الفصل التاسع

يقع مشروع الإسكان العام «ألتجيلد جاردنز» عند الطرَف الجنوبي لمدينة شيكاغو، ويضم ٢٠٠٠ شقة سكنية تحتويها مجموعة من المباني المبنية بالطوب من طابقَين ذات أبواب ضخمة خضراء اللون ونوافذ غير نظيفة موحَّدة الشكل. كان الجميع يُشير إلى هذا المشروع على سبيل الاختصار باسم «الجاردنز»، على أنني لم أعرف، إلا فيما بعدُ، السخريةَ الكامنة وراء الاسم الذي يبعث على الشعور بشيء نضِر وينعَم بعناية فائقة؛ أي الأرض المقدسة.

صحيحٌ أن هذا المشروع كان يحدُّه من جهة الجنوب بستان أشجار، وكان نهر كالوميت يجري في جنوبه وغربه حيثما كان يُشاهَد في بعض الأحيان رجال يصطادون بدون اهتمام في المياه المعتمة. لكنَّ الأسماك التي كانت تسبح في هذه المياه كثيرًا ما كان لونُها متغيرًا، وعدسات عينها مُعتمة، إلى جانب وجود تضخُّم خلف خياشيمها. لذا لم يكن الناس يأكلون ما يصطادونه إلا في حالة الضرورة فحسب.

وعلى الجانب الآخر من الطريق السريع، إلى الشرق، يُوجَد مقلب نفايات بحيرة كالوميت الذي يُعتبر هو الأكبر من نوعه في الغرب الأوسط.

وإلى الشمال وبمجرد عبور الشارع مباشرةً، يُوجَد مصنع «ميتروبوليتان سانيتاري ديستريكت» لمعالجة مياه الصرف الصحي بالحي. لم يكن سكان مشروع ألتجيلد يرَونه أو يرَون الأوعية الضخمة المفتوحة التي كانت تُستخدَم لمعالجةِ السوائل والتي كانت ممتدَّة على مساحةٍ تقترب من الميل كجزءٍ من مشروعات التجميل الحديثة؛ إذ أقام الحي جدارًا مرتفعًا أمام المصنع مبعثرٌ حوله عددٌ كبير من الشجيرات التي زُرِعت على عجلٍ والتي رفضت أن تنمو شهرًا تلو الآخر، فكانت تُشبه الشعيرات المبعثرة على رأس رجلٍ أصلع. على أن المسئولين ظلُّوا مكتوفي الأيدي أمام الرائحة العفنة المُركزة التي كانت تختلف حدَّتها طبقًا لدرجة الحرارة واتجاه الرياح، وكانت تتسرَّب من النوافذ مهما كان إغلاقها مُحْكَمًا.

روائح نتِنة، ومواد سامَّة، وأرض خواء، ومنطقة غير مأهولة بالسكان. فقد استقبلت الأميال المربَّعة المحيطة بمشروع ألتجيلد لقرابة قرنٍ مخلفاتِ أعدادٍ هائلة من المصانع، وهذا هو الثَّمن الذي دفعه الناس مقابل وظائفهم ذات الأجر المرتفِع. والآن بعد أن فُقدت هذه الوظائف، وغادر الناس الذين كان بإمكانهم الحصول عليها، أصبح من الطبيعي استخدام هذه الأرض كمقلبٍ للنفايات.

