الفصل الثامن عشر

في الخامسة والنصف مساءً بدأ القطار يشق طريقه مغادرًا محطة نيروبي القديمة للقطارات متجهًا غربًا إلى كيزيمو. كانت جين قد قرَّرت البقاء في المنزل، لكن باقي العائلة كان على متن القطار: كيزيا وزيتوني وأوما في مقصورة واحدة، وأنا وروي وبرنارد في المقصورة التالية. وبينما انشغل الجميع بوضْع أمتعتِهم هززتُ أنا زجاج النافذة فاتحًا إيَّاها ونظرت إلى الخارج إلى منحنى خطوط السكك الحديدية من خلفنا، وهو خط السكة الحديدية الذي ساعد على بدء تاريخ كينيا مع الاستعمار.

كان خط السكة الحديدية أكبرَ عملٍ هندسي في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في وقت بنائه، فطوله يصِل إلى ٦٠٠ ميل ويمتدُّ من مومباسا في المحيط الهندي إلى السواحل الشرقية لبحيرة فيكتوريا. وقد استغرق تنفيذ المشروع خمس سنوات، وحصد حياة عدة مئات من العمال الذين أحضرتهم الحكومة من الهند. وعندما انتهى إنشاؤه أدرك البريطانيون أنه لا يُوجَد مسافرون يمكنهم تغطية نفقات غرورهم. ومن ثَم تبِع ذلك دفع المستوطنين البِيض إلى قلب القارة غير المعروفة عن طريق تنفيذ عدة إجراءات مثل تجميع الأراضي التي يمكن أن تُستخدَم في المساعدة على إغراء الوافِدين الجدد، وزراعة المحاصيل النقدية مثل القهوة والشاي، وضرورة وجود جهاز إداري يمتدُّ على طول خط السكة الحديدية. هذا إلى جانب البعثات التبشيرية والكنائس للتخلُّص من المخاوف التي تُولِّدها الأرض المجهولة.

بدا ذلك تاريخًا عتيقًا. ومع ذلك كنتُ أعلم أن عام ١٨٩٥م، العام الذي بدأ فيه تنفيذ المشروع، هو أيضًا العام الذي وُلِد فيه جَدي. وقد كنا في تلك اللحظة نُسافر إلى أرض هذا الرجل نفسه: حسين أونيانجو. وقد جعل هذا التفكير تاريخ القطار يعود حيًّا إلى ذهني، وحاولتُ تخيُّل ما شعر به ذلك الضابط البريطاني على متن أول رحلةٍ يقوم بها القطار، وهو يجلس في مقصورته التي يُضيئها مصباحٌ يعمل بالكيروسين، وينظر إلى أميالٍ من الشجيرات التي تتراجع إلى الوراء مع سير القطار. هل تملَّكه إحساس بالنصر وثقة أن منارة الحضارة الغربية قد اخترقت الظلام الأفريقي أخيرًا؟ أم شعر بنذير سوء؛ إدراك مفاجئ أن المشروع بأكمله لم يكن إلا عملًا أحمق، وأن هذه الأرض وشعبها سيصمدان أكثر من الأحلام الاستعمارية؟ وحاولتُ تَخيُّل الإنسان الأفريقي على الجانب الآخر من النافذة الزجاجية وهو يشاهد هذا الثعبان المتلوِّي من المعدن الذي ينبعث منه دخان أسود يمر على قريته للمرة الأولى. تُرى هل كان ينظر إلى القطار بحسدٍ ويتخيَّل نفسه يجلس في يومٍ من الأيام في العربة نفسها التي يجلس فيها الرجل الإنجليزي، ويجد أعباء حياته قد خفَّت بعض الشيء؟ أم أنه قد ارتجف ورؤى الدمار والحرب تُداهِمه؟

لكن مُخيِّلتي خذلتني، وعُدت إلى المشهد الحالي، لم تَعُد هناك شجيرات وإنما أسطح بيوت وادي ماثار تمتدُّ إلى سفوح الجبال وراءها. وعندما مرَرْنا بإحدى الأسواق المكشوفة في الهواء الطلق، رأيتُ صفًّا من الصبية الصغار يلوِّحون للقطار. فلوَّحتُ لهم، وسمعتُ صوت كيزيا تقول شيئًا بلغةِ لوو من خلفي. فجذب برنارد قميصي فجأة.

وقال: «إنها تقول إنك يجب أن تُبقي رأسك بالداخل. فهؤلاء الصبية سيقذفونك بالحجارة.»

جاء أحد العاملين بالقطار ليأخذ طلباتنا الخاصة بفرش النوم، ويُخبرنا أن الطعام بدأ يُقدَّم؛ لذا ذهبنا جميعًا إلى عربة الطعام وجلسنا على طاولة. كانت العربة صورة للأناقة الذاوية: الألواح الخشبية الأصلية لا تزال كما هي لكنها باهتة، وأدوات المائدة الفضية حقيقية لكنها غير ملائمة تمامًا. والطعام رائع والجِعَة باردة، وبنهاية الوجبة غمرني شعور بالرضا.

قلت: «كم يستغرق الوصول إلى هوم سكوير؟» وأخذت أمسح آخِرَ قطعة صلصة في طبقي.

فقالت أوما: «طوال الليل إلى كيزيمو.» وتابعت: «ثم نستقلُّ حافلةً أو عربة ماتاتو من هناك، ربما لمدة خمس ساعات أخرى.»

ثم قال روي مُوجهًا حديثه إليَّ وهو يُشعل سيجارة: «بالمناسبة، إنها ليست هوم سكوير. إنها هوم سكويرد.»

«ماذا يعني هذا؟»

ففسَّرت أوما: «إنه شيء اعتاد الأطفال في نيروبي قوله.» وتابعت: «فهناك المنزل المعتاد في نيروبي. ثم هناك منزلك في القرية حيث جذور أهلك. ومنشأ أجدادك. وحتى كبار الوزراء ورجال الأعمال يُفكِّرون بهذه الطريقة. فربما يكون لدى أحدهم قصر في نيروبي، ويبني كوخًا صغيرًا على أرضه في القرية. وقد لا يذهب إلى هناك سوى مرةٍ أو مرتَين في العام. لكن إذا سألته من أين هو، فسيُخبرك أن هذا الكوخ هو وطنه الحقيقي. لذا عندما كنا في المدرسة ونريد أن نُخبر أحدًا أننا سنذهب إلى أليجو، فهي في نظرنا المنزل مُضاعَف ضعفَين (مربَّع). وذاك هو المعنى نفسه الذي يوحي به اسم هوم سكويرد.»

ارتشف روي من الجِعَة. ثم قال: «أمَّا أنت يا باراك فيمكنك أن تطلق عليه المنزل المضاعف ثلاثة أضعاف؛ أي هوم كيوبد.»

ابتسمت أوما واتكأت للخلف على مقعدها واستمعت إلى إيقاع صوت القطار وهو يسير على قضبانه. وقالت: «هذا القطار يعيد إلى الذهن الكثيرَ من الذكريات. أتذكَّر يا روي كم كنَّا نتطلَّع للذهاب إلى الوطن؟ إنه جميل للغاية يا باراك! ليس مثل نيروبي. والجَدة إنها لطيفة للغاية! ستُحبها يا باراك. فلدَيها حسُّ دعابةٍ رائع.»

فقال روي: «يجب أن تتمتَّع بحسِّ دعابةٍ بعد أن عاشت مع المُرْعِب لكل هذا الوقت.»

«مَن المرعب؟»

فقالت أوما: «هذا هو الاسم الذي اعتدنا أن نُطلِقه على جَدنا. ذلك لأنه كان وضيعًا للغاية.»

هزَّ روي رأسه وضحك. وقال: «واو، لقد كان ذلك الرجل وضيعًا حقًّا! فكان يدعوك لتجلس على المائدة لتناول العشاء ويُقدِّم لك الطعام على أطباقٍ من الخزف الصيني مثل رجل إنجليزي. لكن إذا تفوَّهتَ بأي لفظةٍ غيرِ مناسبة، أو استخدمتَ الشوكة على نحوٍ غيرِ مناسب، طخ! يضربك بعصاه. وفي بعض الأحيان عندما يضربك لا تعرف حتى يحلَّ اليوم التالي لماذا ضربك.»

أشاحت لهم زيتوني بيدِها مُعبِّرة عن عدم رضاها عن حديثهما. وقالت: «إنكم لم تعرفوه أيها الأطفال إلا عندما كان كبيرًا في السن وضعيفًا. عندما كان أصغر سنًّا كنتُ أنا ابنته المفضَّلة. كان يُدلِّلني. ولكن مع ذلك إذا أخطأتُ كنتُ أختبئ منه طوال اليوم، وكنت أشعر بخوفٍ شديد! أتعلمون كان صارمًا للغاية حتى مع ضيوفه. فإذا زاره أحد يذبح له الكثير من الدجاج تكريمًا له. لكن إذا خالفوا إحدى العادات مثل أن يغسلوا أيدِيَهم قبل شخص أكبرَ سنًّا فلم يكن يتردَّد في ضربهم، حتى الكبار منهم.»

