الفصل الخامس

كانت الساعة الثالثة صباحًا. وكانت الشوارع التي يغمرها القمر بضوئه خاوية، ولم أسمع سوى صوت سيارةٍ تزيد من سرعتها في طريقٍ بعيد. ولا بدَّ أن جميع مَن كانوا في الحفل الصاخِب قد اختفوا في مكانٍ هادئ الآن، سواء كل حبيبَين معًا أو كل شخصٍ وحدَه يغطُّ في سباتٍ عميق من أثر احتساء الجِعَة، وحسن في شقة صديقته الجديدة، بعد أن قال لي وهو يغمز بعينه: «لا تبقَ مُستيقظًا لوقتٍ طويل.» ولم يتبقَّ إلا نحن الاثنين فقط ننتظر شروق الشمس، أنا وصوت بيلي هوليداي الذي كان يشدو ليملأ أرجاء الغرفة المظلمة، ويصل إليَّ ليلمسني وكأنه حبيبتي.

إنني حمقاء … لأني أريدك.
شديدة الحماقة … لأني أريدك.

صببتُ لنفسي شرابًا وتركت عينيَّ تدوران في أنحاء الغرفة؛ أطباق عميقة من فتات المقرمشات المملَّحة، وطفايات السجائر الممتلئة عن آخِرها، والزجاجات الفارغة التي تبدو وكأنها خط الأفق قُبالة الحائط. حفل رائع. هذا ما قاله الجميع، وقالوا أيضًا اعتمدوا على باري وحسن في إقامة الحفلات الموسيقية. استمتع الجميع بوقته فيما عدا ريجينا. هي لم تستمتع. ماذا قالت قبل أن تغادر؟ قالت: «إنك دائمًا تظن أن الأمر يتعلَّق بك.» ثم ذكرَت تلك الأشياء عن جَدتها. كما لو أنني مسئول عن مصير العِرق الأسود بأكمله. كما لو أنني أنا مَن جعل جَدتها تجثم على رُكبتَيها طوال عمرها. إلى الجحيم يا ريجينا. إلى الجحيم بغرورك العنيد وورعك الممقوت ونظرة عينَيك التي تتَّهِمني بخذلانك. إنها لم تعرفني. لم تفهم وجهة نظري.

سقطتُ على الأريكة مرة أخرى وأشعلتُ سيجارة وشاهدتُ عود الثقاب وهو يحترق حتى لسع طرف إصبعي، ثم شعرتُ بألمٍ عندما أطفأتُ اللهيب بإصبعَيَّ. سأل الرجل قائلًا: «ما الخدعة؟» «الخدعة ألا تبالي بالألم.» حاولتُ أن أتذكَّر أين سمعتُ تلك الجملة التالية، لكن ذاكرتي لم تسعفني؛ فقد غاب هذا الأمر عنها مثل وجهٍ ذهب في غياهب النسيان. لكن هذا لا يهم. فبيلي تعرف الخدعة نفسها، إنها موجودة في صوتها المرتجف الممزَّق. وقد تعلمْتُها أنا أيضًا؛ فقد كان هذا هو محور حياتي في المدرسة الثانوية في العامَين الماضيين بعد أن رحل راي إلى معهدٍ في مكانٍ ما، ونحَّيتُ أنا الكتب جانبًا، وبعد أن توقَّفتُ عن الكتابة إلى أبي وتوقَّف هو عن إرسال خطابات لي. سئمتُ من محاولة التخلُّص من فوضى ليست من صُنعي.

تعلمتُ ألَّا أهتم.

أطلقتُ بعض حلقات الدخان في الهواء، وأنا أتذكَّر تلك السنوات. وقد ساعدتني الماريجوانا والخمور، وقليل من الكوكايين من حينٍ لآخر عندما أستطيع تحمُّل تكلفته. لكنني لم أتعاطَ الهيروين، مع أن ميكي — وأغلب الظن أنه كان الشخص الذي قادني إلى هذا الطريق — كان مُتلهفًا كي أُجرِّبه. وقال إنه يستطيع تعاطيه وهو معصوب العينين، لكنه كان يرتجف مثل مُحرِّكٍ خَرِبٍ عندما قال هذا. ربما كانت هذه الرجفة لأنه يشعر بالبرد فحسب، فقد كنا نقف في مُجمدِ لحوم في مؤخرة محل الأطعمة الباردة والمعلبة الذي كان يعمل به، ولا يمكن أن تكون درجة الحرارة أكثر من ٢٠ درجة داخل المحل. لكنه لم يبدُ أنه يرتجف من البرد. بل بدا وكأنه يتصبَّب عَرقًا، ووجهه لامع ومُحتقن. وقد أخرج الإبرة والأنبوب الصغير، فنظرتُ إليه وهو يقف هناك محاطًا بشرائحَ كبيرة من سمك السلامي ولحم البقر المشوي، وعندئذٍ انبثقت في ذهني فجأةً صورة فقاعة هواء لامعة ومُستديرة مثل لؤلؤة تتدحرج ببطءٍ بداخل وريدي وتوقَّف قلبي عن الخفقان …

مدمن للمخدرات. ومدخن للماريجوانا، هذا ما كنتُ أتَّجه إليه: الدور المحتم الأخير الذي يلعبه الشاب الأسود الذي سيُصبح رجلًا. إلا أن اللجوء إلى نشوة المخدرات لم يكن الهدف منه أن أحاول أن أثبت كم أنتمي إليهم. لم يكن الأمر كذلك آنذاك على أية حال. فقد كنت ألجأ إلى نشوة المخدرات من أجل عكس ذلك تمامًا؛ إذ كنتُ أبحث عن شيءٍ يمكنه أن يُبعد عن ذهني تلك الأسئلةَ المتعلقة بهويتي، شيء يمكنه أن يريح قلبي، ويمحو ذاكرتي. واكتشفتُ أنه لا فارق بين ما إذا كنتَ تُدخِّن الماريجوانا في شاحنة زميلك الأبيض الجديدة اللامعة، أو في غرفة نوم أحد الإخوة الذي قابلته في صالة الألعاب الرياضية، أو على الشاطئ مع بعض الصبية من هاواي الذين تركوا المدرسة ويقضون معظم أوقاتهم يبحثون عن سببٍ للشجار. لم يكن أحد يسألك هل والدك مسئول تنفيذي واسع السلطة فاحش الثراء يخون زوجته، أو رجل بدين طُرِدَ من عمله، كلما أزعج نفسه وجاء إلى المنزل انهال عليك ضربًا. وربما لا يتعدَّى الأمر كونك شخصًا يشعر بالملل أو الوحدة. فالجميع مُرحَّب به في نادي السخط. وإذا لم تنجح نشوة المخدرات في حل المشكلة التي تقضُّ مضجعك، فإنها تساعدك على الأقل على السخرية من حماقة العالَم المستمرة، وترى حقيقة النفاق والهراء والحِكَم الأخلاقية الرخيصة.

هكذا بدا الأمر لي آنذاك. فقد استغرقتُ بضع سنوات قبل أن أرى كيف بدأت المصائر تتحدَّد، والاختلافات التي يُسبِّبها اللون والمال فيمن ينجو، ومدى عنف أو سهولة الهبوط عندما يسقط المرء في النهاية. وبالطبع في كلتا الحالتَين فإنك بحاجةٍ إلى بعض الحظ. وعلى الأرجح هذا ما كان يفتقده بابلو عندما لم تكن معه رخصةُ القيادة في ذلك اليوم، مما جعل شرطيًّا يُفتِّش حقيبة سيارته. أو بروس عندما لم يجد طريقَه للعودة من رحلات مُخدِّر الهلوسة الكثيرة وانتهى به الحال في مستشفًى للأمراض النفسية. أو ديوك الذي لم يستطِع الخروج سالمًا من حادث تحطُّم سيارته …

حاولتُ أن أشرح بعض هذه الأمور لوالدتي ذات مرة؛ أي دور الحظ في الحياة، وكيف تدور عجلة الحظ. كان ذلك في بداية عامي الأخير في المدرسة الثانوية، وكانت هي قد عادت إلى هاواي بعد أن انتهت فترة عملها الميداني، وفي أحد الأيام دخلَتْ إلى غرفتي تريد أن تعرف تفاصيل القبض على بابلو. فقابلتُها بابتسامةٍ مُطَمئِنة وربَّتُّ على يدِها وأخبرتها ألا تقلق، فإنني لن أتصرف بحماقة. وغالبًا ما كان هذا الأسلوب فعالًا؛ إذ كانت إحدى تلك الخُدَع التي تعلمتُها: فالناس تشعر بالرضا ما دمتَ لطيفًا معهم وتبتسِم ولا تقوم بأي تصرُّفات مفاجئة. وفي حالتي كانوا يشعرون بشيءٍ أكثرَ من الرضا، كانوا يشعرون بالارتياح؛ فقد كانت مفاجأة سعيدة أن يجدوا شابًّا أسود حسن الخلق لا يبدو غاضبًا طوال الوقت.

