الفصل السابع عشر

قربَ نهاية أسبوعي الثاني في كينيا ذهبتُ أنا وأوما في رحلة سفاري.

لم تكن أوما مُتحمِّسة للفكرة. فعندما أريتُها الكُتيب الدعائي أول مرة تجهَّم وجهها وهزَّت رأسها. فهي، على غرار معظم الكينيين، تربط بين محميَّات الحياة البرية وبين الاستعمار. وسألتني: «كم تظنُّ عدد الكينِيِّين الذين يمكنهم تحمُّل نفقات الذهاب إلى رحلة سفاري؟» وتابعت: «ولماذا تُخصَّص كلَّ هذه المساحة من الأرض للسياح، في حين أنه يمكن استغلالها في الزراعة؟ أولئك الرجال البِيض يهتمُّون بفيلٍ ميتٍ أكثرَ من اهتمامهم بحياة ١٠٠ طفلٍ أسود.»

ولعدة أيام ظلَلْنا نراوغ. فقلتُ لها إنها تجعل أفكار الآخرين ومواقفهم تمنعها من رؤية بلدِها. وهي قالت إنها لا تريد إهدار النقود. وفي النهاية وافقت، ولم يكن ذلك بسبب قُدرتي على الإقناع ولكن لأنها كانت تُشفِق عليَّ.

قالت: «إذا التهمك حيوانٌ ما هناك فإنني لن أُسامح نفسي أبدًا.»

وعلى ذلك في الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء شاهدْنا سائقًا قويَّ البنية من قبيلة الكيكويو اسمه فرانسيس يحمل حقائبنا على سقف سيارة ميني فان بيضاء. وكان بِصُحبتنا طاهٍ طويل ونحيل اسمه رافائيل، وإيطالي أسود الشعر اسمه ماورو، وزوجان بريطانيان في بداية الأربعينيَّات من عمرهما يُطلق عليهما السيد ويلكرسون وزوجته.

انطلقَتِ السيارة في طريقها إلى خارج نيروبي بسرعةٍ معتدلة، وسرعان ما مرَّت بالريف والتلال الخضراء وطرقٍ من التراب الأحمر، وقِطعٍ صغيرة من الأراضي المزروعة محاطة بحقول الذرة الذابلة التي تفصل بينها مسافات كبيرة. ولم يتفوَّه أحد بكلمة، فساد صمت مُحيِّر ذكَّرني بلحظاتٍ مماثِلة هناك في الولايات المتحدة، الصمت الذي كان في بعض الأحيان يصاحب دخولي إلى حانةٍ أو فندق. وقد جعلني هذا أُفكِّر في أوما ومارك وجَدي وجَدتي، في هاواي ووالدتي التي لا تزال في إندونيسيا والأشياء التي أخبرَتْني بها زيتوني.

«إذا كان الجميع من عائلتِك فلا عائلة لك.»

هل زيتوني على حق؟ لقد جئتُ إلى كينيا وأنا أظن أنه يُمكنني بشكلٍ ما توحيد العوالم الكثيرة التي أعيش بها في عالمٍ واحد مُنسجِم. وبدلًا من هذا اتضح أن الانقسامات تزايدت أضعافًا مُضاعفة، بل تظهر أثناء أبسط الأعمال. وفكَّرتُ فيما حدث صباح اليوم السابق، عندما ذهبنا أنا وأوما لحجز التذاكر. كانت شركة السياحة ملكًا لآسيوِيِّين؛ إذ إن معظم الأعمال الصغيرة في نيروبي يسيطر عليها آسيويون، وعلى الفور توتَّرت أوما.

فهمسَتْ وهي ترى شابةً هندية تأمر موظفيها السُّود جَيئةً وذهابًا: «أترى كم هم مغرورون؟ إنهم يُطلِقون على أنفسهم كينيُّون لكن لا علاقة لنا بهم. وبمجرد أن يُكوِّنوا ثرواتهم يُرسِلونها على الفور إلى لندن أو بومباي.»

مَسَّ موقفها وترًا حسَّاسًا داخلي. فسألتُها: «كيف تلومِين الآسيويين لأنهم يرسِلون نقودهم خارج البلاد بعد ما حدث في أوغندا؟» وأخبرتها عن أصدقائي المقرَّبين في الولايات المتحدة الهنود منهم والباكستانيين، أصدقاء يُساندون قضية السود، أصدقاء أقرضوني نقودًا عندما تأزَّمَت حالتي المالية، واستضافوني في منازلهم عندما لم يكن لديَّ مكانٌ لأمكث فيه. لكن موقف أوما لم يتغيَّر.

قالت: «عزيزي باراك.» وتابعت: «في بعض الأحيان تكون ساذَجًا للغاية.»

ثم نظرتُ إلى أوما ونحن في السيارة ووجهها يتَّجِه نحو النافذة. وتساءلتُ بداخلي: ماذا توقعتُ أن أُحقِّق بتلك المحاضرة القصيرة؟ فمعادلاتي البسيطة عن تضامن العالم الثالث لم تحظَ بالتطبيق في كينيا. فهنا كان الأشخاص من أصولٍ هندية — مثل الصينيين في إندونيسيا والكوريين في الجزء الجنوبي من شيكاغو — مجرَّد غرباء يعرفون كيف يتاجرون، وينطوون على أنفسهم، وفي ظلِّ آلية عمل النظام الطبقي العنصري فإنهم يكونون أكثرَ تميزًا، ومن ثَم أكثر عرضةً للاستياء. وهذا ليس بالضرورة خطأ أحد؛ إنها ليست إلا مسألة تاريخ، حقيقة مأسوية من حقائق الحياة.

وعلى أية حال، لم تقف الانقسامات في كينيا عند هذا الحد. فقد كانت هناك دائمًا حدود أدقُّ ينبغي رسمُها. على سبيل المثال بين قبائل الدولة السوداء التي يبلُغ عددها ٤٠ قبيلة. لقد كانوا هم أيضًا حقيقة من حقائق الحياة. ولا يُلاحِظ المرء النزعة القبلية بين أصدقاء أوما من الشباب الكيني الذي يرتاد الجامعات والذي تربَّى في المدارس على فكرة الدولة والعِرق، ومسألة القبيلة هذه لا يُفكِّرون فيها إلا عندما يُفكِّرون في الزواج أو عندما يكبرون ويرَون أنها تعوق حياتهم المهنية أو تدفعها للأمام. لكنهم كانوا هم الاستثناء. فمعظم الكينيين كانوا لا يزالون يُفكرون بخرائط الهوية القديمة، والانتماءات الأقدم. وحتى جين وزيتوني كانتا في بعض الأحيان تقولان أشياء تُفاجئني. فتقولان مثلًا: «أبناء قبيلة لوو أذكياء لكنهم كسالى». أو «أبناء قبيلة كيكويو جشعون لكنهم مُجِدُّون في العمل». أو «أما أبناء قبيلة كالينجين فيُمكنك أن ترى ماذا حلَّ بالبلد منذ أن تولَّوا الحكم.»

وعندما كنتُ أسمع عمَّتَيَّ تتحدَّثان دائمًا عن هذه الآراء الشائعة أحاول أن أشرح لهما خطأ هذه الاتجاهات. فكنتُ أقول: «إن مثل هذا التفكير هو الذي يعوقنا عن التقدُّم، إننا جميعًا جزء من قبيلةٍ واحدة. القبيلة السوداء. القبيلة البشرية. انظرا ماذا فعلَتِ النزعة القبلية بأماكنَ مثل نيجيريا أو ليبريا.»

فكانت جين تقول: «إنهم في غرب أفريقيا مجانين على أية حال. إنك تعلَم أنهم كانوا من آكِلي لحوم البشر، أليس كذلك؟»

وتقول زيتوني: «إنك تتحدَّث مثل أبيك بالضبط يا باري. هو أيضًا كانت لدَيه مثل هذه الآراء عن الناس.»

