الفصل الرابع

«إنني لن أذهب إلى حفلات بوناهو التافهة هذه مرةً أخرى يا رجل.»

«نعم، هذا ما قلته المرة السابقة.»

جلستُ أنا وراي إلى إحدى الموائد وفككنا لفافةَ شطائر الهامبورجر. كان راي يكبرني بعامَين، فكان في السنة الأخيرة وجاء إلى مدرستنا قادمًا من لوس أنجلوس العام السابق نتيجةً لنقل والدِه من عمله في الجيش. ومع أن هناك فارقًا في السنِّ بيننا فقد كان من السهل أن نُصبح أصدقاءَ وهو ما يرجع إلى حدٍّ بعيد إلى أننا نمثِّل معًا تقريبًا نصف عدد السود في مدرسة بوناهو الثانوية. وكنتُ أستمتِع برفقته؛ فقد كان يتمتَّع بدفءٍ وخفةِ ظل متهورةٍ تعوِّض عن إشارته الدائمة إلى حياته السابقة في لوس أنجلوس، وإلى حاشيته من النساء اللائي كن، كما يزعم، لا يزلنَ يتصلنَ به هاتفيًّا كلَّ ليلةٍ مع بُعد المسافة، وإلى إنجازاته السابقة في كرة القدم، وإلى المشاهير الذين عرفهم. وكنتُ أميل إلى ألا أُلقي بالًا لمعظمِ الأشياء التي يقولها، ولكن ليس جميعها؛ فقد كان صحيحًا على سبيل المثال أنه كان من أسرع العدَّائين في الجزيرة، وقال البعض عنه إنه كان في مستوَى عدائي الأولمبياد. هذا مع أن له كرشًا ضخمة لا تتناسب مع سرعة عدْوِه كانت تهتز أسفل قميصه المشبع بالعَرق كلما ركض، تاركًا وراءه المدربين والخصوم يهزون رءوسهم غير مُصدِّقين. وعن طريق راي اكتشفتُ حفلات السُّود التي كانت تُقام داخل الجامعة أو خارجها في القواعد العسكرية، واعتمدتُ عليه في تسهيل طريقي إلى الأماكن غير المألوفة لي. وفي المقابل كنت أستمع إليه وهو يشكو من إحباطه.

وكان يقول لي في تلك اللحظة: «أنا جادٌّ هذه المرة.» وتابع: «هؤلاء الفتيات عنصريات من الدرجة الأولى، جميعهن. الفتيات البِيض. والفتيات الآسيويات. اللعنة عليهن، أولئك الآسيويات أسوأ من البِيض. تظنُّ أننا مُصابون بمرضٍ أو شيء من هذا القبيل.»

«ربما ينظرنَ إلى مؤخرتِك الضخمة. يا رجل لقد ظننتُ أنك تتدرَّب.»

«أبعِد يدَيك عن بطاطسي المقلية. إنك لستَ حبيبي أيها الزنجي … اشترِ لنفسك منها، ما الذي كنتُ أتحدَّث عنه؟»

«إذا رفضت فتاة الخروج معك فهذا لا يجعلها عنصرية.»

«لا تكن غبيًّا، إنني لا أتحدَّث عن مرةٍ واحدة فقط. فقد طلبتُ من مونيكا الخروج معها، وقالت لا. فقلت لها حسنًا، إنك لستِ شديدة الإغراء على أية حال.» وتوقَّف راي كي يرى ردَّ فعلي، ثم ابتسم. واستأنف: «حسنًا، ربما لم أقُل لها هذا بالضبط. فقلتُ لها حسنًا يا مونيكا، لكننا لا نزال أصدقاء مقرَّبين. وبعد ذلك أعرف أنها ارتبطت بستيف ياماجوتشي «البدين»، ويسيران وهما مُتشابكا الأيدي كأنهما طائرا غرام. فأقول لنفسي حسنًا الفتيات كثيرات من حولنا. فأطلُب من باميلا الخروجَ إلى الحفل الراقص معي. فتقول لي إنها لن تذهب. فأقول لا بأس. وعندما أصل إلى هناك، خمِّن مَن كان هناك يلفُّ ذراعه حول ريك كوك. لقد كانت هي وتقول: «مرحبًا يا راي» كما لو أنها لا تعرف ما يحدث. وتتابع: «ريك كوك! الآن تعلم أن هذا الرجل ليس سيئًا. ذلك اللعين الحقير لا يزيد عني شيئًا، أليس كذلك؟ لا شيء.»

وملأ فمه بملء يدِه من البطاطس. وقال: «وبالمناسبة، هذا الأمر لا ينطبق عليَّ وحدي، فلا أرى أن حالك أفضل منِّي في هذا المجال.»

فقلتُ في نفسي إن السبب في هذا هو أنني خجول، ولكني لن أعترف بهذه المسألة له أبدًا. فراي سوف يستغل الفرصة.

«أخبِرني ماذا يحدث إذن عندما نخرج إلى حفل مع بعض الأخوات؟ ماذا يحدث؟ أنا سأخبرك ماذا يحدث. مفاجأة! إنهن يتوافدنَ علينا مُسرعاتٍ متلهفات. فتيات المدرسة الثانوية، وفتيات الجامعة، لا يهم. يتصرفنَ بلُطف. كلهن يبتسمن. وتجد الواحدة منهن تقول: «بالطبع يمكنك الحصول على رقم هاتفي يا حبيبي.» أراهن على ذلك.»

«حسنًا …»

«حسنًا ماذا؟ اسمعني، لماذا لا تحصل على وقتٍ أطول في اللعب في فريق كرة السلة؟ على الأقل اثنان منهم لا يتفوقان عليك في شيء، وأنت تعرف هذا، وهما يعرفان هذا. لقد رأيتك وأنت تتفوَّق عليهما في الأداء في الملعب، لا مجال للمنافسة بينكم. لماذا لم أبدأ أنا في فريق كرة القدم هذا الموسم، بصرف النظر عن العدد الكبير من التمريرات التي تسقط من يد الشاب الآخر؟ لا تُخبرني أننا لم نكن لنحظى بمعاملةٍ مختلفة لو كنا من البِيض. أو يابانيين. أو من هاواي. أو حتى من الإسكيمو اللعين.»

«ليس هذا ما أعنيه.»

«ما الذي تعنيه إذن؟»

«حسنًا، إليك ما أعنيه. صحيح أنه من الصعب مواعدة الفتيات لأنه لا تُوجَد فتيات سوداوات في هذا المكان. لكن هذا لا يجعل جميع الفتيات هنا عنصريات. ربما يردنَ شخصًا يُشبه آباءهن أو إخوتهن أو أيَّ شخصٍ آخر ونحن لسنا كذلك. وصحيح، قد لا أكون أحصل على الفرَص التي يحصل عليها الآخرون في الفريق، ولكنهم يلعبون مثلما يلعب الفتية البِيض وهذا هو الأسلوب الذي يحب المدرِّب اللعب به، ويفوزون بهذا الأسلوب الذي يلعبون به، وأنا لا ألعب بهذا الأسلوب.»

ثم أضفتُ وأنا أمدُّ يدي لألتقِط آخِر ما تبقَّى من البطاطس التي يتناولها: «أما أنت أيها البدين فأظنُّ أن المدربين قد لا يُحبونك لأنك أسود يظنُّ نفسه أذكى ممن حوله، لكن قد يُساعدك التوقُّف عن تناول هذه المقليَّات التي تجعلك تشبه امرأةً حاملًا في ستة أشهر. وهذا ما أعنيه.»

