الفصل السادس

قضيت أول ليلة لي في مانهاتن منكمشًا على نفسي في زقاق. ولم يكن ذلك عمدًا، فعندما كنتُ في لوس أنجلوس سمعتُ أن صديقة صديقٍ لي ستُخلي شقَّتها في حي سبانيش هارلم بالقُرب من كولومبيا، وأنه نظرًا لسوق العقارات في نيويورك رأيتُ من الأفضل أن أقتنِص أنا الشقة بمجرد أن أستطيع. وقد توصَّلنا إلى اتفاق، وأبرقتُ إليها بالموعد الذي سأصل فيه في شهر أغسطس، وبعد أن جررتُ أغراضي في المطار والقطار النفقي وميدان تايمز وعبر شارع ١٠٩ من جادة برودواي إلى جادة أمستردام، وصلتُ أخيرًا إلى باب المبنى، بعد أن تخطَّت عقارب الساعة العاشرة مساءً ببضع دقائق.

قرعتُ جرس المبنى بالأسفل عدة مرات، ولم يُجِب أحد. وكان الشارع خاويًا، والمباني على كلا الجانبَين مُغطَّاة بقطعٍ من الخشب، مما جعلها تبدو كمجموعة من الظلال المستطيلة الشكل. وفي النهاية ظهرت شابة من بورتوريكو من المبنى وألقت نظرةً عصبية عليَّ قبل أن تتَّجه إلى الشارع. فهُرِعتُ لألحق بالباب قبل أن يُغلق، وتقدَّمتُ وأنا أجرُّ أغراضي خلفي إلى الأعلى لأطرق باب الشقة، ثم تحوَّلَت الطرقات إلى قرعٍ شديد. لكن لم يُجِب أحد أيضًا، ولم أسمع إلا صوتَ بابٍ يُغلَق في مدخل المبنى.

هذه هي نيويورك بالضبط كما تخيلتُها. فحصتُ محفظتي، واكتشفتُ أنني لا أملك ما يكفي من النقود للمبيت في نُزل. ولم أكن أعرف سوى شخصٍ واحد في نيويورك، شاب اسمه صادق قابلتُه في لوس أنجلوس، لكنه كان قد أخبرني أنه يعمل طوال الليل في حانةٍ في مكانٍ ما. ولأنه لم يكن بوسعي سوى الانتظار، حملتُ أغراضي إلى الأسفل مرةً أخرى وجلستُ عند مدخل المبنى. وبعد مرور بعض الوقت، وضعتُ يدي في جيبي الخلفي، وأخرجتُ الخطاب الذي كنتُ أحمله معي منذ أن غادرت لوس أنجلوس:

ابني الحبيب

كانت مفاجأة سارة حقًّا أن أتلقَّى منك خطابًا بعد مرور كل هذه المدة. أنا بخير وأقوم بتلك الأشياء التي تعرف أنها مُتوقَّعة مني في هذا البلد. لقد عُدت لتوي من لندن حيث كنتُ أهتم بإنجاز بعض الأعمال الخاصة بالحكومة وأُناقش أمور التمويل وغيرها. في الحقيقة نادرًا ما أكتب إليك بسبب هذه الأسفار الكثيرة. وعلى أية حال، أظن أن الوضع سيتحسَّن من الآن فصاعدًا.

ستسعد عندما تعلم أن جميع إخوتك وأخواتك هنا بخير، ويُرسلون لك تحياتهم. وقد رحَّبوا بشدةٍ بقرار عودتك إلى وطنك بعد التخرُّج مثلي تمامًا. وعندما تأتي نُقرِّر معًا كم من الوقت تُريد أن تبقى. باري، حتى إذا كانت الزيارة ستستمر بضعة أيام فحسب، فمن الضروري أن تعرف شعبَك وأن تعرف المكان الذي تنتمي إليه أيضًا.

رجاءً اعتنِ بنفسك، وتحياتي إلى والدتِك وجَدتك وستانلي. وأتمنَّى أن أتلقَّى خطاباتٍ منك قريبًا.

مع حبي
والدك

طويتُ الخطاب وأعدتُه إلى جيبي مرة أخرى. لم يكن من السهل أن أكتب إليه، فقد انقطعَت كل المراسَلات بيننا على مدار السنوات الأربع السابقة. وفي الحقيقة وضعتُ للخطاب عدة مسوَّدات، وحذفتُ أسطرًا كاملة، وكنت أجاهد لأكتب بالنبرة المناسبة وأقاوم الرغبة في تفسير الكثير من الأمور. فلم أكن أدري كيف أبدأ الخطاب: «والدي العزيز». أم «أبي الحبيب». أم «عزيزي الدكتور أوباما». وها هو ذا قد أجاب على خطابي بابتهاجٍ وهدوء. ونصحَني أن أعرف المكان الذي إليه أنتمي. وجعل الأمر يبدو سهلًا مثل أن تُجيب عليك الموظفة في خدمة استعلامات شركة الهاتف:

«الاستعلامات، أي مدينة من فضلك؟»

«لا أدري … أتمنَّى لو أنك تُخبرينني. الاسم هو أوباما. إلى أين أنتمي؟»

ربما يكون الأمر بهذه البساطة من وجهة نظره حقًّا. وتخيلتُ أبي وهو يجلس إلى مكتبه في نيروبي، رجلًا مهمًّا في الحكومة لدَيه موظفون وسكرتارية يُقدِّمون له أوراقًا ليعتمِدها، ووزير يتَّصِل به طالبًا منه النصيحة، وزوجة مُحبة وأطفال ينتظرونه في المنزل، وقرية والده على بُعد يومٍ واحد بالسيارة. وقد جعلتني هذه الصورة غاضبًا بصورةٍ ما، وحاولتُ أن أُنحِّيها جانبًا وأُركِّز بدلًا من هذا على صوت موسيقى «الصلصا» الذي يأتي من نافذةٍ مفتوحة في مكانٍ ما في المجمع السكني. لكن ظلَّتِ الأفكار نفسها تُعاودني وتتواصَل كخفقات قلبي.

