل كأنها حظيرة؛ أو بالأحرى سجون صغيرة. وعندما يبدأ الأطفال السُّود في الخروج من الحظيرة بعد انتهاء الحصص ومضايقة البِيض لا يهتم المجتمع إطلاقًا بقضية تعليم هؤلاء الأطفال.

لا تُفكِّرا إلا فيما يمكن أن يشتمل عليه التعليم الحقيقي لهؤلاء الأطفال. في مُستهل الأمر لا بد أن يبدأ التعليم بتعريف الطفل بنفسه وبعالمه وبثقافته وبمجتمعه. وتلك هي نقطة البداية لأية عمليةٍ تعليمية لأن هذا هو ما يجعل الطفل مُستعدًّا وبحماسٍ لأن يتعلم، والذي يدفعه لذلك هو الوعد الذي يتلقَّاه بكونه جزءًا من شيءٍ ما وبقُدرته على السيادة والتحكُّم في بيئته. لكن فيما يتعلَّق بأي طفلٍ أسود فإن كل الموازين تتغير. فمن يومه الأول في المدرسة، ماذا يتعلم؟ يتعلم تاريخًا غيرَ تاريخه. ويتعلَّم ثقافةً غيرَ ثقافته. ليس ذلك فقط، بل إن الثقافة التي من المفترض أن يتعلَّمها هي الثقافة نفسها التي رفضته — بكلِّ ما في الكلمة من معنًى — وأنكرت إنسانيته.»

اتكأ أسانتي للخلف على مقعده وشبَّك يدَيه أسفلَ صدره، وطرح علينا السؤال الآتي: «هل من المثير للدهشة أن يفقد الطفل الأسود اهتمامه بالتعليم؟ بالطبع لا. إن الأمر أسوأ للأولاد عن البنات لأن البنات على الأقل لديهنَّ أمهاتٌ يستطعن التحدُّث معهنَّ، على عكس الأولاد الذين ليس لديهم مَن يتحدثون إليه. ونصفهم لا يعرف أحدًا حتى آباءهم، ولا يُوجَد مَن يُرشدهم في مرحلة البلوغ … ليشرح لهم معنى الرجولة. وهنا تكمُن الكارثة لأنه في كل مجتمعٍ يكون للشباب ميولٌ عنيفة. وهذا سواءٌ أكانت هذه الميول موجَّهة ومنظَّمة في مسارات إبداعية أم في مسارات تهديمية للشباب أنفسهم أو المجتمع أو لكليهما.

لذا فإن هذا هو الأمر المفترض التركيز عليه هنا. وحيثما أكون أحاول ملء هذه الفجوة. فأشرح التاريخ الأفريقي للطلاب والجغرافيا والتقاليد الفنية الأفريقية. إنني أحاول منحهم مبادئَ قويمة مختلفة عما تعلَّموه؛ شيئًا يدحض تأثيرات المادية والفردية والإشباع الفوري التي يتجرعونها على مدار ١٥ ساعة خارج المدرسة. إنني أُعلِّمهم أن الأفارقة جزءٌ من المجتمع. كما أُعلِّمهم أنهم يحترمون مَن يكبرهم سنًّا. وفي الواقع شعرَ زملائي الأوروبيون بالخطر من تعاليمي هذه، لكنني أخبرتهم أن الأمر ليس متعلقًا بتشويه سمعة ثقافتهم، بل إن الغرض الفعلي هو منحُ الشباب قاعدةً يستندون إليها طوال حياتهم. وإن لم ينغمسوا في تقاليدهم الخاصة فلن يصبحوا قادرين إطلاقًا على تقديرِ ما تُقدِّمه الثقافات الأخرى …»

في هذه اللحظة سمعنا طرْقًا على الباب، وعندما فُتح نظر شابٌّ نحيف طويل القامة نظرةً سريعة إلى الداخل. اعتذر لنا أسانتي قائلًا إن لدَيه موعدًا آخرَ ورأى أنه سيكون سعيدًا إذا قابلَنا مرةً أخرى لمناقشة برامج الشباب الممكنة في المنطقة. بعدها سألني أسانتي عن اسمي وهو يُوصلني أنا وجوني إلى الباب، وأدليتُ له بمعلوماتٍ قليلة عن تاريخي.

عندما سمع حديثي ابتسم أسانتي وقال: «اعتقدتُ ذلك بالفعل!» وأضاف: «أتعلم، كانت أولى رحلاتي للقارة الأفريقية إلى كينيا. وكان ذلك منذ ١٥ عامًا لكنني أتذكَّر الرحلة كما لو لم تكن إلا أمس. لقد غيَّرت هذه الرحلة حياتي للأبد. وفي الواقع كان أهل كينيا ودودِين ورحَّبوا بي ترحيبًا حارًّا. وأرضها جميلة لم أرَ مثلها قط. وبالفعل شعرتُ أنها وطني.» تلألأ وجهه بذكراه هناك. وسألني: «متى كانت آخِر مرة ذهبتَ فيها إلى كينيا؟»

تردَّدت. قلت: «في حقيقة الأمر لم أذهب إلى هناك مطلقًا.»