قال راي: «لا أدري يا رجل لِمَ تجد لهؤلاء القوم أعذارًا؟!» ونهض وكوَّم ما أمامه من مهملاتٍ محولًا إيَّاها إلى كرة صغيرة.» وتابع: «دعنا نخرج من هنا. فحديثك أصبح معقَّدًا للغاية.»

•••

كان راي على حق، الأمور أصبحت معقَّدة. كان قد مرَّ خمس سنوات على زيارة أبي، وكانت فترةً هادئة، في الظاهر على الأقل، تُميزها الطقوس والشعائر التي تتوقَّعها أمريكا من أبنائها؛ تقارير تُرسَل لعائلتي تخبرهم عن مستواي المتدني، واستدعاءات إلى مكتب الناظر، وعمل لنصف دوام في سلسلةِ مطاعم للهامبورجر، والإصابة بحبِّ الشباب، واختبارات قيادة السيارات، والرغبات الجامحة. وأصبح لي عددٌ لا بأس به من الأصدقاء في المدرسة، وخرجتُ في مواعداتٍ غريبةٍ من حين لآخر؛ وإذا كانت الحيرة قد انتابتني في بعض الأحيان تجاه إعادة الترتيب الغامضة للمكانة التي تحدث بين رفاقي في الفصل — فبعضهم ترتفع مكانته وتتراجع مكانة الآخر اعتمادًا على نزوات أجسادهم أو طراز سياراتهم — فإني شعرت بالارتياح لأن وضعي كان يتحسَّن بانتظام. ونادرًا ما كنتُ أقابل فتيةً لدى أُسَرهم أقلُّ مما لدى أسرتي حتى يُذكِّروني بأني سعيد الحظ.

ولكن والدتي كانت تبذل قصارى جهدها لتُذكِّرني بهذا. فقد انفصلت عن لولو وعادت إلى هاواي بعد وقتٍ قصير من وصولي سعيًا وراء الحصول على درجة الماجستير في علم الإنسان. ولثلاثة أعوامٍ عشتُ معها ومع مايا في شقةٍ صغيرة على بُعد مجمع سكني واحد من بوناهو، وعشنا نحن الثلاثة على المنحة الدراسية التي تتلقَّاها والدتي. وفي بعض الأحيان، عندما كنتُ أُحضِر أصدقاء معي بعد انتهاء اليوم الدراسي، كانت أمي تسمعهم وهم يُعلِّقون على نقص الطعام في الثلاجة أو الإدارة غير المتميزة لشئون المنزل، فكانت تنتحي بي جانبًا وتُخبرني أنها أم وحيدة عادت لصفوف الدراسة وترعى طفلَين، ومن ثَم فإن صُنْع البسكويت ليس على رأس قائمة أولوياتها، وفي حين أنها كانت تُقدِّر التعليم المتميز الذي أتلقَّاه في بوناهو فإنها لم تكن تُخطِّط لتحمُّل أي سلوكٍ متعالٍ مني أو من أي شخصٍ آخر، فهل هذا مفهوم؟

وكان ذلك مفهومًا لي، ورغم مطالبي المتكررة للاستقلال التي كنتُ أطلبها في بعض الأحيان بوجهٍ عابس مُتجهِّم فقد ظللنا مقرَّبين، وكنت أفعل ما بوسعي لمساعدتها قدرَ ما يمكنني؛ فأذهب للتسوُّق، وأغسل الملابس، وأعتني بأُختي التي أصبحت طفلةً ذكية سوداء العينَين. لكن عندما أصبحت والدتي مُستعدةً للعودة إلى إندونيسيا للقيام بعملها الميداني، واقترحَتْ أن أعود معها هي ومايا وألتحق بالمدرسة الدولية هناك، رفضتُ على الفور. فقد كانت تُساورني الشكوك في ذلك الوقت حيالَ ما يمكن لإندونيسيا أن تُقدِّمه لي، إلى جانب أني سئمتُ البدء من جديد مرةً أخرى. والأهم من هذا هو أنني توصَّلتُ إلى معاهدةٍ غير معلنة مع جَديَّ فحواها أنه يمكنني الذهاب للعيش معهما وهما سيتركانني وشأني ما دمتُ أُبقي مشكلاتي بعيدًا عنهما. وكان ذلك الاتفاق يُناسِب هدفي، وهو الهدف الذي كنتُ أحدِّده لنفسي بشقِّ الأنفس، ناهيك عن توضيحه لهما. وبعيدًا عن والدتي وجَديَّ كنتُ أمرُّ بصراعٍ داخلي لا يهدأ. فكنتُ أحاول أن أُعِدَّ نفسي لأكون رجلًا أسود في أمريكا، وفيما عدا مظهري، لم يبدُ أن أحدًا ممن حولي يعرف بالضبط ماذا يعني هذا.

ولم تقدِّم لي خطابات أبي سوى بعض الخيوط التي يمكنني تتبُّعُها. وكانت تصِل على فتراتٍ متقطعة في صفحةٍ زرقاء واحدة ويكون لسان ظرف الرسالة مطويًّا بمادة لاصقة تجعل أيَّ كتابات على الهوامش غير واضحة. كان يقول في خطاباته إن الجميع بخير، ويمتدح تقدُّمي في دراستي، ويؤكد أنه يرحِّب بي وبوالدتي وبمايا أن نحصل على المكان الجدير بنا إلى جواره وقتما نريد ذلك. ومن آنٍ لآخر كان يُسدي لي بعض النصائح عادةً في شكل حكمةٍ لم أكن أفهمها بوضوح (مثل «مثلما يصل الماء إلى منسوبه فإنك ستصل إلى المهنة التي تُناسبك.») وكنت أردُّ على خطاباته على الفور في صفحةٍ عريضة مسطرة، وتشقُّ خطاباته طريقها إلى الخزانة بجانب الصور التي تحتفظ بها أُمي له.

وكان لدى جَدي عددٌ من الأصدقاء السود هم في الأغلب زملاء له في لعبتَي البوكر والبريدج، وقبل أن أكبر بما يكفي لئلا أهتمَّ بأن أجرح مشاعره كنتُ أتركه يجرُّني معه إلى واحدةٍ من ألعابهم. كانوا رجالًا مُتقدِّمين في السن يرتدون ملابسَ أنيقةً وأصواتهم جشة وملابسهم ينبعث منها رائحة السيجار؛ أي نوع الرجال الذين في نظرهم كل شيءٍ له مكانه المحدَّد، والذين يظنون أنهم رأوا ما يكفي حتى إنه لا يجب إضاعة الكثير من وقتهم بالحديث عنه. وكلما رأوني ربَّتوا على ظهري بمرحٍ وسألوني عن حال أمي، ولكن ما إن يحين وقت اللعب لا يتفوَّهون بشيءٍ سوى الشكوى لشركائهم في اللعب من النقاط التي توقَّعوا أن يحصلوا عليها.

كان هناك استثناء، وهو شاعر اسمه فرانك، يعيش في منزلٍ خربٍ في جزءٍ من وايكيكي حالته متدهورة. وقد طاردته سمعةٌ سيئة لبعض الوقت، وكان معاصرًا لريتشارد رايت ولانجستون هيوز في السنوات التي قضاها في شيكاغو، وقد أراني جَدي ذات مرة بعضًا من أعماله اختُيرت لتُنشَر في ديوانٍ من دواوين حركة الشِّعر الأسود. ولكن في الوقت الذي قابلتُ فيه فرانك كان يناهز الثمانين من عمره وله وجه ضخم به لُغد، وشعر أفريقي طويل مجعَّد رمادي اللون وغير ممشَّط مما جعله يُشبه أسدًا عجوزًا أشعث الشعر. وكلما مررنا بمنزله قرأ لنا قصائده واحتسى مع جَدي الويسكي الموضوع في برطمان مُفرغ لهذا الغرض. وبعد انقضاء الليل يستجدي كلاهما مساعدتي في تأليف قصائد فكاهية خماسية الأبيات لا قيمةَ أدبية لها. وفي النهاية يتحوَّل الحوار إلى الانتحاب على النساء.