إلى أين أنتمي؟ ربما يكون ذلك الحوار مع ريجينا في تلك الليلة بعد التجمهُر قد أحدث تغييرًا بداخلي، وتركني مليئًا بالنوايا الحسنة. لكني كنتُ مثل سكِّير يتعافى من فترة طويلة ومؤلمة من الإسراف في الشراب، وسرعان ما شعرتُ بالعزم الجديد الذي كان يملؤني يهرب مني، دون هدف أو اتجاه. وقبل عامَين من التخرُّج لم يكن لديَّ أدنى فكرة عما سأفعله في حياتي، أو حتى أين سأعيش. وكانت هاواي تستلقي خلفي مثل حلم الطفولة، ولم أعُد أتخيَّل الاستقرار هناك. وبصرف النظر عما يمكن أن يقوله أبي، كنتُ أعرف أنه فات الأوان على اعتبار أفريقيا وطني حقًّا. وإذا كنتُ قد أصبحت أفهم نفسي على أنني أمريكي أسود، ويعرفني الجميع بهذا، فإن هذه المعرفة ظلَّت غير مُستقرة. وأدركتُ أن ما أحتاج إليه هو مجتمع، مجتمع أكبر من اليأس المشترك الذي كنتُ أشارك أصدقائي السود الشعورَ به ونحن نقرأ آخِر إحصائيات الجرائم، أو عند التحية براحة اليد وهي مرفوعة التي يمكن أن نتبادلها في ملعب كرة السلة. والآن فإنني أحتاج إلى مكانٍ يمكنني أن أستقر فيه وأختبر ما أومن به من أفكار.

وهكذا، عندما سمعتُ عن برنامج الانتقال الذي نظمته كلية أوكسيدينتال مع جامعة كولومبيا أسرعت بالتقدُّم إليه. ورأيت أنه إذا لم يكن هناك طلاب سود في كولومبيا أكثر من الموجودين في أوكسيدينتال فسأكون على الأقل في قلب مدينة حقيقية، وسيكون إلى جواري أحياء يقطنها السود. كما أنه لم يكن هناك الكثير الذي يربطني بلوس أنجلوس. فقد كان معظم أصدقائي سيتخرجون ذلك العام، وحسن سيرحل ليعمل مع عائلته في لندن، وريجينا ستسلك طريقها إلى منطقة الأندلس ذاتية الحكم لإجراء دراسة عن الغجر الإسبانيين.

وماذا عن ماركوس؟ لم أدرِ بالضبط ماذا حدث لماركوس. فقد كان لا يزال أمامه عام آخر قبل التخرُّج، لكن شيئًا ما حدث له أثناء عامه قبل الأخير، شيء عرفته وإن كنتُ لم أستطِع أن أُحدِّد له اسمًا. تذكَّرت في إحدى الأمسيات عندما كنتُ أجلس معه في المكتبة قبل أن يقرِّر ترْك مقاعد الدراسة. وكان هناك طالب إيراني أصلع أكبر سنًّا له عين زجاجية يجلس على الجانب الآخر من الطاولة، وقد لاحظ أن ماركوس يقرأ كتابًا عن اقتصاديات العبودية. ومع أنه نقل عينَيه إلى الإيراني في نظرةٍ مُهدِّدة، فقد كان الرجل ودودًا وفضوليًّا، وفي النهاية انحنى إلى الأمام على الطاولة وطرح على ماركوس سؤالًا عن الكتاب.

قال: «أخبرني من فضلك.» وتابع: «كيف برأيك سُمح لشيءٍ مثل العبودية أن يستمر كل هذه السنوات الطويلة؟»

«البِيض لا يعتبروننا بشرًا. الأمر بهذه البساطة.» وتابع: «ومعظمهم لا يزالون.»

«نعم، أفهم هذا. لكن ما قصدتُ السؤال عنه هو لماذا لم يُحارب السود؟»

«لقد حاربوا بالفعل. أناس مثل نات تيرنر، ودنمارك فيسي …»

فقاطعه الإيراني قائلًا: «ثورات العبيد.» لقد قرأتُ شيئًا عنها. لقد كانوا رجالًا شجعانًا. لكنهم قليلون. فلو كنتُ عبدًا، ورأيتُ ما كان يفعله أولئك الناس بزوجتي وأطفالي … كنت أُفضِّل الموت. هذا هو ما لا أفهمه، لماذا لم يُحارب الكثير من الرجال على الإطلاق. حتى الموت، أفهمتَ ما أعنيه؟»

نظرتُ إلى ماركوس منتظرًا ردًّا منه، لكنه ظلَّ صامتًا. ولم يبدُ على وجهه غضب ما بدا عليه من شحوب، وظلَّت عيناه ترُكزان على نقطةٍ ما على الطاولة. وقد حيرني أنه لم يُجِب، لكن بعد وهلةٍ من الصمت، توليتُ أنا دفة الهجوم، وسألت الإيراني هل يعرف أسماء الآلاف الذين قفزوا إلى مياهٍ تعج بأسماك القرش قبل أن تصل السفن التي أُسِروا على متنِها إلى الموانئ الأمريكية؛ وسألته هل كان سيُفضِّل الموت بمجرد أن ترسو السفن، إذا عرف أن الثورة لن تعود على النساء والأطفال إلا بمزيدٍ من المعاناة. وهل كان تعاون بعض العبيد مختلفًا عن صمت بعض الإيرانيين الذين وقفوا يتفرجون ولم يفعلوا شيئًا وسفَّاحو السافاك يقتلون ويُعذِّبون مناهضي الشاه؟ كيف يمكننا أن نحكم على الآخرين إلا إذا كنا مكانهم؟

بدت هذه الملحوظة الأخيرة وكأنها فاجأتِ الرجل، وأخيرًا عاد ماركوس للمشاركة في الحوار، وذكر أحد أقوال مالكولم إكس المأثورة القديمة عن الاختلاف بين زنوج المنزل وزنوج الحقل. لكنه تحدَّث كما لو أنه لم يكن مُقتنعًا بكلماته، وبعد بضع دقائق نهض فجأة واتجه نحو الباب.

لم أتحدَّث أنا وماركوس عن ذلك الحوار قط. ربما لم يكن هذا سيُفسِّر شيئًا؛ فقد كانت هناك أسباب أكثر من كافية لشخصٍ مثل ماركوس كي لا يشعر بالارتياح في مكانٍ مثل أوكسيدينتال. بالإضافة إلى أنني في الشهور التي تبِعَت بدأتُ ألاحظ تغيرات على ماركوس، كما لو أن أشباحًا هربت عبر شقوق عالمنا الآمِن المُشمس وتُطارده. في البداية أصبح أكثر تعبيرًا عن فخره العنصري. فاعتاد ارتداءَ ملابسَ مطبوعٍ عليها صور أفريقية في الفصل، وبدأ في محاولة إقناع الإدارة بأن تكون هناك مدينة جامعية مخصَّصة لإقامة السود فقط. وبعد ذلك أصبح أكثر تحفُّظًا. وبدأ يهمل حضور المحاضرات، وزاد تعاطيه للماريجوانا. وأطلق لحيته وترك شعرَه ينمو في جدائل طويلة.