استُخدِمت الأرض كمقلبٍ للنفايات، وكمكانٍ لإقامة السُّود الفقراء. ربما كان مشروع ألتجيلد يتميز عن المشاريع الأخرى في المدينة بانعزاله الطبيعي إلا إنه كان يشترك معها في تاريخ واحد؛ فجميعها يُعبِّر عن أحلام الإصلاحيِّين لبناء مُجمَّعات سكنية لائقة للفقراء، والأساليب السياسية التي عملت على تركيز هذه التجمُّعات بحيث تكون بعيدةً عن أحياء البِيض ومنعت العائلات العاملة من العيش هناك، واستخدام هيئة الإسكان بشيكاغو كمقرٍّ للمحسوبيات، وسوء الإدارة المترتِّبة على كل ذلك الإهمال. لم يكن هذا المشروع على درجة السوء نفسها التي اتصفت بها مشاريع الإسكان شاهقة الارتفاع بشيكاغو أمثال مشروع روبرت تيلورز أو مشروع كابريني جرينز التي يجد المرء فيها بيت الدرج وهو أسود كالفحم، والأروقة المتسخة بالبول، وتحدث فيها حوادث إطلاق النار على نحوٍ عشوائي. أما مشروع ألتجيلد فإن معدل إشغال الشُّقق فيه ظلَّ مستقرًّا عند نسبة ٩٠٪، وإذا سنحت لك فرصة دخول إحدى شقق هذا المشروع فستجدها في أغلب الأحوال نظيفةً ومرتبة، بل ستجد أيضًا بعض اللمسات التي تُعبِّر عن فكرة الحنين للوطن مثل القماش المزركش الموضوع لكي يُغطي أقمشة التنجيد الممزقة، وكذلك نتيجة الحائط القديمة التي ظلَّت في مكانها بسبب مناظر الشاطئ الاستوائي الموجودة عليها.

في ذلك الحين بدا كل شيء خاص بالجاردنز في حالةٍ سيئة باستمرار. أسقفٌ انهارت المواد التي تُغطيها. ومواسير منفجرة. ومراحيض مسدودة. وآثار موحلة لإطارات السيارات التي ميزت المروج السمراء القاحلة التي تتناثر فيها أصص الزهور الفارغة والمكسورة والمائلة والتي تكاد تكون مدفونةً في الأرض. وقد توقَّف المسئولون عن الصيانة في هيئة الإسكان بشيكاغو عن مجرد حتى التظاهُر بأن الإصلاحات ستدخُل حيِّز التنفيذ في القريب العاجل. لذا فإن معظم الأطفال في ألتجيلد ترعرعوا دون مجرد رؤية أية حديقة. كانوا أطفالًا لم يستطيعوا رؤية شيءٍ سوى استنفاد كلِّ ما حولهم، وأدركوا أن هناك نوعًا من المتعة في الإسراع في تخريب الأشياء.

توجَّهتُ إلى ألتجيلد من شارع ١٣١ ثم توقَّفتُ أمام كنيسة «أور ليدي أوف ذا جاردنز» التي كانت بناء من الطوب يقع في مؤخرة المشروع. ذهبتُ إلى هناك لمقابلة بعض قادتنا الرئيسيين للتحدُّث معهم بشأن المشكلات التي تُواجِه عملَنا التنظيمي، وكيف يمكننا إعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي مرةً أخرى. لكنني عندما أوقفتُ محرك السيارة وشرعتُ في أخذ حقيبة يدي، حدث شيء أوقفَني فجأة. ولعلَّه كان المنظر الذي رأيته؛ فقد كان لون السماء رماديًّا خانقًا. أغمضتُ عيني، واتَّكأتُ برأسي على مقعد السيارة وشعرت بأنني المساعد الأول لربَّان سفينة مشرفة على الغرق.

مضى أكثر من شهرَين على اجتماع الشرطة العديم الفائدة، والأمور قد ازدادت سوءًا. إذ لم يحدث في هذه الفترة أيُّ اعتصاماتٍ أو مظاهرات أو إنشاد أغانٍ عن الحرية. بل كانت هناك سلسلة من الأخطاء وسوء الفهم والاستياء والتوتر. وكان جزء من المشكلة يرجع إلى قاعدتنا التي — على الأقل في المدينة — لم تكن كبيرة على الإطلاق؛ فلم تكن هناك سوى ثماني أبرشيات كاثوليكية تتوزَّع على بعض الأحياء، وكان رعايا الكنيسة كلُّهم من ذوي البشرة السوداء إلا أن القساوسة كانوا من البِيض. كان هؤلاء القساوسة مُنطوين على أنفسهم ومعزولين عن المجتمع، وكان معظمهم من أصلٍ بولندي أو أيرلندي، وقد التحقوا بالمدرسة اللاهوتية للتدريب على عمل القساوسة في ستينيَّات القرن العشرين بِنيَّة خدمة الفقراء ومداواة جرح المعاناة العنصرية، لكنهم كانوا يفتقرون إلى حماسةِ أسلافهم المبشِّرين؛ كانوا أطيب قلبًا ولعلَّهم كانوا رجالًا أفضل، لكنهم كانوا أيضًا أكثرَ حمقًا فيما يتعلَّق بما يستجدُّ عليهم من أمور. رأى هؤلاء الرجال بالفعل أن مواعظ الأخوَّة والمودة التي يُلقونها يُداس عليها بأقدام البِيض المذعورين، ووجدوا أن مساعِيهم لتعيين أعضاء جُدد قُوبِلت بشكوك ذوي الوجوه السوداء — غالبًا المعمدانيين والميثوديين والخمسينيين — الذين يحيطون كنائسهم الآن. أقنعهم مارتي بأن التنظيم سيقضي على هذه العزلة، وأنه لن يوقف انحدار مستوى الأحياء إلى الأسوأ فقط بل سيمدُّ أبرشياتهم بالطاقة من جديد ويُجدِّد أرواحهم. ومع ذلك فقد كان هذا الأمل ضعيفًا، وعندما التقيت بهم كانوا قد استسلموا بالفعل لشعورهم بخيبة الأمل.