وكان فرانك يقول لي بجدية: «إنهن سيقُدنَك إلى احتساء الخمر يا فتى.» ويتابع: «وإذا سمحتَ لهنَّ بذلك فسيُهلِكنك.»

أسَرَتني شخصية فرانك العجوز، بكتُبه ورائحة الويسكي التي تنبعث من أنفاسه، والإشارة إلى المعرفة التي اكتسبها بشقِّ الأنفس التي أراها خلف عينَيه الغليظتَي الجفنَين وتبدو شبه مغمضة. ودائمًا ما كانت الزيارات إلى منزله تتركني أشعر بعدم الارتياح بصورةٍ غامضة، وكأني كنتُ أشهد صفقةً تجارية غير معلنة ومعقَّدة بين الرجُلَين، صفقة لم أستطِع فهْمها بالكامل. وكلما اصطحبني جَدي إلى وسط المدينة إلى إحدى حاناته المفضَّلة الموجودة في حي الدعارة في مدينة هونولولو انتابني الشعور نفسه.

وكان يقول لي وهو يغمز بعينِه: «لا تخبِر جَدتك»، وكنا نمرُّ أمام فتيات ليل ناعمات الجسد جامدات الملامح قبل الوصول إلى حانةٍ صغيرة مُظلمة بها جهاز فونوغراف آلي يعمل بالعملة وطاولتان للعب البلياردو. ولم يبدُ أن أحدًا اهتمَّ بأن جَدي هو الرجل الأبيض الوحيد في المكان، أو أنني لم أكن إلا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمري. وكان بعض الرجال يتكئون على بار الحانة ويلوِّحون ناحيتنا، وأحضرَت ساقية الحانة — وهي سيدة ضخمة فاتحة البشرة لها ذراعان ممتلئتان عاريتان — شراب الويسكي من نوع سكوتش لجَدي وأحضرت كوكاكولا لي. وعندما تكون الطاولة خالية يُعطيني جَدي بعض الكرات ويعلِّمني اللعبة، لكني عادة كنت أجلس إلى البار وساقاي تتدليان من على الكرسي العالي، وأنفخ الفقاقيع في شرابي وأنظر إلى الرسوم الإباحية المعلَّقة على الحوائط؛ رأيت نساء برَّاقات وهنَّ يرتدين جلود الحيوانات، وشخصيات ديزني في أوضاعٍ فاضحة. وعندما يكون رودني — وهو رجلٌ يرتدي قبعة عريضة الحواف — موجودًا هناك يتوقف إلى جانبي ليرحِّب بي:

«كيف يسير حال الدراسة أيها القائد؟»

«بخير.»

«إنك تحصل على امتياز، أليس كذلك؟»

«في بعض المواد.»

وكان يقول وهو يُخرِج ٢٠ دولارًا من بين كومةٍ سميكة من النقود أخرجها من جيبه: «هذا أمرٌ رائع، يا سالي، قدِّمي لهذا الرجل كوبًا آخر من الكوكاكولا» ثم يختفي في الظلام.

لا أزال أذكُر الإثارةَ التي كنتُ أشعر بها في أثناء تلك الرحلات الليلية، وجاذبية الظلام وصوت كرة البلياردو، وجهاز الفونوغراف الآلي وهو يُطلق أضواءه الحمراء والخضراء، والضحكات المنهكة التي كانت تتردَّد في أنحاء الحانة. وحتى في ذلك الوقت، ومع صِغَر سِني فقد بدأتُ أشعر بالفعل أن معظم الناس في الحانة لم يكونوا هناك باختيارهم، وأن ما كان جَدي يسعى إليه هناك هو رفقة أناسٍ بإمكانهم مساعدته على نسيان مشكلاته الخاصة، أناس كان يعتقد أنهم لن يشكلوا آراء عنه. وربما تكون الحانة قد ساعدته بالفعل على النسيان، لكني عرفت بغريزة الطفل التي لا تخطئ أنه كان مخطئًا بشأن آراء الآخرين عنه. فقد كانوا هم أيضًا يشعرون أننا مُجبرون على الوجود هناك، وعندما وصلتُ إلى المرحلة الإعدادية تعلمتُ أن أعتذِر عن دعوات جَدي وأنا أعلم أنه مهما كان ما أسعى إليه، ومهما كان ما أحتاج إليه، فإنه يجب أن يأتي من مصدر آخر.

التليفزيون والسينما والراديو: كانت هذه هي الأماكن التي بدأتُ منها. وكانت ثقافة البوب حصرية على الملوَّنين كأنها معرضٌ من الصور التي يمكنك منها اختلاس أسلوب في السير أو الحديث أو خطوة في رقصةٍ أو في أسلوب ارتداء الملابس. ولم يكن بإمكاني الغناء مثل مارفين جاي، لكني استطعتُ تعلُّم جميع الخطوات الراقصة ببرنامج «سول ترين». ولم يكن بإمكاني أن أحمل سلاحًا مثلما شاهدتُ في فيلمَي «شافت» أو «سوبرفلاي»، لكن كان بإمكاني بالطبع إطلاقُ السباب مثل ريتشارد براير.

وكنت أستطيع لعبَ كرة السلة بعاطفةٍ شديدة تتخطى دائمًا مهارتي المحدودة. وقد جاءت هدية أبي للكريسماس عندما بدأ فريق كرة السلة في جامعة هاواي يتقدَّم في الترتيب القومي بفضل فريقٍ جميع لاعبيه الخمسة من السود الذين أحضرتهم المدرسة من مختلف الولايات الأمريكية والذين تبدأ بهم المباراة. وفي ذلك الربيع اصطحبني جَدي إلى إحدى مبارياتهم وشاهدتُ اللاعبين وهم في تمرينات الإحماء، وكانوا لا يزالون فتيانًا لكنهم بدوا لي مقاتلين جسورين واثِقين بأنفسهم، يضحكون على دعابات يُلقونها فيما بينهم، أو ينظرون فوق رءوس المعجبات اللائي يتودَّدنَ إليهم حتى يغمزوا بعيونهم للفتيات الموجودات على الخط الجانبي، أو يتناقلون الكرة من حينٍ لآخر بيد واحدة وهم بجوار السلة، أو يصوِّبون كرات قوسية تجاه السلة وهم يقفزون عاليًا حتى تنطلق الصفَّارة، وكذلك قفزة لاعبي الوسط واشتراك جميع اللاعبين في معركة ضارية.

قررتُ أن أصبح جزءًا من هذا العالم، وبدأتُ أتردَّد على ملعبٍ بالقرب من شقة جَديَّ بعد المدرسة. وكانت جَدتي تُشاهدني من نافذة غرفة نومها على ارتفاع ١٠ طوابق في الملعب حتى بعد أن يُسدِل الليل ستائره بوقتٍ طويل عندما كنتُ أقذف الكرة بكلتا يديَّ في البداية، ثم تطورتُ إلى التسجيل وأنا أقفز بطريقةٍ غريبة، والمناورة بالكرة بسرعةٍ بين كلتا يدي، وأستغرق في الحركات الفردية نفسها ساعةً بعد ساعة. وعندما التحقتُ بالمدرسة الثانوية لعبت في فريق بوناهو، واستطعتُ أن ألعب في الجامعة حيث علَّمني بعض الرجال السود — معظمهم ممن يقضون أغلب أوقاتهم في صالة الألعاب الرياضية أو ممن كانوا يومًا من ذوي الشأن — أشياء لم تكن تتعلَّق بالرياضة فقط. علموني أن الاحترام ينبع مما يفعله المرء وليس من هوية أبيه. وأنه يمكن للمرء الحديث عن أمورٍ لإثارة حنق خصمه لكن عليه أن يُغلق فمه اللعين إذا لم يكن بإمكانه دعم ما يقول. وألا يدَع أحدًا يتسلَّل إلى أعماقه ليرى مشاعر، مثل الألم والخوف، لم يشأ أن يراها أحد.