إلا أن أُمي لم يبدُ عليها الرضا. فجلسَتْ أمامي تتفحَّص عينيَّ ووجهها مُتجهِّم كعربة نقل الموتى.

وقالت: «ألا تظنُّ أنك أصبحتَ غير مهتمٍّ قليلًا بمستقبلك؟»

«ماذا تعنين؟»

«إنك تعرف بالضبط ماذا أعني. فقد أُلقي القبض على أحد أصدقائك لحيازته مخدرات. وبدأت درجاتُك تقلُّ. ولم تبدأ حتى الآن في تقديم طلبات الالتحاق بالجامعة. وكلما حاولتُ أن أتحدَّث إليك عن هذا الأمر تصرَّفتَ كما لو أنني لستُ إلَّا مصدرًا للإزعاج الشديد.»

ولم أكن بحاجةٍ إلى الاستماع إلى كلِّ هذا. فلم أكن سأُطرَد من المدرسة بسبب رسوبي. فبدأتُ أخبرها أني أُفكِّر ألا أسافر بعيدًا للدراسة في الجامعة، وأنني يمكنني البقاء في هاواي والالتحاق ببعض الدورات، والحصول على عملٍ نصفَ دوام. ولكنها قاطعتني قبل أن أنتهي. وقالت إنه يُمكنني الالتحاق بأية كلية أريد في أي مكانٍ في البلد، فقط إذا بذلت قليلًا من الجهد. «أتتذكَّر هذا الشيء؟ الجهد؟ اللعنة يا باري لا يمكنك قضاء الوقت هكذا كسولًا بلا هدفٍ مثل شخصٍ مُولَع باللهو، وتنتظر أن يطرق الحظ بابك؟»

«مثل مَن؟»

«مثل شخصٍ مُولَع باللهو. أي مُتسكِّع.»

نظرتُ إليها وهي تجلس أمامي والجدية التامة ترتسِم على ملامحها وهي واثقة من مصير ابنها. فقد ظلت فكرة أن مُستقبلي يعتمد على الحظ بدعةً في نظرها، وأصرَّت على إلقاء المسئولية على كاهل أحد، كاهلها أو كاهل جَدي أو جَدتي أو كاهلي. وفجأة شعرتُ أنني أهزُّ تلك الثقة، وأتركها تكتشِف أن تجربتها معي قد فشلت، وبدلًا من الصراخ أخذتُ أضحك. وأقول: «شخص مولع باللهو؟ حسنًا ولم لا؟ ربما يكون هذا ما أريده من الحياة. أعني انظري إلى جَدي. إنه حتى لم يلتحِق بالجامعة.»

فاجأت هذه المقارنة أُمي. فشَحَب وجهها، ودارت عيناها في محجرَيهما. وفجأة تجلَّى أشد مخاوفها أمامي. فسألتُها: «هل هذا ما يُقلِقك؟» وتابعتُ: «أن ينتهي بي الحال مثل جَدي؟»

فهزَّت رأسها بسرعة. وقالت: «لقد تلقَّيتَ بالفعل تعليمًا أفضل كثيرًا من جَدك.» ولكن كانت الثقة قد اختفت أخيرًا من صوتها. وبدلًا من الاستمرار في الحديث، نهضت وغادرت الغرفة.

•••

توقَّفت بيلي عن الغناء. وخيَّم الصمت على الغرفة، وفجأة شعرتُ بأني مُتزن وغير ثمل. فنهضتُ من على الأريكة وقلبتُ شريط التسجيل، وشربتُ ما تبقى في الكوب ثم ملأته مرةً أخرى. وفي الأعلى سمعتُ صوتَ أحدٍ يغادر الحمَّام بعد قضاء حاجته ثم يقطع إحدى الغرف سيرًا. كما سمعتُ شخصًا آخر يُعاني أرقًا على الأرجح، يستمع إلى صوت قطار حياته وهو يمر. هذه هي مشكلة الخمر والمخدرات، أليس كذلك؟ فعند نقطةٍ بعينها لا يمكن إيقاف هذا الصوت، صوت فراغ محدَّد. وهذا على ما أظن هو ما كنتُ أحاول أن أخبر أُمِّي به في ذلك اليوم: أن إيمانها بالعدالة والعقلانية ليس في محله، وأننا لم نستطِع في النهاية التغلُّب على شيء، وأن التعليم وجميع النوايا الحسنة في العالم لا يمكنها المساعدة في سدِّ الفجوات في الكون أو إعطاء المرء القدرة على تغيير مساره الأعمى والمجنون.

ومع ذلك فقد انتابني شعور بالاستياء بعد ذلك الموقف؛ فهذه هي الحيلة التي كانت أمي تلعبها دائمًا، الطريقة التي تجعلني أشعر بالذنب. وكانت هي تتحدَّث عن الأمر بصراحة أيضًا. فقد قالت لي ذات مرة: «لا يسعك فعْل شيءٍ حيال هذا.» ثم أضافت مبتسمةً مثل قطة تشيشاير في فيلم «أليس في بلاد العجائب»: «فقد أرضعتُه لك وأنت طفل. ومع ذلك فلا تقلق.» وتابعت: «فجرعةٌ صحيةٌ من الإحساس بالذنب لا تؤذي أحدًا. فالشعور بالذنب هو الأساس الذي بُنيت عليه الحضارة. وهو شعور يُستهان به بشدة.»

بعد ذلك كان بوسعِنا أن نمزح عن هذا الموقف؛ إذ إن أشدَّ مخاوفها لم يتحقَّق. فقد تخرَّجتُ دون أن يُعاندني الحظ، وقُبِلت في عددٍ من الجامعات المحترمة، واستقررتُ على الالتحاق بكليةِ أوكسيدينتال في لوس أنجلوس، ويرجع السبب في هذا في المقام الأول إلى فتاةٍ من مدينة برينتوود قابلتُها وهي تقضي الإجازة في هاواي مع عائلتها. لكنني كنتُ أفعل هذا آليًّا دون حماس، فكنتُ أشعر باللامبالاة تُجاه الجامعة بالقدْر نفسه الذي أشعر به تجاه معظم الأشياء الأخرى. فحتى فرانك رأى أن موقفي من الالتحاق بالجامعة سيئ، مع أنه لم يكن واضحًا كيف يمكنني تغييره.

ماذا كان فرانك يُطلِق على الكلية؟ لقد وصفَها بقوله: «شهادة مُتقدمة في التصالح». فكَّرت في آخر مرةٍ رأيتُ فيها الشاعر العجوز قبل بضعةِ أيامٍ من مغادرتي لهاواي. وقد تحدَّثنا بعض الوقتِ واشتكى من قدمِه؛ إذ كان يُعاني الزوائد في جِلدِ قدمه والنتوءات العظمية التي أصر أنها نتيجة مباشِرة لمحاولة إجبار قدمه الأفريقية على الدخول في حذاءٍ أوروبي. وفي النهاية سألني عما أتوقَّع الحصول عليه من الكلية. فأخبرتُه أنني لا أعرف، فهزَّ رأسه الضخم الذي يكسوه الشيب.