وفي النهاية أخبرَني أنه سيأخُذ إجازةً من الدراسة لبعض الوقت. قال: «إنني أحتاج إلى راحة من هذا الهراء.» كنا نسير في متنزَّه في كومبتون نقضي بعض الوقت هناك في احتفالٍ يستغرق اليوم بأكمله، وكان يومًا جميلًا. الجميع يرتدون شورتاتٍ قصيرة، والأطفال يصيحون وهم يركضون على الحشائش، لكن ماركوس بدا مُشتَّت الانتباه ونادرًا ما يتحدَّث. ولم يبدُ أنه عاد إلى الحياة مرةً أخرى إلا عندما مرَرْنا بفرقةٍ تعزِف على طبول البونجو. جلسنا إلى جوارهم أسفل شجرةٍ والصوت يأسِر انتباهنا، وراقبنا الأيدي السوداء التي لا تكاد تتلاحم وهي ترقص. وبعد وهلةٍ بدأتُ أشعر بالملل فمشيتُ بعيدًا عنهم وتحدَّثت إلى سيدة جميلة تبيع فطائر باللحم. وعندما عُدت كان ماركوس لا يزال في المكان نفسه، لكنه بدأ يعزِف هو الآخر، فوجدته يجلس القرفصاء بقدمَيه الطويلتَين وعلى حِجره طبلتا بونجو صغيرتان استعارهما. ومن خلال ضباب السجائر الرقيق الذي أحاط به كان وجهه جامدًا يخلو من التعبيرات، وعيناه شبه مغمضة كما لو كان يحاول إبعاد ضوء الشمس. راقبته لساعةٍ تقريبًا وهو يعزِف دون إيقاع أو اختلاف في الأصوات، لا يفعل شيئًا سوى القرع على الطبلتَين بعنف كما لو أنه يدفع بعيدًا ذكرياتٍ لا يعرفها أحد. وفي ذلك الوقت أدركتُ أن ماركوس يحتاج إلى مساعدتي مثلما أحتاج أنا إلى مساعدته، وأدركتُ أيضًا أنني لم أكن الوحيد الذي يبحث عن إجابات.

في تلك اللحظة نظرتُ إلى الشارع المهجور في نيويورك. هل يعرف ماركوس إلى أين ينتمي؟ هل يعرف أيٌّ منا؟ أين الآباء والأعمام والأجداد الذين يمكنهم المساعدة في تفسير هذا الجرح العميق في قلوبنا؟ أين مُداوو الجراحِ الذين يمكنهم مساعدتنا في إنقاذ المعاني من الهزيمة؟ لقد رحلوا، اختفَوا، ابتلعهم الزمان. ولم يتبقَّ سوى صورهم المشوشة وخطاباتهم التي تصِل مرةً واحدة في العام مُحمَّلة بالنصائح غير الثمينة.

•••

كان الوقتُ قد تجاوز منتصف الليل بكثيرٍ عندما زحفتُ عبر سياجٍ يقود إلى زقاق. ووجدت بقعةً جافة، فوضعتُ حقائبي أسفل جسدي وسقطتُ في سباتٍ عميق وصوت الطبول يُشكِّل أحلامي برقَّة. وفي الصباح استيقظتُ ووجدت دجاجةً بيضاء تُفتِّش بمنقارها في القمامة بالقرب من قدمي. وعلى الجانب الآخر من الشارع كان هناك مُتشرد يغتسل من صنبور مياه مفتوح، ولم يعترض عندما انضممتُ إليه. وفي الشقة لم يكن أحد يجيب، لكن صادقًا ردَّ على الهاتف عندما اتصلتُ به وأخبرني أن أستقلَّ سيارة أجرة إلى شقته في حي «أبر إيست سايد».

وفي الشارع استقبلني صادق، وهو باكستاني قصير القامة قوي البنيان جاء إلى نيويورك من لندن قبل عامَين، ووجد أن سُخريته اللاذعة ورغبته الجريئة في تكوين ثروةٍ مناسبتان تمامًا لأجواء المدينة. وقد تجاوز فترة الإقامة المسموح له بها في تأشيرته، وأصبح يكسب عيشَه بالعمل نادلًا ضمن القوى العاملة من المهاجرين غير الشرعيِّين الذين يُسْتَبْدلون بسرعةٍ في نيويورك. وعندما دخلنا الشقة وجدتُ سيدة في ملابسها الداخلية تجلس على طاولة المطبخ، ومرآة وماكينة حلاقة إلى جوارها.

بدأ صادق يقول: «صوفي، هذا باري …»

فصحَّحتُ له: «باراك» وأنا أضع الحقائب على الأرض. لوَّحَت السيدة بعدم اكتراث، ثم أخبرتْ صادقًا أنها ستكون قد رحلَتْ عندما يعود. تبِعت صادقًا إلى الأسفل مرةً أخرى ثم ذهبنا إلى مقهًى يوناني على الجانب الآخر من الشارع. واعتذرتُ مرة أخرى لأني اتصلتُ به في وقتٍ مبكر للغاية.

فقال: «لا تقلق.» وتابعَ: «لقد كانت تبدو أجمل بكثيرٍ ليلة أمس.» ثم أخذ يفحص قائمة الطعام ثم وضعها جانبًا. وسألني: «أخبِرني، يا بار— عفوًا. باراك. ما الذي جاء بك إلى مدينتنا الجميلة؟»

حاولت أن أشرح له. فأخبرته أنني قضيتُ الصيف أُفكِّر في شبابٍ أُهدِر هباء، وحالة العالم وحالة روحي. وقلت: «أريد أن أصلح الأمور.» وتابعتُ: «أريد أن أجعل من نفسي إنسانًا ذا فائدة.»

فتح صادق صفار بيضةٍ بشوكته. وقال: «حسنًا يا صديقي … يمكنك التحدُّث كما تشاء عن إنقاذ العالم، ولكن هذه المدينة تميل لأن تمحو مثل هذه المشاعر النبيلة تدريجيًّا. انظر إلى هناك.» وأشار إلى الزحام في الجادة الأولى. «الجميع يهتمُّ بنفسه وبمصالحه فحسب. البقاء للأصلح. أنياب ومخالب. ادفع الرجل الآخر ليبتعِد عن طريقك. هذه هي نيويورك يا صديقي. لكن …» ثم هزَّ كتفَيه ومسح بعض البيض بالخبز. قال: «مَن يدري؟ ربما تكون أنت الاستثناء. وفي هذه الحالة سأرفع لك القبَّعة.»