وهناك شيء آخر أيضًا، شيء لم يتحدَّث عنه أحد؛ طريقة للتماسك عندما تكون المباراة حرجة، والعَرق الغزير يغمر اللاعبين، عندما يتوقَّف أفضل اللاعبين عن القلق بشأن تسجيل النقاط، وتجرف المباراة أسوأ اللاعبين، ويُصبح ما يهمُّ هو النقاط فقط لأن هذه هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على نشوة المباراة. وفي غمرة كلِّ هذا قد يقوم اللاعب بحركةٍ أو يمرِّر تمريرة تُفاجئه هو شخصيًّا، حتى إن اللاعب الذي يتولى مراقبته لا يملك إلا أن يبتسِم كما لو أنه يقول: «اللعنة …»

وعند هذه النقطة من القصة تدير زوجتي عينَيها. فقد نشأت مع أخٍ نجم في لعبة كرة السلة، وعندما تريد أن تُثير ضيقَ أيٍّ منَّا تصرُّ على أنها تفضِّل أن ترى ابنها يعزِف على آلة التشيلو. إنها على حقٍّ بالطبع؛ فقد كنتُ أعيش بداخل صورةٍ مشوَّهة ومغالًى فيها لمراهَقةِ شابٍّ أسود، وهي في حدِّ ذاتها صورة مشوَّهة ومغالًى فيها لمرحلة الرجولة الأمريكية المختالة. لكن عندما يكون من المفترض ألا يريد الأبناء اتباع خُطى آبائهم المنهكة، عندما لا يكون من المفترض أن تملي مُتطلبات العمل في الحقل أو المصنع على المرء هويته حتى إن الكيفية التي ينبغي أن يعيش بها المرء تُباع جاهزةً أو تُوجَد في مجلة، يكون الاختلافُ الرئيسي بيني وبين معظم الشبابِ من حولي — راكبي الأمواج ولاعبي كرة القدم ومَن سيصبحون عازفي موسيقى الروك آند رول على الجيتار — يكمن في العدد المحدود من الخيارات المتاحة أمامي. فكلٌّ منا اختار رداءً؛ درعًا ضد الشك. وعلى الأقل في ملعب كرة السلة كان بإمكاني إيجادُ مجتمعٍ من نوعٍ ما له حياته الخاصة. هناك كوَّنت أقربَ صداقاتٍ لي من الشباب البِيض، في مجالٍ لم يكن سواد البشرة عيبًا. وهناك قابلتُ راي وأترابي من الفتية السود الآخرين الذين بدءوا يتوافدون على الجزيرة رويدًا رويدًا، والذين كانوا مراهقين ساعدَتْ حيرتهم وغضبهم في تكوين حيرتي وغضبي.

وكان بعضهم يقول ونحن وحدنا: «هكذا بالضبط سيُعاملك البِيض.» ويضحك الجميع ويهزون رءوسهم، وينطلق عقلي يُبحر في سجلٍ من المواقف المهينة: أول صبي في الصف السابع، الذي أطلق عليَّ عبد أسود، ثم دموع المفاجأة التي انهمرت من عينَيه وهو يسألني: «لماذا فعلت هذا؟» عندما أدميتُ أنفه. وذاك الذي كان يتدرَّب معي في دورة التنس الذي قال لي إنه يجب ألا ألمس جدول المباريات الملصَق بدبُّوس إلى لوحة النشرات لأن لوني قد يزول، وابتسامة وجهه الأحمر رفيعِ الشفتَين عندما هدَّدتُ بأن أُبلغ عنه وهو يقول: «ألا يمكنك تقبُّل الدعابات؟» وتلك السيدة العجوز — التي تقطن في مبنَى جَدي نفسِه — التي ثارت عندما دخلتُ المصعد وراءها وهُرعت خارجةً منه لتخبر المدير أنني أُلاحقها، ورفضها أن تعتذِر بعد أن علمَتْ أنني أعيشُ في المبنى نفسه. ومساعد مدرِّب فريق كرة السلة، وهو شاب نحيل من نيويورك يرتدي سترةً أنيقة، قال بعد مباراةٍ لم يُخطَّط لها مع بعض الرجال السود الثرثارين على مقربةٍ منِّي أنا وثلاثة من رفاقي في الفريق إنه ما كان يجب أن نخسر أمام حفنةٍ من الزنوج، والذي شرح لي بهدوء الحقيقة التي تبدو واضحةً وهي «هناك أُناس سود وهناك زنوج. وهؤلاء الأشخاص زنوج»، كان ذلك عندما قلتُ له بغضبٍ، فاجأني أنا شخصيًّا، اخْرَسْ.

هكذا بالضبط سيُعاملك البِيض. المشكلة لم تكن تتعلَّق بقسوة الأمر فقط؛ فقد علمتُ أيضًا أن الرجال السود قد يكونون وضيعِين، بل أكثر من ذلك. لقد كان نوعًا خاصًّا من الغرور؛ بلادة عقل يتمتَّع بها أناسٌ يكونون فيما عدا ذلك عقلاء وتدفعنا إلى الضحك بمرارة. لقد كان الأمر كما لو أن البِيض لم يكونوا يعرفون أنهم قُساة في المقام الأول. أو على الأقل يرَون أننا نستحقُّ ازدراءهم.

«البِيض». كان المصطلح نفسُه غيرَ مريح على لساني في البداية، فكنتُ أشعر أنني أجنبي أتلعثم في نطق عبارةٍ صعبة. وفي بعض الأحيان أجد نفسي أتحدَّث إلى راي عن «هؤلاء البِيض» و«أولئك البِيض»، ثم أتذكَّر فجأة ابتسامة أُمي فتبدو لي الكلمات التي أتفوَّه بها غريبة وزائفة. أو أكون أساعد جَدي في تجفيف الأطباق بعد العشاء وتأتي جَدتي وتقول إنها ستأوي إلى الفراش، وتبرق كلمة «البِيض» في ذهني مثل إشارة لامعة مضيئة، فأهدأ فجأة كما لو أن لديَّ أسرارًا أحتفظ بها.

وبعد ذلك، عندما أكون وحدي أحاول أن أحلِّل هذه الأفكار الصعبة. وكان واضحًا أن هناك بعض الأشخاص البِيض الذين يمكن أن نستثنِيَهم من الفئة العامة التي لا نثِق بها، وكان راي دائمًا ما يتحدَّث عن لطفِ جَديَّ. ورأيتُ أن مصطلح أبيضَ أصبح عنده اختصارًا، علامة مميزة لمن يمكن أن تطلِق عليه أُمي شخصًا متعصبًا. ومع أني أدركتُ خطورة المصطلحات التي يستخدمها، وكم من السهل أن يهوي المرء إلى هوة هذا التفكير المختلِّ الذي ظهر على مُدرب كرة السلة (الذي قلتُ له قبل أن أخرج من الملعب في ذلك اليوم: «هناك أشخاص بِيض، وهناك جهلة حقراء مثلك»)، وقد أكد لي راي أننا لن نتحدَّث قطُّ عن البِيض على أنهم بِيض أمام البِيض دون أن نعرف بالضبط ماذا نفعل. ودون أن نعرف أنه قد يكون هناك ثَمن ندفعه.