بدا أسانتي مرتبكًا للحظة. وقال بعد لحظاتِ صمت: «حسنًا … إنني متأكد من أنك عندما تذهب إلى هناك ستتغير حياتك أنت أيضًا.» وبذلك تصافحنا ولوَّح للشاب الجالس في قاعة الانتظار وأغلق الباب وراءه.

خيَّم علينا الصمت أنا وجوني في معظم طريق عودتنا إلى مكتبنا. وبعد أن قطعنا مسافة كبيرة استدار جوني تجاهي وقال: «هل أستطيع أن أطرح عليك سؤالًا يا باراك؟»

«بكل تأكيد.»

«لماذا لم تذهب إلى كينيا من قبل؟»

«لا أعرف. ربما أكون خائفًا مما سأجده هناك.»

«فهمت.» أشعل جوني سيجارةً وأنزل زجاج النافذة لإخراج الدخان. وقال: «كم كان غريبًا تفكيري في أبي بعد سماعي حديثَ أسانتي هناك! لا أقصد أن أبي كان مُتعلمًا أو شيئًا من هذا القبيل. لكني أقصد أنه لا يعرف شيئًا عن أفريقيا. بعد أن ماتت أُمي كان مُضطرًّا لأن يُربيني أنا وإخوتي بالاعتماد على نفسه. فعمِل لمدة ٢٠ عامًا سائقًا لسيارةِ بضائع بشركة سبيجال. لكنَّ الشركة سرَّحته عن العمل قبل أن يحصل على معاشه كاملًا؛ لذا ظلَّ يعمل لدى شركة أخرى في الوظيفة نفسها. هذه الوظيفة هي نقل الأثاث.

لم يبدُ أبي مُستمتعًا بالحياة على الإطلاق، أتفْهَم ما أقصد؟ إنه في أيام العطلات كان يظلُّ في المنزل وكان يزورنا بعضُ أعمامي لاحتساء الخمر وسماع الموسيقى. وكانوا يشكون مما فعلَه رؤساؤهم في العمل هذا الأسبوع. هذا فعل كذا. وهذا فعل كذا. لكن ما إن يبدأ أحدهم في التحدُّث عن شيءٍ آخر مختلف بالفعل أو طرح فكرة طيبة حتى يُحبطه الآخرون. فمثلًا يقول أحدهم: «كيف لزنجيٍّ عديم الفائدة مثلك أن يبدأ مشروعًا بنفسه؟» ويقول آخر: «خذ هذه الزجاجة من أمام جيمي؛ يبدو أن الخمر ذهبت بعقله.» وكانوا جميعًا يضحكون، لكنني أرى أنهم لم يكونوا يضحكون من قلوبهم. وفي بعض الأحيان، عندما أكون بالمنزل، كان أعمامي يقولون لي: «من المؤكد أن عقلك ناضج أيها الصبي، تبدو كرجلٍ أبيض بحديثك المنمَّق اللبِق.»

أخرج جوني من فمه تيارًا مُتدفقًا من الدخان إلى الهواء المليء بالضباب الكثيف. وأضاف: «عندما كنتُ في المدرسة الثانوية كنتُ أشعر بالخجل منه. أقصد والِدي. فقد كان يعمل كثيرًا ويجلس في المنزل ويشرب الخمر هو وإخوته. لذا أقسمتُ أنني لن ينتهيَ بي الحال وأُصبح مثله. لكنني عندما فكَّرت في هذا الأمر فيما بعدُ أدركتُ أن أبي لم يسخر قطُّ عندما كنت أتحدَّث عن رغبتي في الالتحاق بالجامعة. أقصد أنه لم يقُل شيئًا عن الأمر، لكنه كان يتحقَّق دائمًا من أنني وأخي استيقظنا للذهاب إلى المدرسة، وأننا لم نُضطر إلى العمل، وأن معنا مصروف الجيب الصغير. ويوم تخرُّجي أتذكَّر أنه حضر مُرتديًا سترةً ورابطةَ عنقٍ وصافحني فقط. هذا كل ما هنالك … صافحني وبعدها عاد للعمل …»

توقَّف جوني عن الكلام وخلا الطريق أمامنا. وبدأتُ أُفكِّر في هذه الصور المعلَّقة في مكتب أسانتي — صور الملكة نفرتيتي الداكنة اللون في عرشِها الذهبي، وشكل زولو القوي الأبيِّ في ردائه الطويل المصنوع من جلد النمر — وفكَّرتُ في اليوم الذي ذهبت فيه إلى المكتبة منذ سنوات قبل أن يأتي والدي لزيارتي في هاواي بحثًا عن مملكتي السحرية وحقي المجيد المكتسب بالولادة. وتساءلتُ عن الفارق الذي يمكن أن تُحدثه هذه الصور على طفلٍ غادر لتوِّه مكتب أسانتي. وظننتُ أن تأثير هذه الصور على الطفل يفوق تأثير أسانتي نفسه. في الواقع كان أسانتي رجلًا حسنَ الاستماع. وكانت لدَيه القدرة على مدِّ يد العون لأي شاب.

قلتُ لجوني بعد ذلك: «كان هناك.»

«مَن؟»

«والدك. كان هناك من أجلِك.»

حكَّ جوني ذراعه. وقال: «نعم يا باراك أعتقد أنه كان هناك.»