وهو ما يعني أنه هو أيضًا كان ساذَجًا، هو أيضًا كان يُحب أن يجادل في أمور التاريخ. انظر ماذا حدث له …

توقفت السيارة فجأة، وأعادتني من أحلام اليقظة التي كنتُ أستغرق فيها. كنا أمام قطعة أرض زراعية صغيرة، وطلب منَّا السائق فرانسيس أن نمكث في أماكننا ولا نتحرَّك. وبعد بضع دقائق خرج من المنزل ومعه فتاة أفريقية صغيرة ربما في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، ترتدي بنطلون جينز وبلوزة كُوِيَت بإتقان، وتحمل حقيبةً صوفية صغيرة. وقد ساعدها فرانسيس على الدخول إلى مؤخرة السيارة وأشار إليها بالجلوس على المقعد المجاور لأوما.

فسألته أوما وهي تُفسِح مكانًا للفتاة: «هل هذه ابنتُك؟»

فقال فرانسيس: «كلَّا.» وأوضح: «إنها ابنة شقيقتي. وتودُّ أن ترى الحيوانات ودائمًا ما تلحُّ عليَّ كي أصطحبها معي. وأتمنى ألا يُمانع أحدكم هذا؟»

هزَّ الجميع رأسه نفيًا وابتسموا للفتاة التي تحمَّلت التفات الأنظار إليها بشجاعة.

سألتْها السيدة ويلكرسون البريطانية: «ما اسمك؟»

همست الفتاة: «إليزابيث.»

فقالت أوما: «إليزابيث يُمكنك مشاركتي خيمتي.» وتابعت: «فأظن أن أخي يُصدِر شخيرًا وهو نائم.»

عبستُ في وجهها. وقلت: «لا تُصدِّقيها»، وأخرجتُ علبة بسكويت. فأخذت إليزابيث قطعةً منها وبدأت تأكُل حوافها. فأخذت أوما العلبة والتفتت إلى ماورو.

وسألته: «أتريد بعضًا منها؟»

فابتسم الإيطالي وأخذ قطعةً واحدة قبل أن تُمرِّر أوما البسكويت إلى الآخرين.

سِرنا في الطريق إلى أن مرَرْنا بتلالٍ أكثرَ برودة حيث كان النساء يَسِرْن حفاةَ القدمَين ويحملنَ مياهًا وأخشابًا للتدفئة والأطفال الصغار يضربون بالسياط الحميرَ التي تجرُّ عرباتهم المتهالكة. وبالتدريج أصبحت الأراضي الزراعية أقل، وحلَّت محلها شجيرات وغابات مُتشابكة، حتى انقطع فجأة وجود الأشجار على يَسارنا دون إنذارٍ سابق وأصبح كلُّ ما نراه هو السماء الشاسعة.

أعلن فرانسيس: «هذا هو الأخدود الأفريقي العظيم.»

خرجنا من الشاحنة بسرعةٍ ودون نظام، ووقفنا على حافة الأخدود نتطلَّع إلى الأفق الغربي. وعلى بُعد مئات الأقدام بالأسفل، كانت الأحجار وحشائش السافانا تمتدُّ على سهلٍ مُنبسط مُسطح يمتدُّ على طول النظر قبل أن يلتقِيَ بالسماء، ثم يُعيد العين لتنظر عبر السماء الفسيحة. وإلى اليمين جبلٌ وحيد يقف مثل جزيرةٍ في بحرٍ صامت، وخلف الجبل صفٌّ من سلاسل التلال تُلقي بظلالها. ولم يكن هناك سوى إشارتَين واضحتَين على وجود الإنسان: طريق ضيق يتَّجِه غربًا ومحطة أقمار صناعية يتَّجِه طبق استقبالها الأبيض الضخم إلى السماء.

وعلى بُعد بضعةِ أميالٍ إلى الشمال تركنا الطريق الرئيسي إلى طريق كان فيه الأسفلت مُكسرًا. وقد شقَقْنا طريقَنا عبره ببطء، وفي بعض الأماكن كانت الحُفَر بعرض الطريق بالكامل، وفي كثير من الأحيان تقترب شاحنات قادمة من الاتجاه المعاكس، مما يُجبر فرانسيس على الصعود بالسيارة على السد الترابي المرتفع بجانب الطريق. وفي النهاية وصلْنا إلى الطريق الذي رأيناه من أعلى، وبدأت السيارة تسير عبر أرض الوادي. كانت المناظر الطبيعية من حولنا جافة، معظمها حشائش طويلة وأشجار شوكية غير مُشذَّبة، وحصًى وقطع من الحجر الصلب الداكن اللون. بدأنا نمرُّ بقطعان صغيرة من الغزلان وظبيةٍ وحيدة من ظباء الثيتل تأكل أسفل شجرة، ولمحنا على مسافةٍ بعيدة حمارًا وحشيًّا وزرافة. ولمدة ساعة تقريبًا لم نرَ إنسانًا، حتى ظَهر أحد الرعاة من قبيلة الماساي على بُعدٍ وكان جسدُه يضاهي العصا التي يحملها في النحافة والاستقامة، يقود قطيعًا من الماشية الطويلة القرون عبر مساحةٍ خاوية من الأرض.

لم أقابل الكثيرَ من أفراد قبيلة الماساي في نيروبي، مع أني قرأتُ عنهم كثيرًا. كنت أعلم أن طرُقَهم الرعوية وضراوتهم في الحرب قد أكسبتْهم احترامًا يشوبُه الحقد من جانب البريطانيين، حتى إنه مع أن المعاهدات قد خُرِقت فقد اقتصر وجود أفراد قبيلة الماساي على مناطق مُنفصلة بعَينها، وأصبحت القبيلة أسطورية في هزيمتها، مثل قبيلتَي شيروكي أو أباتشي؛ حيث تظهر صورة البربري النبيل على البطاقات البريدية والكتب ذات الأغلفة الفنية المجلدة. كنتُ أعلم أيضًا أن هذا الافتتان الغربي بقبيلة الماساي كان يُثير حنق باقي الكينيين الذين كانوا يرَون سلوكياتهم مُثيرة للخجل، والذين كانوا يتوقون للاستيلاء على أرض الماساي. وقد حاولت الحكومة أن تفرض نظام التعليم الإجباري على أطفال الماساي، وأيضًا نظام تسجيل ملكية الأراضي بين الكبار في القبيلة. وفسَّر المسئولون ذلك قائلين إنه عبء الرجل الأسود أن يدفع بإخوته الأسوأ حظًّا إلى ركْب التحضُّر.

وتساءلتُ ونحن نتوغَّل أكثرَ في وطنهم، كم من الوقت يمكن أن يصمد الماساي. وفي مدينة ناروك، وهي مدينة تجارية صغيرة توقفنا فيها من أجل الغداء وتزويد السيارة بالوقود، أحاط مجموعة من الأطفال يرتدون شورتات كاكي وقمصانًا قديمةً بشاحنتنا وأخذوا يُنادون بالحماس العدواني نفسه الذي يميز نظراءهم في نيروبي على الحلي الرخيصة والوجبات الخفيفة. وبعد ساعتَين، عندما وصلنا إلى بوابة من الطوب اللبن التي تقود إلى المحمية، انحنى رجل طويل من قبيلة ماساي يرتدي قُبعة وتفوح منه رائحة الجِعَة عبر نافذة شاحنتنا واقترح أن نأخذ جولة في محمية تقليدية لقبيلة الماساي.

وقال الرجل بابتسامة: «٤٠ شلنًا فقط.» وتابع: «والصور لها تكلفة إضافية.»