وقال: «حسنًا، هذه هي المشكلة، أليس كذلك؟ إنك لا تعرف. إنك بالضبط مثل باقي الشباب بالخارج. كلُّ ما تعرفه هو أن الكلية هي الخطوة التالية التي يجب أن تخطوها. في حين أن مَن يكبرونك سنًّا بما يكفي لأن يعرفوا أفضل منك — الذين حاربوا طَوال تلك السنوات كي تحصل على حقِّ الالتحاق بالجامعة — سيكونون سعداء إذا رأوك هناك حتى إنهم لن يُخبروك الحقيقة. الثَّمن الحقيقي للالتحاق بها.»

«وما هذا الثمن؟»

«أن تترك عِرقك على الباب.» وتابع: «أن تترك شعبك وراء ظهرك.» ثم تفحَّص ملامحي من فوق إطار نظارة القراءة. واستكمل: «افهم يا فتى. إنك لن تذهب إلى الكلية لتتعلَّم. إنك ستذهب «لتتدرَّب». سيُدرِّبونك على أن تُريد ما لا تحتاجه. سيُدرِّبونك على المراوغة بالكلمات حتى تُصبح عديمةَ المعنى. سيُدربونك لتنسى ما تعرفه بالفعل. سيُدربونك جيدًا حتى إنك ستبدأ تؤمن بما يُخبرونك به عن الفُرَص المتكافئة، والطريقة الأمريكية، وكل ذلك الهراء. سيعطونك مكتبًا متميزًا ويدعونك على حفلات عشاءٍ ممتازة، ويُخبرونك أنك مفخرة لجنسِك. حتى تريد أن تبدأ في إدارة الأمور فعليًّا، وحينها يجذبون السلسلة حول عُنقك بقوة، ويجعلونك تُدرِك أنك قد تكون زنجيًّا تلقَّى تدريبًا جيدًا ويحصل على مُرتبٍ جيد، ولكنك لا تزال مجرَّد زنجي.»

«إذن بمَ تنصحُني؟ ألَّا ألتحق بالجامعة؟»

تهدَّل كتفا فرانك وعاد ليسقط على مقعده وهو يتنهَّد. وقال: «كلَّا، إنني لا أقول هذا. عليك أن تذهب. إنني فقط أقول لك أن تُبقي عينَيك مفتوحتَين. ابقَ مُتيقظًا.»

جعلني هذا أبتسم، وأنا أُفكِّر في فرانك وشخصيته الأفريقية التي تؤمن بشعار «القوة السوداء». وفي بعض الجوانب، كان فرانك حالةً يصعُب علاجها مثل والدتي، فهو على القدْر نفسه من الثقة بإيمانه، ويعيش في نفس الإطار الزمني لستينيات القرن العشرين الذي خلقته هاواي. وقد نصحني أن أُبقي عينَي مفتوحتَين. وهذا ليس بالأمر السهل كما يبدو. ليس سهلًا في لوس أنجلوس المشمسة. ليس مثل تجوُّل المرء في الحرم الجامعي لكلية أوكسيدينتال على بُعد أميالٍ قليلة من مدينة باسادينا الذي كان مُصطفًّا بالأشجار ومغطًّى بالسيراميك الإسباني. وقد كان الطلابُ ودودين، والمعلمون مُشجِّعين. وفي خريف عام ١٩٧٩ كان كارتر، وخطوط الغاز، ومشاعر الندم العلنية جميعها في طريقها إلى البُعد عن بؤرة الأنظار، وريجان في طريقه إلى اجتذاب الأنظار، وكذلك شعار حمْلته السياسية الفعَّالة «صباح جديد في أمريكا». وعندما يُغادر المرء الحرم الجامعي، ويقود سيارته على الطريق السريع ليصِل إلى شاطئ فينيسيا أو إلى ويستوود مارًّا بشرق أو جنوب لوس أنجلوس دون حتى أن يعرف هذا؛ فلن يرى في طريقِه سوى المزيد من أشجار النخيل التي تختلس النظر للمارَّة مثلما يفعل نبات الهندباء البرية المزروع على الحوائط الأسمنتية العالية. ولم تكن لوس أنجلوس شديدة الاختلاف عن هاواي، على الأقل ليس الجزء الذي رأيتُه منها. إنها فقط أكبر، ومن السهل فيها العثور على حلاقٍ يعرف كيف يقص شعرك.

وعلى أية حال، لم يكن معظم الطلاب السود الآخرين في الكلية قلقِين على موضوع التصالح هذا. وكان هناك ما يكفي منَّا لتكوين قبيلة، وعندما يتعلَّق الأمر بتمضية الوقت، كان الكثيرون منَّا يتصرَّفون بأسلوبٍ يُشبه القبيلة بالفعل، فيمكثون معًا ويتحركون في جماعات. وفي عامي الأول في الدراسة عندما كنتُ لا أزال أعيش في منازل الطلبة كانت هناك جلسات اللغو نفسها التي كانت تدور بيني وبين راي والسود الآخرين في هاواي، التذمُّر نفسه، وقائمة الشكاوى نفسها. أما فيما عدا ذلك فكان ما يُقلقنا لا يختلف كثيرًا عما يُقلق البِيض من حولنا. وهو النجاح في الدراسة. والحصول على عملٍ بأجرٍ مُجزٍ بعد التخرُّج. وأيضًا محاولة إقامة علاقات حميمية مع الجنس الآخر. وقد توصلتُ صدفةً إلى أحد الأسرار الدفينة عن السود ألا وهي أن مُعظمنا لم يكن متحمسًا للثورة، وأن معظمنا قد سئم التفكير في العنصرية طوال الوقت، وأننا إذا كنَّا اخترنا أن ننغلِق على أنفسنا فهذا لأن هذه هي أسهل طريقة للتوقُّف عن التفكير في هذا الأمر، أسهل من قضاء الوقت في حالةٍ من الغضب أو محاولة استنباط آراء البِيض فينا مهما كانت.

إذن، لِمَ أترك أنا أيضًا الأمر دون التفكير فيه؟

لا أعلم. أظن أنني لم أكن أتمتَّع برفاهية معرفة المعسكر الذي أنتمي إليه عن يقين. فإذا نشأ المرء في مدينة كومبتون فسيُصبح البقاء على قيد الحياة عملًا ثوريًّا. ويذهب إلى الجامعة وعائلته لا تزال هناك تُشجِّعه. وتكون سعيدة وهي تراه يهرب؛ فالأمر إذن ليست فيه أي شبهة خيانة. لكنني لم أنشأ في كومبتون أو واتس. ولم يكن لديَّ ما أهرُب منه سوى الشكوك التي تملأ قلبي. لقد كنتُ أقرب إلى الطلاب السُّود الذين نشئوا في الضواحي، أطفال دفع آباؤهم بالفعل ثَمن الهروب. ويمكنك أن تتعرَّف عليهم على الفور من الطريقة التي يتحدَّثون بها، ومَن يجالسونهم في المطعم. وعندما تضغط عليهم في الحديث، ينفعلون ويبدءون في التحدُّث بسرعةٍ ويقولون إنهم يرفضون أن يجري تصنيفهم. وسيقولون لك إنهم يرفضون تعريفهم وفقًا لِلَون بشرتهم. إنهم بشَر.

هكذا كانت تُحب جويس أن تتحدَّث. كانت فتاةً جميلة لها عينان خضراوان وبشرتها بلون العسل وشفتان بارزتان. كنا نعيش في المبنى السكني نفسه في عامي الأول في الجامعة، وكان جميع الإخوة يطاردونها. وفي أحد الأيام سألتُها هل ستذهب إلى اجتماع جمعية الطلاب السود. فنظرت إليَّ بغرابة وبدأت تهزُّ رأسها مثل طفلٍ لا يريد أن يأكل ما أمامه من طعام على ملعقته.