«ألم تُخبره قط بهذا؟»

«لا، لأننا لم نَعْتَدِ التحدُّث معًا.» نظر جوني من النافذة، ثم استدار لي: «ربما عليَّ أن أتحدث معه.»

قلتُ له وأنا أهز رأسي: «نعم جون ربما يتعين عليك فعْل ذلك.»

•••

على مدار الشهرَين التالِيَين ساعدنا أسانتي ودكتورة كوليار في إعداد اقتراح مقدَّم إلى شبكةِ نصحِ الشبابِ لتوفير الخدمات التعليمية الخاصة والإرشادية إلى المراهقين المعرَّضين للخطر، ولإشراك أولياء الأمور في عمليةٍ تخطيطية طويلة المدى للإصلاح. وكان هذا المشروع مُثيرًا للحماسة بصورةٍ كبيرة، لكنني لم أُركِّز عليه كليةً لأنني كنتُ مشغول البال بشيءٍ آخر. وعند انتهاء تقديم الاقتراح أخبرتُ جوني بأنني سأبتعِد عن العمل لبضعة أيام على أن يتولَّى هو مسئولية حضور بعض الاجتماعات التي خطَّطنا لها لبدء الإعداد لخطة دعمٍ أكبر. سألني جوني:

«إلى أين ستذهب؟»

«لزيارة أخي.»

«لم أكن أعلم أن لك أخًا.»

«لم أكن أعرفه كلَّ هذه الفترة.»

في صباح اليوم التالي ركبتُ الطائرة إلى مدينة واشنطن عاصمة الولايات المتحدة حيث كان يعيش أخي روي في هذه الفترة. كنا قد تحدَّثنا لأول مرةٍ خلال زيارة أوما إلى شيكاغو وحينها أخبرتْني بأن روي تزوَّج من سيدةٍ أمريكية كانت تعمل في برنامج «فيلق السلام» وانتقل للعيش في الولايات المتحدة. وفي أحد الأيام اتصلنا به للاطمئنان عليه، وكان سعيدًا للغاية بهذه المكالمة، وكان صوته مُنخفضًا وهادئًا كما لو كنَّا تحدَّثنا معه أمسِ. وفي هذه المكالمة قال لنا إن وظيفته وزوجته وحياته الجديدة في أمريكا وكل شيء «جميل». نطق روي هذه الكلمة ببطءٍ وخرجت المقاطع اللفظية على نحوٍ هادئ فقال «جميييل»، بالطريقة نفسها التي أخبرني بها أنَّ زيارتي له ستكون «رااائعة» وأن بقائي معه ومع زوجته في منزلهما لن «يُسبِّب أيَّ مشششكلة». وبعد أن وضعنا سماعة الهاتف وانتهت المكالمة أخبرتُ أوما أنه يبدو في حالةٍ طيبة، إلا أنها نظرت إليَّ بارتياب، وقالت:

«لا، إنك لا تعرف روي؛ إنه دائمًا لا يُظهِر مشاعره الحقيقية، وهو في هذا الأمر مثله مثل أبينا. وفي الواقع ومع أنهما لم يكونا على وفاقٍ معًا فهو يُذكِّرني به في كثيرٍ من الأمور، على الأقل كان ذلك عندما كان يعيش في نيروبي حيث إنني لم أرَه منذ جنازة ديفيد؛ لذا ربما يكون الزواج قد جعلَه يعيش حياة مُستقرة هادئة.»

لم تستطرد أوما أكثرَ من ذلك، وإنما قالت فحسب إنه من الأفضل أن تتعرَّف عليه بنفسك. لذا رتَّبت مع روي أن أزوره، فأسافر إلى واشنطن العاصمة أثناء عطلة نهاية الأسبوع الطويلة وزيارة المعالم السياحية، وفكَّرتُ أننا سنقضي وقتًا رائعًا. لكن عندما وصلتُ إلى مطار رونالد ريجان القومي بحثتُ عنه عند بوابة المطار إلا أنني لم أجده في انتظاري، فاتصلتُ بمنزله وردَّ على الهاتف مُعتذرًا:

«اسمع يا أخي، هل يمكنك الإقامة في أي فندقٍ هذه الليلة؟»

«لماذا؟ هل حدث مكروه؟»

«لا، لم يحدث شيء خطير. إن الأمر مُتعلِّق بي وبزوجتي فقد تشاجرنا؛ لذا فإن حضروك الليلة إلى المنزل لن يكون أمرًا مُستساغًا. أتفهمني؟»

«بكل تأكيد. إنني …»

«اتَّصلْ بي عندما تجد فندقًا للمبيت، اتفقنا؟ سنتقابل الليلة ونتناول عشاءنا معًا. سأمرُّ عليك في تمام الثامنة.»

أقمتُ في أرخصِ غرفةٍ وجدتُها في الفندق وانتظرتُ بها، وفي الساعة التاسعة سمعتُ طرْقًا على الباب. وعندما فتحته وجدت رجلًا ضخمًا يقف أمامي واضعًا يدَيه في جَيْبَيْه وعلى وجهه الشديد السواد ابتسامةٌ عريضة أظهرت أسنانه المستوية.