قال لي أحد القساوسة: «الحقيقة أن مُعظمنا هنا يسعى إلى الرحيل عن المنطقة.» وتابع: «السبب الوحيد وراء بقائي هو عدم رغبة أحدٍ في أن يحلَّ محلي.»

كانت الروح المعنوية أكثرَ انخفاضًا بين العامة، أي الطبقة السوداء مثل أنجيلا وشيرلي ومُنى، السيدات الثلاث اللاتي قابلتهنَّ يوم الاجتماع الحاشد واللاتي كنَّ مُفعمات بالحيوية وخفيفات الظل، واللاتي استطعنَ إلى حدٍّ ما — دون وجود زوجٍ يُساعدهن — تربيةَ أبناءٍ وبنات، وإيجاد الوقت الكافي للعمل في وظائفَ بدوامٍ جزئي وفي مشروعاتٍ صغيرة، وتنظيم فِرَق كشافة للبنات وعروض أزياء ومعسكرات صيفٍ للأطفال الذين يذهبون إلى الكنيسة كلَّ يوم. وما دام أيٌّ من هؤلاء السيدات لا تعيش في ألتجيلد — إذ كنَّ يملكن منازل صغيرة غرب المشروع مباشرةً — سألتهنَّ في إحدى المرات عما دفعهنَّ لهذا النشاط، وقبل أن أنهي سؤالي دارت أعينهنَّ داخل محاجِرِها.

قالت أنجيلا لشيرلي: «انتبهي جيدًا يا فتاة من باراك» فضحكت مُنَى ضحكةً خافتة. وتابعت أنجيلا: «يبدو أن باراك يوشِك أن يُجري معك مقابلة. هذا ما يرتسِم على وجهه».

ردَّت شيرلي وقالت: «إننا سيدات في منتصف العمر نشعر بالملل يا باراك، إلى جانب أننا ليس لدَينا أفضلُ من ذلك نفعله لنستغلَّ به وقتنا. لكن …» في هذه اللحظة، مدَّت شيرلي يدَها ووضعتها على وركها النحيفة لتأخذ من جيبها سيجارة، ورفعت السيجارة إلى شفتيها — تمامًا كنجمة سينما — وأضافت: «أما إذا ظهر على الساحة فتَى أحلامنا! فَوَقْتَها سنودع ألتجيلد ونُرحِّب بمونت كارلو!»

لم أكن قد سمعتُ أيَّ مزاح منهنَّ مؤخرًا، وكان كلُّ ما أسمعه شكاوى. فقد شَكونَ من أن مارتي لم يكن مُهتمًّا بألتجيلد. كما شَكونَ من كونه مُتغطرسًا ولم يكن يستمع إلى اقتراحاتهنَّ.