وبينما كان فرانسيس يقوم ببعض الأعمال في مكتب مدير المحمية خرج بقيتنا وتبعنا رجل قبيلة الماساي إلى مجمعٍ دائري ضخم مُحاط بأعشابٍ شوكية. وعلى طول المحيط الخارجي للمجمع كانت هناك أكواخ صغيرة مَبنية من الطين وروث الحيوانات، وفي منتصف المجمع كان هناك عدد من الماشية وبعض الأطفال العراة يقفون جنبًا إلى جنب في الوحل. ولوَّحت لنا مجموعة من النساء لننظُر إلى أوانيهنَّ المصنوعة من القرع والمغطاة بالخرز، وواحدة منهن وهي أم شابة جميلة تحمل طفلًا على ظهرها، أرتني ربع دولار أمريكي أكرَهَها شخصٌ ما على قبوله ثَمنًا لبضاعتها. ووافقتُ على استبداله بما يُكافئه من الشلن الكيني، ومقابل ذلك دعتْني إلى كوخها. كان مكانًا ضيقًا حالك الظلمة وله سقفٌ يرتفع لمسافة خمسة أقدام. وأخبرتني أن عائلتها تطهو وتنام وتحتفظ بالعجول الحديثة الولادة فيه. وكان الدخان يُعمي العينين، وبعد دقيقةٍ كان عليَّ الانصراف وأنا أقاوم رغبةً جارفة في أن أهشَّ الذباب الذي كوَّن دائرتَين مُتواصلتَين حول عينَي الطفل المنتفختَين.

كان فرانسيس في انتظارنا عندما عُدنا إلى الشاحنة. وخرجنا من البوابة نسير في الطريق إلى أعلى مُنحدَرٍ صغير قاحِل. وهناك على الجانب الآخر من المنحدَر رأيت أجملَ بقعةٍ في حياتي؛ تمتدُّ إلى ما لا نهاية، والسهول المسطحة تتموَّج إلى تلالٍ رقيقة قاتمة اللون ولينة كظهر الأسد، مُتجعِّدة بمساحاتٍ كبيرة من الغابات وتنتشِر عليها أشجار شوكية. وعلى يَسارنا قطيع ضخم من الحُمُر الوحشية، تتشابَهُ للغاية في خطوطها بصورةٍ تُثير الضحك وهي تلتهِم الحشائش ذات اللون القمحي، وإلى يميننا قافلة من الغزلان تقفز إلى الحشائش. وفي الوسط آلاف من ظباء الثيتل برءوسها الحزينة وأكتافها المحدَّبة التي بدت ثقيلةً للغاية على أن تحملها أرجُلها النحيفة. بدأ فرانسيس يقود السيارة ببطءٍ شديد وهو يمر بالقطيع، وافترقت الحيوانات أمام السيارة لتُفسِح لها مكانًا ثم تعود لتجتمع من خلفنا مرة أخرى وكأنها سِرب من السمك، وحوافرها تضرب الأرض مثلما تضرب الأمواج الشاطئ.

نظرتُ إلى أوما. فوجدتُ أنها تُطوِّق إليزابيث بذراعِها وترتسِم على وجه كلتَيهما ابتسامة صامتة.

أقمنا مُخيمًا فوق ضفاف مجرًى مائي مُوحل مُتعرِّج أسفل شجرة تين كبيرة مليئة بطيور الزرزور الزرقاء الكثيرة الضجيج. كان الوقت قد تأخَّر، ولكن بعد أن أقَمْنا الخيام وجمعنا الخشب، كان لدَينا بعض الوقت لأن نقود السيارة ونذهب إلى ينبوع ماء قريب حيث تتجمَّع الظباء والغزلان للشرب. وعندما عُدنا كانت النيران قد اشتعلت، وعندما جلسنا نأكل اليخني الذي أعدَّه رافائيل بدأ فرانسيس يُخبرنا عن نفسه قليلًا، وقال إن لدَيه زوجة وستة أطفال ويعيشون في منزلٍ داخل مزرعة في كيكويولاند. ويرعون أرضًا مساحتها فدان مزروعة بالقهوة والذرة، وفي أيام العطلة يقوم بنفسه بأعمال العزق والغرس الشاقة. وقال إنه يستمتع بعمله في شركة السياحة لكنه لا يُحب أن يبتعِد عن عائلته. وقال: «إذا استطعتُ فقد أُفضِّل الزراعة طَوال الوقت، لكن الاتحاد يجعل هذا مُستحيلًا.»

سألته: «أي اتحاد؟»

«اتحاد القهوة الكيني. إنهم لصوص. يتحكَّمون في المحاصيل المسموح لنا بزراعتها ومتى نزرعها. ولا أستطيع بيع القهوة إلا لهم، وهم يبيعونها في الخارج. ويُخبروننا أن الأسعار تنهار، لكني أعلم أنهم يحصلون على ١٠٠ ضعف ما يدفعونه لي. فإلى أين يذهب الباقي؟» هزَّ فرانسيس رأسه في اشمئزاز. وقال: «إنه لأمر بشِع أن تسرق الحكومة شعبَها.»

قالت أوما: «إنك تتحدَّث بحرية شديدة.»

هزَّ فرانسيس كتفَيه. وقال: «ربما إذا تحدَّث المزيد من الناس فقد تتغير الأمور. انظروا إلى الطريق الذي سِرنا فيه هذا الصباح في الطريق إلى الوادي. أتعرفون، من المفترض أنه أُصلح العام الماضي فقط. لكنهم استخدموا حصًى رخوًا؛ لذا جرفته المياه عند أول هطول للأمطار. والنقود التي وفَّروها من هذا ذهبت على الأرجح لبناء منزل أحد الرجال المهمين.»

نظر فرانسيس إلى النار وهو يُمشِّط شاربه بأصابعه. وقال بعد وهلة: «أظن أن هذا ليس خطأ الحكومة وحدَها.» وتابع: «فحتى عندما يجري تنفيذ المشروعات كما ينبغي، نحن الكينيين لا نُحب أن ندفع الضرائب. فنحن لا نثِق بفكرةِ أن ندفع نقودنا لأحد. والرجل الفقير لدَيه ما يُبرِّر هذا الشك. لكن الرجال الكبار الذين يملكون الشاحنات التي تَستخدِم هذه الطرق فإنهم يرفضون أيضًا دفع ضرائبهم. إنهم يُفضِّلون أن تتحطَّم معداتهم طوال الوقت بدلًا من التضحية بأرباحهم. هكذا نُحب أن نُفكِّر في الأمور. إننا نعتبرها مشكلةَ شخصٍ آخر.»

ألقيتُ عصًا في النار. وقلت لفرانسيس: «هذه الآراء لا تختلف كثيرًا عن الآراء في أمريكا.»

فقال: «إنك على حقٍّ على الأرجح.» وتابع: «لكن دولة غنية كأمريكا ربما تستطيع تحمُّل نفقات الغباء.»

وفي تلك اللحظة اقترب اثنان من قبيلة الماساي من النار. فرحَّب بهما فرانسيس وعندما جلسا على أحد المقاعد، قال إنهما سيتولَّيان حمايتنا في أثناء الليل. كانا رجُلَين هادئين وسيمَين، يزيد انعكاس النار من وضوح عظام وجنتيهما البارزة، وأطرافهما النحيلة تبرُز من رداءيهما القَبَلي ذي اللون الأحمر القاني، ورماحهما مُثبتة في الأرض أمامهما، وتُلقي بظلالٍ طويلة باتجاه الأشجار. قال أحدهما إن اسمه ويلسون وهو يتحدَّث اللغة السواحيلية، وأخبرنا أنه يعيش في محميةٍ على بُعد أميال قليلة شرقًا. وبدأ رفيقه الصامت يخترق الظلام بضوء مِشعله، وسألَتْهما أوما هل تعرَّض المعسكر لهجومٍ من الحيوانات من قبلُ، فابتسم ويلسون ابتسامة عريضة.

وقال: «لا شيء خطير.» وتابع: «لكن إذا احتجتَ الذهاب إلى الحمَّام ليلًا فيجب أن تُنادي أحدنا ليذهب معك.»