فقلت: «لا يبدو أنه كان محبوبًا للغاية.»

هزَّت زيتوني رأسها. وقالت: «في الواقع، كان يحظى باحترام الجميع لأنه كان مزارعًا ماهرًا. وكان المجمع الخاص به في أليجو من أكبر المجمعات في المنطقة. وكان شديد المهارة في الزراعة، وبإمكانه زراعة أي شيء. وقد تعلَّم هذه التقنيات من البريطانيين عندما عمل لدَيهم طاهيًا.»

«لم أكن أعلم أنه كان طاهيًا.»

«كانت لدَيه أرضه الزراعية، لكنه عمل طاهيًا للبِيض وقتًا طويلًا في نيروبي. وعمل لدى أناسٍ مُهمِّين. وفي أثناء الحرب العالمية عمل خادمًا لدى أحد قادة الجيش البريطاني.»

طلب روي جِعَةً مرةً أخرى. وقال: «ربما هذا ما جعله وضيعًا بهذا الشكل.»

فقالت زيتوني: «لا أدري.» أظن أن أبي كان دائمًا بهذا الشكل. كان شديد الصرامة. لكنه عادل. سأخبركم قصةً أذكرها، وقعت أحداثها عندما كنتُ طفلة صغيرة: في أحد الأيام جاء رجل إلى طرف المجمع الخاص بنا ومعه مِعْزاة يربطها بحبل. وأراد أن يمرَّ من داخل أرضنا لأنه يعيش على الجانب الآخر من القرية، ولم يشأ أن يَستخدِم الطريق الذي يدور حولها. لذا قال جَدكم لهذا الرجل: «عندما تكون وحدَك يمكنك دائمًا المرور من أرضي. لكن اليوم لا يمكنك المرور لأن مِعْزاتك ستأكل زرعي»، ولكن الرجل لم يستمِع إلى حديثه، وأخذ يجادل جَدكم وقتًا طويلًا، قائلًا إنه سيكون شديد الحرص وإن مِعْزاتَه لن تمسَّ شيئًا من الزرع. وظل ذلك الرجل يتحدَّث كثيرًا، حتى إن جَدكم في النهاية نادى عليَّ وقال: «اذهبي وأحضري أليجو». كان يُطلِق اسم أليجو على البانجا الخاصة به.»

«المِنْجل.»

«نعم، المِنْجل. كان لدَيه مِنْجلان يحتفظ بهما حادَّان للغاية. كان يحكُّهما على حجرٍ طوال اليوم. وكان يُطلِق على أحدهما أليجو. وكان يُطلِق على الآخر كوجيلو. لذا ركضتُ عائدة إلى كوخه، وأحضرتُ له الذي يُطلِق عليه أليجو. وقال جَدكم للرجل: «انظر. لقد أخبرتك بالفعل أنه لا يمكنك المرور، لكنك عنيد للغاية ولا تريد الاستماع إليَّ. لذا سأعقد معك صفقة؛ يمكنك أن تمرَّ مع مِعْزاتك. لكن إذا تأذَّت ورقة عشب واحدة، بل لو نصف ورقة من زرعي، فسأذبح المِعْزاة.»

ورغم صِغَر سنِّي في ذلك الوقت عرفتُ أن ذلك الرجل شديد الغباء لأنه قبِل عرْض والدي. وبدأنا نَسير؛ الرجل ومِعْزاتُه في المقدمة، ثم أنا وأبي نتبعه عن قرب. سرنا ربما ٢٠ خطوة عندما مدَّت المِعْزاة رقبتَها وبدأت تقضم ورقة. فجأة، قطع والدي رقبة المِعْزاة! أُصيب صاحب المِعْزاة بصدمةٍ وبدأ يصرخ. أخذ يقول: «مِعْزاتي! مِعْزاتي! ماذا فعلتَ يا حسين أونيانجو؟» وكلُّ ما فعله جَدكم هو أنه مسح المِنْجل وقال: «إذا قلتُ إنني سأفعل شيئًا، يجب أن أفعله وإلا كيف سيعلم الناس أن كلمتي صادقة؟» وبعد ذلك حاول صاحب المِعْزاة أن يُقاضي جَدكم، أمام مجلس كبار القبيلة. وقد شعروا جميعًا بالشفقة على الرجل لأن موت المِعْزاة لم يكن بالشيء الهين. لكن عندما سمعوا قصته صرفوه. فقد علموا أن جَدكم على حقٍّ لأن الرجل تلقَّى ما يكفي من تحذيرات.»

هزَّت أوما رأسها. ثم نظرت إليَّ: «هل تتخيَّل يا باراك؟» وتابعت: «أُقسم أنني في بعض الأحيان أظن أنه هو أصل مشكلات العائلة. فهو الشخص الوحيد الذي كان أبي يهتمُّ برأيه. وهو الشخص الوحيد الذي كان يخشاه.»

في ذلك الوقت كانت عربة الطعام قد خلت من الركَّاب، وكان النادل يتحرك جَيئةً وذهابًا بنفاد صبر، فقرَّرنا أن نعود إلى الداخل. كانت الأسِرَّة المثبتة في جدران عربتنا في القطار ضيقة، لكن الملاءات لطيفة وجذابة، وقد ظللتُ مُستيقظًا أستمع إلى الإيقاع المرتجف للقطار وإلى أصوات أنفاس إخوتي المنتظمة وأُفكِّر في تلك القصص عن جَدنا. لقد قالت أوما إنه أصل المشكلات. وقد بدا هذا صحيحًا بصورةٍ ما. وفكَّرتُ لو أنني استطعتُ أن أجمع أجزاء قصته معًا، فقد يتَّضِح أي شيء آخر.

وفي النهاية غرقتُ في سباتٍ عميق، وحلمتُ أنني أسير في طريق في قرية. والأطفال — الذين كانوا لا يرتدون إلا خيوطًا من الخرز — يلعبون أمام الأكواخ المستديرة، ولوَّح لي العديد من الرجال الكبار السن وأنا أمرُّ. لكن عندما تقدَّمتُ أكثرَ بدأتُ ألاحظ أن الناس ينظرون خلفي بخوف، ويُهرعون بالدخول إلى أكواخهم وأنا أمرُّ. ثم ما لبثتُ أن سمعتُ صوت نَمِر وبدأتُ أركض إلى داخل الغابة وأطأ بقدمَيَّ الجذور والأشجار المقطوعة جذوعها والنباتات المتسلِّقة حتى لم أعُد قادرًا على الركض، وسقطتُ على ركبتيَّ في وسط أرضٍ مشرقة خاوية من الأشجار. استدرتُ وأنا ألهثُ محاولًا التقاط أنفاسي فرأيتُ أن النهار تحوَّل إلى ليل، ورأيتُ جسدًا عملاقًا يَلوح في الأفق يُناهز في طوله الأشجار ولا يرتدي إلا إزارًا وقناعًا مخيفًا. وكانت عيناه الخاليتان من الحياة تخترقانني، وسمعت صوتًا مدويًّا يقول إن الوقت قد حان، وبدأ جسدي بالكامل ينتفِض بعُنف مع الصوت، كما لو أنني أتمزَّق …

انتفضت من نومي وأنا أتصبَّب عَرقًا، وارتطمَ رأسي في مصباح الحائط الذي يبرز فوق الفراش. وفي الظلام، بدأ قلبي يستعيدُ توازُنه رويدًا رويدًا، لكني لم أستطِع العودة للنوم مرةً أخرى.

•••

وصلنا إلى كيزيمو مع شروق الشمس وقطعنا مسافة نصف ميل سيرًا على الأقدام إلى محطة الحافلات. كانت مزدحمة بالحافلات وعربات الماتاتو التي كانت تطلق نفيرها وتراوغ لاحتلال مكان في المحطة المتربة الموجودة في الهواء الطلق، وقد كُتب عليها بالطلاء أسماء مثل «لص الحب» و«طفل الأدغال». وجدنا حافلة مُزرية الهيئة إطاراتها مُتشقِّقة ومتآكِلة تتجه نحونا. دخلَتْ أوما إلى الحافلة أولًا ثم خرجت مرةً أخرى مُتجهِّمة.

وقالت: «لا تُوجَد مقاعد.»

فقال روي وسلسلة من الأيدي ترفع حقائبنا إلى سطح الحافلة: «لا تقلقي، هذه أفريقيا يا أوما … وليست أوروبا.» والتفت وابتسم للشابِّ الذي كان يجمع الأجرة. وقال: «يمكنك أن تعثر لنا على بعض المقاعد أليس كذلك يا أخي؟»

أومأ الرجل برأسه. وقال: «لا تُوجَد مشكلة. هذه الحافلة درجة أولى.»

