الفصل الثامن

لم تكن تلك هي المرة الأولى لذهابي إلى شيكاغو، حيث زرتها خلال الصيف الذي تلا زيارة والدي لهاواي، قبل عيد ميلادي الحادي عشر، وكان ذلك عندما قرَّرَت جَدَّتي أنه حان الوقت لأن أرى أراضي الولايات المتحدة. ربما يكون قرارُها هذا وزيارة أبي مُرتبطَين أحدهما بالآخر، حيث وجود أبي (مرةً أخرى) وقد أزعج العالم الذي صنعه جَدي وجَدتي لنفسيهما، وبعث في جَدتي الرغبة في استعادة الماضي واسترجاع ذكرياتها ونَقلِها إلى أحفادها.

استغرقت الرحلة ما يزيد عن شهر، وكنتُ قد سافرت أنا وجَدتي وأُمي ومايا، أما جَدي فلم تكن لدَيه رغبة في السفر حينئذٍ ولذا فضَّل عدم مصاحبتنا. انطلقْنا إلى سياتل، واتجهنا منها للجنوب إلى ساحل كاليفورنيا وديزني لاند، ثم اتَّجهنا شرقًا إلى وادي جراند كانيون، ثم عبرْنا منطقة السهول الكبرى لنصِل إلى مدينة كانزاس سيتي، وبعدَها اتجهنا لأعلى إلى البحيرات العُظمى قبل أن ننطلِق غربًا مرورًا بمتنزَّه يلوستون. وخلال هذه الرحلة كانت وسيلة مواصلاتنا هي غالبًا أتوبيسات شركة جريهاوند، وأقمْنا في فندق هوارد جونسون، وكنا نُشاهد جلسات الاستماع في فضيحة ووترجيت كلَّ مساء قبل النوم.

مكثْنا في شيكاغو ثلاثة أيام في نُزل في منطقة ساوث لوب. ومع أننا كنَّا في شهر يوليو فإنني لسببٍ أو لآخَر أتذكَّر أن الطقس آنذاك كان باردًا ومُلَبَّدًا بالغيوم. كان بالفندق حمَّام سباحة داخلي، الأمر الذي أدهشني لأنه في هاواي لم تكن تُوجَد حمَّامات سباحة داخلية. وذات مرة كنتُ واقفًا أسفل أحد جسور شبكة القطارات المعلَّقة وأغمضتُ عيني وقت مرور القطار، وصرخت بأقصى ما استطعت. وفي متحف فيلد رأيتُ رأسين آدمِيَّين صغيرَين للغاية معروضَين في صندوقٍ زجاجي. وكان لهما وجهان تعلوهما التجاعيد، لكنهما كانا محفوظين في حالةٍ جيدة، وكان حجم كلٍّ منهما لا يزيد عن حجم كف يدي، وكان الفمان والعيون مغلقةً بإحكام، تمامًا كما كنتُ أتوقَّع. كان يبدو أنهما أوروبِيَّا العِرق، وكان للرجل لحيةٌ صغيرة مُشذَّبة جعلته شبيهًا بالغزاة الإسبان الذين هاجموا وسط وجنوب أمريكا في القرن السادس عشر، وعلا رأس السيدة شعرٌ أحمر مُنساب. حدَّقتُ النظر إلى كليهما فترةً طويلة (إلى أن جذبتني أُمي بعيدًا عنهما)، وانتابني شعور وقتها — في ظل مشاعر السخرية التي يمكن أن يشعر بها صبي صغير — كما لو أنني عثرتُ بالصدفة على أضحوكة هائلة. لم تكن حقيقةَ أن الرأسين صغيرا الحجم للغاية هي التي أدهشتني وفاقت قُدرتي على الفهم؛ حيث كان شأنها شأن فكرة أكل لحم النمور مع لولو. فقد كان شكلًا من أشكال السِّحر يستهدف استعراض السيطرة والقوة، بل إن ما أدهشني هو أن هذَين الوجهَين الأوروبِيَّين الصغيرين كانا معروضَين في إطارٍ زجاجي، حتى يتمكَّن الغرباء — وربما المنحدرون من الأصل نفسه أيضًا — من ملاحظة تفاصيل قدرهما المشئوم، إلى جانب حقيقة أنه لم يبدُ أن أحدًا قد فكَّر في هذه المفارقة. وعلى الجانب الآخر كان لأضواء المتحف المُزعجة واللافتات المُنمقة الموضوعة على المعروضات، واللامبالاة البادية على زائري المتحف المارين تأثير سحري من نوعٍ آخر أو هو جهدٌ آخر يُبذل لإظهار القوة والسيطرة.

بعد زيارتي هذه بأربعة عشر عامًا، أصبحتِ المدينة أكثر جمالًا. وكان ذلك أيضًا في يوليو حيث كانت أشعة الشمس تتلألأ خلال الأشجار ذات اللون الأخضر الغامق. ولم تكن القوارب في مراسيها إذ بدت أشرعتُها من بعيد كأجنحة اليمام فوق بحيرة ميشيجان. أخبرني مارتي أنه سيكون مشغولًا في الأيام القليلة الأولى؛ لذا ظللتُ بمفردي أتصرَّف كما يحلو لي. فاشتريتُ خريطةً واسترشدتُ بها في السير بطريق مارتن لوثر كينج درايف من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ثم اتجهت شمالًا إلى مدينة كوتيدج جروف، ثم جنوبًا عبر الطرق الجانبية والأزقة مرورًا بالمباني السكنية والأراضي الفضاء والمتاجر الصغيرة والمنازل ذات الطابق الواحد. وفي طريقي تذكَّرتُ صفَّارة قطارات «إلينوي سنترال» وهي تحمل الآلاف ممن أتوا من الجنوب قبل سنواتٍ طويلة … آلاف من الرجال السُّود ونسائهم وأطفالهم، المتسخِين من سُخام عربات القطارات، قابضين على أمتعتهم التي أعدوها على عجل، وهم يشُقُّون طريقهم إلى كنيسة أرض كنعان. وحينها تخيلتُ فرانك — وهو يرتدي حُلة فضفاضة، طيةُ صدرِها عريضة — واقفًا أمام سينما ريجال القديمة في انتظار رؤية ديوك أو إيلا، وهما خارجان من عربةٍ بحصانٍ واحد. كان ساعي البريد الذي رأيتُه يوزِّع البريد هو ريتشارد رايت قبل بيع كتابه الأول، وكانت البنتُ الصغيرة ذاتُ النظارة والضفائر المجدولة التي رأيتُها تمارس قفز الحبل، هي ريجينا. لقد ربطتُ بين حياتي والوجوه التي رأيتها، مُستعيرًا ذكريات الآخرين، وبهذه الطريقة حاولتُ الإلمام بكل تفاصيل المدينة والاستحواذ عليها. وهذا أيضًا سحرٌ من نوع آخر!

في يومي الثالث في شيكاغو مررتُ على صالون سميتي للحلاقة بواجهته التي تُطِلُّ على الشارع والتي يبلغ عرضها خمسةَ عشر قدمًا وطولها ثلاثين قدمًا. يقع صالون سميتي على أطراف هايد بارك ويشتمل من الداخل على أربعة مقاعد للحلاقة ومنضدة صغيرة تُطوى لتأخذ حيزًا أقلَّ لمُقلِّم الأظافر — لاتيشا — الذي يعمل نصفَ دوام. كان الباب شبه مفتوح عندما دخلتُ وكان مسنودًا بدعامةٍ لمنعه من الانغلاق، وكان الصالون تنبعث منه رائحة كريم شعر ومُطهر تمتزج مع صوت ضحكات رجالٍ وطنين مراوح تعمل ببطء. واتَّضح أن سميتي رجل أسود عجوز يعلو رأسه الشيب، وكان نحيلًا مُتقوِّس الظهر. لم يكن هناك أحد يجلس على كرسي الحلاقة أمام سميتي؛ لذا جلستُ على الكرسي وسرعان ما اشتركتُ في الحديث المعتاد في صالونات الحلاقة عن الرياضة والسيدات والعناوين الرئيسية في جرائد الأمس، تلك المحادثات التي تُوحي بالأُلفة على الرغم من جهل الرجال — الذين اتفقوا على ترْك مشكلاتهم الشخصية بالخارج — بعضهم بعضًا.

سرد أحدهم قصة أحد جيرانه، الذي أمسكَت به زوجته في الفراش مع ابنة عمِّها، وخرج يجري عاريًا في الشارع وهي خلفه تُطارده بسكين المطبخ، وبعدَه مباشرة تحوَّلت دفة الحديث إلى السياسة.