في الغالب الأعم كنَّ يَشكُونَ من بنك الوظائف الجديد الذي كنَّا قد أعلنَّا عنه ليلة الاجتماع الحاشد الذي صاحبه جلبةٌ كبيرة. إلا أنه اتضح أنه بنك مُفلِس. فطبقًا لتخطيط مارتي كان من المفترض أن تُديرَ هذا البرنامجَ جامعةٌ حكومية تقع خارج الضواحي، وقال إن هذا الاختيار يتعلَّق بالفاعلية حيث إن الجامعة مُشتمِلة بالفعل على أجهزة كمبيوتر معدَّة للاستخدام. ولكن لسوء الحظ، بعد مرور شهرَين من الميعاد المتَّفق عليه لبدء عمل البنك، لم يوفِّر البرنامج وظيفةً لأحد. ويرجع ذلك إلى أن أجهزة الكمبيوتر لم تكن تعمل بصورةٍ صحيحة؛ فإدخال البيانات كان يجري على نحوٍ خاطئ، كان يجري إرسالُ الناس لإجراء مقابلاتٍ للحصول على وظائفَ لم تكن موجودة. كان مارتي غاضبًا للغاية مما يحدُث، وعلى الأقل مرة أسبوعيًّا كان عليه أن يذهب إلى الجامعة، وكان يسبُّ ويلعن بألفاظٍ غيرِ مسموعةٍ وهو يحاول انتزاع إجاباتٍ من المسئولين الذين بدَوا أكثرَ اهتمامًا ببرنامج التمويل للعام التالي. لكنَّ السيدات اللاتي كنَّ يقطنَّ في ألتجيلد لم يكنَّ مُهتمَّات بإحباط مارتي. وكل ما كنَّ يعرفنه هو أن ٥٠٠ ألف دولار قد أُنفِقت بالفعل في مكانٍ ما لكن لمصلحةِ ضاحيةٍ غيرِ تلك التي يسكنها. ورأى ثلاثتهن أن بنك الوظائف دليل واضح على أن مارتي استغلهنَّ من أجل تنفيذ برنامج عملٍ سري أبعدَ عنهن بطريقةٍ أو بأخرى الوظائف التي وُعِدنَ بها ليحصل عليها البِيض في الضواحي.

«إن مارتي يبحث فقط عن مصلحته الخاصة»، هكذا قالت السيدات بتذمُّر.

بذلتُ كلَّ ما في وسعي حتى أُسوِّي هذا الخلاف، وكنتُ أنفي عن مارتي تُهَم العنصرية، مقترحًا عليه أن يكون أكثرَ دبلوماسية في التعامُل معهنَّ. لكنه أخبرني أنني كنتُ أضيع وقتي. فوفقًا لكلامه، كان السبب الوحيد لغضب أنجيلا والقادة الآخرين في المدينة هو رفضه تعيينهم في إدارة البرنامج. وقال: «هذا هو سبب فشَل ما يُطلَق عليه المؤسسات المجتمعية هنا. حيث يبدءون بأخذ أموال الحكومة وتعيين عددٍ كبير من الموظفين الذين لا يفعلون أيَّ شيء. وسرعان ما تُدار هذه المؤسَّسات على أساس المحسوبية لخدمة الزبائنِ وتلبية رغباتهم. ليس القادة. بل الزبائن.» نطق الرجل هذه الكلمات بازدراءٍ شديد، كما لو كانت كلمات بذيئة. وأضاف: «يا إلهي، إنني أشعر باشمئزازٍ بمجرد تفكيري في الأمر.»

بعد ذلك استطرد مارتي قائلًا لي بعدما رأى نظرة القلق لا تزال باديةً على وجهي: «انظر يا باراك، إذا كنتَ ستؤدي هذا العمل فإن عليك أن تتوقَّف عن القلق بشأنِ ما إذا كان الناس يُحبُّونك أم لا. فإنهم لن يفعلوا.»

رأى مارتي أن المحسوبية والسياسة وجرح المشاعر والشكوى من العنصرية أشياءُ تنتمي لفئةٍ واحدة، وأنها تُشتِّت انتباهه عن هدفه الأكبر وتفسد قضيةً سامية. وحتى هذا الحين كان ما زال يحاول الحصول على إدخال اتحاد النقابات في المسألة مُقتنعًا بأن أفراده سيَسُدُّون النقص في صفوفنا، ويصِلون بسفينتنا إلى برِّ الأمان. وفي يومٍ من أواخر شهر سبتمبر طلب مارتي منِّي ومن أنجيلا الذَّهاب معه في اجتماعٍ مع مسئولي الاتحاد من شركة «إل تي في ستيل» لإنتاج الصلب، التي كانت واحدة من شركات إنتاج الصلب القلائل الباقية في المدينة. وقد استغرق الأمر من مارتي ما يزيد عن شهر للإعداد لهذا الاجتماع، وكان يفيض بالحيوية في هذا اليوم، وسريعًا في تحدُّثه عن الشركة والاتحاد والمراحل الجديدة في الحملة التنظيمية.