ثم قالت: «أنا لست سوداء.» وتابعت: «أنا مُتعدِّدة الأعراق.» ثم بدأت تُخبرني عن والدها الذي «تصادف» أنه إيطالي وكان أرقَّ رجلٍ في العالم، ووالدتها التي «تصادف» أن بها عِرقًا أفريقيًّا وآخر فرنسيًّا وآخر من السكان الأصليين لأمريكا وشيئًا آخر. وسألتني: «لماذا يجب عليَّ أن أختار بينهم؟» وتهدَّج صوتها وظننتُ أنها على وشك البكاء. قالت: «ليس البِيض هم مَن يفرضون عليَّ أن أختار. ربما كان الأمر كذلك فيما مضى، ولكنهم الآن مُستعدُّون للتعامُل معي على أني إنسانة. كلَّا، «السود» هم مَن يريدون أن يجعلوا كلَّ شيءٍ عنصريًّا. إنهم هم مَن يفرضون عليَّ أن أختار. إنهم هم مَن يخبرونني أنه لا يمكنني أن أكون الشخص الذي أنا عليه …»

هم، هم، هم. كانت هذه هي المشكلة مع الأشخاص مثل جويس، فإنهم يتحدثون عن ثراء تراثهم مُتعدِّد الثقافات ويبدو الأمر رائعًا حقًّا، حتى تلاحظ أنهم يتجنَّبون السود. وليس الأمر بالضرورة مسألةَ اختيارٍ واعٍ، إنه أمرٌ متعلق بالجاذبية فحسب، الطريقة التي يسير بها التكامل دائمًا، طريق أحادي الاتجاه. امتصاص الثقافة السائدة للأقلية، وليس العكس. ثقافة البِيض فقط يمكن أن تكون محايدة وموضوعية، ثقافة البِيض فقط يمكن أن تكون غير عنصرية، ومُستعدَّة لاستيعاب العناصر الغريبة التي تظهر من حين لآخر إلى صفوفها. ثقافة البِيض فقط بها بشر. ونحن، المولودين لأبوَين من عرقَين مختلفَين والحاصلين على شهادات جامعية، ندرُس الموقف ونفكِّر في أنفسنا: لماذا ننضمُّ إلى الخاسرين إذا لم نكن مُضطرين لهذا؟ ونُصبح مُمتنِّين للغاية ونحن نفقد أنفسنا في الزحام، في سوق أمريكا السعيد عديم الهوية، ولا نستشيط غضبًا أبدًا مثلما يحدث لنا عندما تتجاهلنا سيارة الأجرة وتمرُّ من أمامنا، أو عندما تُحكِم السيدة في المصعد قبضتها على حقيبتها، وليس هذا لأننا مُنزعجون من حقيقةِ أنه على الملونين الأقل حظًّا أن يتحمَّلوا مثل هذه الإهانات كلَّ يوم من أيام حياتهم، مع أن هذا هو ما نقوله لأنفسنا، ولكن لأننا نرتدي حلةً تحمل العلامة التجارية بروكس براذرز، ونتحدث بلغةٍ إنجليزية صحيحة، ومع ذلك فالبعض يُخطئ ويعاملوننا على أننا زنوج عاديون.

ألا تعلم مَن أنا؟ أنا «إنسان».

•••

اعتدلتُ جالسًا، وأشعلتُ سيجارة أخرى، وأفرغتُ الزجاجة في كوبي. كنت أعلم أنني أقسو على المسكينة جويس. الحقيقة هي أنني كنتُ أفهمها، هي والسود الآخرين الذين كانوا يشعرون بما تشعر به. فكنتُ أرى في أسلوبهم وحديثهم وقلوبهم الحائرة أجزاء من نفسي. وهذا بالتحديد ما كان يُخيفني. فحيرتهم جعلتني أشكُّ في معتقداتي العنصرية من جديد، ولا تزال ورقة راي الرابحة عالقة في ذهني. وكنتُ أحتاج إلى إبعاد المسافة بينهم وبين نفسي، كي أُقنع نفسي أنني لم أقبل التصالح، وأنني لا أزال مُستيقظًا بالفعل.

ولكي أتجنَّب أن يظن البعض أني خائن لقضية السود، كنتُ أختار أصدقائي بعنايةٍ شديدة. فأُصادق أكثرَ الطلاب السود نشاطًا في السياسة. الطلاب الأجانب. والأمريكيون من أصول مكسيكية. والأساتذة الماركسيين، ونشطاء الحركة النسائية وشعراء حفلات البانك روك الموسيقية. وكنا نُدخِّن السجائر ونرتدي سترات جلدية. وفي المساء، في غرف نومِنا كنا نناقِش الاستعمارية الجديدة، وفرانز فانون، والمركزية الأوروبية، والنظام الأبوي. وكنا نقاوم قيود المجتمع البرجوازي الخانقة عندما نسحق السجائر على سجادة الرواق أو نرفع صوت أجهزة التسجيل حتى تبدأ الجدران تهتز. لم نكن مُهملِين أو نشعر باللامبالاة أو عدم الأمان. لكننا كنا نشعر بالغربة.

ولكن هذا الأسلوب وحدَه لم يُقدِّم لي المسافة التي كنتُ أحتاج إليها لتفصلني عن جويس أو ماضيَّ. فقد كان هناك الآلاف ممن يُطلَق عليهم المتطرفون في الحرم الجامعي، معظمهم بِيض، ولا يمكن فصْلهم من الجامعة ويتسامح الجميع معهم بكل سعادة. كلَّا، لقد ظلَّ من الضروري أن تثبت إلى أيِّ جانبٍ أنت، وأن تُظهر انتماءك لجموع السود، وأن تبدأ العمل، وتُشير بأصابع الاتهام إلى أشخاصٍ محدَّدين.

تذكَّرتُ ذلك الوقت حين كنتُ لا أزال أعيش في المدينة الجامعية، عندما كنا نحن الثلاثة، أنا وماركوس وريجي، في غرفة ريجي وقطرات الأمطار تضرب زجاج النافذة. كنا نحتسي بعض أكواب الجِعَة، وكان ماركوس يُخبرنا بتجربته عندما أوقفته شرطة لوس أنجلوس. وقال: «لم يكن هناك أيُّ سبب لإيقافي.» وتابع: «لا سبب سوى أنني كنتُ أسير في حيٍّ يقطنه البِيض. وجعلوني أقف أمام السيارة وأرفع يديَّ وأُباعِد ما بين قدميَّ. وسحب أحدُهم سلاحه. ولكني لم أجعله يُخيفني. فهذا هو ما يوقف أولئك النازيين العنيفين، رؤية الخوف في عينَي رجلٍ أسود …»

راقبتُ ماركوس وهو يتحدَّث، كان شابًّا نحيلًا أسود البشرة مُنتصب القامة، يقف مباعدًا بين قدمَيه ويرتدي قميصًا أبيضَ اللون فوقه بنطلون جينز بحمَّالات. وكان ماركوس أشد الإخوة وعيًا. وكان بإمكانه أن يقصَّ لك قصةَ جَدِّه الذي كان يؤمن بمبادئ ماركوس جارفي، ووالدته في سانت لويس التي ربَّت أطفالها وحدَها وهي تعمل ممرضة، وعن شقيقته الكبرى التي كانت أحد الأعضاء المؤسِّسين للفرع المحلي من حزب الفهود السود، وعن أصدقائه في الملهى الفقير. لقد كانت سلالته نقية، وولاؤه واضحًا، ولهذا السبب كان يجعلني دائمًا أشعر بأنني غير مُتوازن، مثل الشقيق الأصغر الذي سيظل دائمًا مهما فعل يتخلَّف بخطوة. هذا هو بالضبط ما كنتُ أشعر به في تلك اللحظة وأنا أستمع إلى ماركوس يعلن عن تجربته الصادقة كرجلٍ أسود، عندما دخل تيم إلى الغرفة.