بدأ فرانسيس يسأل الرجُلَين عن حركة الحيوانات المختلفة، وابتعدتُ أنا عن النار لأشاهد النجوم، فقد مرَّت سنوات منذ أن رأيتها بهذا الشكل بعيدًا عن أضواء المدينة، كانت النجوم كثيفةً ودائرية ومُتوهِّجة كقِطَع من المجوهرات. ولاحظتُ وجود رقعةٍ صغيرة من الضباب في السماء الصافية فابتعدتُ أكثرَ عن النار ظنًّا أن هذا قد يكون دخانًا، ثم قرَّرت في النهاية أنها سحابة. وكنتُ أتعجَّب لماذا لم تتحرَّك السحابة عندما سمعتُ صوت أقدامٍ من خلفي، ثم صوت السيد ويلكرسون.

قال وهو ينظر إلى السماء: «أعتقد أن هذه مجرَّة درب التبانة.»

«حقًّا.»

رفع يده وبدأ يرسم لي بها خطوطًا لمجموعة النجوم، وأوصل خطوطًا بين ألمع أربعة نجوم في كوكبة الصليب الجنوبي. كان رجلًا نحيلًا هادئ الصوت يضع نظارة دائرية وله شعر أشقر ناعم. في البداية ظننتُ أنه قضى حياته بالكامل في أماكنَ مُغلقة وأنه مُحاسب أو أستاذ جامعي. لكني لاحظتُ بمرور اليوم أنه يمتلك جميعَ أنواع المعرفة العملية، الأشياء التي لم أتمكَّن من معرفتها قطُّ لكني تمنيتُ أن أعرفها. فكان يستطيع الحديث مع فرانسيس بالتفصيل عن محرِّكات السيارات من طراز لاند روفر، وأنهى نصْب خيمته قبل أن أضع أنا أول عمود لي، وبدا أنه يعرف أسماء جميع أنواع الطيور والأشجار التي رأيناها.

ولم يُفاجئني هذا بعد ذلك عندما أخبرني أنه قضى طفولته في كينيا في مزرعة لأوراق الشاي في وايت هايلاندز. وكان من الواضح أنه لا يودُّ الحديث عن الماضي، كلُّ ما قاله هو أن عائلتَه باعت الأرض بعد حصول كينيا على الاستقلال وعادت إلى إنجلترا لتستقرَّ في ضاحيةٍ هادئة في لندن. وقد التحق بكلية الطب ثم تدرَّب مع هيئة الصحة الوطنية في ليفربول، وهناك قابل زوجتَه التي تعمل طبيبةً نفسية. وبعد بضع سنواتٍ أقنعها بأن تعود معه إلى أفريقيا، لكنهما قرَّرا ألا يستقرَّا في كينيا حيث إن هناك فائضًا في عدد الأطباء مقارنةً بباقي القارة، وبدلًا من ذلك استقرَّا في مالاوي حيث عمِلا معًا بتعاقدٍ مع الحكومة للسنوات الخمس السابقة.

قال لي: «أنا أُشرِف على ثمانية أطباء يتولَّون الرعاية الطبية في منطقةٍ تَعداد سكانها نصف مليون.» وتابع: «ولم تتوفَّر لنا قط التجهيزات اللازمة، فنصف مشتريات الحكومة على الأقل ينتهي بها الحال في السوق السوداء. لذا لا يمكننا سوى التركيز على الأساسيات، وهو ما تحتاجه أفريقيا بالفعل. فالناس تموت بسبب جميع أنواع الأمراض التي يمكن الوقاية منها: الدوسنتاريا والجُدري. والآن الإيدز؛ فقد وصل معدل الإصابة في بعض القرى إلى خمسين بالمائة من سكانها. إنه أمرٌ يدفع إلى الجنون.»

كانت القصص التي يَرويها قاسية، لكنه عندما واصل إخباري بالمهام التي يقوم بها في حياته: حفر الآبار، وتدريب عمَّال فِرق الوصول إلى المحتاجين لتطعيم الأطفال، وتوزيع الواقي الذكري، لم يبدُ ساخرًا ولا مُتعاطفًا. فسألتُه ما سبب عودته إلى أفريقيا في ظنِّه، فأجاب هو دون توقُّف وكأنه سمع السؤال مرات عديدة.

«أظن أنها وطني. الناس، الأرض …» ثم خلع نظارته ومسحَها بمنديلٍ وقال: «أعرف أن هذا مُضحك. فبمجرد أن تعيش هنا لبعض الوقت تبدو لك الحياة في إنجلترا مُقيدة بصورة فظيعة. فالبريطانيون لديهم الكثير، لكنهم يستمتِعون بالأشياء بصورةٍ أقل. وشعرت أنني غريب بينهم.»

ثم ارتدى نظارته مرةً أخرى وهزَّ كتفَيه. قال: «بالطبع أنا أعلم أنه على المدى البعيد لا بد أن يحلَّ أحد محلِّي. وهذا جزء من عملي، أن أجعل من نفسي غير ضروري. والأطباء في مالاوي الذين أعمل معهم ممتازون حقًّا، فهم أكفاء. ومُتفانون أيضًا. فقط لو تمكَّنَّا من بناء مُستشفًى تدريبي به بعض المرافق المناسبة فسيُمكننا أن نُضاعف عددَهم إلى ثلاثة أضعاف في وقتٍ قصير للغاية. ثم …»

«ثم ماذا؟»

اتجه إلى المعسكر وشعرتُ أن صوته بدأ يرتجف. وقال: «ربما لا يمكنني أبدًا أن أدعو هذا المكان وطني.» وتابع: «إنها ذنوب الآباء. وقد تعلمتُ أن أقبل هذا.» وتوقَّف لحظةً ثم نظر إليَّ.

وقال قبل أن يبدأ السير عائدًا إلى خيمته: «ومع ذلك فإنني أحبُّ هذا المكان.»

•••

حلَّ وقتُ بزوغ الفجر. باتجاه الشرق بدأت السماء تُنير فوق أشجارٍ مُظلمة متشابكة؛ فتحوَّل إلى اللون الأزرق الداكن ثم البرتقالي ثم الأبيض الذي يميل إلى الصفرة. وفقدت السُّحب صبغتها الأرجوانية ببطءٍ ثم تبدَّدت تاركةً وراءها نجمةً وحيدة. وعندما خرجنا من المعسكر رأينا قافلة من الزرافات وأعناقها الطويلة تميل في اتجاهٍ واحد، وتبدو سوداء أمام قرص الشمس الأحمر الذي يصعد ليتبوأ مكانه في السماء، مثل علاماتٍ غريبة قبالة سماء قديمة.

استمر الأمر هكذا باقي اليوم، كما لو أنني أرى، بعد أن عُدت طفلًا مرةً أخرى، العالم في كتابٍ تنبثق منه صور مُجسَّمة، أو قصة خيالية، أو لوحة رسمها روسو. ورأيت هناك قطيعًا من الأسود يتثاءب على الأعشاب. ورأيتُ جاموسًا في المستنقعات تبدو قرونها مثل الشعر المستعار الرخيص، والطيور التي تتغذَّى على القرادة تبحث عن طعامها في ظهورها المغطاة بالوحل. وفرس النهر في المجاري المائية الضحلة وعيناه الصغيرتان شبه المغمضة وفتحتا أنفه مثل المرمر وهو يظهر على سطح الماء. والأفيال تُحرِّك أُذنَيها الكبيرتَين كأوراق النباتات على شكل مروحة.