«إن فردولياك وسائر البِيض الحقراء لا يعرفون متى يكفُّون عما يفعلونه»، هكذا قال الرجل الذي كانت بيدِه الجريدة وهو يهزُّ رأسه تأفُّفًا مما يحدث. وأضاف: «عندما كان ريتشارد دالي في منصب العمدة لم يتحدَّث أحد عندما جعل أعضاء مجلس المدينة كلهم من هؤلاء الأيرلنديين. وبمجرد أن حاول هارولد تعيين بعض الرجال السُّود لتحقيق المساواة بين البِيض والسود، أطلقوا على هذه المحاولة عنصرية مُضادة.»

«هكذا الحال دائمًا. كلما حصل رجل أسود على السلطة وجدتهم يحاولون تغيير القواعد.»

«الأسوأ من ذلك أن الجرائد تُشيع أن السود هم مَن تسبَّبوا في كل هذه الفوضى.»

«ماذا تتوقَّع من جرائد مُنحازة للرجل الأبيض؟»

«نعم هذا صحيح. إن هارولد يعلم ماذا يفعل. ومع ذلك فهو ينتظر حتى تسنح الفرصة لفعلِ ما يريد عندما يحين موعد الانتخابات القادمة.»

هكذا يتحدَّث السود عن عمدة شيكاغو، بأُلفةٍ وتعاطف وكأنهم يتحدَّثون عن أحد أقربائهم. وكانت صور هارولد في كل مكان؛ على جدران محلات إصلاح الأحذية، وصالونات التجميل، وكانت لا تزال مُلصقةً على أعمدة الإنارة بالشارع منذ حملة الانتخابات الأخيرة، وكانت لا تزال موجودةً على نوافذ محلات التنظيف الجاف الكورية ومتاجر البقالة العربية، وكانت معروضة بطريقةٍ واضحة وكأنها رمزٌ مقدَّس يمنح الحماية. بدا الرجل في الصورة الملصقة على جدار صالون الحلاقة وكأنه ينظر إليَّ، وكان وسيمًا أشيبَ وله شارب كثٌّ وحاجبان كثيفان وعينان لامعتان. لاحظني سميتي وأنا أنظر إلى الصورة وسألني هل كنتَ في شيكاغو وقتَ الانتخابات. فأجبتُه بالنفي. فهز رأسه وأخذ يتحدث.

«كان من الضروري أن تكون هنا قبل أن يمسك هارولد بزمام الأمور لتفهم ماذا يعني لهذه المدينة.» وتابع: «فقَبْله بدا الأمر وكأننا دائمًا مواطنون من الدرجة الثانية.»

قال الرجل صاحب الجريدة: «مستعمرة سياسية.»

رد سميتي وقال: «كان الحال هكذا دائمًا.» واستكمل قائلًا: «مستعمرة سياسية. فيها يعمل السُّود في أحط الوظائف. ويقطنون أوضع المنازل. ويتعرَّضون لأسوأ معاملة على يد رجال الشرطة الهمجيِّين. لكن عندما يحين وقتُ انتخاب مَن يُطلق عليهم أعضاء اللجان السُّود يكون علينا الاتحاد والتصويت لمصلحة الحزب الديمقراطي القويم. يتعيَّن علينا حينئذٍ تقديم أرواحنا لشخصٍ أحمق. ومكافأة لهم على البصق في وجوهنا نُصوِّت لمصلحتهم في الانتخابات.»

أثناء سماعي حديثَ الرجال — وهم يتذكَّرون صعود هارولد للسلطة وإمساكه بزمام الأمور — سقط بعض خُصَل الشعر على حجري. لقد ذكروا أنه رشَّح نفسه في إحدى المرات سابقًا بعد أن مات ريتشارد دالي بفترة قصيرة، لكن ترشيحَه للمنصب تعثَّر آنذاك، وأخبروني كيف كان هذا مَبعثًا للخِزي إذ حدث بسبب افتقار المجتمع الأسود لوحدة الصف وانتشار الشكوك التي كان لا بدَّ من التغلُّب عليها. على أن هارولد كرَّر المحاولة مرةً أخرى، وآنذاك كان الناس مُستعدِّين. حيث وقفوا بجانبه عندما سلَّطت الصحافة الأضواء بشدَّة على مشكلته مع ضرائب الدخل التي لم يستطِع دفعها (وكأن البِيض لا يغشُّون في أي شيءٍ طوال حياتهم). فاحتشدوا وراءه عندما أعلن أعضاء اللجنة الديمقراطيون — مثل فردولياك وغيره — دعمهم للمرشَّح الجمهوري بقولهم إن المدينة ستزداد فيها الأحوال سوءًا إذا ما أمسك بزمام الأمور فيها عمدة أسود. تجمَّع هؤلاء الناس بأعدادٍ هائلة ليلة الانتخاب؛ خُدَّام كنائس ورجال عصابات؛ كبار السن منهم والشباب.

وبعد كل ذلك كوفئوا على هذا الإخلاص. وقال سميتي: «دعوني أخبركم ماذا حدث ليلة فوز هارولد؛ أخذ الناس يركضون في الشوارع. وكان يومًا شبيهًا باليوم الذي فاز فيه الملاكم جو لويس على شميلينج. وكان هو الشعور نفسه بالانتصار. ولم يكن الناس فخورين بهارولد فقط. بل كانوا فخورين بأنفسهم أيضًا. وفي هذا اليوم مكثتُ داخل المنزل لكنني لم أستطِع النوم وكذلك زوجتي حتى الثالثة صباحًا، لأننا كنا نشعر بالحماس والسعادة البالِغة. وعندما استيقظتُ في صباح اليوم التالي شعرتُ بأن هذا اليوم هو أجمل يومٍ في حياتي.»

انخفض صوت سميتي بعد ذلك وبدا كأنه يهمس، وابتسم كلُّ شخصٍ في صالون الحلاقة. إنني من على بُعدٍ شاركتُهم هذا الشعور بالفخر — وأنا أقرأ الجرائد في نيويورك — نعم، الشعور نفسه بالفخر الذي جعلني أُشجِّع بحماسٍ أيَّ فريق كرة قدم محترف تعاقد مع ظهير رباعي أسود. لكن كان هناك شيء مختلف بخصوص ما كنتُ أسمعه في ذلك الحين؛ حيث بدا صوت سميتي وكأنه ينمُّ عن حماسةٍ مُتوهِّجة تجاوزت الأمور السياسية. قال لي سميتي: «كان من الضروري أن تكون هنا قبل أن يمسك هارولد بزمام الأمور لتفهم.» وكان يعني بقوله هنا «شيكاغو»، لكنه ربما قصد أيضًا «في مكاني» باعتباره رجلًا أسود يكبُرني سنًّا، كان ما زال يُعاني إهاناتٍ ظلت تُلاحِقه وتجرحه طوال حياته، ويتألم بسبب طموحاتٍ أُحبطت، وطموحات أخرى تخلى عنها قبل أن يحاول تحقيقها. وحينها سألتُ نفسي هل استطعتُ فهْم الأمر فعلًا. وتوصَّلت دون نقاشٍ إلى أنني بالفعل فهمته. وأعتقد أن هؤلاء الرجال قد افترضوا نفس الافتراض بعد رؤيتي. ولكن تُرى هل كان سيراوِدُهم الشعور نفسه إذا عرفوا المزيد من التفاصيل عني؟ طرحتُ على نفسي هذا السؤال. وحاولتُ أن أتخيَّل ماذا كان سيحدث إذا ما دخل جَدي صالون الحلاقة في هذه اللحظة بالذات، وكيف كان سيتوقَّف الحديث، وكيف كان السحر سيتوقف، وكيف كانت ستنتهي الافتراضات التي تجري على قدمٍ وساق.

أعطاني سميتي المرآة للتطلُّع إلى صنيع يدَيه، ثم خلع عني ثوب الحلاقة، ونظَّف بالفرشاة الجزء الخلفي من قميصي. وقلتُ له وأنا أقف: «أشكرك على درس التاريخ هذا.»

«حسنًا، هذا الدرس مجاني. وسأتقاضى عن الحلاقة ١٠ دولارات. ما اسمك على أية حال؟»

«باراك.»

«باراك، إمممم. مسلم؟»

«كان جَدي مسلمًا.»