ورفع صادق كوب قهوته في تحيةٍ ساخرة وعيناه تبحثان عن أية إشارة للتغيير. وعلى مدار الشهور التي تلت كان يستمرُّ في مُراقبتي وأنا أتنقَّل مثل فأر تجارب ضخم عبر طرق مانهاتن الفرعية. وكتم ضحكته عندما استولى شاب ضخم على المقعد الذي عرضتُه على سيدة في منتصف العمر في المترو. وكان يقودني في أحد فروع بلومينجدال عبر عارضات أزياء كنَّ ينثُرن العطر في الهواء، ويُراقِب ردَّ فِعلي وأنا أفحص بطاقات الأسعار المذهلة على معاطف الشتاء. وعرض عليَّ الإقامة عنده مرةً أخرى عندما تخليتُ عن الشقة في شارع ١٠٩ بسبب سوء التدفئة بها، وصحبني إلى محكمة الإسكان عندما تبيَّن أن المؤجِّرين من الباطن لشقتي الثانية لم يدفعوا الإيجار وهربوا بمبلغ العربون الذي أعطيتُه لهم.

«أنياب ومخالب يا باراك. توقَّف عن الاهتمام بهؤلاء المشرَّدين هنا، وفكِّر كيف ستكوِّن لنفسك ثروةً من هذه الشهادة الجامعية المكلِّفة التي ستحصل عليها.»

وعندما فقد صادق شقته المؤجَّرة، أقَمْنا معًا. وبعد بضعة أشهُر من الفحص الدقيق، بدأ يُدرك أن المدينة كان لها بالفعل تأثير عليَّ، مع أنه لم يكن التأثير الذي توقَّعه. فقد توقَّفتُ عن تعاطي المخدرات. وكنتُ أركض ثلاثة أميال يوميًّا وأصوم أيام الآحاد. ولأول مرة منذ سنواتٍ كرَّستُ نفسي للدراسة وبدأتُ أحتفظ بدفترٍ أُدوِّن فيه الأفكارَ اليومية وشعرًا سيئًا للغاية. وكلما حاول صادق إقناعي بالذهاب إلى إحدى الحانات اعتذرتُ بعذرٍ غير مُقنع، مثل إن لديَّ الكثير من الأعمال لأُنجزها، أو إنني لا أملك ما يكفي من النقود. وفي أحد الأيام — قبل أن يغادر الشقة بحثًا عن صحبةٍ أفضل — استدار ووجَّه لي أقسى انتقاد.

قال: «إنك تُصبح مملًّا.»

كنتُ أعلم أنه مُحق، مع أني لم أكن أنا نفسي أعرف يقينًا ماذا حدث. أظن أنني بطريقةٍ ما كنتُ أؤكد على تقدير صادق لإغراء المدينة، وقدرتها على الإفساد. فمع ازدهار البورصة في وول ستريت أصبحت مانهاتن تعجُّ بالنشاط والحيوية، وأصبحت التطورات تبرز إلى الوجود بغتةً في كل مكان؛ فأصبح كثير من الرجال والنساء الذين تجاوزوا العشرينيات من عمرهم بقليل يمتلكون ثرواتٍ هائلة، وسار تجار الأزياء على نهجهم. وقد بهر جمال المدينة وتلوُّثها وضوضاؤها وتبذيرها حواسِّي؛ فلم يبدُ أن هناك قيدًا على ابتكار أنماطٍ للحياة أو على صناعة الرغبات؛ فهناك دائمًا مطعم أغلى، أو ملابس أكثر أناقة، أو ملهًى ليلي أكثرُ خصوصية، أو امرأة أجمل، أو مُخدِّر أقوى. ولأني لم أكُن واثقًا بقدرتي على أن أنتهج منهج الاعتدال، وأخشى السقوط في العادات القديمة، تبنَّيتُ موقفَ — إن لم يكن معتقدات — الواعظ الذي يسير في الشوارع؛ مستعدًّا لأن أرى الإغواءات في كل مكان، ومتأهِّب لأن أتجاوز الإرادة الهشة.

ومع ذلك فقد كان ردُّ فِعلي أكثر من مجرد محاولة لكبح جماح شهيةٍ مفرطة أو استجابة للضغط الحسي. فأسفل ذلك النشاط والحركة، كنتُ أرى التمزُّق المستمر للعالَم. لقد رأيتُ فقرًا مُدقعًا في إندونيسيا، ولمحتُ النزعة العنيفة في أطفال المناطق الفقيرة المكتظة بالسكان في لوس أنجلوس، وأصبحت معتادًا في كل مكانٍ على الشك الذي يُراود كل عِرق تجاه الآخر. لكن سواء أكان هذا بسبب الكثافة السكانية بنيويورك أم بسبب مساحتها، فقد بدأتُ هناك فقط أستوعِب الدقة، التي تُضاهي الدقة الرياضية، التي تلتحِم بها مشكلات الأجناس والطبقات في أمريكا، وعمق وضراوة الحروب القبلية الناتجة، والغضب والمرارة اللذَين يتدفَّقان بانسيابية، ليس فقط في الخارج في الشوارع، لكن في حمامات جامعة كولومبيا أيضًا حيث كانت الجدران، بصرف النظر عن عدد المرات التي حاولَتِ الإدارة طلاءها، لا تزال منقوشًا عليها مراسلات فظَّة بين الزنوج واليهود.

كان الأمر كما لو أن جميع المواقف المعتدلة قد انهارت تمامًا. وبدا أن ذلك الانهيار كان أكثر وضوحًا في مجتمع السُّود الذي تخيلتُه بعاطفةٍ قوية وأملتُ أن أجد بداخله مأوًى، أكثر من أيِّ مكانٍ آخر. فقد أُقابل صديقًا أسود في شركته للمحاماة في وسط المدينة، وقبل أن نتَّجه لتناوُل الغداء في مطعم متحف الفن الحديث، أنظر من نافذة مكتبه — الموجود في مبنًى شاهق الارتفاع — إلى الجانب الآخر من المدينة باتجاه نهر إيست ريفر، وأتخيل حياةً سعيدة؛ إجازةً وعائلةً ومنزلًا. حتى لاحظتُ أن السُّود الآخرين في المكتب كانوا إما سعاة أو عمالًا، والسُّود الآخرين في المتحف هم حراس الأمن الذين يرتدون ستراتٍ زرقاء ويَعُدُّون الساعات قبل أن يمكنهم اللحاق بالقطار والعودة إلى منازلهم في بروكلين أو كوينز.