في نهاية الأمر دخل القاعةَ رئيسُ الفرع المحلي للاتحاد — وكان شابًّا وسيمًا أيرلنديًّا انتُخِب حديثًا بعد أن وَعد بالإصلاح — ومعه رجلان ضخما الجثة من ذوي البشرة السوداء؛ هما أمين صندوق الاتحاد ونائب الرئيس. وبعد تعارُفنا جلسنا كلنا، وتحدَّث مارتي عما يسعى إلى تحقيقه محاولًا إقناع الحضور. وقال إن الشركة تتأهَّب للخروج من سوق إنتاج الصلب، وإنَّ اتفاقيات رفع الأجور لن تؤدي إلا إلى زيادة أمدِ المعاناة. وإذا كان الاتحاد يريد استمرار الوظائف فإن عليه اتخاذ إجراءاتٍ جريئة وجديدة. من هذه الإجراءات الاجتماعُ بمسئولي الكنائس، ورسمُ خطةٍ للحوافز المادية التي سيحصل عليها العاملون الذين استُغنيَ عنهم. والتفاوض مع مجلس المدينة للحصول على امتيازاتٍ خلال هذه الفترة الانتقالية فيما يخصُّ المرافق ومعدلات الضريبة. هذا إلى جانب الضغط على البنوك لتقديم القروض التي يمكن استخدامها للاستثمار في التكنولوجيا الجديدة الضرورية لإعادة المصنع إلى المنافسة مرةً أخرى.

في أثناء حديثه المنفرد الطويل تململ مسئولو الاتحاد في مقاعدهم. وأخيرًا وقف الرئيس وأخبر مارتي أن أفكاره تستحقُّ دراسةً أكثرَ استفاضة، لكنَّ الاتحاد في هذا الحين عليه أن يُركِّز على اتخاذ قرارٍ فوري بخصوص عرْض الإدارة. وبعد ذلك — في موقف السيارات — جاءني مارتي وهو يهزُّ رأسه وكانت تعلو وجهه نظرةٌ تدلُّ على الاندهاش.

قال: «إنهم ليسوا مُهتمِّين.» وتابع: «لا حياةَ لمن تُنادي.»

شعرت بالأسف لما حدَث لمارتي. وشعرتُ بأسفٍ أكبرَ لأنجيلا. فهي لم تنطِق بكلمةٍ واحدة أثناء الاجتماع، لكن عندما تحرَّكتُ بالسيارةِ من موقف سيارات الاتحاد لتوصيلها إلى منزلها استدارت نحوي وقالت: «لم أفهم كلمةً واحدةً مما قالَه مارتي.»

أعتقد أنني حينئذٍ فهِمتُ صعوبةَ ما كان مارتي يُحاول إنجازه، ومدى عُمق تقديره الخاطئ للأمور. وفي الواقع لم يكن الحال مع أنجيلا أنها لم تستطِع فهْم بعض التفاصيل في حديث مارتي، ففي أثناء حديثنا تجلَّى لي أنها فهِمَتْ حديثه، على الأقل كما فهمتُه أنا. لكنَّ المعنى الحقيقي لملاحظتها كان مُتمثلًا في أنها شكَّت في علاقةِ ما قاله بموقفها الشخصي المُطالِب بالإبقاء على مصنعِ إل تي في مفتوحًا. إن التنظيم بالتعاون مع الاتحادات كان يمكن أن يساعد بعض السود الذين ظلوا في المصانع في الاحتفاظ بوظائفهم، وهذا لم يكن سيؤثِّر على قوائم العاطلِين عن العمل في القريب العاجل. ربما كان بنك الوظائف سيساعد العمال الذين يملكون بالفعل مهاراتٍ وخبرة في العثور على وظيفةٍ أخرى، لكنَّه لم يكن بالطبع سيُعلِّم المراهِقين السود الذين تركوا التعليم كيفية القراءة أو الحساب.