أخذ مني المال وصافحني. وقال: «حسنًا يا باراك، أنتظِرك عما قريب. بدا شعرك أشعث للغاية عندما حضرت.»

•••

لاحقًا بعد ظهر اليوم نفسه، حضر مارتي وأخذني من أمام سكني الجديد واتجهنا جنوبًا إلى طريق سكاي واي السريع. وبعد عدة أميالٍ اتجهنا إلى الجانب الجنوبي الشرقي ومررْنا بالعديد من المنازل الصغيرة المبنية بالألواح الخشبية الرمادية أو بالطوب، إلى أن وصلنا إلى مصنعٍ قديم كبير للغاية مُكوَّن من مبانٍ عدة.

«مصنع ويسكونسن القديم للصلب.»

جلسنا معًا في هذا المكان في صمت، نُدقِّق النظر في المبنى. كان لا يزال يحمل الروح المزدهرة والمتوحِّشة للماضي الصناعي في شيكاغو إذ دُكت في بنائه العوارض المعدنية والخرسانة دون الاكتراث كثيرًا بمدى الشعور بالراحة أو الشكل الجمالي. أمَّا الآن، وقت رؤيتنا إيَّاه، فقد كان المبنى خاويًا ويعلوه الصدأ؛ تمامًا كأطلال مبنًى مهجور. وعلى الجانب الآخر من السياج السلكي ركضَتْ قطة رقطاء جرباء عبْر النباتات البرية.

قال مارتي وهو يدور بالسيارة في طريق العودة: «اعتاد الناس من الفئات كافةً العملَ في هذا المصنع. وتابع: «السود. والبِيض. والهيسبانيون. وكانوا جميعهم يعملون في الوظائف نفسها. ويعيشون ظروف الحياة نفسها. لكن خارج المصنع لا تريد أيُّ فئةٍ منهم شيئًا يربطها بالأخرى. وهؤلاء هم أفراد الكنيسة الذين أتحدث معك بشأنهم. الإخوة والأخوات في المسيح.»

توقَّفنا عند إحدى إشارات المرور، ولاحظتُ مجموعة من الشباب من ذوي البشرة البيضاء يشربون البيرة عند مدخل أحد المباني وهم مرتدون فانلاتهم الداخلية. كانت صورة فردولياك معلَّقة على إحدى النوافذ، وكان العديد منهم يحدِّق النظر تجاهي، وحينها نظرتُ لمارتي وتحدثت إليه.

«إذن ما الذي يجعلك تفكر أن التعاون بينهم ممكن الآن؟»

«ليس أمامهم اختيار. إذا كانوا يريدون استرداد وظائفهم مرةً أخرى.»

عندما بدأنا القيادة على الطريق السريع مرةً أخرى بدأ مارتي يُخبرني بصورةٍ أكثرَ تفصيلًا عن المؤسَّسة التي أنشأها. أخبرني أن الفكرة راوَدَته منذ عامَين عندما قرأ تقاريرَ صحفيةٍ متعلِّقة بإغلاق المصنع والاستغناء عن العمال، ثم إجبارهم على الانتقال إلى ضاحية ساوث شيكاغو وغيرها من الضواحي الجنوبية. وبمعاونة أسقف كاثوليكي مُتعاطف مع القضية، ذهب مارتي لمقابلة القساوسة وأعضاء الكنيسة في المنطقة وسمع كلًّا من البِيض والسود وهم يتحدثون عن شعورهم بالخِزي بسبب البطالة، وخوفهم من أن يُطردوا من مساكنهم أو حرمانهم من المعاش بطريق الخداع، والأسوأ من ذلك إدراكهم بأنهم تعرَّضوا للخيانة.

في نهاية الأمر وافق ما يزيد على ٢٠ كنيسة في الضواحي على إنشاء مؤسسة أطلقوا عليها بعد ذلك اسم «المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت». هذا بالإضافة إلى أن ثماني كنائس أخرى انضمت إلى فرع المؤسسة بالمدينة المُسمَّى بمشروع تنمية المجتمعات المحلية. لم تَسِر الأمور بالسرعة التي كان يتمنَّاها مارتي؛ فالنقابات العُمَّالية لم تكن قد انضمت بعد، وكانت الحرب السياسية في مجلس المدينة عاملًا مؤثرًا من عوامل تشتيت الانتباه. وكان المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت قد حقَّق منذ وقتٍ قريب أولَ نصرٍ مُهم؛ مُتمثل في برنامج التوظيف القائم على استخدام الكمبيوتر الذي بلغت تكلفته ٥٠٠ ألف دولار، وكان المجلس التشريعي بولاية إلينوي قد وافق على تمويله. أوضح مارتي أننا كنَّا في طريقنا لاجتماعٍ حاشد من أجل الاحتفال ببنك الوظائف الجديد الذي يُعتبر خطوة أولى في حملةٍ طويلة المدى.

قال مارتي: «سيستغرق الأمر بعضَ الوقت من أجل إعادة إحياء نشاط التصنيع هنا.» وتابع: «على الأقل ١٠ سنوات. لكن بمجرد انضمام النقابات العمالية إلينا، ستُصبح لدَينا قاعدة يمكن التفاوض من خلالها. وفي الوقت نفسه فإننا في حاجةٍ إلى أن نوقف نزيف الخسائر ونُسعد الناس ببعض الانتصارات القصيرة المدى. هذا لنُوضِّح لهم قدْر القوة التي امتلكوها بمجرد أن توقفوا عن محاربة بعضهم بعضًا وبدءوا يُركِّزون على العدو الحقيقي.»

«ومَن هو ذلك العدو؟»

هزَّ مارتي كتفيه. وقال: «أصحاب البنوك الاستثمارية. والسياسيون. وجماعات الضغط من أصحاب النفوذ ذوي الثراء الفاحش.»

أومأ مارتي برأسه وهو ينظر إلى الطريق أمامه بعينَين شبه مُغمضتَين. فنظرتُ إليه وبدأت أشك في أنه لم يكن ساخرًا كما أحب أن يتظاهر، وأن المصنع الذي ما لبثنا أن تركناه يمثِّل له الكثير من المعاني. وحينها فكَّرت أنه أيضًا في مرحلةٍ ما من حياته تعرَّض للخيانة.

عبرنا حدودَ المدينة عندما كانت حمرة غروب الشمس قد انتشرت في الأفق. توقفنا في موقف السيارات الخاص بإحدى المدارس الكبيرة في الضاحية، حيثما كانت مجموعات من الناس تشق طريقها للوصول إلى قاعة الاجتماعات الكبرى في المدرسة. بدا هؤلاء الناس تمامًا كما وصفهم مارتي: أناس فقدوا وظائفهم من عمَّال صلب، وموظفي سكرتارية، وسائقي شاحنات، ورجال وسيدات يُدخنون بإفراط ولا يكترثون بوزنهم الزائد، وكانوا يتسوَّقون من متاجر شركة سيرز أو كمارت، ويقودون سياراتٍ من أحدث طراز من مدينة ديترويت، ويأكلون في مطعم «رِد لوبستر» في المناسبات الخاصة. عند الباب رحَّب بنا رجل أسود عريض الصدر يرتدي ياقة القساوسة، قدَّمه مارتي لي وقال إن اسمه ديكون ويلبر ميلتون، نائب رئيس المؤسسة. ذكَّرني هذا الرجل، بلحيته القصيرة الحمراء ووجنتَيه المستديرتين، ببابا نويل.

قال ويل وهو يُصافحني بحرارة: «مرحبًا بك.» وتابع: «كم تساءلنا من قبل متى سنتمكَّن بالفعل من مُقابلتك. أعتقد أن مارتي أعدَّك بالفعل لهذا العمل.»

ألقى مارتي نظرةً سريعةً داخل القاعة. وقال: «ماذا عن عدد الحاضرين؟»

«حسن حتى الآن. يبدو أن الجميع التزم بالعدد المتَّفَق عليه. وقد اتصل رجال المحافظ ليُبلغونا أنه في طريقه إلى هنا.»

بدأ مارتي وويل في الاتجاه نحو المنصة وهما ينظران بتمعُّن إلى أجندة الأعمال. وعندما هممتُ في تتبُّعهما، اعترض طريقي ثلاثُ سيدات سوداوات في عمرٍ لم أستطِع تحديده بدقة. كانت إحداهنَّ جميلةً ويعلو رأسها شعرٌ مصبوغ باللون البرتقالي الخفيف، عرفتُ أن اسمها أنجيلا بعد أن قدَّمت لي نفسها، ثم مالت نحوي وهمست لي قائلة: «أنت باراك، ألست كذلك؟»

أومأتُ برأسي بالإيجاب.