وبعد ساعةٍ كانت أوما تجلس على حجري، ومعها سلةٌ من نبات اليام وعلى حِجرها طفلة شخص آخر.

قلتُ وأنا أمسح خيطًا من اللعاب من على يدي: «إنني أتساءل كيف تبدو حافلات الدرجة الثالثة إذن.»

دفعت أوما مرفق أحد الأشخاص الغرباء بعيدًا عن وجهها. وقالت: «لن تمزح هكذا عندما نصل لأول حفرةٍ في الطريق.»

ولكن لحُسن الحظ كان الطريق معبَّدًا تعبيدًا جيدًا، وكانت المشاهد الطبيعية على جانبيه غالبًا شُجيرات جافة وتلال منخفضة، وسرعان ما حلَّت الأكواخ الطينية ذات الأسطح المخروطية الشكل المبنية بالقش محلَّ المباني المبنية من كتلٍ أسمنتية التي كانت تظهر من حينٍ لآخر. نزلنا من الحافلة في ندوري وقضينا الساعتَين التاليتَين نشرب المياه الغازية الدافئة ونشاهد الكلاب الضالَّة تنقضُّ بعضها على بعض في التراب، حتى ظهرت عربة ماتاتو أخيرًا لتنقلنا عبر الطريق الترابي نحو الشمال. وعندما كنَّا في طريقنا إلى أعلى المنحدَر الصخري لوَّح لنا أطفال حفاة الأقدام لكنهم لم يبتسِموا، وكان هناك قطيع من الماعز يجري أمامنا ليشرب من مجرًى مائي ضيق. ثم أصبح الطريق أوسع، وتوقَّفنا فجأةً في أرضٍ خالية من الأشجار. وهناك كان شابَّان يستظلَّان تحت ظل شجرة، وبمجرد أن رأونا ارتسمت الابتسامات على وجوههم. فقفز روي من الماتاتو ليضمَّ الرجُلَين بين ذراعَيه.

وقال روي بسعادة: «باراك هذان عمَّانا. هذا يوسف» قالها وهو يُشير إلى رجلٍ قوي البنية بعض الشيء ذي شارب. ثم استأنف حديثه وهو يُشير إلى رجلٍ آخر أكبرَ حجمًا حليق الوجه: «وهذا سيد أصغر إخوة أبي.»

قال سيد وهو يبتسِم لي: «لقد سمعنا الكثير من الأشياء الرائعة عنك.» وتابع: «مرحبًا يا باري. مرحبًا بك. تفضَّل ودعني أحمل حقائبك.»

تبِعْنا يوسف وسيد عبر طريقٍ مُتعامِدٍ على الطريق الرئيسي، حتى عبرنا حاجزًا من السياجات المرتفعة ودخلنا إلى مجمعٍ كبير. وفي وسط المجمع منزل منخفض مستطيل الشكل له سطح من الحديد المضلع وحوائط أسمنتية انهارت من أحد الجوانب، تاركة الأساس المبني من الطمي مكشوفًا. والنباتات المتسلِّقة المعروفة باسم «الجهنمية» الحمراء والقرنفلية والصفراء بأزهارها، تمتدُّ على طول جانبٍ واحد في اتجاه خزان مياه أسمنتي كبير، وعلى الجانب الآخر من الأرض الترابية كوخ صغير مُستدير تصطفُّ به آنيةٌ خزفية حيث تنقر منها بضع دجاجات في أنغامٍ متعاقبة. ورأيتُ كوخَين آخرَين في الفناء العشبي الواسع الذي يمتدُّ خلف المنزل. وأسفل شجرة مانجو طويلة نظرت إلينا بقرتان نحيلتان حمراوان نظرةً سريعة قبل أن تعودا وتنهمِكا في تناول طعامهما.

إنها هوم سكويرد.

«آه أوباما!» هكذا صاحت سيدة ضخمة الجسد تضع شالًا على رأسها تخرج بخطًى سريعة من المنزل الرئيسي وتُجفِّف يدَيها في جانب جونلتها. كان وجهها يُشبِهُ وجه سيد، هادئًا وبارز العظام ولها عينان متألقتان ضاحكتان. وقد احتضنت أوما وروي بقوة كما لو أنها ستطرحهما أرضًا، ثم استدارت إليَّ وأمسكت يدي وصافحتني مصافحةً حارة.

وقالت وهي تُحاول محاكاة الكلمة الإنجليزية: «مرحبًا».

فقلت أنا: «مرحبًا» في لغة لوو.

فضحِكَت وقالت شيئًا لأوما.

قالت أوما: «إنها تقول إنها حلمت بهذا اليوم الذي ستُقابل فيه حفيدها. وتقول إنك أدخلتَ عليها سعادةً كبيرة. وتقول إنك عُدت أخيرًا إلى وطنك.»

أومأت الجَدة وجذبَتْني في عناقٍ قبل أن تقودنا إلى داخل المنزل. كان بالمنزل نوافذ صغيرة تسمح بدخول قليلٍ من ضوء النهار، وليس به من الأثاث سوى بضعة مقاعد خشبية ومنضدة قهوة، وأريكة متهالكة. وعلى الجدران بعض إبداعات وذكريات العائلة: شهادة الدبلومة التي حصل عليها أبي من جامعة هارفارد، وصور له ولعمِّي عمر الذي هاجر إلى أمريكا منذ ٢٥ عامًا ولم يَعُد قط. وإلى جانبهما صورتان أقدمُ بدأ لونهما يتحوَّل للَّون الأصفر: الأولى لشابةٍ طويلة تشعُّ من عينَيها مشاعرُ غضبٍ مكبوتة وعلى حجرها طفلٌ ممتلئ الجسد وتقف إلى جوارها فتاة صغيرة، أما الصورة الثانية فلرجلٍ أكبرَ سنًّا يجلس على مقعدٍ له ظهرٌ عالٍ، ويرتدي قميصًا ورداءً قطنيًّا يلتفُّ حول الوسط (كانجا) ويضع إحدى رجلَيه فوق الأخرى مثل رجلٍ إنجليزي، وعلى حِجره ما يُشبه هراوة من نوعٍ ما ورأسها الكبير مُغلَّف بجلد حيوان. وقد منحت عظام وجنتَيه البارزة وعيناه الضيقتان وجهه لمحةً شرقية. وجاءت أوما لتقف إلى جواري.

وقالت: «هذا الرجل هو جَدنا. والسيدة التي في الصورة هي جَدتنا الأخرى أكومو. والفتاة هي سارة. أما ذلك الطفل … فهو أبونا.»

أمعنت النظر في الصور بعض الوقت، حتى لاحظت صورةً أخيرة على الحائط. صورة لسيدة بيضاء لها شعر أسود كثيف وعينان حالمتان مثل تلك الصور التي كانت تُزيِّن إعلانات كوكا كولا القديمة. وسألتُ ماذا تفعل هذه الصورة على الجدار، التفتت أوما إلى الجَدة التي أجابت بلغة لوو.

فترجمت أوما قائلة: «إنها تقول إنها صورة لإحدى زوجات جَدك. وقد أخبر الناس أنه تزوَّجَها في بورما عندما كان في الحرب.»

ضحك روي. وقال: «إنها لا تُشبِهُ نساء بورما، أليس كذلك يا باراك؟»

هززتُ رأسي نفيًا. فقد كانت تُشبِهُ أُمي.

جلسنا في غرفة المعيشة وأعدَّت لنا الجَدة بعض الشاي. وقالت إن الأمور تسير على ما يرام، مع أنها قد منحت قِطَعًا من الأرض إلى الأقارب لأنها هي ويوسف لا يستطيعان تولِّي العمل بها بأنفسهما. وتُعوِّض الدخل الذي كانت ستكسبه من الأرض عن طريق بيع وجبات الغداء للأطفال في المدرسة المجاورة، وتُحضِر البضائع من كيزيمو إلى السوق المحلية كلما توفَّر لديها أموال فائضة. أما مشكلاتها الحقيقية فتتعلَّق بسقف المنزل، وأشارت إلى بعض خيوط أشعة الشمس التي تمرُّ من السقف إلى الأرضية، إلى جانب حقيقةِ أنها لم تسمع أية أخبار عن ابنها عمر منذ ما يزيد عن عام. وسألتني هل رأيته، وأجبتُها بالنفي. فغمغمت قائلة شيئًا بسخط بلغة لوو، ثم بدأت تجمع الأكواب.

همست أوما: «تقول عندما تراه أخبِره أنها لا تريد منه شيئًا، سوى أن يأتي ويزور والدته.»

نظرت إلى الجَدة ولأول مرة منذ وصولنا كان كِبَر سنِّها واضحًا على ملامحها.