ولكن هل هذا صحيح؟ هل كان لا يزال هناك ثَمن لندفعه؟ هذا هو الجزء المعقَّد، الشيء الذي لم أستطِع أنا وراي أن نتَّفِق عليه قط. وفي بعض الأحيان كنتُ أسمع راي وهو يتحدَّث إلى فتاةٍ شقراء قابلَها لتوِّه عن الحياة في شوارع لوس أنجلوس الفقيرة، أو أسمعه يشرح — لمدرسٍ شابٍّ مُتحمس — الندبات التي تركتها العنصرية، وأكاد أُقسِم أنه وراء تلك التعبيرات الجادة كان راي يغمز لي بعينه ليجعلني أشترك في الحوار. وكان وكأنه يقول لي إن غضبنا على البِيض لا يحتاج إلى سبب، ولا إلى تأكيد مُستقل، إنه شعور يمكن أن نجعله يظهر ويختفي وقتما نشاء. وفي بعض الأحيان — بعد أحد هذه العروض التمثيلية — كانت الشكوك تُساورني حول حُكمه، إن لم يكن إخلاصه. وكنتُ أُذكِّره أننا لا نعيش في الجنوب في ظل قوانين جيم كرو، ولم يُلقَ بنا في مشروع إسكانٍ ليس به وسائل تدفئة في هارلم أو برونكس. إننا في هاواي اللعينة، نقول ما نشاء ونأكل حيثما نشاء ونجلس في مقدمة الحافلة التي يستقلها الجميع. ولا يُعاملنا أيٌّ من أصدقائنا البِيض، أمثال جيف وسكوت في فريق كرة السلة، بطريقةٍ مختلفة عن تلك التي يتعاملون بها بعضهم مع بعض. إنهم يُحبوننا ونحن نُحبهم. بل نِصْفهم تقريبًا يبدو وكأنه يودُّ لو أنه أسود اللون، أو على الأقل مثل الدكتور جيه.

وكان راي يعترف بصحَّةِ هذا.

ومِن ثَم فربما يمكننا أن نمنح موقف الزنجي السيئ هذا بعض الراحة. وندَّخِره حتى نحتاج إليه حقًّا.

فكان راي يهزُّ رأسه. ويقول: «موقف؟ تحدَّث عن نفسك فقط.»

وكنتُ أعرف أن راي سيُشهِر ورقته الرابحة، تلك الورقة التي يُحسَب له أنه نادرًا ما يستخدمها. ورقة أنني، رغم كل شيء، مختلف وربما أكون مُشتبَهًا بي، ليست لدي فكرة عن هويتي الحقيقية. ولأني لم يكن لديَّ استعداد للمخاطرة بكشف نفسي، كنتُ أنسحب بسرعةٍ وأتحدَّث عن موضوعٍ أكثر أمانًا لي.

فربما لو كنا نعيش في نيويورك أو لوس أنجلوس، لاستطعتُ استيعاب قواعد اللعبة الخطيرة التي نلعبها سريعًا. وتعلمتُ أن أنتقل جَيئةً وذهابًا بين العالمين الأبيض والأسود اللذين كنتُ أعيش فيهما، وتفهمتُ أن كلًّا منهما له لُغته وعاداته والمعاني الخاصة به، وكنت مقتنعًا أنه ببعض المجهود في الترجمة بين العالمين من جانبي يمكن في النهاية أن يلتحِما. ومع ذلك فقد استمرَّ الشعورُ بأنَّ هناك شيئًا يُراودني ليس على ما يُرام، جهازَ إنذار ينطلِق كلما ذكَرَتْ فتاةٌ بيضاء أثناء حديثها مدى حُبها لستيفي واندر، أو عندما سألتني سيدةٌ في المتجر هل ألعب كرة سلة، أو عندما أخبرني ناظر المدرسة أنني لطيف. لقد كنتُ أحب ستيفي واندر، وكنتُ أحب كرة السلة، وبذلتُ قصارى جهدي كي أكون لطيفًا طوال الوقت؛ فلماذا إذن كانت مثل هذه التعليقات تُثير قلقي؟ كنتُ أشعر أن هناك خدعةً ما، مع أني كنتُ لا أفهم ما تلك الخدعة، ومَن الذي يقوم بها، ومَن الذي يُخدع بها.

وفي أحد أول أيام الربيع تقابلتُ أنا وراي بعد المدرسة وبدأنا نسير في اتجاه المقعد الحجري الذي يحيط بشجرة تين البنغال الضخمة في حرَم مدرسة بوناهو. وكان يُطلَق عليه «مقعد الكبار»، لكنه كان في الواقع نقطةَ تجمُّع جماعات الطلبة في المدرسة الثانوية؛ هواة الرياضة، وكبار المشجِّعين، وهواة الذهاب إلى الحفلات ومعهم التابعون لهم والمولعون بالمزاح، والمرافقات اللائي يتدافَعْن للحصول على مكانٍ على الدَّرجَات الدائرية. وكان أحد الطلاب في السنة النهائية، وهو مدافع عنيد اسمه كيرت، هناك وبمجرد أن رآنا صاح بصوتٍ عالٍ.

نادى قائلًا: «مرحبًا راي! ما الأخبار يا رجل؟»

فاتَّجه إليه راي وضرب يده براحته الممتدَّة. لكن عندما أعاد كيرت التحية لي لوَّحت له أن يتركني وشأني.

وسمعتُه يقول لراي عندما سرتُ مبتعدًا: «ماذا به؟» وبعد بضع دقائق لحِق بي راي وسألني ما الأمر.

«هؤلاء الناس لا يفعلون شيئًا سوى السخرية منَّا.»

«ما الذي تتحدَّث عنه؟»

«كل ذلك الهراء الذي يتحدَّثون به.»

«مَن الآن الذي أصبح السيد الحسَّاس إذن؟ كيرت لا يعني شيئًا بهذا.»

«إذا كان هذا ما ترى، إذن …»

وفجأةً انفجر راي غضبًا. وقال: «انظر، إنني أُحاول أن أتعايَش فقط، أليس كذلك؟ مثلما رأيتُك تتعايش وتتحدَّث عن الرياضة التي تمارسها مع المدرِّسين عندما تحتاج إلى خدمةٍ يُقدِّمها لك أحدهم. كل تلك الأمور مثل «حسنًا يا آنسة سنوتي اللعينة، أظن أن القصة مثيرة للاهتمام، فقط إذا أمكن أن أحصل على يومٍ واحد إضافي لأنتهي من ذلك البحث، فسأُقبِّل يدك البيضاء اللعينة.» إنه عالمهم، أليس كذلك؟ إنهم يملكونه ونحن نعيش فيه. والآن اغرب عن وجهي بحق الجحيم.»

وبحلول اليوم التالي كانت حرارة نقاشنا قد تبدَّدت، واقترح راي أن أدعو صديقينا جيف وسكوت إلى حفلٍ يُقيمه راي في منزله في العطلة الأسبوعية. تردَّدتُ لوهلة؛ إذ لم ندعُ أصدقاءَ بِيضًا إلى حفلٍ للسُّود قط، لكن راي أصرَّ، ولم أجد سببًا مُقنعًا للاعتراض. وكذلك جيف وسكوت؛ فقد وافق كلاهما على حضور الحفل ما دمتُ أوافق أن أُقلَّهما. وهكذا، بعد أن أنهينا إحدى مبارياتنا في مساء يوم السبت، ركِبْنا نحن الثلاثة سيارة جَدي القديمة من طراز فورد جراندا وشققنا طريقنا إلى القاعدة العسكرية سكوفيلد باراكس على بُعد ٣٠ ميلًا تقريبًا خارج المدينة.