«إنك لا تعرف قدرَ سعادتنا لرؤيتك.»

قالت السيدة الواقفة بجوار أنجيلا التي بدت أكبرَ منها سنًّا: «إنك لا تعرف حقًّا!» مددتُ يدي لمصافحة هذه السيدة فابتسمَت وظهرت سِنَّتها الذهبية في صف أسنانها الأمامي. وقالت وهي تمدُّ يدَها: «أنا آسِفة، اسمي شيرلي.» ثم أشارت شيرلي تجاه السيدة الأخيرة؛ وكانت سمراء قصيرة ممتلئة الجسد قوية البنية. وقالت: «هذه مُنَى. ألا يبدو أنيقًا ومحترمًا يا مُنى؟»

قالت مُنى بابتسامة: «بلى، بكل تأكيد.»

قالت أنجيلا بصوتٍ مُنخفِض قليلًا: «لا تفهماني خطأ.» وتابعت: «إنني لا أكره مارتي. لكن الحقيقة هي أن هناك الكثير يمكنكما …»

صاح أحدهم من على المنصة: «أنجيلا!» في هذه اللحظة، نظرنا لنرى مَن هذا الرجل لنجد مارتي يُلوِّح بيده لأنجيلا من هناك. وأضاف: «إن بإمكانكنَّ التحدُّث لاحقًا مع باراك كما ترِدن. لكن الآن أُريدكم جميعًا معي على المنصة.»

تبادلت السيدات النظرات فيما بينهنَّ قبل أن تستدير أنجيلا تجاهي.

قالت أنجيلا: «أعتقد أنه من الأفضل أن نذهب الآن.» واستدركت: «لكن لا بد أن نتحدَّث مرةً أخرى عما قريب.»

قالت مُنى: «نعم بكل تأكيد»، قبل أن يمشي ثلاثتهن، وكانت أنجيلا وشيرلي في المقدمة مشغولتَين بالتحدث بخصوص أمرٍ ما، وكانت منى تمشي خلفهما بتؤدة.

كان معظم أماكن قاعة الاجتماعات قد شُغِل آنذاك، وبلغ عدد الحاضرين ألفَي شخص، ربما كان ثلثهم من السود الذين جاءوا من المدينة مُستقلِّين الحافلات. عندما دقَّت الساعة السابعة أنشدت جوقة المنشِدِين ترنيمتَين من الإنجيل، وتفقَّد ويل الحاضرين من الكنائس، وشرح بعدها مسيحي لوثري أبيض من الضواحي تاريخ المؤتمر الديني لمجتمع كالوميت ورسالته. بعد ذلك بدأت مجموعة من المتحدثين الصعودَ إلى المنصة لإلقاء كلمتهم، وكان منهم مشرِّع أسود وآخر أبيض، وخادمٌ معمداني، والكاردينال جوزيف بيرناردين، وفي النهاية المحافظ الذي قدَّم تعهدًا رسميًّا بدعم بنك الوظائف الجديد، وقدَّم أدلةً على مجهوداته المتواصلة المبذولة نيابةً عن الطبقة العاملة في ولاية إلينوي من الرجال والسيدات.

في حقيقة الأمر بدا هذا الحدث لي في مُجمله مُملًّا، مثله في ذلك مثل أي اجتماع سياسي أو مباراة مصارعة تُعرض على شاشة التلفاز. مع أن الجمهور بدا مُستمتعًا بالأمر. رفع بعضهم أعلامًا برَّاقة تحمل اسم كنيستهم. وأخذ البعض الآخر يهتف بشدة وحماسة عند مشاهدة صديقٍ لهم أو أحد الأقرباء على المنصة. وبرؤيتي كلَّ هذه الوجوه السوداء والبيضاء معًا في مكانٍ واحدٍ وجدتُ نفسي أنا أيضًا أشعر بالابتهاج، وعرفتُ أن بداخلي الرؤية نفسها التي تدفع مارتي للأمام وثقته بالدوافع الشعبية وتضامن الطبقة العاملة، وإيمانه بأنه إذا أمكن تنحيةُ السياسيين ووسائل الإعلام والبيروقراطيين جانبًا، وإعطاء كل فرد في المجتمع مقعدًا على الطاولة، يمكن عندئذٍ أن يجد عوام الناس أساسًا للتفاهُم المشترك.

عندما انفضَّ الاجتماع الحاشد ذكر مارتي أن عليه توصيلَ بعض الأفراد إلى منازلهم؛ لذا بدلًا من أن أركب معه قرَّرتُ أن أركب إحدى الحافلات المتجهة إلى المدينة. وعندما وصلت الحافلة كان بها مقعدٌ خالٍ بجانب ويل، حيث بدأ يتحدَّث معي قليلًا عن نفسه في الضوء الباهت لمصابيح الإنارة المتراصَّة على الطريق السريع.

ذكر لي ويل أنه تربَّى في شيكاغو، وخدمَ مع القوات الأمريكية في فيتنام. وبعد الحرب وجد عملًا كموظفٍ تنفيذي تحت الاختبار في بنك كونتيننتال إلينوي، ثم ترقَّى في البنك سريعًا واستطاع الاستفادة من مميزات العمل؛ السيارة، وارتداء الحُلَل الأنيقة، والعمل بمكتبٍ في وسط المدينة. بعد ذلك حدثت حركة إعادة تنظيم في البنك، وترتَّب عليها الاستغناء عن ويل وترْكه غارقًا في الديون. وكانت تلك هي نقطة التحوُّل في حياته — كما قال — والطريقة الإلهية لإخباره بأن عليه إعادة النظر في القِيَم التي يؤمن بها. وبدلًا من أن يبحث عن وظيفةٍ أخرى في المجال المصرفي، سلك اتجاهًا دينيًّا. حيث انضم إلى أبرشية سانت كاترين في ضاحية ويست بولمان وحصل على وظيفة الحاجب هناك. وهذا القرار في الواقع فرضَ بعض القيود على زواجه وطبقًا لما قاله، كانت زوجته «لا تزال تحاول التكيُّف» مع هذا الوضع. أما ويل فإن أسلوب الحياة الزاهد كان يتناسب مع رسالته الجديدة؛ ألا وهي نشْر تعاليم الكتاب المقدَّس، والتخلُّص من بعض مظاهر الرياء التي رآها في الكنيسة.

قال ويل: «انخرط الكثير من السُّود في الكنيسة مع مواقفِ الطبقة المتوسطة واتجاهاتها.» وتابع: «فهم يعتقدون أنهم ما داموا يتَّبعون المعنى الحرفي لآيات الكتاب المقدس فإنهم ليسوا في حاجةٍ إلى اتباع روح الآيات. وبدلًا من محاولة إظهار الودِّ والرغبة في المساعدة للمُسيئين، يجعلونهم يشعرون بأنهم غير مُرحَّبٍ بوجودهم. بالإضافة إلى أنهم يَسخرون من الناس ما لم يكونوا مُرتدِين الملابس المناسبة للقدَّاس وما لم يتحدثوا بصورةٍ لائقة، وما إلى غير ذلك. إنهم يتصوَّرون أنهم يشعرون بالراحة؛ لذا لا يُوجَد سبب لشعورهم بالضيق والانزعاج. حسنًا، ليس في الدين ما يبعث على شعورهم بالراحة، أليس كذلك؟ فكلُّ ما فيه عظات اجتماعية. وقد حمل رسالته إلى الضعفاء المضطهدين. وهذا بالضبط ما أقوله لبعض هؤلاء الزنوج المنتمِين للطبقة المتوسطة كلما تحدَّثتُ معهم أيام الآحاد. حيث أُخبِرهم بما لا يودُّون سماعه.»

«وهل يستمعون إليك؟»

ضحك ويل ضحكةً خافتةً، وقال: «لا.» وتابع: «لكن ذلك لا يُوقفني عن الكلام. إن الأمر شبيهٌ بياقة القساوسة التي أرتديها. وهذا بالفعل يدفع بعضهم إلى الشعور بالغضب العارم. فيقولون لي: «إن هذه الياقات خاصة بالقساوسة.» لكن كما ترى، فإن كوني مُتزوجًا ولا يمكن رسمي كاهنًا لا يعني أنه لا يُوجَد لديَّ دافع داخلي قوي تجاه العمل الديني. في الواقع، لا يُوجَد شيء في الإنجيل يتحدَّث عن الياقات. لذا فإنني أرتدي الياقة ليعرف الناس وجهة نظري.