وفي بعض الأحيان كنتُ أتجوَّل في هارلم كي ألعب في ملاعبَ قرأتُ عنها، أو كي أستمع إلى حديثٍ يُلقيه جيس جاكسون في شارع ١٢٥، أو — في أوقات نادرة من صباح أيام الآحاد — كي أجلس على المقعد الخلفي في الكنيسة المعمدانية الحبشية، وتُبهجني تراتيل الإنجيل الجميلة الحزينة التي يُرتِّلها جوقة المنشِدِين، وألمح شيئًا من ذلك الذي كنتُ أسعى إليه. ولكن لم يكن لديَّ مرشد يمكنه أن يُريني كيف أنضم إلى هذا العالم المضطرب، وعندما بحثتُ عن شقةٍ هناك، وجدتُ المنازل الأنيقة المبنية بالحجر الرملي البُني في منطقة شوجر هيل غيرَ شاغرة وبعيدة عن متناوَل يدي، أما المباني السكنية القليلة المتميزة فكان أمامها قوائم انتظار تمتدُّ لعشر سنوات، ومِن ثَم لم يتبقَّ سوى صفوف وصفوف من المباني السكنية غير صالحة للسكن كان الشباب يقفون أمامها يَعُدُّون قوائم الفواتير الضخمة، ويتنزَّه أمامها السكارى ويتعثرون ويبكون برفق.

أخذت كل هذا على أنه إهانة لشخصي، سخرية من طموحي الرقيق، مع أني عندما تحدَّثتُ عن هذا الأمر أمام أشخاصٍ عاشوا في نيويورك لبعض الوقت، قيل لي إنه لا شيء جديد في هذه الملاحظات. وقالوا إن هذه المدينة خارجة عن السيطرة؛ فالتناقُض الشديد ظاهرة طبيعية، مثل الرياح الموسمية أو الانجراف القاري. وأصبحَتِ المناقشات السياسية، من ذلك النوع الذي كان هادفًا وشديدَ التوتر في أوكسيدينتال، تحمل طابع المؤتمرات الاشتراكية التي كنتُ أحضرها في بعض الأحيان في كلية اتحاد كوبر، أو معارض الثقافة الأفريقية التي كانت تُقام في هارلم وبروكلين أثناء الصيف، ولم يكن هذا سوى بضعة من مصادر التسلية الكثيرة التي قدَّمَتها نيويورك مثل الذهاب لمشاهدةِ فيلم أجنبي أو التزلُّج على الجليد في مركز روكفلر. وأمكنني بقدْرٍ بسيط من المال أن أكون حرًّا لأعيش مثل معظم المواطنين السود من الطبقة المتوسطة في مانهاتن، حرًّا في اختيار فكرة رئيسية تدور حولها حياتي، حرًّا لأُكوِّن لنفسي مجموعة من الأساليب والأصدقاء والحانات والانتماءات السياسية. ومع ذلك فقد شعرتُ أنه في مرحلةٍ ما — ربما عندما يكون لدَيك أطفال وتُقرِّر أنه لن يمكنك البقاء في المدينة إلا على حساب الالتحاق بمدرسةٍ خاصة، أو عندما تبدأ في التنقُّل بسيارات الأجرة ليلًا تجنبًا لاستقلال المترو، أو عندما تُقرِّر أنك تحتاج إلى بواب في المبنى الذي تقطن فيه — فإن اختيارك لا يمكن الرجوع فيه، فسيُصبح من غير الممكن اجتياز الهوة الفاصلة، وستجد نفسك على جانب الطريق الذي لم تعتزم قطُّ أن تكون عليه.

ولأنني لم أكن راغبًا في هذا الاختيار فقد قضيتُ عامًا، أسير من أحد طرفي مانهاتن إلى الآخر. وراقبتُ، مثل السياح، نطاق إمكانيات البشر المتاحة، محاولًا تتبُّع مسار مُستقبلي في حياة الناس التي أراها، وأبحث عن منفذٍ يُمكنني الدخول منه مرةً أخرى.

•••

وجدَتْني والدتي وأختي في هذه الحالة من الكآبة عندما جاءتا لزيارتي في أول صيفٍ أقضيه في نيويورك.

فقالت مايا لوالدتي: «إنه نحيف للغاية.»

وصاحت أُمي وهي تُفتِّش الحمَّام: «ليس لدَيه سوى مِنشفتَين!» واستدركت: «وثلاثة أطباق!» وبدأتا تضحكان.

مكثتا معي أنا وصادق بضعَ ليالٍ ثم انتقلتا إلى شقةٍ في بارك أفينيو عرَضها صديقٌ لوالدتي عليهما وهي مسافرة. وفي ذلك الصيف وجدتُ عملًا في تنظيف موقع بناء في حي أبر ويست سايد؛ لذا فقد قضت والدتي وأُختي معظم أيامهما تستكشِفان المدينة وحدَهما. وعندما كنا نتقابل على العشاء كانتا تُقدِّمان تقريرًا مفصلًا عن مغامراتهما؛ مثل تناول فراولة وقشدة في بلازا، والذهاب بمركبٍ إلى تمثال الحرية، وزيارة أعمال سيزان في متحف المتروبوليتان للفنون. وكنتُ أنا أتناول طعامي في صمتٍ حتى تنتهيا من الحديث ثم أبدأ حديثًا طويلًا عن مشكلات المدينة والأمور السياسية المتعلقة بمن حُرِموا حقوقَهم. ووبَّخت مايا لأنها قضت إحدى الأمسيات تشاهد التليفزيون بدلًا من قراءة القصص التي اشتريتُها لها. وكنتُ أوضِّح لأمي الطُّرق المختلفة التي يساعد بها المتبرِّعون الأجانب ومنظمات التنمية الدولية، مثل تلك التي كانت تعمل بها، على زيادة اعتماد دول العالم الثالث على غيرهم. وفي إحدى المرات، عندما دخلَت كلتاهما إلى المطبخ سمعتُ مايا تتحدَّث إلى والدتي.

قالت: «باري بخير، أليس كذلك؟ أقصد أتمنَّى ألا يفقد هدوءه ويُصبح واحدًا من أولئك الغرباء الذين نراهم في الشوارع من حولنا.»