قال لي: «أهلًا أخي، كيف حالك؟»

في صور روي التي كانت لدي، كان نحيفًا للغاية ومرتديًا زيًّا أفريقيًّا، إلى جانب أنه كان له شارب ولحية صغيرة وكان مُصفِّفًا شعره على الطريقة الأفريقية، لكنَّ الرجل الذي عانقني عندما فتحت الباب كان وزنه أكبر، يصل تقريبًا إلى مائتي رطل [٩٠٫٧ كيلوجرامًا] — على ما أعتقد — وكانت وجنتاه مُكتنزتَين لحمًا أسفل نظارته السميكة. والآن لم تَعُد له لحية وتغيَّر القميص الأفريقي ليحل محله جاكيت رمادي اللون وقميص أبيض ورابطة عنق. كانت أوما على حق؛ فتشابُه أخي مع أبي كان مُثيرًا للقلق. عندما نظرتُ إلى أخي شعرتُ كأنني عُدت طفلًا في العاشرة من عمري.

قلتُ له في أثناء مشينا تجاه سيارته: «أرى أن وزنك ازداد.»

نظر روي لأسفل إلى بطنه المنتفخة وربَّت عليها، وقال: «نعم، إنها الوجبات السريعة. إنها موجودة في كل مكان؛ ماكدونالدز وبرجر كينج. إنك لستَ مضطرًّا إلى الخروج — حتى من سيارتك — لشرائها؛ إذ أطلب وأنا في السيارة: فطيرتَين باللحم والصوص الخاص والخس والجبن أو ساندوتش الهامبورجر العملاق بالجبن.» ثم هزَّ روي رأسه وأضاف: «فيرد عليَّ العامل ستحصل على ما تريد في الحال. إنه لأمر رائع!»

أرجع روي رأسه للخلف وهو يضحك، وسرى بداخله صوتٌ ساحر جعل جسده كلَّه يهتز كما لو كان لا يستطيع تصديق العجائب التي تُقدِّمها له هذه الحياة الجديدة. كانت ضحكاته مُعدية؛ لذا فإنني ضحكتُ إلا أنني لم أضحك في أثناء طريقنا لتناول العشاء. كانت سيارته التويوتا صغيرةً على أن تستوعب حجمه — كان كطفلٍ يجلس في إحدى سيارات الملاهي في العيد — ولم يبدُ بارعًا في تحريك ذراع ناقل الحركة أو الإلمام بقواعد الطريق بما فيها حدُّ السرعة المسموح به. وفي طريقنا كنا على وشك الاصطدام مرتَين بالسيارات القادمة من الاتجاه المقابل، وعند أحد المنعطفات حادت السيارة عن طريقها وصعدت فوق رصيف مرتفع.

صِحتُ بصوتٍ أعلى من الصوت الهادر للموسيقى المنبعثة من شريط الكاسيت الذي يديره: «هل تقود السيارة دائمًا بهذه الطريقة؟»

ابتسم روي ونقل السرعة إلى المستوى الخامس وقال: «قيادتي ليست حسنة، أليس كذلك؟ فدائمًا ما تشكو ماري زوجتي من هذا الأمر أيضًا، خاصةً بعد الحادث …»

«أيُّ حادث؟»

«لم يكن خطيرًا؛ فأنا لا أزال حيًّا أُرزق!» ضحك مرةً ثانيةً وهزَّ رأسه كأن السيارة تعمل أوتوماتيكيًّا دون أن يقودها، وكان وصولنا الآمن سيكون مثالًا آخر على نِعَم الرب الوفيرة.

كان المطعم المفترَض أن نتناول العشاء فيه مكسيكيًّا، وكان بجانب مرفأ صغير. اخترنا طاولة عشاءٍ تطلُّ على المياه مباشرةً، وطلبتُ جِعَة وطلب روي كأسًا من كوكتيل المارجريتا، وتحدثنا بعض الوقت عن عملي وعمله محاسبًا في إحدى الشركات الكبرى للتمويل العقاري. أكل روي باستمتاع شديد واحتسى كأسًا أخرى من المارجريتا، إلى جانب أنه ضحك ومزح عند حديثه على مغامراته في أمريكا. لكن ما إن نفد الطعام حتى بدأت آثار المجهود الذي بذله تظهر عليه، وفي النهاية سألته لماذا لم تَصحبنا زوجته على العشاء، فتلاشت ابتسامته وقال:

«أعتقد أننا على وشك الطلاق.»

«أنا آسف لسماعي هذا الخبر.»

«قالت لي إنها سئمت من بقائي خارج المنزل لساعةٍ متأخِّرة من الليل، وإنني أُفرِط في شرب الخمر، بالإضافة إلى أنها أخبرتني أنني أصبح تدريجيًّا نسخةً من أبي.»

«وما رأيك في ذلك؟»

«ما رأيي؟» أدنى رأسه، ثم نظر إليَّ بشجنٍ فرأيتُ في عدستَي نظارتِه لهبَ الشموع يتراقص كمشاعل الاحتفالات الصغيرة. قال لي وهو يتكئ بجسده للأمام: «الحقيقة هي أنني أعتقد أنني أكره نفسي، وأنني ألوم أبي في ذلك.»