في حقيقة الأمر، إنني ارتديتُ الياقة عندما ذهب بعضنا لمقابلة الكاردينال بيرناردين منذ قرابة شهر. ولكن كل شخصٍ وقتها شعر بالضيق الشديد لارتدائي إيَّاها. وبعد ذلك غضبوا جميعًا عندما ناديتُ الكاردينال جوزيف باسم «جو» بدلًا من «صاحب القداسة». ولكنَّ بيرناردين كان رائعًا. إنه رجل روحاني. وأستطيع أن أقول لك إن أحدَنا قد فهِم الآخر. لكنَّ هذه القواعد نفسها هي التي تُفرِّقنا؛ القواعد التي يفرضها البشر وليست القواعد الإلهية. أريدُك أن تعلم يا باراك أنني على الرغم من انضمامي للكنيسة الكاثوليكية فإنني منذ نعومة أظافري معمداني. وكان يمكن أن ألتحق بكنيسة ميثودية أو خمسينية أو غيرها بمنتهى السهولة. لكنَّ كنيسة سانت كاترين هي الكنيسة التي أرسلني إليها الرب. فالرب يهتمُّ بما إذا كانت لديَّ الرغبة في مساعدة الآخرين أكثر مما يهتمُّ بما إذا كنتُ ملتزمًا بخلاصة العقيدة الدينية المفرَّغة في سؤال وجواب.»

أومأتُ برأسي مُقرِّرًا ألا أسأله عن معنى هذه الخلاصة. ففي إندونيسيا قضيتُ عامَين في مدرسة إسلامية وعامَين في مدرسة كاثوليكية. في المدرسة الإسلامية أرسل المدرس لأُمي خطابًا قال فيه إنني في أثناء حصص القرآن كنتُ أصنع تعبيراتٍ بلهاء بقسمات وجهي لإثارة الضحك. لكنَّ أمي لم تهتم بصفةٍ عامة بهذا الأمر. ولم تقُل لي سوى: «كن محترمًا.» أمَّا عندما كان يحين موعد الصلاة في المدرسة الكاثوليكية فكنتُ أتظاهر أنني أغمض عينيَّ ثم أظل أجول ببصري في أرجاء الغرفة. ولكن لم يكن يحدُث شيء. ولم تكن تتنزل الملائكة. ولم يكن هناك سوى راهبة عجوز جافة البشرة ومعها ٣٠ طفلًا أسمر كانوا جميعًا يُهمهِمون بالكلمات. وكانت الراهبة في بعض الأحيان تمسك بي وأنا أفعل ذلك، وكانت نظرتها القاسية تجبرني أن أغمض جفنيَّ من جديد. لكن لم يكن ذلك يُغيِّر شعوري الداخلي. لقد انتابني هذا الشعور نفسه وأنا أستمع لويل وكان صمتي شبيهًا بإغماض عينيَّ.

توقفَتِ الحافلة في موقف سيارات الكنيسة، وذهب ويل لمقدمة الحافلة. وشكر الجميع على الحضور وحثَّهم على اشتراكهم المستمر. وقال: «إن طريقَنا طويل، لكنَّ أحداث الليلة أوضحت لي ما يمكننا فعله عندما نضعه نُصب أعيُننا. إن الشعور الطيب الذي ينتابكم الآن علينا أن نحافظ عليه حتى نرى حيَّنا هذا واقفًا على قدمَيه من جديد.»

ابتسم بعض الناس وصدَّقوا على صحة هذا الحديث. لكن عندما نزلتُ من الحافلة سمعتُ امرأةً خلفي تهمس إلى صديقتها قائلةً: «إنني لستُ في حاجةٍ إلى سماع أي شيء عن الحي. أين الوظائف التي يتحدَّثون عنها؟»

•••

بعد هذا الاجتماع الحاشد بيومٍ واحد قرَّر مارتي أنه حان الوقت لأن أُنفِّذ عملًا حقيقيًّا ذا قيمة. ولذا سلَّمني قائمةً طويلة بأسماء بعض الأفراد لإجراء مقابلات معهم. وقال لي إن عليَّ أن أعرف اهتماماتهم الشخصية. وهذا هو سببُ اشتراك الناس في عملية التنظيم، حيث يعتقدون أنهم سيستفيدون منها. وبمجرد أن كنتُ أجد قضيةً يهتم بها عدد كافٍ من الناس كنتُ أدفعهم لاتخاذ أفعال. فيمكنني البدء في اكتساب السلطة في ظلِّ تنفيذ عددٍ كافٍ من الإجراءات.

القضايا، والإجراءات التنظيمية، والسلطة، والاهتمامات الشخصية. كم أحببتُ هذه المفاهيم! إنها تنمُّ عن عِنْدٍ وصلابة من نوعٍ مُعيَّن، وتدل على التخلي — القائم على الخبرة بأمور الحياة والناس — عن العواطف، وتُشير في مُجملها إلى السياسة وليس إلى الدين. وعلى مدار الأسابيع الثلاثة التالية عملتُ ليلًا ونهارًا، أُحدِّد مواعيد المقابلات مع الناس قبل أن أُجريها معهم. وكانت هذه الوظيفة أصعبَ مما توقَّعت. وكنتُ أشعر بمقاومةٍ ذاتية كلما رفعتُ سماعة الهاتف لأُحدِّد مواعيد المقابلات؛ إذ كانت تقفز إلى مُخيِّلتي صورُ المكالمات الهاتفية التي كان جَدي يُجريها لبيع خدمات التأمين على الحياة، ونفاد صبر الطرف الآخر على سماعة الهاتف، والمشاعر الحزينة عندما لا يردُّ أحد على رسائلي الصوتية. كنتُ أجري معظم مقابلاتي في المساء والتي كانت زياراتٍ منزلية، وكان الناس يشعرون بالإرهاق دائمًا بعد يوم عملٍ كامل. وفي بعض الأحيان كنتُ أصِل إلى مكان المقابلة لأكتشف أن الشخص المفترض أن أقابله نسيَ الميعاد المحدَّد بيننا، وكان عليَّ أن أذكِّر هذا الشخص بمن أكون وهو ينظر إليَّ بارتيابٍ من خلف بابٍ مُوارِب.

ومع ذلك، لم تكن هذه الأمور سوى صعوباتٍ ثانوية. فبمجرد أن كنتُ أتغلَّب عليها كنتُ أجد أن الناس لا يمانعون في انتهاز أية فرصةٍ للتعبير علنًا عن آرائهم بخصوص عضو مجلس مدينة ليس له نشاط يُذكَر، أو جارٍ رفض أن يجزَّ العشب من أمام منزله. وكلما أجريتُ عددًا أكبر من المقابلات زاد سماعي لموضوعاتٍ وقضايا بعينها مُتكررة. مثلًا علمتُ أن معظم الناس في المنطقة كانوا قد تربَّوا في أقصى الشمال أو في الجانب الغربي من شيكاغو، في مناطق السود الضيقة التي أنشأتها الاتفاقيات المقيِّدة للحرية على مدار معظم الفترات في تاريخ المدينة. وكان الناس الذين تحدثتُ معهم لهم بعض الذكريات الرائعة عن ذلك العالم المستقل بذاته، لكنهم كانوا يذكرون أيضًا افتقارهم إلى الدفء والضوء والمساحة الكافية لأن تجعلهم يتنفَّسون هواء الكون، علاوةً على رؤية والديهم وهم يكدحون في العمل البدني.

سار البعض على نهج آبائهم في العمل بمصانع الصُّلب أو في خطوط التجميع، لكن الغالبية عملوا في وظائف سعاة بريد وسائقي حافلات ومدرِّسين وإخصائيين اجتماعِيِّين، مُستفيدين في هذه الوظائف من التطبيق الفعَّال لقوانين عدم التفرقة في القطاع العام. وكانت لهذه الوظائف مزاياها وقدَّمت قدرًا كافيًا من الشعور بالأمان فيما يتعلَّق بالتفكير في أخذ قرضٍ للحصول على مسكن. وفي ظلِّ سَنِّ قوانين إسكان عادلة، بدأ هؤلاء — واحدًا تِلْو آخر — في شراء منازل في روزلاند ومناطق أخرى مجاورة يقطنها البِيض. وهم لم يفعلوا ذلك لأنهم كانوا يريدون الاختلاط بالبِيض بل لأن المنازل هناك كانت رخيصةً وتشتمِل على أفنيةٍ صغيرة لأطفالهم، وأيضًا لأن هذه المناطق احتوت على مدارس أفضل ومتاجر ذات أسعارٍ أرخص، وربما أيضًا لأنهم كانوا يستطيعون شراءها فحسب.