قال وهو يلوِّح بمرح: «مرحبًا يا رفاق.» ثم استدار إليَّ. وسألني: «باري، هل لديك ذلك الواجب الذي فرضه إيكون؟»

لم يكن تيم أخًا واعيًا. وكان يرتدي سترةً على قماشها أشكالٌ تأخذ شكل المعيَّن، وبنطلونًا ضيقًا من الجينز ويتحدَّث مثل بيفر كليفر. وكان يخطِّط للتخصُّص في التجارة. وعلى الأرجح كانت حبيبته البيضاء تنتظِره بالأعلى في غرفته، وتستمع إلى موسيقى الريف. وكان يبدو سعيدًا للغاية، كلُّ ما أردتُه منه هو أن يذهب بعيدًا. لذا فقد نهضتُ وسرتُ معه في الرَّدهة إلى غرفتي، وأعطيتُه الواجب المنزلي الذي أراد. وبمجرد أن عُدتُ إلى غرفة ريجي، شعرتُ لسببٍ ما أنني مُضطر للتفسير.

فقلت وأنا أهزُّ رأسي: «إن تيم هذا يبدو مُغيبًا طوال الوقت.» وتابعت: «يجب أن يُغيِّر اسمه من تيم إلى توم.»

ضحك ريجي، ولكن ماركوس لم يضحك. وقال: «لماذا تقول هذا يا رجل؟»

فاجأني السؤال. فقلت: «لا أعلم. إنه مجرد شابٍّ أبلهَ، هذا كلُّ ما في الأمر.»

ارتشف ماركوس من الجِعَة ونظر إلى عينيَّ مباشرة. قال: «تيم يبدو حسنًا في نظري.» وتابع: «إنه يمضي قُدمًا في حياته. ولا يُضايق أحدًا. أظن أنه يجب أن نهتمَّ بما إذا كانت أمورنا نحن تسير على ما يُرام بدلًا من إصدار الأحكام على الطريقة التي ينبغي أن يتصرَّف بها الآخرون.»

مرَّ عام وكنتُ لا أزال أحترق بتلك الذكرى، والغضب والاستياء اللذَين شعرتُ بهما في تلك اللحظة، وماركوس يُوبخني بهذا الشكل أمام ريجي. لكنه كان على حقٍّ في هذا، أليس كذلك؟ فقد كشفني وأنا أكذب. في الحقيقة أكذب كذبتَين؛ الكذبة التي قلتها عن تيم والأخرى التي كنتُ أقولها عن نفسي. في الحقيقة يبدو لي عامي الأول في الجامعة كذبةً طويلة وأنا أُهدِر كلَّ طاقتي أركض في دوائرَ محاولًا أن أخفي حقيقتي.

إلا مع ريجينا. وهذا على الأرجح ما جذبَني إليها، الطريقة التي كانت تجعلني أشعر بها أنني لستُ مضطرًّا للكذب. حتى في تلك المرة الأولى التي تَقابلنا فيها، اليوم الذي دخلَتْ فيه إلى المقهى ووجدَتْ ماركوس ينتقد اختياري للكتُب التي أقرؤها. وقد لوَّح لها ماركوس يدعوها إلى طاولتنا وهو ينهض قليلًا ليسحب لها مقعدًا.

وقال ماركوس: «أيتها الأخت ريجينا.» وتابع: «أنتِ تعرفين باراك أليس كذلك؟ وأنا أحاول أن أخبر الأخ باراك عن هذا العمل العنصري الذي يقرؤه.» ورفع يدَه بنسخةٍ من رواية «قلب الظلام» كأنه دليل أمام المحكمة. فمددتُ يدي محاولًا انتزاع الكتاب من يدِه.

«توقَّف عن التلويح بهذا الشيء هكذا.»

فقال ماركوس: «ماذا بك؟» وتابع: «أترى أنه يجعلك تشعر بالإحراج، أليس كذلك؟ مجرد رؤيتك وبصحبتِك كتاب كهذا. إنني أُنبِّهك يا رجل أن هذه الأشياء ستُسمِّم عقلك.» ثم نظر إلى ساعته وقال: «اللعنة، لقد تأخرتُ على المحاضرة.» ثم انحنى وطبع قُبلة سريعة على وجنة ريجينا. وقال لها: «هلا تتحدَّثين إلى هذا الأخ؟ أظن أنه لا يزال من الممكن إنقاذه.»

ابتسمت ريجينا وهزَّت رأسها ونحن نشاهد ماركوس يقفز خارجًا من الباب. وقالت: «أظن أن ماركوس في إحدى نوبات الوعظ التي يمرُّ بها.»

قذفتُ الكتاب في حقيبة ظهري. وقلت: «في الحقيقة إنه على حق.» وتابعت: «إنه كتاب عنصري. الطريقة التي يرى بها كونراد الأشياء؛ أفريقيا هي بالوعة العالم، والسود بربريون وأي اتصال بهم يؤدي إلى العدوى.»

نفخت ريجينا في قهوتها. وقالت: «لماذا تقرؤه إذن؟»

«لأننا مُكلَّفون بدراسته.» ثم توقَّفتُ غير واثق مما إذا كان من المفترض أن أستكمل. وتابعت: «ولأن …»

«لأن …»

«لأن الكتاب يُعلمني أشياء.» وتابعتُ: «أعني عن البِيض. إن الكتاب في الواقع ليس عن أفريقيا. أو السود. إنه عن الشخص الذي كتبه. الرجل الأوروبي. الرجل الأمريكي. طريقة بعَينها للنظر إلى العالم. فإذا استطعتِ أن تحافظي على المسافة بينكِ وبينه، فستَجدِين كل شيءٍ هنا سواء فيما قيل أو ما لم يُقَل. ولهذا فإني أقرأ الكتاب كي يُساعدني على فهْم ما الذي يجعل البِيض خائفين بهذا الشكل. وأعرف شياطينهم. الطريقة التي تنحرف بها الأفكار. إنه يساعدني في فهْم كيف يتعلم الناس الكراهية.»

«وهذا مهم لك.»

فكَّرت في نفسي أن حياتي تعتمد على هذا. لكني لم أقُل ذلك لريجينا. ابتسمتُ فقط وقلت: «هذه هي الطريقة الوحيدة لعلاج أيِّ مرض؛ تشخيصه، أليس كذلك؟»

ابتسمَت هي الأخرى وارتشفت من قهوتها. كنتُ قد رأيتها من قبل، عادة وهي تجلس في المكتبة وبين يدَيها كتاب، وهي فتاة ضخمة الجسد سوداء البشرة ترتدي جوارب وملابس تبدو مُصنعة في المنزل، وكذلك نظارة كبيرة الحجم لها لون خفيف وإيشارب يُغطي رأسها دائمًا. كنتُ أعلم أنها في السنة قبل الأخيرة، وكانت تساعد في تنظيم الاحتفالات التي تُقام من حينٍ لآخر للطلَّاب السُّود ولا تخرج كثيرًا. أخذَت تُقلِّب قهوتها بخمولٍ وسألت: «ما الاسم الذي خاطبك به ماركوس الآن؟ إنه اسم أفريقي أليس كذلك؟»

«باراك.»

«ظننتُ أن اسمك باري.»

«باراك هو اسمي الأول. وهو اسم أبي. وكان كينيًّا.»

«هل يعني شيئًا؟»

«يعني «مبارك» باللغة العربية. فجَدي كان مُسلمًا.»

ردَّدت ريجينا الاسم لنفسها. وقالت: «باراك. إنه اسم جميل.» ثم انحنَت إلى الأمام وهي تختبر الصوت. وتابعت: «لماذا إذن يُخاطبك الجميع باسم باري؟»

«أظن أنها عادة. فقد استخدمَه أبي عندما وصل إلى الولايات المتحدة. ولا أدري هل كانت تلك فكْرته أم فكْرة شخصٍ آخر. وعلى الأرجح استخدمَ باري لأنه أسهل في النطق. فقد ساعده ذلك على الاندماج. ثم ورثتُه أنا. حتى أستطيع الاندماج.»