وفي مساء أحد الأيام، وبينما كنتُ أتصفَّح صحيفة «ذا فيليدج فويس»، برقَتْ عينا أمي عندما رأت إعلان فيلم «أورفيوس الأسود» (بلاك أورفيوس) الذي كان يُعرَض في سينما بوسط المدينة، وأصرَّت والدتي على أن نذهب ونُشاهده في تلك الليلة، وقالت إنه أول فيلم أجنبي رأته في حياتها.

وأخبرتنا عندما دلفنا إلى المصعد: «لم أكن تجاوزتُ السادسة عشرة من عمري، وكنتُ قد قُبِلت لتوي في جامعة شيكاغو، ولم يكن جَدك قد أخبرني بعدُ أنه لن يدعني أذهب للالتحاق بالجامعة، وذهبت هناك فترة الصيف، أعمل جليسة أطفال. وكانت تلك هي المرة الأولى على الإطلاق التي أكون فيها وحدي تمامًا. يا إلهي، شعرتُ أنني ناضجة للغاية. وعندما شاهدت هذا الفيلم، قررتُ أنه أجمل شيء رأيته في حياتي.»

ركبنا سيارة أجرة إلى السينما التي تُعيد عرض الأعمال السينمائية القديمة التي يعرض فيها هذا الفيلم. وقد صُور ذلك الفيلم — الذي كان الأول من نوعه بسبب فريق العمل الذي يتكوَّن بالكامل من برازيليين سُود — في الخمسينيات. وكانت قصة الفيلم بسيطة؛ أسطورة الحبِّ التعيسة بين أورفيوس ويوريديس التي دارت أحداثها في أحياء مدينة ريو أثناء المهرجان. كان البرازيليون السُّود والسمر الذين يظهرون بروعة التصوير بالألوان في خلفية من التلال الخضراء الطبيعية، يُغنُّون ويرقصون ويعزِفون على الجيتار مثل طيورٍ ملونة لا يشغل بالها شيء. وفي منتصف الفيلم تقريبًا قررتُ أنني رأيتُ ما يكفي واستدرتُ إلى أُمي لأرى هل هي مستعدة للمغادرة، ولكن كان على وجهها المضاء بالتوهُّج الأزرق المنعكس من الشاشة نظرة حالمة. وفي تلك اللحظة شعرتُ أنني أنظر عبر نافذة إلى قلبها، قلبها الطائش في شبابها. وفجأة أدركتُ أن تصوير السود بهذه البراءة التي تظهر على الشاشة — وهو نقيض الصورة التي رسمها كونراد عن السُّود البربريِّين — هو ما حملته أمي إلى هاواي كل تلك السنوات، انعكاس للأوهام البسيطة التي كانت مُحرَّمة على الفتاة البيضاء من الطبقة المتوسطة من كانساس، الوعد بحياة أخرى؛ دافئة وحسِّية وغريبة ومختلفة.

استدرتُ مرة أخرى وأنا أشعر بالخجل من أجلِها، وبالغضب من الناس حولي. وتذكَّرتُ وأنا أجلس في الظلام حوارًا دار بيني وبين صديقٍ لوالدتي، وهو رجل إنجليزي كان يعمل لدى منظمة إغاثة دولية تعمل في أرجاء أفريقيا وآسيا. وقد قال لي إنه من بين جميع الشعوب المختلفة التي قابلها في أسفاره كان أهل مدينة دِك في السودان هم الأغرب.

وقال: «عادة بعد شهر أو اثنين تنجح في التواصُل مع الناس، حتى إذا لم تكن تتحدَّث لُغتهم، فستجد ابتسامةً أو دُعابة؛ أيْ مظهرًا من مظاهر التعارُف. ولكن في نهاية عام مع أهل مدينة دِك ظلُّوا غرباء تمامًا في نظري؛ فكانوا يضحكون على الأمور التي تقودني إلى اليأس. وما كنتُ أظنُّه مُضحكًا كان يتركهم صامتين كالحجارة.»

وقد وفَّرت عليه إخباري أن أهلَ دِك كانوا من الشعوب النيلية؛ أي أقرباء لي. وحاولت أن أتخيَّل هذا الرجل الإنجليزي شاحب الوجه في صحراء حارقة في مكانٍ ما، ويولي ظهره لدائرةٍ من رجال القبائل العراة، وعيناه تبحثان في سماءٍ خاوية، ويشعر بالمرارة في وِحدته. وقد طرأت الفكرة نفسها التي راودتني في ذلك الوقت على ذهني وأنا أخرج من السينما مع أُمي وأختي: لا يمكن للعواطف بين الأجناس أن تكون نقية، حتى الحب كانت تلوِّثه الرغبةُ في أن نجد في الآخر شيئًا نفتقده في ذاتنا. وسواء أكنا نسعى لاستحضار الشياطين أو الخلاص من ذنوبنا فإن العِرق الآخَر سيظل دائمًا كما هو: خطر وغريب ومنعزل.

قالت مايا عندما ذهبت والدتي إلى الحمَّام: «إنه قديم.»

«ماذا؟»

«الفيلم، إنه من النوع القديم، النوع الذي تُفضِّله أُمي.»

وعلى مدار الأيام التالية حاولتُ أن أتجنَّب مواقفَ تُجبرني أنا ووالدتي على التحدُّث، ثم قبل بضعة أيام من رحيلهما زرتهما عندما كانت مايا نائمة. ولاحظَتْ والدتي خطابًا موجَّهًا إلى أبي في يدي، وسألتُها هل معها طابع بريد دولي.

«هل ترتِّبان لزيارة؟»

أخبرتُها باختصارٍ عن خططي وهي تُخرِج من قاع حقيبتها طابعًا. في الواقع أخرجَتْ طابعَين وقد التصقا معًا بفعل حرارة الصيف. فابتسمَتِ ابتسامةً خجولة، ووضعَتِ الماء ليغلي كي نفصلهما بالبخار.

وقالت من المطبخ: «أظنُّ أنه من الرائع لكليكما أن تُتاح لكما الفرصة أخيرًا ليعرف أحدكما الآخر. على الأرجح كان من الصعب عليك تحمُّله وأنت صبي في العاشرة، لكن الآن بعد أن كبِرت …»

هززتُ كتفي. وقلت: «مَن يدري؟»

أخرجتْ رأسَها من المطبخ. قالت: «أتمنَّى ألا تكون تشعر بالاستياء تجاهه.»

«ولماذا؟!»