عندما كنتُ أستمع لهذه القصص كنتُ في الغالب أتذكَّر القصص التي كان جَدَّاي وأمي يحكونها لي؛ قصص الكفاح والهجرة والسعي وراء الحصول على شيءٍ أفضل. لكن في الواقع كان هناك اختلاف لا يمكن على الإطلاق تجاهله بين ما كنتُ أسمعه في ذلك الحين وبين ما تذكَّرته، كما لو كانت صور طفولتي تتوارَد إلى ذهني عكسيًّا. في هذه القصص الجديدة كانت اللافتات المكتوب عليها «للبيع» تظهر فجأةً كظهور نبات الهندباء تحت أشعةِ الشمس في يومٍ صيفيٍّ حار. والأحجار تتطاير خلال النوافذ، وتُسمَع الأصوات المتوترة للآباء القلقِين وهم يُنادون على أبنائهم للدخول للمنزل وترْك ألعابهم الطفولية البريئة. وفي أقلِّ من ستة أشهر بيعت مبانٍ سكنية كاملة، وفي أقل من خمس سنواتٍ انطبق الأمر نفسه على أحياء برمَّتها.

في هذه القصص — أينما يتقابل البِيض والسود — كانت النتيجة غضبًا وحزنًا أكيدَين.

لم تتخلَّص المنطقة قطُّ من هذا الاضطراب العنصري، الذي كان من نتائجه انتقال المتاجر والبنوك بعملائها البِيض إلى أماكنَ أخرى، مما أدَّى إلى سوء حالة الطرق العامة الرئيسية. وتدهورت الخدمات في المدينة. وعندما يتذكَّر السُّود الذين يعيشون الآن في منازلهم منذ ١٠ أو ١٥ سنة الطريقة التي تطورت بها الأمور تجدهم يتذكرونها بشيءٍ من الرِّضا. وبالاعتماد على الدخلَين اللذَين كانوا يتقاضونهما كانوا يُسدِّدون ثَمن منازلهم وسياراتهم، وربما مصروفات التعليم الجامعي للأبناء الذين ملأت صور تخرُّجهم كلَّ أرفف المواقد. حافظ هؤلاء الناس على منازلهم، كما أبقَوا على أولادهم بعيدًا عن الشوارع، بالإضافة إلى أنهم كوَّنوا جمعياتٍ سكانية تعاونية للحفاظ على أمن ونظافة الحي نظرًا لأنهم كانوا مُتأكِّدين من أن البِيض فعلوا الشيء نفسَه.

عندما كان هؤلاء الناس يتحدَّثون عن المستقبل كانت نبرة القلق تقتحم أصواتهم. وكانوا يَذكرون ابن عمٍّ لهم أو أحد أقربائهم الذي اعتاد زيارتهم طلبًا للمال، أو صبيًّا بالغًا لا يعمل لا يزال يعيش في المنزل عالةً عليهم. حتى نجاح هؤلاء الأبناء في الجامعة وفي الحياة العملية اشتمل في طياته على شعورٍ بالهزيمة، وكلما تمكَّن هؤلاء الأبناء من فعْل شيءٍ أفضل زادت فرصة رحيلهم عن المنطقة. وإلى مكانهم نفسه انتقلت عائلات أصغر سنًّا وأقل استقرارًا، وكانت تلك هي المرحلة الثانية للمُهاجِرين من الأحياء الأفقر، ليحلَّ محلهم قاطنون جدُد لا يستطيعون دائمًا تحمُّل الالتزام بسداد قروض المنازل أو دفع مصاريف الصيانة الدورية لها. في هذه الفترة اختفت سرقة السيارات وكانت المتنزَّهات ذات الأشجار الوارفة فارغة، وبدأ الناس في قضاء وقتٍ أطول داخل المنازل، واشتروا الأبواب المصنوعة من الحديد المطاوع المشغول، وكانوا يتساءلون هل بإمكانهم تحمُّل بيعها بالخسارة للانتقال إلى منطقةٍ أكثرَ دفئًا أو ربما يعودون من جديد إلى الجنوب.

لذا فمع شعور هؤلاء الرجال والسيدات المُستحق بأنهم حقَّقوا إنجازات، ومع الأدلة المؤكَّدة على ارتقائهم بأنفسهم، فإن مُحادثاتنا كانت تتميز بنبرةٍ تشاؤمية. فأشياء عديدة — مثل المنازل المصنوعة من الألواح الخشبية، وواجهات المحلات الخرِبة، وقوائم أعضاء الكنيسة القديمة، وأطفال لأُسَر غير معروفة يهيمون على وجوههم في الشوارع، وتجمعات المراهقين الصاخبة، والمراهقات اللاتي كنَّ يُطعِمن الأطفال الباكين شرائحَ البطاطا، والأوراق المبعثرة أسفل المباني — كانت صدًى لحقائق مؤلمة تُخبرهم بأن الارتقاء الذي أحرزوه سريع الزوال، ويقف على أرضٍ هشَّة ومن الممكن ألا يستمر فيما تبقَّى من عمرهم.

كان هذا الشعور المزدوج — بالإنجاز الفردي والانهيار الجماعي — الذي فكَّرت فيه هو المسئول عن بعض المواقف التي أربكت ويل عندما تحدَّثنا ليلة الاجتماع الحاشد. في الواقع تلمَّست هذا الشعور في الكبرياء المفرطة لبعض الرجال في البارات المملوءة بزجاجات الخمر التي أسَّسوها في الأدوار التحتية في منازلهم، تلك البارات التي تُضيئها مصابيح الزينة وتُغطي جدرانها المرايا. كما رأيتُه في البلاستيك الذي كانت تضعه السيدات أعلى السجاجيد والأرائك النظيفة لحمايتها. وفي ظل كل ذلك، كان بوسع المرء أن يرى جهودًا حازمة لتعزيز الاعتقاد في أن الأمور قد تغيَّرت بالفعل إذا ما بدأ بعض الناس في التصرُّف تصرفًا سليمًا. وذات مساء أعربَت سيدة تقطن في واشنطن هايتس المجاورة عن رأيها وقالت لي: «إنني أحاول تجنُّب القيادة في روزلاند قدْر المستطاع.» وتابعت: «الناس هناك قُساة ويمكنك بالفعل معرفة ذلك من الطريقة التي يحافظون بها على منازلهم. لكنك لم تكن لترى أشياء مثل هذه عندما كان يعيش البِيض هنا.»

من الأمور التي لاحظتُها أنه كان هناك اختلاف بين الأحياء، والمباني داخل الحي الواحد، وأخيرًا بين الجيران في المبنى نفسه، من حيث محاولات الحدِّ من الانحطاط والتحكُّم فيه. إن السيدة التي كانت قلقةً للغاية من العادات الفظة لجيرانها كانت تُعلِّق صورة هارولد في مطبخها، بجوار مختاراتٍ من المزمور الثالث والعشرين مباشرةً. وهكذا أيضًا فعل الشاب الذي كان يسكن في الشقة المنهارة التي كانت تبعُد ببعض المباني والذي كان يحاول كسب قوتِ يومه عن طريق تشغيل الموسيقى في الحفلات الراقصة. وكما علمتُ من الرجال الذين كانوا موجودين في صالون سميتي للحلاقة، أعطت الانتخابات هؤلاء الناس فكرةً جديدة عن أنفسهم. أو ربما كانت فكرة قديمة بُعِثَت من جديدٍ في وقتٍ أفضل. كان هارولد رمزًا لا يزال عالقًا في عقول الناس كافة؛ فتمامًا مثل فكرتي عن التنظيم، قدَّم هارولد عرضًا للإصلاح الجماعي.

•••

وضعت تقريري عن الأسبوع الثالث على مكتب مارتي وجلستُ في أثناء قراءته إيَّاه.

وعلَّق عندما انتهى من قراءته «ليس سيئًا؟».

«ليس سيئًا؟»

«نعم، ليس سيئًا. أعتقد أنك الآن بدأتَ تستمع. لكنَّ التقرير لا يزال نظريًّا إلى حدٍّ بعيد … تمامًا كما لو كنتَ تُجرِي استقصاءً أو ما شابَهَ. إذا كنتَ تريد أن تُنظِّم الناس فأنت في حاجةٍ إلى الابتعاد عن الأشياء السطحية والاتجاه إلى محور تركيز الناس. الأشياء التي تجعلهم يسلكون سلوكًا مُعينًا. هذا وإلا فإنك لن تستطيع إطلاقًا إقامة العلاقات التي تريدها معهم لجعلِهم يشتركون معك.»