«هل تمانع إذا خاطبتك باسم باراك؟»

فابتسمتُ وقلت: «لا ما دمتِ تنطقينه نطقًا صحيحًا.»

أمالت رأسها بنفاد صبر، وفمها في وضعٍ ساخر وعيناها على وشْك أن تستسلِما للضحك. انتهى بنا الأمر إلى قضاء فترةِ ما بعد الظهيرة معًا، نتحدَّث ونحتسي القهوة. وأخبرتني عن طفولتها في شيكاغو، والأب الغائب والأم المكافحة، والمبنى السكني المكوَّن من ستِّ وحدات سكنية في الجزء الجنوبي من شيكاغو الذي لم يكن دافئًا بما يكفي أبدًا في الشتاء، وشديد الحرارة في الصيف حتى إن الناس كانوا يذهبون للنوم على ضفاف البحيرة. وأخبرتني عن الجيران في المنطقة السكنية التي تقطن بها، وعن السير أمام الحانات ونوادي البلياردو في الطريق إلى الكنيسة يوم الأحد. وأخبرتني عن الأمسيات وهي في المطبخ مع أقربائها وجَدَّيها ومزيج الأصوات الذي يعلو بالضحكات. وقد أثار صوتها صورةً لحياة عائلةٍ سوداء بجميع إمكانياتها، صورة ملأتني بالاشتياق، اشتياق للمكان وللتاريخ المحدَّد الثابت. وعندما نهضنا لنغادر، أخبرتُ ريجينا أنني أحسُدها.

«علامَ؟»

«لا أعلم. ربما على ذكرياتك.»

فنظرَتْ إليَّ ثم أطلقت ضحكةً عالية من أعماقها.

«ما الذي يُضحككِ بهذا الشكل؟»

فقالت وهي تحاول التقاط أنفاسها: «أوليست الحياة غريبةً حقًّا يا باراك؟ فأنا كنت أتمنى طوال حياتي لو أني نشأتُ في هاواي!»

•••

من الغريب كيف يمكن أن يُغيِّرك حوار واحد. أو ربما لا يبدو الأمر كذلك إلا عندما تفكِّر فيه بعد مرور الزمن. فيمر عام وتعرف أنك تشعر بشعورٍ مختلف، لكنك لا تعرف عن يقينٍ ماذا أو لماذا أو كيف؛ لذا فإن عقلك يعود إلى الوراء بحثًا عن شيءٍ من الممكن أن يكون هو ما شكَّل هذا الشعور؛ كلمة، نظرة، لمسة. أعلم أني شعرتُ أن صوتي عاد إليَّ، بعد غياب طويل، في ظُهر ذلك اليوم مع ريجينا. وظل مُهتزًّا بعد ذلك عرضةً للتزييف. لكن في عامي الدراسي الثاني شعرتُ بذلك الجزء الثابت الصادق من نفسي يُصبح أقوى، وأكثر صلابةً ليكون بمنزلة جسرٍ بين مُستقبلي وماضيَّ.

في ذلك الوقت تقريبًا اشتركتُ في حملةِ المقاطعة وسحْب الاستثمارات. وقد بدأت تلك الحملة على سبيل المزاح على ما أظن، جزءًا من ذلك الموقف المتطرِّف الذي سعيتُ أنا وأصدقائي للحفاظ عليه، ومراوغة من اللاوعي عن موضوعاتٍ أقرب للوطن. لكن مع مرور الأشهر وجدتُ نفسي أنجذب لدورٍ أكبر — فتوليت الاتصال بممثِّلين عن المؤتمر الوطني الأفريقي لإلقاء خطبٍ في الحرم الجامعي، وكتابة مُسودات خطاباتٍ للكلية، وطباعة منشورات ومناقشة استراتيجيات — ولاحظتُ أن الناس بدءوا يستمعون إلى آرائي. وهو الاكتشاف الذي جعلني أتوق للكلمات. ليست كلماتٍ أختبئ خلفَها، لكن كلمات يمكن أن تحمل رسالةً وتدعم فكرة. وعندما بدأنا نخطِّط للتجمهُر من أجل اجتماع الأمناء، واقترح أحدٌ أن أفتتِح أنا الحدث، أسرعتُ بالموافقة. واكتشفتُ أنني كنتُ مستعدًّا، وأستطيع الوصول إلى الناس في أي موقف. ورأيتُ أن صوتي لن يخذلني.

والآن لنرَ. تُرى ما الذي كنتُ أفكِّر فيه في تلك الأيام التي سبقت التجمهُر؟ كانت الأجندة قد أُعِدَّت بحرصٍ شديد مُسبقًا، وكان من المفترض أن أُبدي بعض الملاحظات الافتتاحية فقط، ثم وبينما أتحدَّث يصعد اثنان من الطلاب البِيض على المسرح يرتدون زيَّهم الموحَّد الذي يُشبه الزيَّ العسكري ليسحبوني بعيدًا. شيءٌ ما يُشبه الدراما التي تُمثَّل في المسارح الارتجالية في الشارع؛ أي طريقة لإضفاء لمحة درامية على الموقف من أجل النشطاء في جنوب أفريقيا. كنتُ أعرف الأحداث؛ فقد ساعدتُ في التخطيط للنص. لكن عندما جلستُ أَعُد بعض الملاحظات لما يمكن أن أقول، حدث شيءٌ ما. وفي عقلي أصبح الأمر أكثرَ من مجرد حديثٍ عمرُه دقيقتان، أكثر من طريقة لإثبات التِزامي السياسي. فبدأتُ أتذكَّر زيارةَ أبي لفصل الآنسة هيفتي، والنظرة على وجه كوريتا في ذلك اليوم، وقوة كلمات أبي على إحداث التغيير. وفكَّرتُ في نفسي أن كلَّ ما أحتاج إليه هو إيجاد الكلمات المناسبة. فبالكلمات المناسبة يمكن أن يتغيَّر كلُّ شيء: جنوب أفريقيا، حياة أطفال الجيتو الذين يعيشون على بُعد أميالٍ قليلة فقط منِّي، ومكاني الضعيف في العالم.

وعندما صعدتُ على المسرح كنتُ لا أزال في تلك الحالة من النشوة. لا أدري كم من الوقت وقفتُ هناك والشمس ساطعة في عيني مباشرة، وأمامي حشد من بضع مئات من الأفراد مُتملمِلين بعد تناول وجبة الغداء. وكان هناك طالبان يلعبان بقذف الطبق البلاستيكي الطائر بينهما على الحشائش، وآخرون يقفون بعيدًا على الجانب مُستعدُّون لاقتحام المكتبة في أية لحظة. ودون أن أنتظر أية إشارةٍ للبدء، تقدَّمت إلى الميكروفون.

قلت: «هناك صراع دائر.» لم يصِل صوتي إلى أبعد من الصفوف القليلة الأولى. فنظر عدد قليل للأعلى، وانتظرتُ أنا حتى هدأت الجموع.

«أقول إن هناك صراعًا دائرًا!»

توقَّف اللاعبان عن قذف الطبق الطائر.

«يفصل بيننا وبينه المحيط. لكنه صراع يمسُّ كلَّ واحدٍ منا. سواء أكنا نعرفه أم لا. سواء أكنا نريده أم لا. إنه صراع يتطلَّب منا أن نختار إلى أي جانبٍ نقف. إنه ليس بين السود والبِيض. ليس بين الأثرياء والفقراء. كلَّا، إنه اختيار أصعب من هذا. إنه اختيار بين الكرامة والعبودية. بين العدالة والظلم. بين الالتزام واللامبالاة. اختيار بين الصواب والخطأ …»

توقَّفت. وكانت الجموع هادئة وتُراقبني. فبدأ أحدُهم بالتصفيق، وصاح آخر: «استمرَّ يا باراك.» وتابع: «أخبِرنا بالواقع كما هو.» ثم بدأ الآخرون يُصفِّقون ويهلِّلون، وعرفت أنني نجحتُ في جذب انتباههم، وأنني نجحتُ في جعلهم يفهمون الصلة. فأمسكت الميكروفون مُستعدًّا للاستمرار عندما شعرتُ بيدِ أحدٍ تجذبني من الخلف. وبالضبط كما خططنا، كان أندي وجوناثان يقفان مُتجهِّمَين خلف نظارتيهما السوداوين. وبدآ يَسحبانني من على المسرح، وكان من المفترض أن أُمثِّل أني أحاول التحرُّر من أيديهما، لكن جزءًا مِنِّي لم يكن يُمثِّل؛ فقد أردتُ البقاء على المسرح بالفعل، وسماع صوتي يصِل إلى الجماهير ويعود إليَّ مُحمَّلًا بالإطراء. كان لا يزال لديَّ الكثير لأقوله.