على مدار الساعة التالية قَصَّ عليَّ روي جميع الصِّعاب التي تحدثَت عنها أوما من قبل؛ عن انتزاعِه من أمِّه وكلِّ شيءٍ اعتاده، وعن فقر أبينا المفاجئ، وعن المشاجرات والمشكلات، وعن رحلته الأخيرة. أخبرني عن حياته بعد أن ترك منزل أبينا مُتنقلًا بين منازل أقاربه واحدًا تلو آخر وكيف جرى قبول التحاقه بجامعة نيروبي ثم حصوله فيما بعدُ على وظيفةٍ في مكتب محاسبة محلي بعد التخرُّج، وكيف علَّم نفسه الانضباط في العمل؛ فكان يصل إلى عمله مبكرًا ويُكمل المهام المنوط به أداؤها بصرف النظر عن سهره طويلًا خارج المنزل في الليلة السابقة. شعرتُ وأنا أستمع إليه بالإعجاب نفسه الذي شعرتُ به عند سماعي أوما وهي تتحدَّث عن حياتها وعن قدرتهما على الاحتمال التي أظهراها في الأوقات العصيبة، وعن العِند نفسِه الذي أخرجهما من ظروفهما الصعبة. على أنني شعرت أن أوما — وليس روي — مُستعدة لأن تترك الماضي وراء ظهرها، وأن لدَيها إلى حدٍّ ما المقدرةَ على أن تُسامح، إن لم يكن من الضروري أن تنسى. أما روي فقد بدت ذكرياته عن أبينا أكثرَ تعلقًا بحاضره وأشدَّ سخرية، وظل الماضي عنده جرحًا لم يندمِل.

أثناء رفع الأطباق من على المائدة في المطعم قال لي روي: «لم يكن — أبي — يُعجبه شيء، وكان ذكيًّا ولم يكن ليسمح لك بالإهمال إطلاقًا. وإن عُدتَ يومًا إلى المنزل تحمِل شهادةً تفيد حصولك على ثاني أفضل درجات في الفصل يسألك لماذا لم تُحرز الدرجات النهائية، وكان يقول «إنك من عائلة أوباما، وعليك أن تكون الأفضل دائمًا.» وكان يُصدِّق ذلك بالفعل. بعد ذلك كنتُ أراه مخمورًا ولا يملك مالًا ويعيش حياة المتسوِّلين. فكنتُ أسأل نفسي: كيف يمكن لأحدٍ بمثل هذا الذكاء الحاد أن تنهار حياته بهذا الشكل المأساوي؟ لم يبدُ هذا منطقيًّا لي على الإطلاق.

وبعد أن أصبحتُ أعيش معتمدًا على نفسي، حتى بعد مماته، كنت أحاول حلَّ هذا اللغز كما لو كنتُ لا أستطيع الهروب منه. إنني أتذكَّر أنه كان علينا نقْل جثتِه إلى أليجو لإقامة الجنازة، ولأنني كنتُ الابن الأكبر سنًّا كنتُ مسئولًا عن ترتيبات الجنازة، وقد أرادت الحكومة أن يكون الدفن طبقًا للشريعة المسيحية، لكنَّ العائلة أرادت أن يتم طبقًا للشريعة الإسلامية. حضر الناس إلى ميدان هوم من كل مكان، وكان علينا أن ننتحِب عليه طبقًا لتقاليد قبيلة لوو، وأن نحرق الخشب ثلاثة أيام، ونستمع إلى بكاء الناس وعويلهم. لم أكن أعرف نصف هؤلاء الناس النائحين الذين كانوا يريدون تناول الطعام واحتساء الجِعَة. وتهامس البعض بأنَّ أبانا تسمَّم وأنني لا بدَّ من أن آخُذ بثأره، وسرق بعضهم أشياء من المنزل. بعد ذلك بدأ أقاربنا يتشاجرون على إرث أبي، من ضمنهم آخِرُ صديقة له أم أخينا الرضيع جورج التي كانت تريد الحصول على كل شيءٍ ووقف في جانبها البعض ومنهم العمة سارة، وانحاز البعض الآخر إلى أُمي. كان الأمر برمَّته ضربًا من ضروب الجنون، وبدا الخلل في كل شيء.

بعد انتهاء الجنازة لم تكن لديَّ رغبةٌ في مصاحبة أحد؛ فالإنسان الوحيد الذي كنتُ أثِق به كان ديفيد أخانا الصغير. اسمح لي أن أقول لك إن هذا الرجل كان حسنًا، وكان يُشبهك قليلًا لكنه كان يصغرك سنًّا … إذ كان في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره. حاولَتْ أمُّه روث أن تُربيه طبقًا لأسلوب الحياة الأمريكية، لكن ديفيد تمرَّد عليها؛ فقد أحبَّ الجميع وترك منزله كي يأتي ويعيش معي. وعندما طلبتُ منه العودة إلى المنزل مرةً أخرى رفض وقال لي إنه لا يريد أن يُصبح أمريكيًّا؛ كان ديفيد أفريقيًّا من عائلة أوباما بحق.