بعبارةٍ أخرى، فإن الأمر كان مختلفًا للسود. كما أنه مختلف وقتَ كتابتي هذا، تمامًا كما كان مختلفًا لأجداد أنجيلا الذين استبعدتهم الاتحاداتُ وبُصِقَ عليهم وكأنهم مصابون بالجرب، وكان مختلفًا أيضًا لوالِدَيها اللذَين استُبعِدا أيضًا من شَغل الوظائف الأفضل التي كان يُعيَّن الموظفون فيها على أساس المحسوبية والتي كان جهاز الكمبيوتر يوفِّرها قبل أن تُصبح كلمة محسوبية مِن غير اللائق استخدامها. وفي أوج حماس مارتي لإعلان الحرب على سماسرة السلطة في وسط المدينة، وأصحاب البنوك الاستثمارية في حُلَلِهم الفاخرة، أراد طرْح هذه الاختلافات جانبًا بصفتها جزءًا من الماضي التعيس. لكن شخصًا مثل أنجيلا، كان الماضي عندها هو نفسه الحاضر؛ إذ كان ذلك الماضي هو الذي شكَّل عالمها إلى الأبد بقوةٍ أكثرَ واقعيةً من أية فكرةٍ خاصة بتضامن الطبقات. وأوضح الكثيرَ عن سبب عدم قدرة المزيد من السود على الانتقال إلى الضواحي في الوقت الذي كان فيه هذا الانتقال مفيدًا، وسبب عدم تمكُّن المزيد منهم من اللَّحاق بركْب الحلم الأمريكي. وسبب انتشار البطالة واتصافها بأنها أكثرُ حدةً في الأحياء التي يَقطنها السود، واستمرارها لوقتٍ أطول من استمرارها في الأحياء الأخرى، وسبب نفاد صبر أنجيلا من الذين يُريدون التعامُل مع البِيض والسود على قدمِ المساواة.

وهكذا فسَّر هذا الماضي مشروع ألتجيلد.

•••

نظرتُ إلى ساعتي ووجدتُ أن الساعة الثانية و١٠ دقائق. قد حان الوقت لمواجهة العقاب على ما صنعته يداي. فخرجتُ من السيارة وضربتُ جرس باب الكنيسة. وفتحَتْ أنجيلا وأرشدتني إلى غرفةٍ كان ينتظرني فيها القادة الآخرون: شيرلي ومُنى وويل وماري، والأخيرة سيدة بيضاء سوداء الشعر وهادئة كانت تقوم بالتدريس لتلاميذ المرحلة الابتدائية في المدرسة التابعة لكنيسة سانت كاترين. اعتذرتُ عن تأخُّري وصببتُ لنفسي بعض القهوة وجلستُ على عتبة النافذة.

قلت: «إذن، لماذا هذه الوجوه الحزينة؟»

قالت أنجيلا: «سنترُك العمل.»

«مَن الذي سيترك العمل؟»

هزَّت أنجيلا كتفَيها وقالت: «حسنًا … إنني … أعتقد … لا أستطيع أن أتحدَّث نيابةً عن الجميع.»

تجوَّلتُ ببصري في الغرفة. وتجنَّب القادة النظر إليَّ وكأنهم هيئة مُحلَّفين نطقت حكمًا في غير مصلحتي.

استمرَّت أنجيلا في حديثها معي، وقالت: «إنني آسفة يا باراك.» وأضافت: «إن الأمر ليس متعلقًا بك على الإطلاق. فالحقيقة هي أننا مُتعبون فقط. نحن في هذا الموقف منذ عامَين ولم نستطِع التقدُّم خطوةً واحدة.»