عندما وصلْنا كان الحفل قد بدأ، فتوجَّهنا لنحصل على بعض المرطبات. لم يبدُ أن حضور جيف وسكوت يُسبِّب أيَّ اضطراب، وقد قدَّمهما راي لمن في الغرفة وبدءوا يتحدَّثون قليلًا مع بعض الأشخاص، واصطحبا فتاتَين للرقص معهما. لكني رأيتُ بوضوح أن المشهد قد أذهل صديقيَّ الأبيضَين. فكانا يبتسمان كثيرًا. وينتحِيان جانبًا في أحد الأركان، وكانا يومِئان برأسيهما من حينٍ لآخر بخجلٍ وعدم ارتياح لضربات الموسيقى، ويقولان: «معذرة» كلَّ بضع دقائق. وبعد ساعة تقريبًا طلبا أن أصطحبهما إلى المنزل.

وعندما ذهبتُ إلى راي لأُخبره أننا سنغادر، قال بصوتٍ عالٍ محاولًا التغلُّب على صوت الموسيقى: «ما الأمر؟» وتابع: «لقد بدأ الحفل لتوِّه يصِل إلى أوْجِه.»

«أظن أنهما لا يتأقلمان.»

والتقت عينانا، ووقفنا هناك برهةً طويلةً من الوقت، والضوضاء والضحكات تدوِّي من حولنا. ولم يبدُ في عينَي راي أيُّ أثرٍ للرضا أو أية إشارة لخيبة الأمل؛ مجرَّد نظرة ثابتة من عينٍ لا تطرِف مثل عينِ ثعبان. وفي النهاية مدَّ لي يدَه فأمسكتُ بها، وعينانا لا تزالان ثابتتَين ثم قال: «نلتقي لاحقًا إذن»، وسحَب يده من يدي ورأيتُه وهو يبتعِد في الزحام ويسأل عن الفتاة التي كان يتحدَّث إليها قبل بضع دقائق.

وفي الخارج كان الهواء لطيفًا، والشارع خاويًا تمامًا، فيما عدا الارتجاف الخفيف الذي يُسبِّبه مذياع راي، والأضواء الزرقاء التي تُنير بصورةٍ متقطعة في نوافذ المنازل ذات الطابق الواحد التي تمتدُّ عبر الشارع الجانبي النظيف، وظلال الأشجار تمتد عبر ملعبٍ لكرة البيسبول. وفي السيارة وضع جيف ذراعه على كتفي، وبدا فجأة يشعر بالأسف البالِغ والارتياح في آنٍ واحد. وقال: «أتعرف لقد علَّمني هذا الحفل شيئًا. أقصد، أصبحتُ أعرف مدى صعوبة الأمر عليك وعلى راي في بعض الأحيان في حفلات المدرسة … إنكم أنتم فقط السود.»

فأجبت: «آه، نعم.» وأراد جزءٌ منِّي أن يَلكمَه. وبدأنا نقطع الطريق تجاه المدينة، وفي هذه الفترة من الصمت بدأ عقلي يُعيد عرْض كلمات راي في ذلك اليوم مع كيرت، وكل المناقشات التي دارت بيننا قبل ذلك، وأحداث تلك الليلة. وفي الوقت الذي أوصلتُ فيه صديقيَّ بدأتُ أرى خريطةً جديدة للعالم، خريطةً مُخيفة في بساطتها، وخانقة في المعاني التي تتضمَّنها. لقد كنا دائمًا نلعب في ملعب الرجل الأبيض، ووفقًا لقواعده، هذا ما قاله راي. وإذا أراد الناظر أو المدرِّب أو المدرِّس أو كيرت أن يبصُق على وجهك يمكنه هذا لأنه يتمتَّع بسلطةٍ ليست لدَيك. وإذا قرَّر ألا يفعل شيئًا من ذلك؛ أي إذا عاملك على أنك إنسان أو دافع عنك، فهذا لأنه يعرف أن الكلمات التي تتفوَّه بها، والملابس التي ترتديها، والكتب التي تقرؤها، وطموحك ورغباتك هي في الأساس مِلك له. ومهما كان ما يُقرِّر أن يفعله فهذا قراره وليس قرارك، وبسبب هذه السلطة الجوهرية التي يمتلكها عليك، ولأنها وُلِدت قبل دوافعه الشخصية ونزعاته وستستمرُّ بعدَها، فإن أيَّ تمييز بين الإنسان الأبيض الطيب والشرير ليس له معنًى كبير. وفي الحقيقة لا يمكنك أن تثِق أن كلَّ شيءٍ افترضتَ أنه تعبير عن نفسك الحرة كإنسانٍ أسود — مثل الدعابات والأغاني والتمريرات من وراء الظهر في مباريات كرة السلة — جميعها قد اخترتها بنفسك. لقد كانت هذه الأشياء على أفضلِ تقديرٍ ملجأً أو، على أسوأ تقدير، فخًّا. وباتباع هذا المنطق المثير للجنون فإن الشيء الوحيد الذي يمكنك اختياره ليكون مِلكًا لك هو الانسحاب إلى عالمٍ أصغر فأصغر من الغضب، حتى يُصبح معنى كونك أسود هو إدراك أنك بلا سلطة واعتراف بهزيمتك. والمفارقة الأخيرة هي أنه إذا رفضتَ هذه الهزيمة وتحدَّثتَ بغضبٍ منتقدًا آسِرَك، فستجد لدَيه اسمًا لهذا بإمكانه أن يسجنك في قفصٍ آخر. كأن يصفك بأنك مُصاب بجنون الاضطهاد. أو عدواني. أو عنيف. أو زنجي.

•••

وعلى مدار الشهور القليلة التالية، تطلَّعتُ إلى ترسيخ هذا الكابوس. فجمعتُ كتبًا من المكتبة؛ كتب لبالدوين وإليسون وهيوز ورايت ودوبويس. وفي المساء كنتُ أُغلق باب غرفتي وأخبر جَديَّ أن لديَّ واجبًا منزليًّا يجب أن أنتهي منه، وأجلس هناك وأحارب الكلمات، مُحتجزًا في جدال مفاجئ يائس أحاول أن أتصالح مع العالم كما وجدتُه عند ميلادي. لكن لا مناص. ففي كل صفحةٍ من كل كتاب، سواء في الكتب التي تتحدَّث عن شخصية الزنجي الشرير مثل بيجر توماس أو شخصيات أخرى مجهولة، كنتُ أجد نفس الأسى، نفس الشك؛ ازدراء للذات لم تستطِع السخرية ولا الفكر تغيير مساره. وحتى عِلم دوبويس وحب بالدوين وخفة ظل لانجستون استسلموا في النهاية إلى قوَّته المدمِّرة، فكلٌّ من هؤلاء الرجال وجد نفسه في النهاية مجبرًا لأن يشكَّ في قدرة الفن على إنقاذه، وكلٌّ منهم وجد نفسه في النهاية مجبرًا على الانسحاب؛ أحدُهم إلى أفريقيا والآخر إلى أوروبا والثالث إلى أعماق هارلم، لكنهم جميعًا انتهى بهم الحال إلى نفس الفِرار المنهك، جميعهم تملَّك منهم التعب، جميعهم يشعر بالمرارة، جميعهم تُطاردهم الشياطين.