كان مارتي بحديثِه هذا قد بدأ يُضايقني. فسألته هل قَلِقَ من قبلُ مِن أن يُصبح محور اهتمامه التخطيط للحصول على ما يريد دون الاهتمام بالآخرين أو جرح مشاعرهم، إذا كانت فكرة معرفة نفسيات الناس والحصول على ثقتهم فقط من أجل إنشاء مؤسَّسة فكرة خادعة لإجبار الناس على فعل ما يريد. تنهَّد مارتي.

قال: «إنني لستُ بشاعر يا باراك. أنا مُنظم.»

تساءلتُ بيني وبين نفسي عما عَنى بذلك. وتركتُ المكتب وأنا في حالةٍ سيئة للغاية. وبعدَها كان عليَّ أن أعترف بأن مارتي كان على حق. حيث لم تكن لديَّ أية فكرة عن كيفية وضْع ما سمعتُه حيزَ التنفيذ. وفي الواقع لم تظهر لي أية فرصة لفعل ذلك إلا في نهاية المقابلات التي أجريتُها مع الناس.

في أثناء اجتماع مع روبي ستايلس — وهي سيدة قصيرة ممتلئة الجسم — وكانت تعمل مديرة مكتب في الجانب الشمالي من المدينة، لاحت هذه الفرصة في الأُفق. كان ذلك عندما ذكَرَت ارتفاع معدل العمل الإجرامي على الصعيد المحلي في سياق حديثها عن ابنها كايل المراهق الذي كان ذكيًّا إلا أنه كان خجولًا لفقدانه الثقة بنفسِه والذي بدأ في مواجهة بعض المشكلات في المدرسة. قالت روبي إن أحد أصدقاء كايل أُطلِق عليه الرصاص الأسبوع الماضي أمام باب منزله. ومع أن الصبي لم يُصَب بسوءٍ فإنها كانت قلقةً على ابنها.

ابتهجتُ عندما سمعتُ هذا الأمر؛ لأنه كان اهتمامًا شخصيًّا. وعلى مدار الأيام القليلة التالية عرَّفتني روبي على أولياء أمورٍ آخرين كانوا يُشاركونها مخاوفها ويشعرون بالإحباط من ردِّ فعل الشرطة غير الفعَّال. وعندما اقترحتُ أن ندعو المسئول رسميًّا عن المنطقة إلى اجتماعٍ بالحي — حتى يُعبِّر الشعب عن قلقِه على الملأ — وافق الجميع؛ وفي أثناء حديثنا عن الإعلان عن هذا الاجتماع ذكرَتْ إحدى السيدات أن هناك كنيسة معمدانية في المجمع السكني الذي يسكن فيه الولد الذي أُطلق عليه الرصاص وأن القس رينولدز — راعي الكنيسة — ربما كان مُستعدًّا للتحدُّث بخصوص هذا الأمر لجماعة المصلين بالكنيسة.

استغرق الأمر منِّي أسبوعًا لإجراء المكالمات الهاتفية، لكنني عندما توصلتُ أخيرًا للقس رينولدز بدت استجابته مُبشِّرة بالخير. كان هذا الرجل رئيسًا لاتحاد تحالُف الخُدَّام المحلي، وقال لي: «تتَّحد الكنائس معًا للوعظ بالإنجيل الاجتماعي.» وقال إن مجموعة الكنائس سوف تعقد اجتماعها الدوري في اليوم التالي، وإنه سيكون سعيدًا لإدراج موضوعي في أجندته.

وضعتُ سماعة الهاتف وأنا أشعر بالسعادة البالِغة، وفي صباح اليوم التالي وصلتُ مبكرًا إلى الكنيسة حيثما يعمل القسُّ رينولدز. وقابلَتْني هناك شابَّتان ترتدِيان عباءتَين وقفازَين بيضاويين في البهو وأرشدتاني إلى غرفة اجتماعاتٍ كبيرة كان يقف فيها ١٠ أو ١٢ رجلًا أسود يكبرونني سنًّا ويتحدثون في دائرةٍ غير مُنتظمة. جاء منهم رجل مهيب الطلعة لتحيتي، وهو يأخذ بيدي لمصافحتي. قال: «لا بد أنك الأخ أوباما.» وتابع: «أنا القس رينولدز. جئتَ في الموعد … إننا على وشك البدء.»

جلسْنا جميعًا حول طاولة طويلة، وفي البداية صلَّى بنا القس رينولدز ثم سمح لي بالتحدث. وعندما بدأتُ حديثي حاولتُ عرْض وجهة نظري بطريقةٍ لائقة وأنا أُخبِر الخُدَّام عن الأعمال الإجرامية المتزايدة وعن الاجتماع الذي خطَّطنا له، وسلمتُهم نشراتٍ دعائية ليوزِّعوها في أبرشياتهم. وقلتُ لهم إعدادًا لموضوع حديثي معهم: «بقيادتكم الفعَّالة، قد تكون هذه الخطوة هي الأولى تجاه تحقيق تعاونٍ في كل أنواع القضايا. مثل إصلاح المدارس. وإعادة حركة التوظيف مرةً أخرى إلى الحي …»

وبمجرد أن وزَّعتُ آخِر نشرة من هذه النشرات الدعائية دخل رجل طويل القامة أسمر اللون. وكان يرتدي حُلة زرقاء بصفَّين من الأزرار، وصليبًا ذهبيًّا كبيرًا فوق رابطة عنق قرمزية اللون. وكان شعره غيرَ مجعَّد وممشطًا للخلف.

قال القس رينولدز: «أخ سمولز، لقد فاتك حديثٌ شيق.» وتابع: «هذا الشاب — الأخ أوباما — لدَيه خطة لتنظيم اجتماعٍ بخصوص حادث إطلاق النار الذي وقع حديثًا.»

صبَّ القس سمولز لنفسه فنجانًا من القهوة وقرأ بإمعانٍ النشرة. ثم سألني: «ما اسم مؤسَّستِك؟»

«مشروع تنمية المجتمعات المحلية.»

قطَّب الرجل جبينه وقال: «تنمية المجتمعات المحلية …» وتابع: «أعتقد أنني أتذكَّر بعض الرجال من ذوي البشرة البيضاء ممن تكرَّر حديثهم عن تنمية شيء. أنت شابٌّ تبدو عليك خفة الظل. وتحمل اسمًا يهوديًّا. هل للمشروع علاقة بالمذهب الكاثوليكي؟»

أخبرتُه أن بعض الكنائس الكاثوليكية في المنطقة مشتركة في المشروع.

قال القس سمولز: «هذا صحيح، تذكَّرت الآن.» رشف القس قهوته واتكأ للخلف على مقعده. وتابع قائلًا: «لقد أخبرتُ هذا الرجل الأبيض — مارتي — بأن يتوقَّف عن هذا العمل وأن يبتعد عن هنا. إننا لسْنا في حاجةٍ إلى شيءٍ من هذا القبيل هنا.»

«إنني …»

«استمع إليَّ … ما اسمك مرةً أخرى؟ أوبامبا؟ اسمع، يا أوبامبا، ربما تكون ساعيًا للخير. أنا متأكد من ذلك. لكن آخِر شيءٍ نحتاج إليه هو أن نحصل على أموال البِيض والاشتراك مع مجموعةٍ من الكنائس الكاثوليكية والقائمين على العمل التنظيمي من اليهود من أجل حل مشكلاتنا. إنهم غير مُهتمِّين بنا. وعمومًا قُل ما تريد، إن أبرشية رئيس الأساقفة في هذه المدينة يُديرها عنصريون لا مُبالِين. وكذلك الحال دائمًا. حيث تأتي الطبقة البيضاء إلى هنا اعتقادًا من أفرادها بأنهم يعرفون ما هو أفضل لنا، فيوظِّفون بعضَ الإخوة خريجي الجامعات ممن لديهم قدرة جيدة على التحدُّث — مثلك — الذين لا يعرفون أيَّ الأشياء أفضل لنا، وكل ما يريدونه هو الإمساك بزمام الأمور. إن الأمر سياسي بحت، ولا يتعلَّق بما أتى بهؤلاء الناس إلى هنا.»