وبعد أن أفرغنا أمتعتنا أشار روي إليَّ كي أتبَعَه إلى الفناء الخلفي. وعلى حافة حقل ذرة مجاور وأسفل شجرة مانجو رأيتُ بناءَين مُستطيلَين طويلَين من الأسمنت بارزَين من الأرض مثل تابوتَين خرجا من القبر. وهناك لافتة على أحد القبرين منقوش عليها: حسين أونيانجو أوباما (وُلد عام ١٨٩٥م ومات عام ١٩٧٩م). وكان الآخر مُغطًّى ببلاط أصفر كالذي يُستخدَم في الحمَّامات به فراغ مجرَّد على شاهد الضريح حيث من المفترض أن تُوجَد اللوحة، انحنى روي وأبعد صفًّا من النمل كان يسير على طول القبر.

وقال: «ست سنوات.» وتابع: «ست سنوات ولا يزال لا يُوجَد شيء يقول مَن دُفن هنا. سأُخبرك شيئًا يا باراك، عندما أموت تأكَّد أن اسمي مكتوب على القبر.» وهزَّ رأسه ببطءٍ قبل أن يعود إلى المنزل.

•••

كيف لي أن أصف مشاعرَ ذلك اليوم؟ يمكنني تذكُّر كل لحظةٍ في ذهني صورةً تقريبًا؛ أتذكَّر انضمامي أنا وأوما إلى الجَدة في سوق بعد الظهيرة، في المكان نفسه الذي أنزلتنا فيه عربة الماتاتو، فيما عدا أنه أصبح مكتظًّا بنساءٍ يجلسنَ على حصائر، وسيقانهم الناعمة سمراء اللون ممتدَّة أمامهنَّ من أسفل الجونلات الواسعة؛ وصوت ضحكاتهن وهن يُشاهدنني أساعد الجَدة في قطع سيقان الكرنب الأخضر الذي أحضرته من كيزيمو، والمذاق الحلو كالعسل لعود القصب الذي وضعَتْه إحدى النساء في يدي. وأتذكَّر حفيف أوراق الذرة، والتركيز على وجه عمَّيَّ، ورائحة عَرقنا ونحن نصلح ثقبًا في السياج الذي يحد الجانب الغربي من المنزل. وأتذكَّر كيف جاء بعد الظهيرة صبيٌّ اسمه جودفري إلى المجمع، وهو صبي قالت أوما إنه يمكث مع الجَدة لأن أُسرته تعيش في قريةٍ ليست بها مدرسة، وأتذكَّر خطوات جودفري المضطربة وهو يطارد ديكًا أسود كبيرًا عبر أشجار الموز والببايا، وتقطيب ما بين حاجبَيه الصغيرَين والطائر يضرب بجناحَيه ليُفلتَ من يدَيه، والنظرة في عينَيه عندما جذبت جَدتي الديك من الخلف بإحدى يديها وجزَّت رقبته بالسكين فجأة، وهي نظرة تذكَّرتها وكأنها نظرتي أنا.

ولم يكن ما شعرتُ به في تلك اللحظات مجرَّد سعادة. لكنه إحساس بأن كلَّ ما أفعله، كل لمسة ونفس وكلمة تحمل الثِّقل الكامل لحياتي، وأن دائرةً بدأت تنغلق، حتى إنني ربما يمكنني أخيرًا التعرُّف على نفسي وأُدرك أنني موجود هنا، الآن بالذات في مكانٍ واحد. لم أشعر بتغيُّر هذه الحالة إلا مرةً واحدة بعد ظهر يومٍ ما عندما سبقتنا أوما في طريق عودتنا من السوق كي تُحضر كاميراتها وتركتني أنا والجَدة وحدَنا في منتصف الطريق. وبعد صمتٍ طويل نظرت الجَدة إليَّ. وابتسمَتْ قائلة: «مرحبًا» باللغة الإنجليزية الركيكة. فأجبت تحيَّتها بلغة لوو. وهكذا نفدت الكلمات التي من الممكن أن نتبادلها، فحدَّقنا بأسفٍ إلى التراب حتى عادت أوما في النهاية. ثم التفتت الجَدة إلى أوما وقالت في نبرةٍ استطعتُ أن أفهمها إنه آلمها كثيرًا ألَّا تستطيع التحدُّث إلى حفيدها.

فقلت: «أخبريها أنني أودُّ تعلُّم لغة لوو، لكن من الصعب أن أجد وقتًا في الولايات المتحدة.» وتابعتُ: «أخبريها كم أنا مشغول.»

قالت أوما: «إنها تفهم هذا» وتابعَت: «لكنها تقول أيضًا إنه لا يمكن أن يكون المرء مشغولًا لدرجةِ ألا يعرف أهله.»

نظرت إلى الجَدة، فأومأت إليَّ، وأدركتُ حينها أن السعادة التي كنتُ أشعر بها ستزول في وقتٍ ما، وأن ذلك أيضًا جزء من الدائرة: حقيقة أنَّ حياتي لم تكن أبدًا مُرتَّبة أو ثابتة، وأنه حتى بعد هذه الرحلة ستظلُّ الاختيارات الصعبة مطروحةً دائمًا.

أسدل الليل ستائره سريعًا، وكانت الرياح تهبُّ برقةٍ في الظلام. ذهبتُ أنا وبرنارد وروي إلى خزان المياه واغتسلنا في الهواء الطلق، وأجسادنا التي يُغطيها الصابون تلمع تحت ضوء القمر الذي يوشِك أن يكون بدرًا. وعندما عُدنا إلى المنزل كان الطعام بانتظارنا، فأكلنا بشهيةٍ مفتوحة دون أن نتفوَّه بكلمة. وبعد العشاء، غادر روي وهو يُتمتِم أنه يريد زيارة بعض الأشخاص. وذهب يوسف إلى كوخه وأحضر جهاز ترانزستور قديمًا قال إنه كان ملكًا لجَدنا في يومٍ من الأيام. وأخذ يُحرك المؤشر حتى التقط موجةً بصوتٍ مُشوش لإذاعة البي بي سي، إلا أن صوت الإذاعة كان يجيء ويذهب وكانت كأنها هذيانٌ لأناسٍ من عالمٍ آخر. وبعد دقيقة سمعنا صوتَ عويلٍ غريب منخفض النبرة على مسافةٍ بعيدة.

قالت أوما: «لا بد أن عدَّائي الليل في الخارج الليلة.»

«مَن هم عدَّاءو الليل؟»

قالت: «إنهم مثل مُشعوذِين.» وتابعت: «رجال أشباح. عندما كنَّا صغارًا كانت هاتان»، مشيرة إلى الجَدة وزيتوني «تُخبراننا قصصًا عنهم كي نُحسِن السلوك. وقالتا لنا إنه في ضوء النهار يكون عداءو الليل مثل عوام الناس. قد تمرُّ بهم في السوق، أو حتى تدعوهم إلى منزلك لتناول الطعام، ولا تعرف حقيقتهم أبدًا. ولكن ليلًا يأخذون شكل نمور ويتحدَّثون إلى جميع الحيوانات. وأقوى عدائي الليل يمكنهم أن يتركوا أجسادهم ويطيروا إلى أماكن بعيدة. أو يَسحرونك بنظرةٍ سريعة واحدة من عيونهم. وإذا سألتَ جيراننا، فسيُخبرونك أنه لا يزال هناك الكثير من عدائي الليل هنا.»

«أوما، إنك تتحدَّثين كما لو أن هذا الأمر غير حقيقي.»

وعلى الضوء المتقطِّع للمصباح الذي يعمل بالكيروسين لم أستطِع أن أُحدِّد ما إذا كانت زيتوني تمزح. وقالت: «دعني أُخبِرك أمرًا يا باري. عندما كنتُ صغيرةً سَبَّبَ عداءو الليل الكثير من المشكلات للناس. فكانوا يسرقون المعْز. وفي بعض الأحيان يأخذون حتى الماشية. جَدك كان الشخص الوحيد الذي لا يخاف منهم. أذكر أنه في يومٍ من الأيام سمع مَعْزه تُمأمئ في الحظيرة، وعندما ذهب ليطمئنَّ عليها رأى ما بدا مثل نَمِر ضخم يقف على رجلَيه الخلفيَّتَين مثل رجل. وكان بين فكَّيه مِعْزاة صغيرة، وعندما رأى جَدك، صرخ بلغة لوو قبل أن يهرُب إلى الغابة، فطارده جَدك لمسافةٍ بعيدة في التلال، لكن عندما كان على وشك أن يطعنه بمِنْجله طار عداء الليل ليستقرَّ فوق الأشجار. ولحُسن الحظ سقطت المِعْزاة عندما قفز، ولم تُصَب إلا بكسرٍ في رجلها. أعاد جَدك المِعْزاة إلى المجمع وأراني كيف أصنع جبيرة، وقد اعتنيتُ بتلك المِعْزاة بنفسي حتى استعادت صحتها.»