كانت سيرة مالكولم إكس الذاتية وحدَها هي التي قدَّمت شيئًا مختلفًا. فكانت محاولاته المتكرِّرة لتكوين الذات تُخاطبني، والشِّعر الصريح في كلماته وإصراره الطبيعي على نيل الاحترام يَعِدان بنظامٍ جديد وثابت، نظام عسكري في طريقته يُصاغ من خلال القوة المجرَّدة للإرادة. وقرَّرتُ أن جميع الأشياء الأخرى، مثل الحديث عن الشياطين الزرقاء العيون وسِفر الرؤيا، كانت عارضة على هذا البرنامج؛ فقد كانت أفكارًا دينية بدا أن مالكولم نفسه قد هجرَها في نهاية حياته. ومع ذلك، حتى عندما تخيلتُ نفسي أتبع نداء مالكولم، فقد منعني سطر واحد في الكتاب من هذا. فقد تحدَّث في هذا السطر عن أُمنية كانت تراوده في يومٍ من الأيام، أمنية أن يتخلَّص، عن طريق العنف، من الدماء البيضاء التي تجري في عروقه. وعرفت أن أمنية مالكولم تلك لم تكن عارضة قط، وعرفت أيضًا أن الرحلة إلى احترام الذات للدماء البيضاء لا تتراجع أبدًا إلى مجرد فكرة مجردة. وتُركت أنا لأتساءل ماذا أيضًا سأُمزِّق إذا ما تركتُ والدتي وجَديَّ عند حدود مجهولة، ومتى أفعل هذا.

وأيضًا إذا كان اكتشاف مالكولم الذي توصَّل إليه قرب نهاية حياته أن بعض البِيض قد يعيشون إلى جواره إخوةً في الإسلام، يشع بعض الأمل في احتمال التوصُّل إلى مصالحةٍ في النهاية، فإن ذلك الأمل بدا أنه لن يتحقَّق إلا في المستقبل البعيد وعلى أرضٍ بعيدة. وفي الوقت نفسه نظرتُ لأرى من أين سيأتي هؤلاء الأشخاص الذين يرغبون في العمل من أجل هذا المستقبل واستيطان هذا العالم الجديد. وفي أحد الأيام، بعد إحدى مباريات كرة السلة في صالة الألعاب الرياضية بالجامعة، بدأتُ بالصدفة أنا وراي حديثًا مع رجلٍ طويلٍ ونحيل اسمه مالك كان يلعب معنا من حينٍ لآخر. ذكر مالك أنه كان من أتباع «أمَّة الإسلام» ولكن منذ موت مالكولم وانتقاله إلى هاواي لم يَعُد يذهب إلى المسجد أو الاجتماعات السياسية، مع أنه كان لا يزال يَنشُد السكينة في صلاته المنفردة. ولا بد أن أحد الشبان إلى جوارنا قد استمع إلينا؛ إذ إنه انحنى إلى الأمام وعلى وجهه تعبير الرجل الحكيم.

«إنكم تتحدَّثون عن مالكولم أليس كذلك؟ إن مالكولم يصوِّر الحقائق كما هي، لا شك في هذا.»

فقال شاب آخر: «نعم.» واستدرك: «لكني سأقول لكم شيئًا، إنكم لن تروني أنتقل إلى غابةٍ أفريقيةٍ في أي وقتٍ قريب. أو إلى أية صحراء لعينة أجلس على سجَّاد مع بعض العرب. كلَّا يا سيدي. ولن تراني أتوقَّف عن تناول اللحوم.»

«يجب أن نحصل على بعض اللحوم.»

«والعلاقات الحميمية أيضًا. ألم يتحدَّث مالكولم عن رفض العلاقات الحميمية؟ هل عرفتم الآن أن هذا لن يُجدي.»

لاحظتُ أن راي يضحك فنظرتُ إليه عابسًا. قلت: «ما الذي تضحك عليه؟» وتابعت: «إنك لم تقرأ شيئًا لمالكولم قط. ولا تعرف حتى ماذا يقول.»

فجذب راي كرة السلة من يدي واتجه إلى الحافة المقابلة. وصاح: «إنني لا أحتاج إلى كتبٍ لتُخبرني كيف أكون أسود.» فبدأتُ أجيب عليه ثم استدرتُ إلى مالك متوقعًا بعض عبارات المساندة منه. لكن الرجل المسلم لم يقُل شيئًا، وارتسمت على وجهه النحيل ابتسامةٌ حالمة.

•••

بعد ذلك قرَّرتُ أن أكتمَ آرائي، وتعلمتُ أن أخفي انفعالي. ومع ذلك، بعد بضعة أسابيع استيقظتُ على صوت جدالٍ في المطبخ؛ صوت جَدتي الذي كان لا يكاد يُسمَع ويتبعه صوت جَدي العميق وهو يتذمَّر. ففتحتُ الباب ورأيتُ جَدتي وهي تدخل إلى غرفة نومها لترتدي ملابسها وتذهب إلى العمل. فسألتها ماذا حدث.

«لا شيء. كلُّ ما هنالك أن جَدك لا يريد أن يُقلَّني إلى العمل هذا الصباح. هذا كل شيء.»

وعندما دخلتُ إلى المطبخ كان جَدي يغمغم مُتذمرًا. وصبَّ لنفسه كوبًا من القهوة وأخبرته أنني مُستعد لأن أقلَّ جَدتي إلى العمل إذا كان متعبًا. وكان ذلك عرضًا جريئًا لأنني لم أكن أُحب الاستيقاظ مبكرًا. وقد قابل جَدي عرضي بأن قطَّب جبينه.

«ليست هذه هي المشكلة. إنها تريد أن تجعلني أشعر بالذنب.»

«أنا واثق أن هذا ليس هو الهدف يا جَدي.»

فارتشف من قهوته. ثم قال: «بل هذا هو الهدف بالطبع.» وتابع: «إنها تستقلُّ الحافلة منذ أن عمِلتْ في المصرف. وكانت تقول إن الأمر كان أسهل. والآن فقط لأنها مُنزعِجة قليلًا، تريد أن تُغيِّر كلَّ شيء.»

ظهرت جَدتي بقوامها القصير في الرَّدهة تنظر إلينا من خلف نظارتها ذات العدسات الثنائية البؤرة.

وقالت: «هذا ليس صحيحًا يا ستانلي.»

فاصطحبتُها إلى الغرفة الأخرى وسألتُها عما حدث.

فقالت: «رجلٌ طلب مني نقودًا بالأمس. ذلك عندما كنتُ بانتظار الحافلة.»

«هل هذا كلُّ ما في الأمر؟»

ضمَّت شفتَيها في غضب. ثم قالت: «كان عدوانيًّا للغاية يا باري. عدواني للغاية. أعطيتُه دولارًا وظلَّ يطلُب مني المزيد. وأظن أنه إذا لم تكن الحافلة قد وصلت، كان من الممكن أن يضربني على رأسي.»

فعُدت إلى المطبخ. وكان جَدي يغسل الفنجان مديرًا ظهره لي. فقلت: «لِمَ لا تتركني أُقِلُّها أنا. إنها تبدو شديدة الغضب؟»

«مِن متسوِّل؟!»

«نعم، أعلم، لكن أغلب الظن أنه كان من المخيف لها أن ترى رجلًا ضخمًا يعترض طريقها. لا مشكلة في هذا.»

استدار جَدي إليَّ، فرأيتُ أن جسده يرتجف. أخذ يقول: «بل مشكلة كبيرة. إنها مشكلة كبيرة في نظري. لقد ضايقها رجالٌ كُثر من قبل. هل تعلم لماذا هي خائفة بشدة هذه المرة؟ سأُخبرك أنا لماذا. قبل أن تدخل أخبرتني أن الرجل كان أسود.» قال الكلمة الأخيرة وهو يهمس. ثم استأنف: «هذا هو السبب الحقيقي في انزعاجها. وأنا لا أظنُّ أن هذا صحيح.»