عندما مات ديفيد كانت الضربة القاضية لي. وكنتُ متأكدًا من أن العائلة بأكملها شقِيَت لسماع هذا الخبر. فبدأتُ أشرب الخمر وأتشاجر ولم أعُدْ أهتمُّ بأي شيء. قلت لنفسي إن كان أبي وديفيد قد ماتا فإنني حتمًا سأموت. في بعض الأحيان كنتُ أتساءل عما كان يمكن أن يحدُث إن بقِيتُ في كينيا. في هذه الأثناء فكَّرتُ في نانسي، الفتاة الأمريكية التي كنتُ على علاقةٍ بها والتي كانت عندئذٍ قد عادت إلى أمريكا؛ لذا اتصلتُ بها ذات يوم وقلت لها إنني أريد أن أذهب إليها. وعندما وافقَتِ اشتريتُ تذكرة وركبت أول طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة. لم آخُذ أمتعتي أو أخبِر المكتب الذي كنتُ أعمل به أو أودِّع أحدًا أو أي شيء.

فكَّرتُ في هذا الوقت أنَّ باستطاعتي أن أبدأ من جديد. لكنني الآن مُوقن من أنني لا أستطيع إطلاقًا أن أبدأ من جديد. ليس في واقع الأمر. يعتقد المرء أن لدَيه القدرة على التحكم في حياته، لكنه في الواقع مثل السمكة في شبكة شخصٍ آخر. في بعض الأحيان أُفكِّر أن هذا هو سبب تعلُّقي بوظيفة المحاسبة. ذلك لأنني طوال اليوم أتعامل مع الأرقام. أُضيفها وأضربها، وإن كنتُ دقيقًا في حساباتي فسيكون لديَّ حلٌّ دائم لأية مشكلة. فالعملية برمَّتها قائمة على التسلسل والترتيب. لذا مع الأرقام يستطيع المرء التحكم …»

احتسى روي رشفةً أخرى من مشروبه وأبطأ من وتيرةِ حديثه على حينِ غِرة كأنه سقط بعيدًا في أعماق مكانٍ آخرَ أو كأن روح أبينا قد تملَّكته. وقال: «إنني أكبر إخوتي، كما ترى. وطبقًا لتقاليد قبيلة لوو فإنني الآن رب المنزل. أنا مسئول عنك وعن أوما وعن كل الإخوة الأصغر سنًّا. ومسئوليتي هي تقويمُ الأمور جميعها. ودفع مصاريف المدرسة لإخوتي. والتأكُّد من ارتباط أوما بزوج صالح. وبناءُ منزل مُلائم ولمُّ شمل العائلة من جديد.»

مددتُ يدي على الطاولة ولمستُ يده. وقلتُ له: «ليس عليك أن تفعل ذلك بمفردك يا أخي.» وتابعت: «يمكننا أن نشترك معًا في هذه المسئولية.»

لكن بدا لي أنه لم يَسمعني. وحملق فقط في النافذة، وبعد ذلك لوَّح للنادل فجأة كما لو كان قد استيقظ من حالةِ لاوعي.

«أتريدُ شرابًا آخر؟»

«لماذا لا نطلب الحساب الآن؟»

نظر إليَّ روي وابتسم. «أستطيع أن أقول إنك شخصٌ كثير القلق يا باراك. وتلك هي مشكلتي أيضًا. أعتقد أننا في حاجةٍ إلى تعلُّم كيف نتقبَّل الأوضاع كما هي ونرضى بالأمر الواقع. أليس هذا ما تقولونه في أمريكا؟ فقط تقبَّل الأوضاع وارضَ بالأمر الواقع …» ضحك روي مجددًا بصوتٍ عالٍ استدار تجاهه الجالسون على المائدة المجاورة لنا. لكنها كانت ضحكةً بلا روح فبدت جوفاء غير صادقة، كما لو كانت آتية من مسافةٍ شاسعة ومن مكانٍ لا حياة فيه.

•••

سافرتُ على طائرة اليوم التالي؛ لا بد أن روي كان يريد قضاء بعض الوقت مع زوجته ولم يكن لديَّ المال الذي أدفعه لقضاء ليلةٍ أخرى في الفندق. تناولنا الفطور معًا وفي الصباح بدا أفضل حالًا. وعند بوابة المطار تصافحنا وتعانقنا ووعدَني بأن يزورني بمجرد أن تستقر الأمور. في أثناء رحلة العودة إلى شيكاغو وعلى مدارِ ما تبقَّى من عطلة نهاية الأسبوع لم أستطِع أن أُخلِّص نفسي من الشعور بأن روي في خطرٍ ما، وأن شياطين ذكرياته القديمة تقوده إلى الجحيم، وفكَّرتُ أنني إذا تصرفتُ كما ينبغي أن يتصرف الأخ فسوف أمنع سقوطه في هوة الجحيم.

عندما دخل جوني مكتبي في وقتٍ متأخر بعد ظهر يوم الإثنين كنتُ لا أزال أفكِّر في روي.

قال جوني: «عُدت مبكرًا. كيف كانت الرحلة؟»

«كانت جميلة. وكان من الرائع أن أرى أخي.» أومأتُ برأسي وأنا أطرق على حافة المكتب برفق. قلت: «إذن ماذا حدث أثناء غيابي؟»

جلس جوني على أحد المقاعد. وقال: «حسنًا، تقابلنا مع عضو مجلس الشيوخ عن الولاية. وقد تعهَّد بتقديم مشروع قانون للحصول على التمويل اللازم لبرنامج التطوير للنظام المدرسي. ربما لن يصِل إلى النصف مليون دولار بأكملها لكنه سيفي بالغرض.»