عُدنا إلى هدوئنا مرةً أخرى، وأصبح ضوء المصباح خافتًا وبدأ الناس يأوون إلى فُرُشهم. وأحضرتِ الجَدة أغطيةً وسريرًا مُتنقلًا لشخصَين حتى ننام عليه أنا وبرنارد، واستلقَينا على السرير الضيق قبل أن نطفئ المصباح. كان جسدي يؤلمني من الإرهاق، وكنتُ أسمع غمغمة الجَدة هي وأوما تتحدثان داخل غرفة نوم الجَدة، وتساءلتُ إلى أين ذهب روي، وفكَّرتُ في البلاط الأصفر على قبر أبي.

وهنا همس برنارد: «باري.» وتابع: «ألا تزال مُستيقظًا؟»

«نعم.»

«هل صدَّقتَ ما قالته زيتوني؟ أقصد عن عدائي الليل؟»

«لا أعلم.»

«أما أنا فلا أظن أن هناك ما يُسمَّى بعدائي الليل. إنهم على الأرجح لصوص يستغلون هذه القصص ليخيفوا الناس.»

«قد تكون على حق.»

ثم خيَّم علينا صمتٌ طويل.

«باري؟»

«ماذا؟»

«ما الذي جعلك تعود إلى الوطن؟»

«لا أدري يا برنارد. شيءٌ ما أخبرني أنه قد حان الوقت.»

استدار برنارد على جانبه دون أن يُجيب. وبعد دقيقةٍ سمعتُ صوت شخيره الخافت إلى جواري، ففتحتُ عينيَّ في الظلام منتظرًا عودة روي.

•••

في الصباح اقترح سيد ويوسف أن أذهب أنا وأوما في جولةٍ في المنطقة. وعندما تبعناهما عبر الفناء الخلفي ثم طريق ترابي عبر حقول الذرة والدخن استدار يوسف إليَّ وقال: «لا بد أن هذا يبدو شيئًا بدائيًّا لك مقارنةً بالمَزارع في أمريكا.»

فأخبرته أنني لا أعرف الكثير عن الزراعة لكن، على حدِّ علمي، الأرض تبدو خصبة.

قال يوسف وهو يومئ: «نعم، الأرض جيدة.» وتابع: «المشكلة هنا أن الناس غير مُتعلِّمين. ولا يفهمون الكثير عن التطور. لا يعلمون شيئًا عن التقنيات الزراعية المناسبة وأشياء من هذا القبيل. وأنا أحاول أن أشرح لهم معلوماتٍ عن تطوير رأس المال والري، لكنهم يرفضون الاستماع إليَّ. فأبناء قبيلة لوو عنيدون في هذا الشأن.»

لاحظتُ أن سيد عبس في وجه أخيه لكنه لم يقُل شيئًا. وبعد بضع دقائق وصلْنا إلى مجرًى مائي صغير مُوحِل. وحينها صاح سيد مُحذرًا، فظهرت شابَّتان على الضفة المقابلة تُغطيان جسدَيهما برداءيهما وشعرهما لا يزال يلمع من حمَّام الصباح. وابتسمتا بخجلٍ واختَفَتا وراء بقعةٍ من أعشاب المستنقعات محاطة بالماء.

وأشار سيد إلى السياجات التي تمتدُّ على طول المياه. وقال: «هنا تنتهي ممتلكاتنا من الأرض.» وتابع: «في الماضي، عندما كان أبي على قيد الحياة، كانت الحقول أكبر. لكن كما قالت أُمي، تركنا جزءًا من الأرض الآن.»

قرَّر يوسف أن يعود عند هذه النقطة، لكن سيد قادني أنا وأوما على طول المجرى المائي لبعض الوقت، ثم عبر المزيد من الحقول من أمام مجمع سكني. وأمام بعض الأكواخ رأينا نساء يفرزنَ حبوب الدخن المفروشة على قطعٍ مُربَّعة من القماش، فتوقفنا لنتحدَّث إلى واحدةٍ منهن، وهي سيدة في منتصف العمر ترتدي ثوبًا أحمرَ باهتًا وحذاء خفيفًا أحمرَ اللون بدون رباط. تركت السيدة عملها جانبًا لتُصافحنا، وأخبرتنا أنها تتذكَّر أبانا فقد كانا يرعيان الماعز معًا في طفولتهما. وعندما سألتها أوما كيف حال الحياة هزَّت رأسها ببطء.

وقالت بصوتٍ يخلو من المشاعر: «لقد تغيَّرت الحياة.» وتابعت: «فالشباب يرحلون إلى المدينة. لا يبقى هنا سوى الأطفال والعجائز من الرجال والنساء. ورحلت معهم الثروة كلها.» وفي أثناء حديثها جاء رجل عجوز يركب درَّاجة متهالكة إلى جانبنا ثم رجل طويل نحيل تنبعِث من أنفاسه رائحة الكحول. وعلى الفور التقطوا نبرةَ حديث المرأة عن صعوبة الحياة في أليجو والأطفال الذين تركوهم ورحلوا. وسألونا هل بإمكاننا أن نمنحهم شيئًا ليساعدهم على الحياة بعض الوقت، فمنحَتْ أوما كلًّا منهما بضعة شلنات قبل أن نستأذن وننصرف عائدين إلى المنزل.

ثم قالت أوما بعد أن أصبحنا بعيدًا عن أسماعهم: «ماذا حدث هنا يا سيد؟ إنهم لم يكونوا يتسولون النقود بهذا الشكل قط.»

انحنى سيد وأبعدَ بعض الأغصان الساقطة من بين صفوف الذرة. وقال: «إنك على حق.» وتابع: «أعتقد أنهم تعلَّموا هذا السلوك من سكان المدينة. فالناس يعودون من نيروبي أو كيزيمو ويقولون لهم: «إنكم فقراء.» ومن ثَم أصبح لدَينا هذه الفكرة عن الفقر. لم تكن هذه الفكرة موجودة هنا من قبل. انظر إلى والدتي، إنها لا تطلب شيئًا أبدًا، فدائمًا لديها ما تفعله. ولا شيء مما تفعله يجلُب لها الكثير من النقود، لكنها نقود على أية حال. وهذا يجعلها تشعر بالفخر. أي شخص يمكنه أن يفعل هذا، لكن الكثيرين هنا يُفضِّلون الاستسلام.»

قالت أوما: «وماذا عن يوسف؟» وتابعت: «ألا يمكنه فعْل المزيد؟»

هزَّ سيد رأسه. وقال: «أخي يتحدث بأسلوب الكتب، لكن يؤسفني أنه لا يحب أن يكون قدوة.»

استدارت أوما إليَّ. وقالت: «أتعلم كان أداء يوسف حسنًا للغاية لبعض الوقت. كان أداؤه حسنًا في المدرسة أليس كذلك يا سيد؟ وتلقَّى العديد من فرص العمل الممتازة. لكنني لا أعلم ماذا حدث له. ترك الدراسة. والآن يمكث هنا مع الجَدة يقوم ببعض الأعمال البسيطة لها. كما لو أنه يخاف من محاولة النجاح.»

فأومأ سيد. وقال: «أظن أن التعليم لا يُفيدنا كثيرًا إذا لم يكن ممزوجًا بالعَرق.»

فكَّرتُ فيما قاله سيد ونحن نتابع السير. ربما يكون على حق، وقد تكون فكرة الفقر جُلِبت إلى هذا المكان؛ مقياس جديد للفقر والحاجة انتقل كالحصبة على يدِي أو يدِ أوما أو من خلال راديو يوسف القديم. وعندما نقول إن الفقر مجرَّد فكرة لا يعني أنه ليس موجودًا؛ فالأشخاص الذين قابلناهم للتوِّ لا يمكنهم إنكار حقيقة أن بعض الناس لديهم حمَّامات بداخل المنازل أو يأكلون اللحم كل يوم، أكثرَ مما يمكن لأطفال ألتجيلد إنكار وجود العربات السريعة أو المنازل المترفة التي تعرضها أجهزة التليفزيون.

ولكن ربما يمكنهم مقاومة فكرة عجزهم. وفي ذلك الوقت كان سيد يُخبِرنا عن حياته: عن إحباطه لأنه لم يلتحِق قطُّ بالجامعة مثل إخوته الأكبر منه سنًّا بسبب نقص النقود؛ وعمله في «فيلق الشباب الوطني» وتكليفه بالعمل في مشروعات التنمية في أرجاء البلد، وهي مهمة محدودة عمرها ثلاثة أعوام على وشك الانتهاء. وقد قضى إجازتَيه السابقتَين يطرق أبواب الشركات المختلفة في نيروبي لكن دون نتائج إيجابية حتى ذلك الوقت. ولكن ظروفه لم تفُتَّ في عضده وهو واثق أن المثابرة ستُسبِّب النجاح في النهاية.