«لا أعلم.» ثم عادت إلى غرفة المعيشة وجلسنا هناك بعض الوقت نسمع صوت حركة المرور بالأسفل. ثم انطلق صفير إبريق الشاي ووضعت طابع البريد على المظروف. ثم دون أيِّ داعٍ بدأت والدتي تروي قصةً قديمة مرةً أخرى في صوتٍ بعيد، كما لو أنها تقصُّها على نفسها.

قالت: «لم يكن خطأ والدك أنه رحل كما تعلم. أنا طلَّقتُه. عندما تزوَّجنا لم يكن جَدك وجَدتك سعداء بالفكرة، لكنهما وافقا، وعلى الأرجح لم يكن بوسعهما أن يُوقِفانا، وفي النهاية غيَّرا رأيهما وقالا إنها فكرة سديدة. ثم كتب والد باراك، جَدك حسين، لوالدي ذلك الخطاب الطويل السيئ يقول فيه إنه لم يوافق على الزواج. وأضاف أنه لم يُرِد أن يتلوَّث دم عائلة أوباما بدماء امرأةٍ بيضاء. ويمكنك أن تتخيَّل كيف كان ردُّ فعل جَدك عندما قرأ هذا. ثم كانت هناك مشكلة زوجة أبيك الأولى … وكان قد أخبرني أنهما انفصلا، وقد كان زواجه بها على النظام القروي ومن ثَم لم يكن هناك أي مُستند قانوني يوضح أنهما قد طُلِّقا …»

وبدأ ذقنها يرتجف وضغطت بأسنانها على شفتها محاوِلةً التماسُك. وقالت: «ردَّ والدُك على الخِطاب، وقال إنه سيستمر فيما بدأه. ثم وُلدتَ أنت واتفقنا على أن نعود نحن الثلاثة إلى كينيا عندما ينتهي من دراسته. لكن جَدك حسينًا كان لا يزال يكتب خطابات إلى والدك، ويُهدِّده بأنه سيجعلهم يسحبون تأشيرته كطالب. وفي ذلك الوقت أصبحَتْ جَدتك في غاية الاضطراب؛ فقد قرأت عن ثورة ماو في كينيا قبل بضع سنوات وقد ألقَتْ عليها الصحافة الغربية ضوءًا شديدًا، وكانت واثقة من أنهم سيقطعون رأسي ويختطفونك إذا ما ذهبنا إلى هناك.

«حتى في ذلك الوقت، كان من الممكن أن ينجح الأمر. وعندما تخرَّج والدُك من جامعة هاواي تلقَّى منحتَين دراسيتَين. واحدة إلى جامعة نيو سكول هنا في نيويورك والأخرى إلى جامعة هارفارد. ووافقت جامعة نيو سكول على أن تُغطِّي نفقات كل شيء؛ الغرفة والإقامة ووظيفة في الحرم الجامعي وهو ما كان كافيًا لنعيش منه نحن الثلاثة. أما جامعة هارفارد فقد وافقت على تغطية مصاريف الدراسة فقط. لكن باراك كان وغدًا عنيدًا واختار الذهاب إلى هارفارد. وقال لي: «كيف أرفض فرصةً لتلقي أفضل تعليم؟» فهذا هو كلُّ ما كان يُفكِّر فيه: إثبات أنه أفضل …»

وتنهَّدت، ومررَّت أصابعها في شعرها. وقالت: «لقد كنَّا صغارًا. كنتُ أصغر سنًّا منك الآن. وهو كان أكبر منك ببضع سنوات. بعد ذلك عندما جاء لزيارتنا في هاواي تلك المرة، أرادنا أن نذهب ونعيش معه. لكني كنتُ لا أزال متزوجةً من لولو في ذلك الوقت، وكانت زوجته الثالثة قد تركته للتو، ولم أفكِّر …»

ثم توقَّفت وضحكت لنفسها. وقالت: «هل أخبرتُك قط أنه تأخَّر على أول ميعاد بيننا؟ طلب مني أن أُقابله أمام مكتبة الجامعة في الساعة الواحدة. وعندما وصلتُ إلى هناك، لم يكن قد وصل بعد، ففكَّرت أنه يمكنني أن أمنحه بضع دقائق. وكان الجو جميلًا، فاستلقيتُ على أحد المقاعد الكبيرة وسرعان ما استغرقتُ في النوم. وبعد ساعة — ساعة كاملة! — ظهر مع اثنَين من أصدقائه، فاستيقظتُ وثلاثتهم يقفون إلى جوار المقعد، وسمعتُ أباك يقول بجدية تامة: «أرأيتم أيها السادة. لقد أخبرتُكم أنها فتاة رائعة، وأنها ستنتظِرني.»

ضحكت والدتي مرةً أخرى، ومرة أخرى رأيتُها في صورة الطفلة التي كانت عليها. باستثناء أني رأيتُ شيئًا آخر هذه المرة؛ ففي وجهها المبتسِم الحائر قليلًا رأيتُ ما يجب أن يراه جميع الأطفال في وقتٍ ما إذا أرادوا أن ينضجوا؛ حياة والدَيهم تتكشَّف أمامهم منفصلةً وتمتد إلى ما هو أبعد من نقطة زواجهما أو ميلاد أحد أبنائهما، وتتجلَّى تفاصيلُ الحياة بدءًا من الأجداد وأجداد الأجداد، وعدد لا نهائي من اللقاءات بالصدفة، وسوء الفهم والآمال المتوقَّعة والظروف المحدودة. لقد كانت والدتي تلك الفتاة التي لا تزال مُتأثرة بالفيلم الذي يضم أناسًا سودًا رائعين، والتي أشبع اهتمامُ أبي بها غرورَها، وهي حائرة ووحيدة تحاول أن تهرُب من قبضة حياة والدَيها. لقد كان سوء الفهم واحتياجاتها الخاصة يشوبان البراءة التي حملتها معها في ذلك اليوم وهي في انتظار أبي. لكنها كانت احتياجات ساذَجة ودون إدراك للذات، وربما تكون هذه هي الطريقة التي تبدأ بها أية قصة حب، دوافع وصور غير واضحة تسمح لنا بالهروب من وِحدتنا ثم — إذا كنَّا من سعداء الحظ — نتحوَّل في النهاية لنكون أكثر ثباتًا. ما سمعتُه من أُمي في ذلك اليوم وهي تتحدَّث عن أبي شيء أظن أن معظم الأمريكيين لن يسمعوه أبدًا من بين شفتَي شخصٍ من عِرق آخَر، ومن ثَم لا يمكن أن نتوقَّع أن يُصدقوا أنه قد يكون موجودًا بين البِيض والسود؛ إنه حُب شخصٍ يعرف جميع جوانب حياتك، حبٌّ سيتغلَّب على الإحباط. لقد رأت أمي أبي في الصورة التي يأمل كلُّ شخصٍ أن يراه عليها شخصٌ واحد على الأقل، وحاولتْ أن تساعد الطفل الذي لم يعرفه قطُّ على أن يراه بالطريقة نفسها. وقد كانت تلك النظرة على وجهها في ذلك اليوم هو ما تذكَّرتُه عندما اتصلتُ بها بعد بضعة شهور لأخبرها أن والدي قد تُوفي وسمعتُ صرختَها من هذه المسافة البعيدة.