والأهم من هذا الهدوء، الهدوء الذي كان يُناسِب العناصر. وفي الشَّفق صادفنا في مكانٍ ليس ببعيدٍ عن معسكرنا قطيعًا من الضباع يتغذَّى على جثمان ظبية ثيتل. وفي ذلك الضوء البرتقالي الخافت بدت وكأنها كلاب شيطانية، أعينُها مثل كتلٍ من الفحم الأسود وذقونها يسيل منها الدماء. وإلى جوارها صفٌّ من النسور ينتظر وعلى وجهه نظراتٌ صبورة وصارمة ويقفز مُبتعدًا مثل شخصٍ أحدب كلما اقترب منه أحد الضِّباع. كان مشهدًا بدائيًّا، مكثنا هناك وقتًا طويلًا نُشاهد الحياة وهي تتغذَّى على نفسها، ولا يقطع الصمت سوى صوت طقطقة العظام أو اندفاع الرياح أو صوت أجنحة النسور وهي تُجاهد لترتفع في الهواء حتى تصل أخيرًا إلى الطبقات العُليا من الهواء، فتعود تلك الأجنحة الطويلة الجميلة لتصبح عديمة الحركة وساكنة مثل ما حولها. وفكَّرتُ في نفسي: هكذا يكون الخلق. السكون نفسه وسحق العظام نفسه. وهناك في الغسق، فوق ذلك التل، تخيلتُ الإنسان الأول وهو يتقدَّم وهو عاري الجسد خشن البشرة يمسك قطعةً من الحجر الصوان في يده الخرقاء، ولم تكن قد ظهرت بعدُ الكلمات المعبِّرة عن الخوف والترقُّب والرهبة التي يشعر بها تجاه السماء، والمعرفة الخاطفة لحقيقةِ أنه مخلوق فانٍ. آه لو استطعنا تذكُّر تلك الخطوة المشتركة الأولى، تلك الكلمة المشتركة الأولى، ذلك الوقت قبل إنشاء مدينة بابل.

وفي المساء بعد تناول العشاء تحدَّثنا من جديدٍ مع حارسَينا من قبيلة الماساي. فأخبرنا ويلسون أنه هو وصديقه أصبحا منذ وقتٍ قريب من «الموران»، أي أعضاء في طائفة العزَّاب من المحاربين الشباب الذين تدور حولهم أساطيرُ قبيلة الماساي. وقد قتل كلٌّ منهما أسدًا كي يُثبت رجولته، وشاركا في العديد من غارات سرقة الماشية. لكن في ذلك الوقت لم يَعُد هناك حروب، وأصبح القيام بغارات سرقة الماشية أمرًا صعبًا؛ ففي العام السابق قُتل صديق آخر برصاص صاحب مزرعةٍ من قبيلة الكيكويو. فقرَّر ويلسون أن كونه عضوًا في المارون ليس إلا مضيعة للوقت. فذهب إلى نيروبي بحثًا عن عمل، لكن نظرًا لأنه لم يتلقَّ تعليمًا متميزًا فقد انتهى به الحال إلى العمل حارس أمنٍ في أحد البنوك. وقد كان الملل يدفعه إلى الجنون، وفي النهاية عاد إلى الوادي ليتزوَّج ويربي ماشيته. وحديثًا قتل أسدٌ أحدَ ماشيته، فاصطاد هو وأربعة آخرون الأسد وأخذوه إلى المحمية، مع أن هذا كان غير قانوني.

فسألته: «كيف تقتل أسدًا؟»

فقال ويلسون: «يحيط به خمسة رجال ويُلقون برماحهم.» وتابع: «وسيختار الأسد واحدًا ليقفز عليه. فيحتمي ذلك الرجل بكامل جسده أسفل درعه حتى يقضي الأربعة الآخرون عليه.»

فقلت بغباء: «يبدو أمرًا محفوفًا بالمخاطر.»

فهزَّ ويلسون كتفيه. وقال: «عادة لا يُصابون إلا بخدوش. لكن في بعض الأحيان لا يعود سوى أربعة.»

لم يبدُ الرجل وكأنه يتفاخر، بل كان أشبهَ بميكانيكي يحاول أن يشرح مشكلةً يصعُب عليه إصلاحها. وربما كان عدم الاكتراث هذا هو ما دفع أوما لأن تسأله أين، في معتقدات الماساي يذهب الإنسان بعد الموت. في البداية لم يبدُ أن ويلسون فهِم السؤال، لكنه في النهاية ابتسم وبدأ يهزُّ رأسه.

فقال وهو يضحك تقريبًا: «هذا ليس من ضمن معتقدات الماساي؛ أعني فكرة الحياة بعد الموت. فبعد أن تموت تُصبِح لا شيء. تعود إلى الأرض. وهذا كل شيء.»

فسأل مورو: «ما رأيك يا فرانسيس؟»

لبعض الوقت كان فرانسيس يقرأ في إنجيلٍ صغير مجلَّد بغلاف أحمر اللون. فرفع رأسه وابتسم ثم قال: «هذان الشخصان من قبيلة الماساي شجاعان.»

فسألت أوما فرانسيس: «هل نشأتَ مسيحيًّا؟»

أومأ فرانسيس برأسه. وقال: «نعم، اعتنق والداي المسيحية قبل مولدي.»

تحدَّث ماورو وهو يُحدِّق في النيران. قال: «أما أنا فقد تركتُ الكنيسة. فبها الكثير من القواعد. ألا تظن يا فرانسيس أن المسيحية تكون في بعض الأحيان غيرَ مناسبة؟ أما في أفريقيا فقد غيَّر التبشيريون كلَّ شيء، أليس كذلك؟ وأحضروا … ماذا تُطلقون عليه؟»

قلت: «الاستعمار.»

«نعم الاستعمار. ديدن الرجل الأبيض، أليس كذلك؟»

وضع فرانسيس الإنجيل على حجره. وقال: «مثل هذه الأمور كانت تُزعجني عندما كنت صغيرًا. فالمبشِّرون بشرٌ وكانوا يخطئون مثل البشر. والآن بعد أن كبرتُ أفهمُ أني أيضًا قد أفشل. لكن هذا ليس فشل الرب. وأذكر أيضًا أن بعض التبشيريين قد أطعموا الناس في الجفاف. وعلَّم بعضهم الأطفال القراءة. وفي هذا أظن أنهم كانوا يعملون عمل الرب. كلُّ ما يمكننا أن نطمح إليه هو أن نعيش مثل الرب، مع أننا سنفشل دائمًا في هذا.»

ذهب ماورو إلى خيمته وعاد فرانسيس إلى إنجيله. وإلى جانبه بدأت أوما تقرأ قصة مع إليزابيث. وجلس الدكتور ويلسون وهو يضمُّ ركبتَيه معًا ويُعدِّل من بنطلونه في حين كانت زوجته تُحدِّق في النار إلى جواره. ونظرتُ إلى رجُلَي الماساي والصمت والترقُّب على وجهيهما، وتساءلتُ تُرى ما انطباعهما عنا؟ ورأيتُ أنه من المحتمل أنهما يجدوننا مصدرًا للتسلية. وكنتُ أعلم أن شجاعتهما وصلابتهما تجعلانني أشكُّ في روحي المزعجة. ومع ذلك، عندما نظرتُ حول النار، ظننتُ أني أرى شجاعةً لا تقِلُّ إثارةً للإعجاب في فرانسيس وفي أوما وفي السيد ويلكرسون وزوجته أيضًا. وفكَّرتُ أنه ربما كانت تلك الشجاعة هي التي تحتاجها أفريقيا بشدة. رجال ونساء صادقون ومُهذَّبون لدَيهم طموحات يمكن تحقيقها، والعزم على تحقيق هذه الطموحات.

بدأت النيران تخبو، وواحد تلو الآخر، سلك كلٌّ من الآخرين طريقه إلى خيمته، حتى لم يتبقَّ إلا أنا وفرانسيس ورَجُلا الماساي. وعندما نهضتُ بدأ فرانسيس يُنشد ترنيمةً بصوتٍ منخفض بلغة كيكويو بلحنٍ تعرَّفتُ عليه. استمعتُ إليه لبعض الوقت تائهًا في أفكاري. وعندما سِرتُ عائدًا إلى خيمتي شعرتُ أنني أفهم أغنية فرانسيس الحزينة، وأتخيَّل أنها تصعد إلى الأعلى عبر ظلام الليل الواضح، مباشرة إلى الله.