قال سيد ونحن نقترب من منزل الجَدة: «الحصول على عملٍ هذه الأيام، حتى كموظفٍ بسيط، يتطلَّب أن تكون من ذوي المعارف، أو أن ترشو شخصًا برشوةٍ كبيرة. ولهذا أودُّ أن أؤسِّس عملي الخاص. سيكون شيئًا صغيرًا نعم. لكنه سيكون ملكي. وأظن أن هذا كان خطأ والدِكما. فمع عبقريته لم يكن لدَيه شيء يملكه قط.» ثم فكَّر لدقيقة. وقال: «بالطبع، لا فائدة من إهدار الوقت في الندم على أخطاء الماضي، ألستُ على حق؟ مثل ذلك النزاع على ميراث والدك. منذ البداية أخبرتُ أخواتي أن ينسينَ هذا الأمر. لا بد أن نستمر في حياتنا. ومع ذلك فإنهن لا يستمعنَ إليَّ. وفي الوقت نفسه إلى أين يذهب المال الذي يتنازعنَ عليه؟ إلى المحامين. أعتقد أن المحامين يستفيدون بشدةٍ من هذه القضية. ثمَّة مَثَل يَحضُرني هنا. يقول: عندما تتقاتل جرادتان، يكون الغراب دائمًا هو المستفيد.»

فسألتُه: «هل هذا مَثَل تتداوله قبيلة لوو؟» فابتسم سيد ابتسامة خجلى.

وقال: «لدَينا تعبيرات مماثلة هنا في لوو، لكن يجب أن أعترف أن هذا التعبير بالذات قرأته في كتابٍ من تأليف شينوا أشيبي، الكاتب النيجيري. فأنا أُحب كُتبه كثيرًا. فإنه يقول الحقيقة عن أزمة أفريقيا. الأزمة النيجيرية أو الكينية، كلها واحد. فإننا نشترك في أشياءَ أكثر من تلك التي تُفرِّقنا.»

•••

عندما عُدنا كانت الجَدة وروي يجلسان خارج المنزل ويتحدَّثان إلى رجلٍ يرتدي حُلة ثقيلة. اتضح أن ذلك الرجل هو ناظر المدرسة المجاورة، وقد جاء لينقل لهم أخبار المدينة ويستمتع بتناول يخني الدجاج المتبقي من الليلة السابقة. ولاحظتُ أن روي قد حزم حقيبتَه فسألتُه إلى أين سيذهب.

فقال: «إلى كندو باي.» وتابع: «الناظر يتَّجِه إلى هناك؛ لذا فسأذهب معه أنا وأُمي وبرنارد ونُعيد آبو إلى هنا. أنت أيضًا يجب أن تأتي معنا لتُلقي التحيةَ على العائلة هناك.»

قرَّرت أوما أن تبقى مع الجَدة، لكنني أنا وسيد ذهبنا لنأخذ بعض الملابس ثم تكدَّسنا في سيارة الناظر العتيقة. واتضح أن الرحلة إلى كندو تستغرق عدة ساعات بالسفر عبر الطريق الرئيسي، وإلى الغرب كانت بحيرة فيكتوريا تظهر من حينٍ لآخر ومياهها الفضية الساكنة تَقلُّ لتتحولَ إلى مستنقعاتٍ خضراء مسطحة. وفي وقتٍ متأخِّر من بعد الظهيرة كنا نسير في الشارع الرئيسي في مدينة كندو باي، وهو شارع واسع مليء بالغبار تصطفُّ على جانبَيه محال مدهونة باللون الأصفر. بعد أن شكرنا الناظر ركبنا عربة ماتاتو، سارت بنا عبر متاهةٍ من الشوارع الجانبية، حتى اختفت جميع العلامات التي تدل على المدنية وعادت البيئة المحيطة بنا مرةً أخرى إلى مراعٍ مفتوحة وحقول ذرة. وعند مفترق أحد الطرق أشارت لنا كيزيا كي ننزل، وبدأنا نسير عبر وادٍ ضيقٍ عميق لونه يميل إلى الرمادي، في أسفله يتدفَّق نهر كبير بُني بلون الشيكولاتة. وعلى ضفة النهر رأينا نساءً يضعنَ ملابسَ مُبتلة على صخورٍ مكشوفة، وعلى سطحٍ منبسط فوقها قطيع من الماعز يأكل في مساحةٍ من الحشائش الصفراء، والعلامات السوداء والبيضاء والكستنائية على أجسادها مثل نبات حزاز الصخر في الأرض. انعطفنا في ممرٍّ أضيق ووصلنا إلى مدخل مجمع مُحاط بسياج. توقَّفَت كيزيا وأشارت إلى ما بدا مثل كومةٍ عشوائية من الصخور والعِصي وقالت شيئًا لروي بلغة لوو.

فقال روي: «هذا قبر أوباما.» وتابع: «جَدنا الأكبر. وجميع الأرض الموجودة هنا يُطلَق عليها «أرض أوباما»، ونحن «أبناء أوباما». وقد نشأ أبو جَدنا الأكبر في أليجو، لكنه انتقل إلى هنا في شبابه. وهنا استقرَّ أوباما، ووُلِد جميع أبنائه.»

«لماذا إذن عاد جَدنا إلى أليجو؟»

التفت روي إلى كيزيا التي هزَّت رأسها. فقال روي: «عليك أن تسأل الجَدة هذا السؤال.» وتابع: أمي تظن أنه ربما لم يتَّفق مع إخوته. في الحقيقة لا يزال أحد إخوته يعيش هنا. إنه عجوز الآن، وربما يُمكننا زيارته.»

وصلنا إلى منزلٍ خشبي صغير حيث كانت سيدة طويلة جميلة تكنس الباحة. ومن خلفها كان رجلٌ عاري الصدر يجلس في مدخل المبنى. غطَّت المرأة عينَيها من الضوء بساعدها ولوَّحت لنا، وببطء استدار الشابُّ باتجاهنا. فذهب روي ليُصافح المرأة التي كان اسمها سالينا ونهض الشابُّ لتحيَّتِنا.

قال آبو: «أخيرًا جئتم لزيارتي؟» وهو يحتضن كلًّا منا. ومدَّ يدَه ليرتدي قميصه. وتابع: «سمعتُ أنكم قادمون مع باري منذ وقتٍ طويل.»

قال روي: «نعم، إنك تعرف كيف تسير الأمور.» وتابع: «فنحن نستغرق بعض الوقت للتنظيم.»

«أنا سعيد أنكم أتيتم. فأنا بحاجةٍ للعودة إلى نيروبي.»

«إنك لا تُحب الحياة هنا، أليس كذلك؟»

«إنها مملَّة للغاية يا رجل، لن تُصدِّق. لا يُوجَد تليفزيون. كما لا تُوجَد نوادٍ. وهؤلاء الناس في القرية أظن أنهم بطيئون. لولا قدوم بيلي لفقدتُ صوابي.»

«هل بيلي هنا؟»

«نعم، إنه هنا في مكانٍ ما …» ولوَّح آبو بيده بصورةٍ غامضة، ثم استدار إليَّ وابتسم. قال: «حسنًا، يا باري. ماذا أحضرتَ لي معك من أمريكا؟»

مددتُ يدي داخل الحقيبة وأخرجتُ أحد أجهزة الكاسيت المحمولة التي أحضرتها له ولبرنارد. فقلَّبه في يدِه وعلى وجهه نظرة إحباط غير مُستترة.

وقال: «إنه ليس سوني، أهذا صحيح؟» ثم استعاد سيطرته على نفسه سريعًا وضربني برفقٍ على ظهري. وقال: «هذا رائع يا باري. شكرًا لك! شكرًا لك.»

أومأتُ له محاولًا ألا أشعر بالغضب. كان يقف إلى جوار برنارد وكان التشابُهُ بينهما مذهلًا: الطول نفسه، والنحافة نفسها، والملامح الهادئة المتناسِقة نفسها. ليس إلا أن يحلق آبو شاربه حتى يُصبحا توءمًا. فيما عدا شيء واحد … ما هو؟ نعم، إنها النظرة في عينَي آبو. ذاك هو السبب. ليس فقط الاحمرار الواضح الناتج عن تناول المخدرات، بل شيء أعمق، شيء ذكَّرني بالشباب في شيكاغو. نظرة انتباه وربما حذَر، نظرة شخص أدرك في وقتٍ مبكِّر من حياته أنه ظُلِم.

تبعنا سالينا إلى داخل المنزل، وأحضرت لنا صينيةً عليها مياه غازية وبسكويت. وعندما وضعت الصينية دخل من الباب شابٌّ ضخم قوي البنية له شارب ويتَّسِم بالقدْر نفسه من جمال سالينا وطول روي، وبمجرد أن دخل صاح.