كان وقْع هذه الكلمات عليَّ وكأن أحدًا لكمَني في معدتي. فارتجف جسدي كي أستعيد رباطة جأشي. وقلتُ له في أكثرِ نبرةٍ استطعتُ أن أجعلها ثابتة، إن مثل هذا السلوك يُثير ضيقي أنا أيضًا، وأكدتُ له أن مخاوف جَدتي ستنتهي وأننا يجب أن نُقِلَّها إلى العمل في الوقت الحالي. ترك جَدي جسده يسقط على مقعدٍ في غرفة المعيشة وقال إنه آسِف لأنه أخبرَني. وأمام عيني رأيته وقد أصبح صغير الحجم كبير السن حزين الوجه. فوضعتُ يدي على كتِفِه، وأخبرتُه أن كل شيءٍ على ما يُرام وأنني أتفهَّم الموقف.

ظللنا هكذا لعدة دقائق في صمتٍ مؤلِم. ثم أصرَّ في النهاية على أن يُقلَّ جَدتي إلى عملها، وجاهد لينهض من على مقعده ويرتدي ملابسه. وبعد أن غادرا، جلستُ على حافة فراشي وفكَّرتُ في جَديَّ، فكثيرًا ما ضحَّيا من أجلي. وعلَّقا جميع آمالهما التي لم تتحقَّق على نجاحي. ولم يمنحاني أبدًا سببًا كي أشكَّ في حُبهما لي، وكنتُ أثق بأنهما لن يقدِّما سببًا لهذا الشك قط. ومع ذلك فقد علمتُ أن الرجال الذين كان من الممكن بسهولة أن يكونوا إخوتي يمكن كذلك أن يُثيروا مخاوفهما.

•••

في تلك الليلة قُدتُ السيارة إلى وايكيكي مارًّا بالفنادق المضاءة بألوانٍ براقة في اتجاه قناة ألا-واي. استغرقتُ بعض الوقت كي أتعرَّف على المنزل، بشرفته المتهدِّمة وسطحه ذي الانحدار البسيط. وفي الداخل كانت الأنوار مضاءة، ورأيتُ فرانك وهو يجلس على مقعده الضخم المريح، وعلى حِجره ديوان للشعر ونظارته التي يقرأ بها مُنزلقة قليلًا على أنفه. جلستُ في السيارة أُراقبه لبعض الوقت، وفي النهاية خرجتُ من السيارة وطرقتُ الباب. ورفع العجوز عينَيه قليلًا وهو ينهض كي يفتح مزلاج الباب. وكان قد مرَّ ثلاثُ سنواتٍ منذ رأيته آخِر مرة.

سألني: «أتريد شرابًا؟» فأومأتُ له بالإيجاب ورأيته وهو يُخرِج زجاجةً من الويسكي وكوبَين بلاستيكِيَّين من خزانة المطبخ. لم يتغير شكلُه كثيرًا، فقط ازداد شاربه بياضًا وهو يتدلى مثل نبات لبلاب ميت فوق شفته العُليا الغليظة، وبنطلونه الجينز القصير به مزيدٍ من الثقوب ومربوط عند خصره بشريطٍ غليظ.

«كيف حال جَدِّك؟»

«إنه بخير.»

«ماذا تفعل هنا؟»

لم أكن واثقًا. فأخبرتُ فرانك جانبًا مما حدث. فأومأ برأسه وسكب لكلٍّ منا كأسًا. وقال: «إن جَدَّك لطيف.» وتابع: «هل تعلم أننا نشأنا على بُعد ٥٠ ميلًا بيننا؟»

هززتُ رأسي نافيًا.

«هذه حقيقة. فقد كان كِلانا يعيش بالقُرب من ويتشيتا. ولكننا لم يعرف أحدنا الآخر بالطبع. وعندما كبِر هو بما يكفي ليتذكَّر شيئًا كنتُ أنا قد رحلتُ قبل وقتٍ طويل. ومع ذلك فقد أكون رأيتُ بعضًا من أهله. ربما أكون مررتُ بهم في الشارع. وإذا كان ذلك قد حدث فقد تعيَّن عليَّ أن أنزل عن الرصيف كي أفسح لهم الطريق. هل أخبرك جَدُّك عن شيءٍ من هذا القبيل من قبلُ؟»

ألقيتُ ما تبقى من ويسكي في حلقي، وهززتُ رأسي مرة أخرى.

فقال فرانك: «ولا أعتقد أنه كان سيفعل. إن ستانلي لا يحب الحديث عن ذلك الجزء من حياته في كانساس كثيرًا. فهذا لا يجعله يشعر بالارتياح. وقد أخبرني ذات مرةٍ عن فتاةٍ سوداء استأجروها للعناية بوالدتك. أظنُّ أنها كانت ابنة قس. وأخبرني كيف أصبحت جزءًا من العائلة. هذا هو ما يتذكَّره عنها؛ فهذه الفتاة تذهب للعناية بأطفال الآخرين، ووالدتها تغسل ملابس الآخرين. جزء من العائلة.»

هذه المرة مددتُ أنا يدي إلى الزجاجة كي أصبَّ منها بنفسي. ولم يكن فرانك يراني فقد كانت عيناه مغمضتَين ورأسه يستند إلى ظهر مقعده ووجهه الضخم المتجعِّد مثل نقشٍ حجري. ثم قال في هدوء: «لا يمكنك أن تلوم ستانلي على ما هو عليه. إنه رجل طيب بطبيعته. لكنه لا يعرفني حقًّا. ليس أكثر من معرفته بتلك الفتاة التي كانت ترعى والدتك. ولا يستطيع أن يعرفني، ليس كما أعرفه أنا. ربما يستطيع بعض سكان هاواي ذلك، أو الهنود في تلك المناطق المخصَّصة لهم. فقد رأوا آباءهم يتعرَّضون للإهانة، وأمهاتهم تُنتَهك حرماتهن، لكن جَدك لن يعرف أبدًا كيف يشعر المرء في مثل هذه المواقف. لهذا يمكنه أن يأتي إلى هنا ويحتسي الويسكي ويسقط نائمًا على الكرسي الذي تجلس أنت عليه الآن. ويغطَّ في سباتٍ عميق. وهذا شيء لا يمكنني أن أفعله في منزله. أبدًا. مهما كان ما أشعر به من تعب، فعليَّ أن أُراقب سلوكي. يجب أن أكون حذِرًا حفاظًا على حياتي.»

فتح فرانك عينَيه. وقال: «ما أحاول أن أقوله لك هو أن جَدتك لدَيها الحق في أن تشعر بالخوف. وهي على حق بالضبط مثل ستانلي. إنها تفهم أن السود لديهم سبب كي يشعروا بالكراهية. هذه هي الحقيقة. وإن كنتُ أتمنى — من أجلك — أن يكون الحال غير الحال. لكن هذه هي الحقيقة. لذا فيمكنك أن تعتاد عليها أنت الآخر.»

أغمض فرانك عينيه من جديد. وبدأت أنفاسه تتباطأ حتى بدا أنه خلد إلى النوم. فكَّرت في إيقاظه، ثم قرَّرتُ ألا أفعل وسرتُ عائدًا إلى السيارة. شعرت بالأرض تهتز تحت قدميَّ وكأنها مُستعدة لأن تنشقَّ في أية لحظة. فتوقَّفتُ وأنا أحاول أن أتماسك، وأدركتُ لأول مرةٍ أنني وحدي تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