تلعثمتُ وأنا أقول له إن الكنيسة كانت هي الرائدة دائمًا في التعامُل مع مثل هذه القضايا المجتمعية، لكنَّ القس سمولز لم يفعل شيئًا سوى هَزِّ رأسه. قال: «إنك لا تفهم.» وتابع: «لقد تغيَّرت الأمور مع العمدة الجديد. كنتُ أعرف المسئول عن الأمن في المقاطعة منذ أن كان شرطيَّ دورية في المنطقة. وأعضاء مجلس المدينة في هذه المنطقة ملتزمون كافة بإعطاء السلطة لذوي البشرة السوداء. لذا لِمَ نكون في حاجةٍ إلى الاحتجاج والتصرف بأسلوب سخيفٍ وغير مُلائم مع أهلنا؟ إن كلَّ مَن يجلس حول هذه الطاولة لدَيه اتصال مباشر بمجلس المدينة. فريد، ألم تتحدَّث قريبًا مع عضو مجلس المدينة بخصوص الحصول على تصريح لموقف السيارات؟»

ساد الهدوء الغرفة. وتنحنح القس رينولدز. قال: «تشارلز، إن هذا الرجل جديد هنا. وهو يحاول أن يقدِّم مساعداته فقط.»

ابتسم القس سمولز وربَّت على كتفي برفق. وقال: «لا تُسِئ فهْمي الآن. كما قلتُ لك، إنني أعلم أن هدفك سامٍ. إننا في حاجةٍ إلى بعض الشباب لمساعدتنا في هذه القضية. وكلُّ ما أقوله هو أن هذه المعركة لا تُناسِبك.»

جلستُ هناك، وأنا أتعرَّض للنقد اللاذع — كما لو كنتُ لحمًا على سيخ الشواء — في حين كان القساوسة يُناقشون إقامة الطقوس الدينية المشتركة ليوم عيد الشكر في متنزَّهٍ على الجانب الآخر من الشارع. وعندما انتهى الاجتماع شكرَني القس رينولدز وبعض الآخرين على حضوري.

نصحَني أحد الحضور قائلًا: «لا تهتمَّ بحديث تشارلز وتأخُذه على مَحمل الجد.» وتابع: «إنه في بعض الأحيان يتَّسِم بالشدة والصرامة.» لكنني لاحظتُ أن لا أحد منهم ترك النشرات التي وزَّعتُها عليهم، وبعد ذلك في الأسبوع نفسه — عندما حاولتُ الاتصال ببعض الخُدَّام — ظل موظفو السكرتارية يقولون لي إنهم ليسوا موجودين.

•••

بعد ذلك بدأنا اجتماعنا مع الشرطة، وكان كارثةً — وإن كانت محدودة. لم يحضر سوى ١٣ شخصًا جلسوا بغير انتظام في صفوف المقاعد الفارغة. اعتذر مسئول الأمن في الحي عن عدم الحضور وأرسل المسئول عن العلاقات في المجتمع نائبًا عنه. وبين الفينة والفينة كان يدخل شخصان مُسنَّان بحثًا عن لعبة البينجو. لذا فإنني قضيتُ معظم الأمسية مُوجِّهًا هؤلاء الناس إلى الطابَق العلوي، وجلست روبي عابسةً على المنصة تستمع إلى محاضرةِ رجُل الشرطة عن الحاجة إلى نظامٍ يفرِضُه الأبوان.

وفي غمرة الاجتماع وصل مارتي.

وبعد أن انتهى ظهر مارتي ووضع يدَه على كتفي.

وقال: «الفوضى عمَّت المكان، أليس كذلك؟»

بالفعل كان على حق. لذا ساعدَني في تنظيف المكان وتنظيمه ثم أخذني لشرب القهوة ولفت نظري إلى بعض الأخطاء التي اقترفتُها. إن مشكلة العصابات والأعمال الإجرامية كانت مشكلة عامة للغاية لكي تترك انطباعًا لدى الناس؛ بمعنى أن القضايا كانت لا بدَّ من أن تُوضع في إطار واقعي ومحدَّد وأن تكون لدَيها مُقوِّمات النجاح. وكان عليَّ أن أجعل روبي تستعد بصورةٍ أكثرَ دقةً من هذا، بالإضافة إلى إعداد عددٍ أقل من المقاعد. والأهم من كل ذلك كنتُ في حاجةٍ إلى قضاء وقتٍ أطول في معرفة القادة في المجتمع، حيث إن النشرات لم تستطِع جذب الناس بصورةٍ مؤثِّرة.

قال مارتي عندما وقفنا استعدادًا للرحيل: «إنني تذكرتُ شيئًا.» وتابعَ: «ماذا حدث مع هؤلاء القساوسة الذين من المفترض أن تكون قد قابلتَهم؟»

أخبرتُه عما حدث مع القسيس سمولز. وبدأ يضحك. وقال: «أتعلم، كان من الأفضل ألا أحضر معك، أليس كذلك؟»

لم يُعجبني ما قاله. لذا رددتُ عليه وقلت: «لماذا لم تُحذِّرني من سمولز؟»

قال مارتي وهو يفتح باب سيارته: «بل حذَّرتُك بالفعل.» وتابع: «أخبرتك بأن شيكاغو منقسمةٌ إلى نقيضَين وأن الساسة يستغلُّون هذه الحقيقة لمصلحتهم الشخصية. وهذا أمرٌ ينطبق على سمولز؛ فهو سياسي تصادف ارتداؤه ياقةَ القساوسة. وعلى أية حال، ليست تلك هي نهاية العالم. يتعيَّن عليك أن تشعر بالسعادة لأنك تعلمتَ هذا الدرس مبكرًا.»

هذا صحيح، لكن أي درس؟ في أثناء مشاهدتي مارتي وهو يقود سيارته، عُدتُ بذاكرتي إلى يوم الاجتماع الحاشد: إلى نبرة صوت سميتي في صالون الحلاقة، وإلى صفوف البِيض والسود في قاعة الاجتماعات بالمدرسة، عُدت بذاكرتي إلى هذا اليوم الذي فيه بسبب دمار المصنع، وشعور مارتي بالخيانة، وبسبب الكاردينال؛ الرجل الضئيل الجسم الشاحب اللون الذي كان يرتدي ثوبًا أسود ونظارة ويبتسم على المنصة وهو يختفي داخل أحضان ويل … ويل، من المؤكد أن الرجلين كان أحدهما يفهم الآخر.

حملتْ كلُّ صورةٍ من هذه الصور درسًا بعينه، وكانت كلٌّ منها قابلةً للتفسيرات المختلفة. وذلك في ظل وجود كثير من الكنائس والعقائد. ربما كانت هناك أوقاتٌ بات من الظاهر فيها أن كل هذه العقائد التقت عند نقطةٍ واحدة — عند الزحام أمام نصب لينكولن التذكاري، أو نشطاء الحقوق المدنية وقتَ الغداء — لكنَّ هذه اللحظات لم تكن كاملة، بل كانت مُحطَّمة. والأعين مغمضة، كانت شفاهُنا تنطق الكلمات نفسها، لكن في قلوبنا كنا ندعو لأسيادنا، وظل كلٌّ منَّا حبيسًا في ذكراه، وتشبَّثنا جميعًا بسِحرنا الأحمق.

اعتقدتُ أنه من الطبيعي لرجلٍ مثل سمولز أن يفهم هذا الأمر. لقد فهِم أن الرجال في صالون الحلاقة لم يُريدوا أن يكون فوز هارولد في الانتخابات — الذي هو فوزهم — فوزًا مِهنيًّا، ولم يُريدوا سماع أن مشكلاتهم كانت أكثرَ صعوبةً من التعامُل مع مجموعةٍ من أعضاءِ مجلسِ مدينةٍ بِيضٍ ماكرين أو أن الإصلاح لم يكن كاملًا. كان كلٌّ من مارتي وسمولز يعرفان أنه في السياسة — كما هو الحال في الدين — تكمن السلطة في اليقين، وأن يقين أحد الأفراد دائمًا ما كان يُهدِّد يقين الآخر.

بعد ذلك أدركتُ وأنا واقف في موقف سيارات خالٍ خاصٍّ بمطعم ماكدونالدز في الجانب الجنوبي من شيكاغو أنني كنتُ مهرطقًا. وربما كنتُ أسوأ من ذلك لأن المهرطق لا بدَّ وأن يكون مؤمنًا بشيءٍ ما، إن لم يكن شيئًا أكثرَ من حقيقة شكه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