قال: «روي! ماذا تفعل هنا؟»

نهض روي وتعانقا. وأجاب: «أنت تعرفني. أبحث دائمًا عن الطعام. يجب أن أطرح عليك السؤال نفسه؟»

«أنا أزور والدتي. فإذا لم آتِ إلى هنا كثيرًا تبدأ في الشكوى.» وقبَّل سالينا على وجنتِها وأمسك يدي يُصافحني بقوة. قال: «أرى أنك أحضرتَ معك قريبي الأمريكي! سمعتُ عنك كثيرًا يا باري، ولا أُصدِّق أنك هنا الآن.» ثم التفت إلى سالينا. قال: «هل قدَّمتِ الطعام لباري؟»

«حالًا يا بيلي. حالًا.» ثم أخذت يدَ كيزيا والتفتت إلى روي. وقالت: «أترى ما يجب أن تتحمَّله الأمهات؟ كيف حال جَدتك؟»

«كما هي.»

أومأت برأسها وهي تمعن التفكير. قالت: «هذا ليس سيئًا.»

خرجت من الغرفة هي وكيزيا وسقط بيلي على الأريكة إلى جانب روي.

وقال: «ألا تزال مجنونًا أيها السيد؟ انظر إلى حالك الآن! إنك بدين مثل الثور الفائز في مسابقة! لا بد أنك تُمتِّع نفسك في الولايات المتحدة.»

قال روي: «الوضع على ما يرام.» وتابع: «كيف حال مومباسا؟ سمعت أنك تعمل في مكتب البريد.»

هزَّ بيلي كتفَيه. وقال: «الراتب معقول، والعمل ثابت ولا يحتاج إلى مجهودٍ ذهني كبير.» ثم التفت إليَّ. وقال: «دعني أُخبرك شيئًا يا باري، أخوك هذا كان طائشًا! في الحقيقة كنا جميعًا طائشين فيما مضى. قضينا معظم الوقت نصطاد الحيوانات التي لا يصطادها أحدٌ عادة، أليس كذلك يا روي؟» ثم ضرب روي على فخذه، وضحك. قال: «أخبرني، ماذا عن النساء الأمريكيات؟»

ضحك روي، لكن بدا أن دخول سالينا وكيزيا بالطعام أراحه. قال بيلي وهو يضع طبقَه على المنضدة المنخفِضة أمامه: «أتعلم يا باري، كان أبوك في مثل عمر أبي. وكانا مُقربَين للغاية. وعندما نشأتُ أنا وروي كنا أيضًا في العمر نفسه؛ لذا فقد أصبحنا بطبيعة الحال مُقربَين للغاية. ودعني أُخبرك شيئًا، كان أبوك رجلًا عظيمًا. وكانت علاقتي به أقوى من علاقتي بأبي. فإذا تعرضتُ لمشكلةٍ كنتُ أذهب إلى عمِّي باراك أولًا. وأنت يا روي كنتَ تلجأ لأبي على ما أعتقد.»

قال روي بهدوء: «كان الرجال في عائلتنا رائعِين مع أبناء الغير.» واستدرك: «ولكن مع أبنائهم أرادوا ألا يبدوا ضعفاء.»

أومأ بيلي ولعق أصابعه. وقال: «أتعلم يا روي، أظن أن ما تقوله حقيقي. أما أنا فلا أريد ارتكاب الأخطاء نفسها. لا أريد إساءة معاملة عائلتي.» وبيدِه النظيفة أخرج بيلي محفظته من جيبه وأراني صورةً لزوجته وطفلَيه الصغيرَين. وقال: «أُقسِم لك أيها السيد، الزواج يستحوذ على المرء! يجب أن تراني الآن يا روي. لقد أصبحتُ هادئًا للغاية. رجل أُسَرِي. بالطبع هناك حدود لما يجب أن يتحمله الرجل. وزوجتي تعرف ألا تُعارضني كثيرًا، ما رأيك يا سيد؟»

أدركتُ أن سيدًا لم يتحدَّث كثيرًا منذ أن وصلنا. وكان قد غسل يدَيه قبل أن يلتفت إلى بيلي.

قال: «أنا لم أتزوَّج بعدُ؛ لذا ربما لا ينبغي أن أتحدَّث عن هذا الأمر. لكني أعترف أنني فكَّرتُ في هذه الأمور لبعض الوقت. وقد توصَّلت إلى أهم مشكلات أفريقيا، أتدرون ما هي؟» ثم توقَّف ليُدير عينَيه في الغرفة. واستأنف: «العلاقة بين الرجل والمرأة. فنحن الرجال نحاول أن نصبح أقوياء، لكن قوَّتنا عادة ما تُوضَع في غيرِ محلها. مثل مسألة أن يكون للرجل أكثر من امرأة. لقد كان لدى آبائنا زوجات كثيرة؛ لذا فنحن أيضًا يجب أن يكون لدَينا الكثير من النساء. لكننا لا نتوقَّف وننظُر إلى العواقب. ماذا يحدث لهؤلاء النساء؟ الغيرة تملأ قلوبهن. والأطفال لا يصبحون مقربِين من آبائهم. إنها …»

ثم تدارك سيد نفسه فجأة وابتسم. وقال: «بالطبع أنا ليس لديَّ حتى زوجة واحدة؛ لذا ينبغي ألا أستمر في الحديث. فحيثما لا يمتلك المرء الخبرةَ فمن الحكمة أن يصمت.»

فسألته: «هل هذا من أقوال أشيبي أيضًا؟»

ضحك سيد وأمسك يدي. قال: «كلَّا يا باري. هذا قولي أنا.»

عندما انتهَينا من تناول العشاء كان الظلام قد خيَّم، وبعد أن شكرْنا سالينا وكيزيا على الطعام تبِعنا بيلي إلى الخارج إلى ممرٍّ ضيق. وسِرنا أسفل ضوء القمر الذي كان بدرًا، ووصلنا سريعًا إلى منزلٍ أصغر حيث ظلال الفراشات تُرفرِف قبالة نافذة صفراء. طرق بيلي الباب، ففتح رجل قصير القامة على طول جبهته آثار جرح، وعلى شفتيه ابتسامة لكن عينيه تدوران في محجريهما مثل عيني رجل على وشك أن يُضرب. ومن خلفه كان يجلس رجل آخر طويل وشديد النحافة يرتدي ملابس بيضاء وله لحيةٌ صغيرة خفيفة وشارب جعله يُشبه النُّسَّاك الهنود. ومعًا بدأ الرجلان يصافحانا بحماس، ويتحدثان إليَّ بلغةٍ إنجليزية غير صحيحة.

«أنا ابن أخيك!» هذا ما قاله الرجل الأبيض الشعر وهو يشير إلى نفسه.

ضحك القصير وقال: «شعره أبيض ويدعوك عماه! هه! أتحب لُغته الإنجليزية؟ تفضَّل.»

قادانا إلى منضدةٍ خشبية عليها زجاجة لا تحمل علامةَ اسمٍ مليئة بسائلٍ شفاف وثلاثة أكواب. رفع الأبيض الشعر الزجاجةَ وسكب بحرصٍ مقدار كأسَين تقريبًا في كل كوب. وقال بيلي وهو يرفع كوبه: «هذا أفضل من الويسكي يا باري.» وتابع: «إنه يجعل الرجل فحلًا.» وألقى بالشراب في حلقِه وتبِعتُه في ذلك أنا وروي. ثم شعرتُ بصدري ينفجر ويمطر الشظايا في معدتي. أعادوا ملء الأكواب لكنَّ سيدًا أخذ واحدًا؛ لذا رفع الرجل القصير الكوب الآخر أمام عينيَّ ورأيتُ وجهه مشوَّهًا عبر الكوب.

قال: «أتريد المزيد؟»

قلت وأنا أكتم السعال: «ليس الآن!» وتابعت: «شكرًا لك.»

قال الأبيض الشعر: «ربما تكون أحضرتَ لي شيئًا؟» وتابع: «ربما قميصًا؟ أو حذاء؟»

«أنا آسف … تركتُ كل شيء في أليجو.»

ظل الرجل القصير يبتسِم كما لو أنه لم يفهم، وعرض عليَّ الشراب مرةً أخرى. هذه المرة دفع بيلي يد الرجل بعيدًا.

وصاح: «اتركه!» وتابع: «يمكننا أن نشرب المزيد فيما بعد. يجب أولًا أن نرى جَدَّنا.»