•••

اليوم الذي عُدنا فيه من مارا علمتُ أنا وأوما أن روي قد وصل قبل أسبوع من الموعد المتوقَّع لوصوله. فقد ظهر فجأة في كارياكور ومعه حقيبة سفرٍ في يده، ويقول إنه لم يشعر بالارتياح وهو ينتظر في واشنطن العاصمة، وتمكَّن بوسيلةٍ ما من القدوم مبكرًا. وقد شعرت العائلة بإثارة شديدة لوصوله وأجَّلت إقامة الحفل الكبير حتى أعود أنا وأوما. وقد قال برنارد، الذي أعلمنا بالخبر، إنه كان من المتوقَّع وصولنا في وقتٍ سابق، وكان متوترًا في حديثه كما لو أن كل دقيقةٍ بعيدًا عن أخينا الأكبر ما هي إلا توانٍ في أداء الواجب. ولكن أوما، التي كانت لا تزال تتألَّم نتيجة النوم في الخيام اليومَين السابقين، أصرَّت على أن تحظى بوقتٍ للاغتسال أولًا.

وقالت لبرنارد: «لا تقلق.» وتابعت: «إن روي يُحب أن يجعل كل شيءٍ يبدو دراميًّا.»

عندما وصلنا كانت شقة جين في هرجٍ ومرجٍ. في المطبخ كانت النساء ينظفن الكرنب ونبات اليام، ويُقطِّعن الدجاج ويُقلِّبن «أوجالي» أو عصيدة الذرة الشامية. وفي غرفة المعيشة كان الأطفال إما يُعِدُّون المائدة أو يُقدِّمون المياه الغازية للكبار. وفي وسط كل هذا الصخب كان روي يجلس وهو يَمُدُّ رجلَيه أمامه، ويُلقي بذراعَيه على ظهر الأريكة ويومئ برأسه في استحسان. وقد لوَّح لنا وعانقنا. وبعد ذلك تراجعت أوما التي لم ترَ روي منذ أن انتقل إلى الولايات المتحدة كي تنظُر إليه بتمعُّن.

وقالت: «لقد أصبحتَ بدينًا للغاية!»

فضحك روي وقال: «بدين؟» وتابع: «الرجل يحتاج إلى شهيةٍ بمثل حجمه.» ثم التفت باتجاه المطبخ. وقال: «وهو ما يذكِّرني … أين زجاجة الجِعَة الأخرى؟»

وبمجرد أن خرجتِ الكلمات من بين شفتَيه ظهرت كيزيا ومعها زجاجة جِعَة في يدِها وابتسمت بسعادة. وقالت بالإنجليزية: «باري، هذا هو الابن الأكبر. كبير العائلة.»

ظهرت سيدةٌ أخرى لم أرَها من قبل، ممتلئة الجسم وضخمة الصدر تطلي شفتَيها بلونٍ أحمرَ زاهٍ، وسارت إلى جانب روي، وطوَّقته بذراعها. فخفتت ابتسامةُ كيزيا وانسحبت عائدةً إلى المطبخ.

قالت تلك السيدة لروي: «هل معك سجائر يا حبيبي؟»

«نعم، انتظري …» ثم تحسَّس روي جيبَ قميصه برفقٍ بحثًا عنها. وقال: «هل قابلتِ أخي باراك؟ باراك هذه آمي. وأنت تتذكَّرين أوما.» وجد روي السجائر وأشعل واحدةً لآمي. أخذت آمي نفسًا عميقًا وانحنت إلى الأمام باتجاه أوما، وهي تُطلِق دوائرَ من دخان السجائر وتقول:

«بالطبع أتذكَّر أوما. كيف حالك؟ تبدين رائعة. ويُعجبني ما فعلتِه بشَعرك. حقًّا إنه يبدو … طبيعيًّا للغاية.»

التقطت آمي زجاجة روي في حين اتجه هو إلى مائدة العشاء. وجذب لنفسه طبقًا وانحنى ليشمَّ الإناء الذي ينبعث منه البخار. ثم صاح متعجبًا: «خبز شباتي!» وهو يضع ثلاثة أرغفة من الخبز في طبقه. ثم صاح بمجرَّد أن رأى أوراق الكرنب: «سوكوما ويكي!» قبل أن يغرف بالملعقة مقدارًا كبيرًا في طبقه. وعاد وصاح مرةً أخرى: «أوجالي!» وهو يقطع قطعتَين كبيرتَين من كعكة الذرة. قلَّد برنارد والأطفال روي في كلِّ ما يفعل، وهم يُكرِّرون كلماته بنبرةٍ أكثرَ تردُّدًا. وحول المائدة كانت وجوه عمَّاتي وكيزيا تُشرق بالرضا. وكان ذلك هو أسعد مشهدٍ رأيتهم فيه منذ وصولي.

وبعد العشاء، في حين كانت آمي تساعد عماتي في غسل الأطباق، جلس روي بيني أنا وأوما وأعلن أنه قد عاد وفي ذهنه مشروعات كبيرة. وقال إنه سيؤسِّس شركة استيراد وتصدير، ويبيع التحف الفنية في الولايات المتحدة. وقال: «الطبول. والمنسوجات. والمنحوتات الخشبية، هذه الأشياء ثمينة للغاية هناك. فتُباع في المهرجانات والمعارض الفنية ومحال التحف. وقد اشتريتُ بعض العينات بالفعل لآخُذها معي.»

قالت أوما: «هذه فكرة رائعة.» وتابعت: «أرِني ماذا اشتريت.»

طلب روي من برنارد أن يُحضِر له عدة حقائب بلاستيكية وردية اللون من إحدى غرفتَي النوم. وبداخل الحقائب كان هناك العديد من المنحوتات الخشبية، تلك التحف البارعة التي تُنتَج بكميات كبيرة وتنفد بسرعة؛ إذ يُقبِل عليها السياح بشدة في وسط المدينة. قلَّبَت أوما التُّحَف في يدِها وارتسمت على وجهها أمارات الارتياب.

وسألت: «كم دفعتَ ثمنًا لهذه الأشياء؟»

«فقط ٤٠٠ شلن لكلٍّ منها.»

«هذا كثير للغاية يا أخي! أظن أنك خُدِعت. لماذا تركته يدفع كلَّ هذا يا برنارد؟»

هزَّ برنارد كتفَيه. وبدا أن تعليقها جرح مشاعرَ روي قليلًا.

ثم قال وهو يُعيد التحف مرة أخرى إلى غلافها: «قلتُ لك إنها مجرد عينات.» وتابع: «استثمار، حتى أعرف ماذا يريد السوق. فلا يمكنك كسبُ نقود إلا إذا أنفقتَ أولًا، أليس كذلك يا باراك؟»

«هكذا يقولون.»

وسرعان ما عادت حماسة روي. وقال: «أترى؟ بمجرد أن أعرف متطلبات السوق سأرسل الطلبات إلى زيتوني. وستكبر تجارتنا رويدًا رويدًا. ثم عندما يكون لدَينا نظامٌ ثابت يمكن لبرنارد وآبو العمل في الشركة. أليس كذلك يا برنارد؟ يمكنك أن تعمل معي.»

أومأ برنارد برأسه إيماءةً غير واضحة. فنظرت أوما إلى أخيها الصغير نظرةً مُتفحِّصة، ثم عادت إلى روي. وقالت: «ما المشروع الكبير الآخر؟»

ابتسم روي. وقال: «آمي.»

«آمي؟»

«آمي. سأتزوَّجها.»

«ماذا؟ كم مضى من الوقت منذ آخِر مرةٍ رأيتها؟»

«عامان. ثلاثة أعوام. ما الذي يهم في هذا؟»

«إنك لم تحظَ بما يكفي من الوقت لتُفكِّر في هذه المسألة.»