لكن دوري قد انتهى. فوقفتُ على الجانب في حين صعد ماركوس وأمسك بالميكروفون وهو يرتدي قميصه الأبيض ورداءه الجينز، وبجسده النحيل وقامته المنتصبة ووجهه الأسود. وشرح للجماهير ما شاهدوه للتو، والسبب في أن مراوغات الإدارة في اتخاذ موقفٍ بشأن الموضوعات المتعلقة بجنوب أفريقيا غير مقبولة. ثم صعدت ريجينا وتحدَّثت عن الفخر الذي شعرَتْ به عائلتها عندما التحقت هي بالجامعة، والخزي الذي كانت تشعُر هي به في ذلك الوقت عندما علمت أنها جزء من مؤسسة تدفع مُقابل تميُّزها من أرباح القمع. وكان يجب أن أشعر بالفخر بكليهما؛ فقد كانا فصيحَين في حديثَيهما، ويمكن القول إن مشاعر الجماهير قد أُثيرت. لكنني في الحقيقة لم أعُد أستمِع إليهما. كنتُ أقف في الخارج مرةً أخرى أشاهد، وأحكم، وأشك. وفي عينيَّ بَدَوْنا فجأة على حقيقتنا؛ هواة مرفَّهين مُنعَّمين، بتلك العصابات الحريرية الشفافة السوداء التي كنَّا نلفُّها حول أذرعنا، والإشارات المرسومة باليد ووجوهنا الشابة الجادة. وعاد لاعبا الطبق الطائر إلى لُعبتهما. وعندما بدأ الأُمناء يصلون لاجتماعهم، وقف بعضٌ منهم خلف الجدران الزجاجية لمبنى الإدارة ليُراقبونا، ولاحظتُ الرجال البِيض الكبار في السن يضحكون فيما بينهم، حتى إن أحدهم لوَّح باتجاهنا. فقلتُ لنفسي إن الأمر برمَّته ليس إلا مسرحية هزلية؛ التجمهر والرايات وكل شيء. مجرد تسلية جميلة لفترة بعد الظهيرة، مسرحية في المدرسة دون حضور الوالدَين. وكنتُ أنا وخُطبتي التي استمرت دقيقة واحدة أكبرَ مسرحية هزلية.

وفي الحفل ذلك المساء، جاءت ريجينا إليَّ وهنأتني. فسألتُها علامَ.

«على ذلك الخطاب الرائع الذي ألقيتَه.»

فتحتُ علبة جِعَة. وقلت: «لقد كان قصيرًا، على أية حال.»

تجاهلَتْ ريجينا السخرية في حديثي. وقالت: «هذا ما جعله مؤثرًا للغاية.» وتابعت: «لقد تحدثتَ من قلبك يا باراك. وهذا جعل الناس يريدون سماع المزيد. وعندما جذباك بعيدًا، كان كما لو …»

فقاطعتُها قائلًا: «اسمعيني يا ريجينا، إنك سيدة لطيفة حقًّا. وأنا سعيد أنك استمتعتِ بأدائي القصير اليوم. لكن هذه هي المرة الأخيرة التي ستستمعين فيها إلى أي حديثٍ مِني. سأترك هذا الوعظ لك ولماركوس، أما أنا فقررتُ أنه ليس لي شأن بالتحدُّث نيابةً عن السود.»

«ولماذا؟»

ارتشفتُ من الجِعَة، وعيناي تدوران في الراقصين أمامنا. ثم قلت: «لأنه ليس لديَّ ما أقوله يا ريجينا. ولا أعتقد أننا صنعنا أيَّ فارقٍ بما فعلناه اليوم. لا أعتقد أن ما يحدث لطفلٍ في منطقة سويتو بجنوب أفريقيا يمثِّل فارقًا للأشخاص الذين كنا نتحدَّث إليهم. الكلام العذب لا يصنع فارقًا. فلماذا إذن أتظاهر بغير ذلك؟ سأُخبرك أنا لماذا. لأن هذا يجعلني أشعر أنني مُهم. لأنني أُحب الإطراء. فهذا يجعلني أشعر بإثارةٍ جميلة رخيصة. هذا كلُّ ما في الأمر.»

«إنك لا تعتقد هذا حقًّا.»

«هذا ما أعتقد حقًّا.»

فحدَّقت فيَّ حائرةً تحاول أن تعرف هل أخدعها. ثم قالت في النهاية وهي تحاول أن تجاري نبرتي في الحديث: «حسنًا، ربما أمكنك أن تخدَعَني.» وتابعت: «إذ تخيلتُ أنني كنتُ أستمع إلى رجلٍ يؤمِن بشيء. رجل أسود يهتم. لكن أظن أنني غبية.»

أخذتُ جرعةً كبيرة من الجِعَة ولوَّحتُ لشخصٍ يدخل من الباب. وقلت: «إنك لستِ غبيةً يا ريجينا. إنك ساذَجة.»

فتراجعَتْ خطوةً إلى الوراء وهي تضع يدَيها على فخذيها. ثم قالت: «ساذَجة؟ أنت تنعتني بالساذجة؟ لا، لا أظن هذا. إذا كان هناك شخص ساذَج، فهو أنت. أنت مَن يظن أنه يستطيع الهروب من نفسه. أنت مَن يظنُّ أنه يمكنه تجنُّب ما يشعر به.» وألصقَتْ إصبعها بصدري. وقالت: «أتريد أن تعرف ما مشكلتك الحقيقية؟ إنك تظنُّ دائمًا أن كل شيءٍ يتعلَّق بك. إنك بالضبط مثل ريجي وماركوس وستيف وجميع الإخوة هنا. تعتقد أن التجمُّع من أجلك. والحديث من أجلك. والجرح جرحك أنت. حسنًا، دعني أخبرك أمرًا يا سيد أوباما. الأمر لا يتعلَّق بك أنت فقط. لم يكن البتة يتعلق بك أنت فقط، إنه يتعلق بأناسٍ يحتاجون إلى مساعدتك. الأطفال الذين يعتمدون عليك. إنهم لا يهتمُّون بسخريتِك ولا بتعقيدك أو بذاتك المجروحة. ولا أنا كذلك.»

وفي الوقت الذي كانت تنهي فيه حديثها، خرج ريجي من المطبخ ثملًا أكثرَ منِّي، وجاء إلينا وطوَّق كتفيَّ بذراعه. وقال: «أوباما، إنه حفل رائع يا رجل!» وابتسم ابتسامةً ساذَجة لريجينا. وتابع: «دعيني أُخبرك شيئًا يا ريجينا. أنا وأوباما يعرف أحدُنا الآخر منذ وقتٍ طويل. كان يجب أن تري حفلاتنا العام الماضي هناك في المدينة الجامعية. أتذكُر يا رجل ذلك الوقت عندما ظللنا مُستيقظَين طوال العطلة الأسبوعية؟ ٤٠ ساعة، بلا نوم. بدأنا صباح السبت، ولم نتوقَّف حتى يوم الإثنين.»