•••

بعدما تحدَّثتُ إلى والدتي اتصلتُ بشقيق والدي في بوسطن ودار بيننا حوار قصير غريب. ولم أذهب إلى الجنازة؛ لذا كتبتُ لعائلة والدي في نيروبي خطابًا أُعرِب فيه عن تعازيَّ. وطلبتُ منهم أن يكتبوا إليَّ، وسألت عن حالهم. ولكني لم أشعر بالألم، فقط راودني شعور غامض بأن فرصةً ما قد ضاعت، ولم أجد سببًا للتظاهر بغير ذلك. وتأجَّلَت خططي للسفر إلى كينيا إلى أجلٍ غير مُسمًّى.

سيمرُّ عام آخر قبل أن أُقابله في إحدى الليالي في زنزانة باردة في أحد أحلامي. فقد حلمت أني أسافر بالحافلة مع أصدقاءَ لا أتذكَّر أسماءهم، رجال ونساء لدَيهم رحلات مختلفة للقيام بها. وقد سِرنا عبْر حقولٍ عميقة من الحشائش والتلال التي كانت تمتد قبالة السماء البرتقالية اللون.

جلس إلى جواري رجل عجوز أبيض البشرة قصير القامة ممتلئ القوام، وقرأتُ في كتابٍ كان يحمله بين يدَيه أن الطريقة التي نتعامل بها مع كبار السن تختبر أرواحنا. وقد أخبرَني أنه من المؤيدين للنقابات ومن أعضائها وأنه ذاهب للقاء ابنته.

توقَّفنا في فندقٍ قديم ضخم به ثريات. وكان هناك بيانو في الرُّواق ورَدهة مليئة بوسائد من الساتان الناعم، فأخذتُ إحدى الوسائد ووضعتُها على مقعد البيانو، وجلس الكهل الأبيض، وقد تقدَّم به العمر ووصل إلى مرحلة الشيخوخة، وعندما نظرتُ مرة أخرى إليه كانت فتاة سوداء صغيرة لا تكاد قدماها تصل إلى الدوَّاسة. فابتسمَتْ وبدأتْ تعزِف، ثم جاءت نادلة هسبانية شابة وقطَّبت ما بين حاجبَيها وهي تنظر إلينا، لكن أسفل العبوس كانت هناك ضحكة، ورفعت أصبعها إلى شفتَيها كما لو أننا نتشارك سرًّا.

غلبني النوم لباقي الرحلة، وعندما استيقظتُ وجدتُ أن الجميع قد رحلوا. وجدت أن الحافلة قد توقَّفت، فخرجتُ منها وجلست على رصيف الشارع. وفي داخل مبنًى من الحجر الصلب، كان هناك محامٍ يتحدَّث إلى قاضٍ. ورأى القاضي أن أبي قد قضى ما يكفي من الوقت في السجن، وأنه حان الوقت لإطلاق سراحه. لكن المحامي اعترض بقوةٍ واستشهد بقوانينَ متعددة وسابقة وبالحاجة إلى الحفاظ على النظام. فهزَّ القاضي كتفَيه ونهض من على الأريكة.

وقفتُ أمام الزنزانة وفتحت القفل ووضعته بحرصٍ على حافة نافذة. كان أبي أمامي ولا يرتدي سوى قطعة قماش تلتفُّ حول وسطه، وكان نحيفًا للغاية، برأسه الضخم، وقوامه الرشيق، وذراعَيه وصدره الخاليين من الشَّعر. وبدا شاحبًا، وعيناه السوداوان مضيئتان في وجهه الشاحب، لكنه ابتسم وأشار إلى الحارس الأبكم الطويل أن يتنحَّى جانبًا.

وقال: «انظر إلى نفسك.» وتابع: «لقد أصبحتَ طويلًا للغاية ونحيفًا للغاية. بل شابَ شعرُك!» ورأيتُ أنه كان على حق، فاتجهتُ إليه وتعانقنا. وبدأتُ أبكي، وشعرتُ بالخِزي، لكن لم أستطِع أن أوقِف نفسي.

وقال: «باراك. لقد أردتُ دائمًا أن أخبرك بمدى حبي لك.» وبدا صغيرًا للغاية بين ذراعَي، في حجم صبي.

وجلس في زاوية فراشه الصغير، ووضع رأسه على يدَيه المتشابكتَين، وحدَّق إلى الحائط بعيدًا عني. وارتسم على وجهه حزنٌ عميق لم يبدُ أن هناك سبيلًا لمحوه، فحاولتُ أن أُداعبه، وأخبرتُه أنني إذا كنتُ نحيفًا للغاية فهذا لأنني أُشبهه. ولكنه لم يحرك ساكنًا، وعندما همستُ له أننا يمكننا أن نُغادر معًا، هزَّ رأسه وأخبرني أنه سيكون من الأفضل لو أني رحلت.

استيقظتُ من النوم وأنا لا أزال أبكي، وكانت هذه هي أول دموع حقيقية أذرفها عليه، وعلى نفسي؛ أنا ساجنه، وقاضيه، وابنه. أضأتُ النور وأخرجتُ خطاباته القديمة، وتذكَّرت زيارته الوحيدة، وكرة السلة التي منحني إيَّاها، وكيف علَّمني الرقص. وأدركت، ربما لأول مرة، كيف أن صورته القوية، حتى في غيابه، منحتني حصنًا أَكْبُر بداخله، وهي صورة إما أعيش أهلًا لها أو أخذلها.

سرتُ إلى النافذة ونظرتُ إلى الخارج وأنا أستمع إلى أول أصواتٍ تصدر في الصباح؛ صوت شاحنات القمامة، وخُطى أقدامٍ في الشقة المجاورة. وجال بخاطري أنني بحاجةٍ لأن أبحث عنه وأتحدَّث معه مرة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