«رائع. وماذا عن مديري المدارس الثانوية؟»

«عُدتُ للتوِّ من اجتماعٍ مع دكتور كينج، مدير المدرسة التي يعمل بها أسانتي. ولم يردَّ سائر المديرين على اتصالاتي.»

«ممتاز. وماذا قال دكتور كينج؟»

قال جوني: «ابتسم طوال الوقت. وقال إنه أُعجب بالاقتراح بالفعل. وسعد للغاية عندما سمع أن هناك إمكانيةً للحصول على التمويل. وقال إنه شجَّع المديرين الآخرين على التعاون معنا وأننا سنحصُل على دعمه الكامل. وقال: «لا يُوجَد شيء أكثر أهميةً من إنقاذ شبابنا.»»

«رائع.»

«نعم. رائع. وعندما كنتُ على وشك مغادرة مكتبه أعطاني هذه فجأة.» أمسك جوني حقيبته وأخرج ورقةً منها وأعطاني إيَّاها. قرأتُ سطورًا قليلة قبل أن أُعطيها له مرةً أخرى.

«سيرة ذاتية؟»

«ليست أية سيرةٍ ذاتية يا باراك. إنها تخصُّ زوجته. يبدو أنها سئِمَت البقاء في المنزل، ويعتقد دكتور كينج أنها ستكون مديرةً «رائعة» لبرنامجنا. وفي هذا الصدد يجب ألا نُسيء فهْمَه فنظن أنه يضغط علينا. وبمجرد تخصيص التمويل سيكون هناك اعتبارات أخرى، من المؤكد أنك تعلم ما أقصد.»

«أعطاك السيرة الذاتية الخاصة بزوجته …»

«ليس فقط الخاصة بزوجته.» أمسك جوني مرةً أخرى بحقيبته وأخرج ورقةً أخرى ولوَّح بها في الهواء. وقال: «أعطاني السيرة الذاتية الخاصة بابنته أيضًا. وأخبرني أنها ستكون مستشارة رائعة …»

«لا …»

«إنني متأكدٌ يا باراك من أنه خطَّط لكل شيء. أتعلم؟ بالإضافة إلى أنه طوال وقت حديثنا لم يشعر بالخجل إطلاقًا. كان يتصرف وكأن ما يفعله هو أكثر شيءٍ طبيعي يحدُث في العالم. أمرٌ لا يُصدِّقه عقل.» هزَّ جوني رأسه، ثم فجأةً صاح وكأنه واعظ. وقال: «نعم! إنه الدكتور لوني كينج! مثال الجرأة والبسالة! الشجاع المقدام! صاحب الأفكار الجريئة! لم يبدأ البرنامج بعد، وها هو ذا يُفكِّر فيه مستقبلًا.»

بدأتُ أضحك.

أضاف قائلًا: «إنه لا يريد وظيفةً واحدة فقط! بل اثنتَين! اذهب وتحدَّث معه عن بعض الأطفال وسيُعطيك السير الذاتية الحمقاء لعائلته بأكملها …»

صِحتُ صيحةً قلَّدتُه فيها. قلت: «دكتور لوني كينج!»

قهقه وهو يقول: «نعم! دكتور لوني كينج!» مما جعلني أضحك أكثرَ وبلغ بنا الضحك مبلغًا جعلنا ننحَني لأعلى ولأسفل ونحن نقهقه، ولا نلبث أن نلتقط أنفاسنا حتى نعود لتكرار هذه العبارة مرةً أخرى «دكتور لوني كينج!» كما لو كانت تشتمل على أوضح الحقائق على الإطلاق أو أكثر العناصر أهمية من بين الأربعة عناصر المكونة للعالم المادي. ظللنا نضحك إلى أن توهَّجَت وجوهنا وآلمتنا ضلوعنا وسالت الدموع من أعيُننا وشعرْنا بأننا لم نَعُد نستطيع الضحك لأكثر من ذلك، وقرَّرْنا أن نرتاح الوقت المتبقي بعد ظهر هذا اليوم دون عمل ونحتسي الجِعَة.

•••

في هذه الليلة قريبًا من منتصف الليل توقَّفت سيارة أمام المبنى الذي أقطنه وبها مجموعة من المراهقين وسماعات مُكبِّرة للصوت تُصدِر أصواتًا عالية للغاية لدرجةِ أن أرضية الشقة بدأت تهتز. في مثل هذه المواقف اعتدتُ تجاهُل هذه الأشياء المزعِجة والتساؤل: إلى أين سيذهبون إن غادروا هذا المكان؟ لكن في هذا المساء على وجه التحديد كان في المبنى ضيفٌ جديد؛ فقد عرفتُ أن جاريَّ في الشقة التي بجواري أنجبا طفلًا جديدًا وأحضراه إلى المنزل؛ لذا ارتديتُ شورتًا واتجهتُ لأسفل لأتحدَّث مع زوار الليل الواقِفين أسفل المبنى. وعندما اقتربتُ من السيارة توقَّف مَن بداخلها عن الحديث ونظر جميعهم تجاهي.