حاولت أن أغيِّر الموضوع لكن ريجي كان يكمل حديثه. قال: «لقد كان حفلًا جامحًا يا ريجينا. وعندما ظهرَت الخادمات صباح يوم الإثنين، كنا لا نزال جميعًا نجلس في الرُّواق نُشبِه الأموات الأحياء. والزجاجات في كل مكان. وكذلك أعقاب السجائر. والصحف. وتلك البقعة التي تقيَّأ فيها جيمي …» والتفتَ ريجي إليَّ وبدأ يضحك ويسكب المزيد من الجِعَة على السجادة. وقال: «إنك تتذكَّر أليس كذلك؟ كانت القاذورات بشِعة، وبدأ أولئك السيدات المكسيكيات الصغيرات بالبكاء. وصرخَتْ إحداهن: «يا إلهي» باللغة الإسبانية وبدأت الأخرى تربِّت على ظهرها. اللعنة، لقد كنا مجانين …»

ابتسمتُ ابتسامةً واهية، وأنا أشعر بريجينا تحدِّق إلى عينيَّ مباشرة حتى شعرتُ بالخجل مثل الشخص المثير للازدراء الذي كنتُ عليه. وعندما بدأتْ في التحدُّث أخيرًا كان كما لو أن ريجي غير موجود.

تحدَّثت في همسٍ وصوتها يرتجِف. قالت: «هل تظنُّ أن هذا مُضحك؟» وتابعت: «هل هذا هو الحقيقي في نظرك يا باراك؛ إحداث الفوضى كي يُنظِّفها شخصٌ آخر؟ كان من الممكن أن تكون تلك السيدة هي جَدتي. فقد قضت مُعظم حياتها تُنظِّف ما يخلِّفه الآخرون من فوضى. وأراهن أن أولئك الذين كانت تعمل لدَيهم كانوا يظنون أن هذا مُضحك أيضًا.»

ثم انتزعت حقيبتها من على منضدة القهوة واندفعت نحو الباب. فكَّرتُ في أن أركض وراءها لكني لاحظتُ أن عددًا قليلًا من الناس يحدِّقون إليَّ ولم أُرِد أن أجذب المزيد من الأنظار. فجذب ريجي ذراعي وهو يبدو مُتألمًا وحائرًا مثل طفلٍ تائه.

وقال: «ما خطْبها؟»

فقلتُ: «لا شيء.» وأخذتُ الجِعَة من يد ريجي ووضعتُها على رفِّ الكتب. وتابعت: «إنها فقط تؤمن بأشياءَ غير موجودة في الحقيقة.»

•••

نهضتُ من على الأريكة، وفتحت بابي الأمامي، ولاحقني دخان السجائر المحتجز في الغرفة إلى الخارج وكأنه شبح. وفي السماء كان القمر قد اختفى عن الأنظار، ولم يكن واضحًا منه سوى توهُّجه على طول حافة السُّحب العالية. وبدأتِ السماء تُنير، ورائحة الندى تملأ الهواء.

انظر إلى نفسك قبل أن تُصدر الأحكام. لا تجعل أحدًا آخر يُنظِّف ما تُخلِّفه من فوضى. الأمر لا يتعلَّق بك. كانت هذه أفكارًا بسيطة؛ عظات سمعتُها ألف مرةٍ من قبل في جميع صورها المختلفة في برامج كوميديا الموقف في التليفزيون وكتب الفلسفة، ومن جَديَّ ووالدتي. وأدركتُ في ذلك الوقت أنني في وقتٍ ما توقَّفتُ عن الإصغاء إليهم، وأدركتُ كم كنت مُستغرقًا حتى أُذنيَّ في جراحي التي أشعر بها، وكم كنتُ مُتلهفًا للهروب من الشِّراك الوهمية التي أعدَّتها لي السلطة البيضاء. وكنتُ مستعدًّا لأن أتخلى عن قِيَم طفولتي إلى ذلك العالم الأبيض، كما لو أن تلك القِيَم قد تلوَّثت بصورةٍ نهائية بالأكاذيب اللانهائية التي كان البِيض يقولونها عن السود.

إلا أنني أصبحتُ أسمع الأمر نفسه من أناسٍ سود أُكِنُّ لهم الاحترام، أناس لديهم من أسباب الشعور بالمرارة أكثرُ مما يمكن أن أدَّعيَه لنفسي. وسألوني: مَن قال لك إن الأمانة صفة تقتصر على البِيض؟ مَن خدعك وأخبرك أن موقفك يُعفيك من أن تكون مفكرًا أو مجتهدًا أو طيبًا؟ أو أن الأخلاق لها لون؟ لقد ضللتَ طريقك يا أخي. وأصبحت أفكارك عن نفسك — عمن أنت ومَن قد تُصبِح — غير مكتملة ومحدودة وصغيرة.

جلستُ على عتبة الباب وحككتُ ظهر عنقي. وبدأت أسأل نفسي: كيف حدث هذا؟ لكن حتى قبل أن يتكوَّن السؤال في ذهني، كنتُ أعرف الإجابة بالفعل. إنه الخوف. الخوف نفسه الذي جعلني أدفع كوريتا بعيدًا عني في المدرسة الابتدائية. الخوف نفسه الذي جعلني أهزأ بتيم أمام ماركوس وريجي. الخوف الدائم المسبِّب للعجز من أنني لا أنتمي إليهم بشكلٍ ما، وأنني لو لم أراوغ وأختبئ وأتظاهر بأني شخصٌ لست عليه، سأظل دائمًا غريبًا عن باقي العالم، سواء للسود أو البِيض، دائمًا أخضع لأحكام الآخرين.

ولهذا فقد كانت ريجينا على حق، إن الأمر يتعلَّق بي فقط. بخوفي. باحتياجاتي. والآن ماذا؟ تخيلتُ جدة ريجينا في مكانٍ ما، وظهرها محنيٌّ، وذراعها تهتز وهي تُنظِّف الأرض التي لا تنتهي. وببطء، رفعت السيدة العجوز رأسها لتنظُر إليَّ مباشرة، وفي وجهها الواهن رأيتُ أن ما يربطنا معًا كان شيئًا أكبرَ من الغضب أو اليأس أو الشفقة.

ماذا كانت تطلُب منِّي في ذلك الوقت؟ العزم على الأرجح. العزم على أن أقاوم أية قوة جعلتها تقف محنيةَ الظهر وليست منتصبةَ القامة. العزم على مقاومة الأشياء السهلة أو المناسبة. وقرأت في عينَيها: قد تكون محتجزًا في عالمٍ ليس من صُنعك، لكن لا يزال لدَيك حق في تقرير كيفية تشكيله. لا تزال لديك مسئوليات.

تلاشى وجه السيدة العجوز من ذهني، وحلَّت محله سلسلة من الوجوه الأخرى. وجه الخادمة المكسيكية البني المائل إلى الحمرة وهي تجاهد لتحمل القمامة. ووجه والدة لولو الغارق في الحزن وهي ترى الهولنديين يحرقون منزلها. ووجه جَدتي الأبيض بشفتَيها المغلقتَين في حزم وهي تستقل حافلة السادسة والنصف صباحًا إلى عملها. ضيق الأفق والذعر فقط هو ما دفعني لأن أُفكِّر أنه عليَّ الاختيار بينهن. وجميعهن، جداتي كلهن، طلبنَ الشيء نفسه منِّي.

فقد تبدأ هويتي بحقيقة عِرقي، لكنها لا تنتهي، ولا يمكنها أن تنتهي، عند ذلك الحد.

على الأقل هذا ما سأختار أن أومن به.

ولبضع دقائق أخرى جلستُ هناك عند باب الغرفة، أراقب الشمس وهي تنزلق إلى مكانها في السماء، أفكِّر في المكالمة التي سأُجريها مع ريجينا في ذلك اليوم. ومن خلفي، كانت بيلي تشدو بآخِر أغانيها. فأخذتُ أكرِّر اللازمة التي تتكرَّر في الأغنية وأُغمغم ببعض المقاطع. وبدا صوتها مختلفًا في أُذني. فأسفل طبقات الجراح، وأسفل الضحكات المنهكة، سمعت صوت رغبة في الصمود. الصمود، وإبداع موسيقي لم يكن موجودًا من قبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