«إنها امرأة أفريقية. هذا هو ما أعرفه! وهي ستفهمني. إنها ليست مثل تلك النساء الأوروبيات اللائي يُجادلن أزواجهن دائمًا.» أومأ روي مؤكدًا، ثم قفز من على مقعده كما لو أن خيطًا غيرَ مرئي يسحبه، واتجه إلى المطبخ. ثم رفع زجاجة الجِعَة باتجاه السقف وهو يُمسِك آمي بإحدى ذراعَيه.

«اسمعوا جميعًا! بما أننا جميعًا هنا فيجب أن نشرب نَخبًا! نَخب كلِّ مَن ليسوا معنا! ونَخب نهاية سعيدة!» ثم بتعمُّدٍ جادٍّ بدأ يسكب الجِعَة على الأرض. فتناثر نصفها على الأقل على حذاء أوما.

صاحت أوما وهي تقفز إلى الخلف: «اللعنة!» وتابعت: «ماذا تفعل؟»

فقال روي بسعادة: «يجب أن يشرب الأجداد.» وتابع: «هذه هي الطريقة الأفريقية.»

جذبت أوما منديلًا لتمسح الجِعَة من على ساقَيها. وقالت: «هذا في الخارج يا روي! وليس في منزل أحد! في بعض الأحيان تكون شديد الإهمال! مَن سيُنظِّف هذا الآن؟ أنت؟»

كان روي على وشك أن يُجيبها عندما ظهرت جين مسرعةً ومعها قطعة قماش قديمة في يدِها. وقالت وهي تمسح الأرض: «لا تقلق، لا تقلق.» وتابعت: «إننا سعداء لأن لدَينا هذا المنزل.»

وكان من المقرَّر أن نخرج جميعًا لنرقُص بعد العشاء في ملهًى مجاور. وعندما نزلتُ أنا وأوما قبل الآخرين سمعتُها تتمتم ببعض الكلمات في الظلام.

ثم قالت لي: «تبًّا لكم يا أبناء أوباما!» وتابعت: «تفلتون بأي شيءٍ تفعلونه! هل لاحظتَ كيف يُعاملونه؟ ففي نظرهم، لا يمكنه أن يُخطئ. مثل تلك المسألة مع آمي. إنها مجرد فكرة انبثقت في ذهنه لأنه يشعر بالوحدة. أنا لا أحمل أية ضغائن تجاه آمي، ولكنها تُباريه في عدم تحمُّل المسئولية. وعندما يكونا معًا تزداد الأمور سوءًا. ووالدتي وجين وزيتوني، جميعهن يعلمنَ هذا. ولكن هل سيُخبرنَه شيئًا؟ كلَّا. خوفًا من أن يُغضبوه، حتى إذا كان ذلك لمصلحته.»

فتحت أوما باب السيارة ونظرت وراءها على باقي أفراد العائلة. كانوا قد ظهروا لتوِّهم من خلف ظلال المبنى السكني، وجسد روي يرتفع فوقهم جميعًا مثل شجرة، وذراعاه مفرودتان مثل أغصان الشجر فوق كتفَي عمتَيه. وقد خفَّفت رؤيته من الحدة على وجه أوما قليلًا.

وقالت وهي تُدير محرِّك السيارة: «نعم، أظن أن هذا ليس خطأه.» وتابعت: «أترى كيف يكون معهم. لقد كان الطابع الأُسري يميِّزه عني طيلةَ حياته. فهم لا يشعرون أنه سيُصدِر أي آراء عنهم وهم برفقته.»

•••

اتضح أن الملهى، جاردن سكوير، مكان مُنخفض السقف خافت الإضاءة. وكان بالفعل مكتظًّا عندما وصلنا، ورائحة الهواء تفوح بالسجائر. وجميع الزبائن تقريبًا من السود؛ حشد من الموظفين الكبار السنِّ والسكرتارية وموظفي الحكومة تجمَّعوا بعد انتهاء العمل حول مناضدَ متأرجِحة من الفورميكا. ضمَمْنا معًا منضدتَين خاويتَين بعيدًا عن المسرح الصغير وأخذ النادل طلباتنا. وجلست أوما إلى جوار آمي، ودار بينهما هذا الحوار:

«آمي. أخبرني روي أنكما تُفكِّران في الزواج.»

«نعم، أليس هذا رائعًا! إنه ممتع للغاية! وعندما يستقر يقول إنني يمكنني الذهاب والعيش معه في أمريكا.»

«ألا تقلقين من ابتعادكما عن بعض؟ أقصد …»

«نساء أخريات؟» ثم ضحكت وغمزت لروي. قالت: «أصدُقُكِ القول إنني لا أهتم.» وألقت بذراعها الممتلئة حول كتف روي. وقالت: «ما دام يُحسِن معاملتي فيمكنه فعلُ ما يريد. أليس كذلك يا حبيبي؟»

احتفظ روي بنظرةٍ جامدة على وجهه كما لو أن الحوار لا يُهمُّه. وكان يبدو عليه هو وآمي تأثير احتساء الكثير من الجِعَة، ورأيت جين تختلس نظرة قلقٍ إلى كيزيا. فقررتُ أن أُغيِّر الموضوع وسألت زيتوني هل جاءت لملهى جاردن سكوير من قبل.

فقالت زيتوني وهي ترفع حاجبَيها على سؤالي غير المناسب: «دعني أخبرك شيئًا يا باري، إذا وُجِدَ مكان فيه رقصٌ فأنا قد ذهبتُ إلى ذلك المكان. وسيُخبرك الناس هنا أنني بطلة الرقص. ما رأيك يا أوما؟»

«زيتوني هي الأفضل.»

أمالت زيتوني رأسها بفخر. قالت: «أرأيت؟ حقًّا يا باري عمَّتُك يمكنها الرقص! أتريد أن تعرف مَن كان أفضل شريك لي في الرقص؟ إنه أبوك! ذلك الرجل كان يحب الرقص فعلًا. وقد اشتركنا معًا في الكثير من المسابقات عندما كنا شبابًا. في الحقيقة سأُخبرك قصةً عن رقصه. كان ذلك عندما جاء إلى المنزل في أليجو ذات مرةٍ لزيارة جَدك. وقد وعد في ذلك المساء أن يقوم ببعض الأعمال لأبي، لا أذكر ماذا كانت بالضبط، ولكن بدلًا من تنفيذ عمله، خرج ليُقابل كيزيا ويصطحبها ليرقصا. أتذكُرين يا كيزيا؟ كان ذلك قبل أن يتزوَّجا. وأردتُ أن أذهب معهما، لكن باراك قال إنني صغيرة للغاية على ذلك.

على أية حال عادا إلى المنزل في وقتٍ متأخر في تلك الليلة، وكان باراك قد أسرف في احتساء الجِعَة. وحاول أن يُدخِل كيزيا خلسةً إلى كوخه لكن أبي كان لا يزال مُستيقظًا وسمع أصوات أقدامِهما في المجمع. ومع أن جَدك كان كبير السن فقد كانت حاسَّة السمع لدَيه قوية جدًّا. لذا فقد صاح على الفور مُناديًا باراك أن يأتي. وعندما دخل باراك لم يتفوَّه أبي بكلمة. كان فقط ينظر إلى باراك ويتنفَّس بأصواتٍ عالية مثل ثور غاضب. همف، همف! كل هذا وأنا أختلس النظرَ إليهما عبر نافذة منزل أبي؛ لأني كنتُ واثقةً أن أبي سيضرب باراك وكنتُ لا أزال غاضبة من باراك لأنه لم يَدعني أذهب إلى قاعة الرقص.

لم أصدِّق عينيَّ فيما حدث بعد ذلك. فبدلًا من أن يعتذِر باراك عن عودته إلى المنزل في ساعةٍ متأخرةٍ اتجه إلى الفونوغراف الخاص بأبي وشغَّل أسطوانة! ثم استدار وصاح مُناديًا على كيزيا التي كانت تختبئ في الخارج. وصاح: «أيتها المرأة! تعالي إلى هنا!» وعلى الفور دخلت كيزيا إلى المنزل وهي ترتعِد خوفًا حتى إنها لم تستطِع الرفض، فأخذَها باراك بين ذراعَيه وبدأ يرقُص ويرقُص معها في منزل أبي، كما لو أنه يرقص في قاعة رقصٍ في قصر.»