قادنا الرجلان إلى غرفةٍ خلفية صغيرة. وهناك أمام مصباحٍ يعمل بالكيروسين جلس بلا حَراك أكبرُ رجلٍ سنًّا رأيتُه في حياتي. شعره أبيض كالثلج، وبشرته مثل الورق المصنوع من جلد الماعز. كان بلا حَراك وعيناه مغلقتان وذراعاه النحيفتان تتكآن على ذراعي مقعده. ظننتُ أنه نائم، لكن عندما تقدَّم بيلي استدار رأس الرجل العجوز باتجاهنا، ورأيتُ صورة مطابقة للوجه الذي رأيتُه أمس في أليجو في الصورة الباهتة على حائط منزل الجَدة.

شرح له بيلي مَن الحضور، فأومأ الرجل وبدأ يتحدَّث في صوتٍ منخفض مُرتجف بدا أنه يأتي من غرفةٍ تحت الأرض.

وترجم روي: «يقول إنه سعيد أنك أتيت.» وتابع: «إنه أخو جَدك. ويتمنَّى أن تكون بخير.»

قلتُ إنني سعيد برؤيته، فأومأ الرجل العجوز مرةً أخرى.

«يقول إن الكثير من الشباب قد ضاعوا في … بلاد الرجل الأبيض. ويقول إن ابنه في أمريكا ولم يَعُد إلى الوطن منذ سنواتٍ طويلة. ويقول إن هؤلاء الرجال مثل الأشباح. عندما يموتون لن يحزنَ عليهم أحد. ولن يُوجَد أجداد ليُرحِّبوا بهم. ولهذا … يقول إنه من الأفضل أنك عُدت.»

رفع الرجل العجوز يدَه فصافحتُه برفق. وعندما نهضنا لنُغادر قال الرجل العجوز شيئًا آخر، فأومأ روي برأسه قبل أن يغلق الباب خلفنا.

قال روي: «يقول لك إذا سمعتَ أخبارًا عن ابنه يجب أن تُخبره أن يعود إلى وطنه.»

ربما يكون هذا من تأثير الكحول القوي أو حقيقة أن الناس حولي كانوا يتحدَّثون بلغةٍ لم أكن أفهمها. ولكن عندما أحاول أن أتذكَّر باقي تلك الأمسية، يكون الأمر كما لو أني أسير في حلم. والقمر مُنخفِض في السماء، وصور روي والآخرين تندمج مع ظلال الذرة. ودخلنا منزلًا صغيرًا آخر ووجدْنا المزيدَ من الرجال، ربما ستة أو ١٠ رجال، فقد كان العدد يتغير باستمرارٍ بمرور الوقت. وفي منتصف منضدة خشبية خشنة ثلاث زجاجات إضافية، وبدأ الرجال يسكبون الكحول القوي في الأكواب بأسلوبٍ رسمي في البداية، ثم أسرع بإهمالٍ أكثر، وتنتقل الزجاجات الباهتة التي لا تحمل اسمًا من يدٍ ليد. وتوقَّفتُ عن احتساء الكحول بعد كوبَين لكن أحدًا لم يُلاحظ ذلك. الوجوه العجوز والشابة جميعها تتوهَّج مثل نبات القرع المضيء في ضوء المصباح المتغير وهم يضحكون ويصيحون، ويسقطون في أركانٍ مُظلمة، أو يُشيرون بعصبيةٍ من أجل الحصول على سجائر أو مشروب آخر، والغضب أو السعادة يصِلان إلى ذروتهما، ثم يختفيان بالسرعة نفسها، والكلمات بلغةِ لوو أو السواحيلية أو الإنجليزية تتطاير معًا في دوَّاماتٍ لا يمكن تمييزها، وأصوات تُداهِن من أجل الحصول على نقودٍ أو قمصان أو زجاجة الخمر، وأصوات تضحك وتبكي، والأيادي الممتدَّة، والأصوات الغاضبة المرتجفة لشبابي الفاتر، لهارلم والجزء الجنوبي؛ وأصوات أبي.

لستُ واثقًا كم من الوقت مكثنا. لكني أعلم أنه عند نقطةٍ مُعينةٍ جاء سيد وهز ذراعي.

وقال: «باري، إننا ذاهبون.» وتابع: «برنارد لا يشعر أنه بخير.»

فأخبرته أنني سأذهب معهما، لكن عندما نهضتُ انحنى آبو باتجاهي وأمسك بكتفيَّ.

وقال: «باري! إلى أين أنت ذاهب؟»

«لأنام يا آبو.»

«يجب أن تبقى معنا هنا! معي! ومع روي!»

نظرتُ لأجد روي نائمًا على الأريكة. وتقابلَتْ عينانا، فأومأتُ باتجاه الباب. وفي تلك اللحظة غرقَتِ الغرفة في الصمت، كما لو أني أشاهد مشهدًا في التليفزيون واختفى الصوت. ورأيتُ الأبيض الشعر يملأ كوب روي، ففكَّرتُ في جذب روي وإخراجه من الغرفة. لكن انزلقَتْ عينا روي مبتعدةً عن عيني، وضحك واجترع الشراب بالكامل بتهليلٍ وابتهاج، تهليل كنتُ لا أزال أسمعه حتى بعد أن غادرتُ أنا وسيد وبرنارد وبدأنا نشقُّ طريقنا إلى منزل سالينا.

قال برنارد بوهَنٍ ونحن نسير عبر الحقل: «هؤلاء الناس ثملون للغاية.»

أومأ سيد والتفت إليَّ. وقال: «أخشى أن روي يُشبِه كثيرًا أخي الأكبر. أتعرف كان أبوك محبوبًا للغاية في هذه المناطق. كما كان معروفًا في أليجو. وكان كلما عاد إلى الوطن اشترى للجميع الشراب وظلَّ بالخارج حتى وقتٍ متأخِّر. والناس هنا قدَّروا هذا. وكانوا يقولون له: «أنت رجل عظيم الشأن، لكنك لم تنسنا.» وأظن أن تلك الكلمات كانت تُسعِده. أتذكَّر ذات مرةٍ أنه اصطحبني معه إلى مدينة كيزيمو في سيارته المرسيدس. وفي الطريق شاهدنا ماتاتو يُقِلُّ ركَّابًا، فقال لي: «سيد، سنكون سائقي ماتاتو هذا المساء!» وفي محطة الماتاتو التالية التقط الركَّاب المتبقِّين، وأخبرني أن أجمع الأجرة المعتادة منهم. وأظنُّ أننا كدَّسنا ثمانية أشخاص في سيارته. وقد اصطحبهم ليس إلى كيزيمو فقط، بل إلى منازلهم أو أينما أرادوا الذهاب. وكلما خرج أحدُهم من السيارة أعاد إليه نقودَه كاملة. لم يفهم الناس لماذا فعل هذا، وأنا أيضًا لم أفهم في ذلك الوقت. وبعد أن انتهينا ذهبنا إلى الحانة، وأخبر جميع أصدقائه بما فعلناه. وقد ضحك كثيرًا تلك الليلة.»

توقَّف سيد وهو يختار كلماته بحرص.

ثم استأنف: «هذا ما كان يجعل أخي رجلًا جيدًا، مثل هذه الأشياء. لكني أظن أيضًا أنه بمجرد أن يُصبح المرء شيئًا لا يمكنه التظاهر أنه شيء آخر. كيف يمكنه أن يكون سائق ماتاتو أو يظل خارج المنزل طوال الليل يحتسي الخمر، وهو يضع الخطة الاقتصادية لكينيا؟ فالمرء يخدم شعبَهُ بالقيام بما يُناسبه هو، أليس كذلك؟ وليس بفعلِ ما يظن الآخرون أنه يجب أن يفعله. ولكن أظن أن أخي، مع أنه كان يفخر باستقلال شخصيته، كان يخشى بعض الأشياء. يخشى ما قد يقوله الناس عنه إذا ما غادر الحانة في وقتٍ مبكر. يخشى أنه ربما لم يَعُد ينتمي إلى أولئك الذين نشأ معهم.»

فقال برنارد: «لا أريد أن أكون بهذا الشكل.»

نظر سيد إلى ابن أخيه ببعض الندم. وقال: «أنا لم أقصد الحديث بهذه الحرية يا برنارد. لا بد أن تحترم مَن هم أكبر منك سنًّا. إنهم هم مَن مهَّدوا الطريق أمامك حتى تكون حياتك أسهل. لكن إذا ما رأيتهم يقعون في شَرَكٍ ما فما الذي يجب أن تتعلَّمه؟»

فقال برنارد: «أتجنَّب الوقوع في ذلك الشَّرَك.»

«إنك على حق. ابتعِد عن ذلك الطريق، واصنع طريقَك الخاص.»

وضع سيد ذراعَه حول كتفَي الشاب الصغير. وعندما اقتربنا من منزل سالينا نظرتُ خلفي. ولا أزال أرى الضوء الخافت لمنزل الرجل العجوز، وأشعر بعينَيه الكفيفتَين تخترقان الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