«استمعوا إليَّ، إننا نحاول أن ننام. لماذا لا تذهبون إلى مكانٍ آخر؟»

لم يقُل أيٌّ من الصبية الأربعة الجالسين في السيارة كلمةً واحدة، بل لم يتحركوا على الإطلاق. أفاقتني الرياح من نعاسي وعلى حين غِرة شعرتُ أنني مُتجرِّد من ملابسي مع أنني كنتُ أقف على الرصيف في منتصف الليل مُرتديًا شورتًا. لم أستطِع رؤيةَ وجوههم وهم داخل السيارة، وكان الظلام دامسًا فلم أستطِع تحديد أعمارهم، وهل كانوا في وعيِهم أم ثمِلين، أخيارًا أم أشرارًا. ربما كان كايل واحدًا منهم. أو روي. أو جوني.

ربما كنتُ أنا نفسي واحدًا منهم. وأنا واقف في مكاني حاولتُ أن أتذكَّر الأيام التي كنتُ فيها جالسًا في سيارةٍ كهذه وروحي تعجُّ بالاستياء المكتوم وبالإحباط حتى أُثبِت فقط أنني موجود في هذا العالم. تذكَّرتُ الشعورَ بالغضب المبرَّر عندما كنتُ أصرخ في وجه جَدي لأي سببٍ كان. كما تذكَّرتُ المشاجرات الدامية في المدرسة الثانوية. وتذكَّرت تبجُّحي وأنا ذاهب إلى الفصل المدرسي في حالةِ سُكْر جلية أو حالةٍ من النشوى نتيجة تعاطي المخدرات مع عِلمي بأن مُدرسِيَّ سيشمون رائحة الجِعَة أو الماريجوانا عندما أتنفَّس، منتظرًا أن ينبس أحدهم ببنت شفة. بدأتُ أُصوِّر نفسي عبر أعين هؤلاء الشباب ووجدتُ صورةً للسلطة الطائشة وبدأتُ أعرف المقاييس التي يعيشون طبقًا لها، وأنه إن لم يستطِع أحدهم النجاح في التخلُّص مِني فسينجح الأربعة بالتأكيد في ذلك إذا ما اجتمعوا معًا.

عندما حاولتُ اختراق الظلام لمعرفةِ ما يدور بخَلدهم داخل السيارة، فكَّرتُ في أنه مع كون هؤلاء المراهقين أضعفَ أو أقوى منِّي عندما كنتُ في عمرهم، فإن الفرق الوحيد بيننا يتمثل في أن العالَم الذي عشتُ فيه أوقاتي العصيبة كان أكثر تسامحًا من عالمهم. لم يملك هؤلاء الشباب أيَّ هامش للخطأ؛ إذا حملوا أسلحةً فإنها لن توفِّر لهم الحماية من هذه الحقيقة. وفي الواقع فإن هذه الحقيقة — التي يشعرون بها بالتأكيد لكنهم لا يستطيعون الاعترافَ بها ولا بد من أن يرفضوها حتى يعيشوا يومًا آخر — هي التي أجبرتهم، وأجبرت غيرهم من أترابهم، في النهاية على إغلاق الطريق أمام أي شعورٍ بالتعاطف شعروا به من قبل. علاوةً على أن رجولتهم العنيدة غير المقيدة بأي ضوابط لن تُكبح — على عكس ما انتهى الأمر بي — بأي شعور بالحزن على جرح كبرياء مَن يكبرهم سنًّا. ولن تهدأ ثورة غضبهم باعترافي بالخطر الذي ربما يُداهمني إذا تسبَّبتُ في جرح شَفَة أحدهم، أو انطلقتُ بسيارتي بأقصى سرعة على الطريق السريع وقد ذهبَتِ المُسكِرات بعقلي. في الواقع وجدت نفسي وأنا واقف مكاني أُفكِّر في أننا دائمًا يدور داخلنا حوار بين شعورنا بالذنب والتعاطف وبين شعورنا الدفين بأن هناك حاجةً إلى نظامٍ ما، ليس بالضرورة أن يكون هذا النظام هو النظام الاجتماعي الموجود بالفعل، بل أقصد نظامًا أكثرَ أهمية وأشدَّ إلحاحًا؛ شعور آخر بأن لكلٍّ منا دورًا يجب أن يؤدِّيَه في النظام، ورغبة لا تنتهي مهما بدا عدم ثبات النظام في بعض الأحيان. إنني أظن أن هؤلاء الشباب سيُضطرون إلى البحث لوقتٍ طويل أو الكد للعثور على نظامٍ يتعامل معهم على أنهم ليسوا أشكالًا للخوف أو الازدراء. وهذا الشكُّ يُخيفني لأنني الآن أصبحَتْ لي حياة في العالم الذي أعيش فيه، ولي وظيفة، ومنهج في الحياة أتَّبِعه. وقدْر استطاعتي على التعبير فإنه لا تُوجَد أية صِلة بيني وبين هؤلاء الشباب؛ لأننا فريقان مختلفان يتحدَّث كلٌّ منا لغةً مختلفة ويعيش حياة مختلفة.

دار محرك السيارة التي انطلقَتْ بعيدًا مُحدثةً صوتًا حادًّا مُزعجًا. وعُدت إلى شقتي وأنا أعترف لنفسي بأنني كنتُ غبيًّا ومحظوظًا في آنٍ، وأدركتُ أنني خائف بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