هزَّت زيتوني رأسها وضحكت. وقالت: «حسنًا … لم يُعامِل أحدٌ جَدَّك بهذه الطريقة قط، ولا حتى باراك. وكنتُ واثقةً بأن باراك سيتلقَّى ضربًا مُبرحًا على فعْلته هذه. ومرَّ وقت طويل دون أن ينبس جَدك ببنت شفة، فقط جلس يُشاهد ابنه. ثم صاح جَدك مثل الفيل بصوتٍ أعلى من صوت باراك. قال: «أيتها المرأة! تعالي إلى هنا.» وعلى الفور هُرِعت أُمي، التي تخاطبونها الآن بلقب الجَدة، من الكوخ الخاص بها حيث كانت تُصلح الملابس. وسألت لماذا يصيح الجميع، فنهض جَدك ومدَّ يده. فهزَّت أُمي رأسها واتهمت جَدَّك بأنه يحاول السخرية منها لكن أبي أصرَّ، وسرعان ما أصبح الأربعة يرقصون في الكوخ، والجِدية جليَّة على وجه الرجُلَين، وكِلا السيدتَين تنظر إلى الأخرى كما لو أنهما واثقتان بأن زوجيهما قد أصابهما مسٌّ من الجنون.»

ضحكنا جميعًا على القصة وطلب روي جِعَةً مرة أخرى لنا جميعًا. وبدأتُ أطرح على زيتوني مزيدًا من الأسئلة عن جَدنا، لكن في تلك اللحظة، صعدت الفِرقة على المسرح. كانت تبدو رثَّة الهيئة في البداية، لكن بمجرد أن بدأت العزف تغيَّر حال المكان تمامًا. وعلى الفور بدأ الناس يتدفَّقون على ساحة الرقص يرقصون على أنغام موسيقى السوكوس الأفريقية. وجذبت زيتوني يدي وروي أخذ يدَ أوما، وآمي أخذت يد برنارد، وعلى الفور كنا جميعًا نرقص والأذرع والأوراك والأرداف تتمايل برفقٍ حتى تصبَّبنا عَرقًا، الجميع يرقص؛ طوال القامة شديدو السواد من قبيلة لوو، والسمر من كيكويو، وأفراد من قبائل كامبا وميرو وكالينجين، الجميع يبتسِم ويصيح ويستمتِع بوقته. وألقى روي ذراعَيه على رأسه ليقوم بحركةٍ بطيئة غيرِ عادية حول أوما التي كانت تضحك على حماقة أخيها، وفي تلك اللحظة رأيتُ في وجه أخي النظرةَ نفسها التي رأيتها قبل سنوات طويلة في شقة جَدي وجَدتي في هاواي عندما كان أبي يُعلِّمني الرقص، نفس نظرة الحرية الواضحة المطلقة.

وبعد ثلاث أو أربع رقصاتٍ تركت أنا وروي شركاءنا في الرقص وحملنا الجِعَة إلى الفناء المفتوح في الخلف. كان الهواء البارد يُداعِب أنفي وشعرتُ أنني ثَمِلٌ نوعًا ما.

وقلت: «إنه لشيء رائع أن أكون هنا.»

قال روي: «نعم، مثلما يقول الشعراء.» ضحك روي وهو يرتشِف من كوب الجِعَة الخاص به.

«كلَّا، حقًّا أنا أعني هذا. من الرائع أن أكون معك ومع أوما ومع الجميع. كما لو أننا …»

وقبل أن أنتهي سمعنا صوت زجاجةٍ تتحطَّم على الأرض من خلفنا. فاستدرتُ ورأيت رَجُلَين على الجانب الآخر من الفناء يدفعان رجلًا ثالثًا أصغر حجمًا على الأرض. وبدا أن الرجل الذي وقع على الأرض يُغطي جرحًا في رأسه بإحدى يدَيه، ويحاول بالذراع الأخرى أن يحمي نفسه من هراوة تتحرَّك يمنةً ويسرة. تقدَّمتُ خطوة للأمام، لكن روي جذبني إلى الخلف.

وهمس قائلًا: «لا تتدخَّل فيما لا يخصُّك يا أخي.»

«لكن …»

«قد يكونان من الشرطة. وأنا أقول لك يا باراك أنت لا تعرف كيف يكون قضاء ليلة في سجن نيروبي.»

في ذلك الوقت كان الرجل الذي على الأرض يلتفُّ حول نفسه وجسده يتكوَّر محاولًا حماية نفسه من الضربات التي تنهال عليه عشوائيًّا. ثم فجأة — مثل حيوان أسير وجد ثغرةً ينفذ منها — قفز الرجل فجأة واقفًا على قدمَيه وقفز على إحدى الطاولات ليتسلَّق السياج الخشبي. بدا مُهاجماه كأنهما يفكران في مطاردته، لكن من الواضح أنهما قرَّرا أن الأمر لا يستحق. ولاحظ أحدهما وجودي أنا وروي لكنه لم يقُل شيئًا، وعادا معًا إلى الداخل مرةً أخرى، وفجأة شعرتُ أنني في كامل وعيي ومُتزن تمامًا.

قلت: «كان هذا بشعًا.»

«حسنًا … إنك لا تعرف ماذا فعل الرجل الآخر أولًا.»

حككتُ مؤخرة عنقي. وسألت: «متى دخلتَ إلى السجن؟»

ابتلع روي جرعةً كبيرة من الجِعَة وترك جسده يسقط على أحد المقاعد المعدنية. وقال: «الليلة التي تُوفي فيها ديفيد.»

جلستُ إلى جواره وأخبرني بالقصة. قال إنهما قد خرجا لاحتساء الشراب والبحث عن صحبة. واستقلَّا دراجة روي البخارية إلى ملهًى قريب، وهناك قابل روي فتاة. أُعجب بها كثيرًا وبدآ يتحدَّثان. واشترى لها جِعَة، لكن قبل أن يمرَّ وقتٌ طويل جاء رجل آخر واعترض طريق روي. وقال إنه زوجها وجذبها من ذراعها. قاومته الفتاة ووقعت على الأرض فطلب روي من الرجل أن يتركَها وشأنها. فتشاجرا. وجاءت الشرطة ولم يكن مع روي أوراق هويته؛ لذا اصطحبوه إلى قسم الشرطة. وألقوا به في زنزانة وتركوه عدة ساعات حتى تمكَّن ديفيد في النهاية من الدخول إليه ورؤيته.

قال له ديفيد: «أعطِني مفاتيح الدرَّاجة البخارية وسأذهب لإحضار الأوراق التي تحتاج إليها.»

فقال له روي: «كلَّا. عُد إلى المنزل فقط.»

«لا يمكنك البقاء هنا طَوال الليل يا أخي. أعطني المفاتيح …»

توقَّف روي عن الحديث. وجلسنا نُحدِّق في الظلال وهي مُتضخمة الحجم وباهتة عبر السياج الشبكي.

ثم قُلتُ في النهاية: «لقد كان حادثًا يا روي.» وتابعتُ: «إنه لم يكن خطأك. يجب أن تنسى هذا الأمر.»

وقبل أن أقول أيَّ شيءٍ آخر سمعتُ آمي تصيح من خلفنا وصوتها يعلو فوق الموسيقى قليلًا.

قالت: «أنتما الاثنان! إننا نبحث عنكما في كل مكان!»

أشرتُ لها أن تبتعِد لكن روي اندفع ناهضًا من على مقعده مما جعله يسقط على الأرض.

قال وهو يُحيط خَصْرها بذراعه: «تعالَي يا امرأة.» وتابع: «هيا لنذهب ونرقص.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