«إنني أتفهَّم إحباطكم يا أنجيلا. نحن جميعًا مُحبطون إلى حدٍّ ما. ومع ذلك فإنكم في حاجةٍ إلى أن تعطوا هذه المسألة مزيدًا من الوقت؛ فنحن …»

قاطعتني شيرلي قائلة: «ليس لدَينا مزيدٌ من الوقت.» وتابعت: «إننا لا نستطيع الاستمرار في إعطاء الوعود لأهلنا، ولا يحدُث شيء بعدَها. إننا نحتاج إلى فعل شيءٍ الآن.»

في أثناء محاولتي التفكير في شيءٍ آخر أقوله، أخذتُ أُحرِّك فنجان القهوة. ارتبكت الكلمات في رأسي، وللحظةٍ تملَّكني الذُّعر. وبعدَها تحوَّل الذعر إلى غضب. وكان هذا الغضب من مارتي لأنه أحضرني إلى شيكاغو. كما كان غضبي من القادة لكونهم قصيري النظر. وكنتُ غاضبًا من نفسي للاعتقاد في أنه كان بإمكاني رأبُ الصدع بينهم جميعًا. وعلى حين غرة، تذكَّرتُ ما قاله لي فرانك ذات ليلةٍ في هاواي، بعدما سمعتُ أن جَدتي فُزِعَت من ذلك الرجل الأسود.

قال لي فرانك وقتَها، إن الحال هكذا على الدوام. وأضاف أنني ربما أيضًا أعتاد ذلك.

في ظل حالة الكآبة والحزن الشديد التي انتابتني نظرتُ من النافذة ورأيت مجموعةً من الصبية مُجتمِعين في الشارع. وكانوا يقذفون بالحجارة نافذةً ذات ألواح خشبية خاصة بإحدى الشقق الخالية، وكانوا يُغَطُّون رءوسهم وأعناقهم بقلنسوةٍ بطريقةٍ جعلتهم وكأنهم صور مُصغَّرة للرهبان. وقام أحدهم بمدِّ يدِه لينتزع قطعةً من رقائق خشب الأبلكاش كانت مُثبتة بمسامير عند باب الشقة إلا إنه تعثَّر وسقط على الأرض مما جعل الآخرين يضحكون. وفجأة شعرتُ أنني أريد الانضمام إليهم، وأريد أن أقتلع الأرض الميتة التي نقف عليها، جزءًا. لكنني بدلًا من أن أفعل ذلك اتجهت إلى أنجيلا، وأشرتُ إلى النافذة.

قلت: «دعيني أطرح عليك سؤالًا: ماذا تعتقدين أن يحدث لهؤلاء الصبية؟»

«باراك …»

«لا، إنني أسأل فقط. إنك تقولين إنكم مُتعبون، وبالطبع فإن تلك هي حالة الأغلبية هنا. لذا إنني لا أحاول إلا معرفةَ ما سيحدث لهؤلاء الصبية. ومَن الذي سيتأكد من أنهم أُتيحت لهم فرصة بالفعل؟ عضو مجلس المدينة؟ أم الاختصاصيون الاجتماعيون؟ أم العصابات؟»

كنتُ في ذلك الحين أسمع صوتي وهو يرتفع لكنني لم أتوقَّف. وقلتُ لهم: «أتعرفون، إنني لم أحضُر إلى هنا لأنني كنتُ في حاجةٍ إلى وظيفة. بل حضرتُ لأن مارتي قال لي إنه يُوجَد هنا بعض الأفراد الجادِّين في فعْل شيءٍ يساعد في تغيير أحيائهم. إنني لا أهتمُّ بما حدث في الماضي. أعرف أنني هنا الآن وأنا مُلتزِم بالعمل معكم. وإذا كانت هناك مشكلة، علينا إذن أن نحلَّها. وإذا كنتم تعتقدون أنه لن يحدُث شيء بعد العمل معي، فإنني سأكون أول مَن يُخبركم بأن تتركوا العمل. لكن إن كنتم جميعًا تخطِّطون لترْك العمل الآن، فإنني أريد منكم الإجابة عن سؤالي.»

توقَّفت عن الحديث، محاولًا النظر إلى وجوههم كافة لمعرفةِ ما يدور برءوسهم. كانوا قد بدَتْ عليهم الدهشة بسبب ثَورتي مع أنهم لم يكونوا مُندهِشين مِثلي على الإطلاق. عرفت وقتها أنني كنتُ واقفًا على أرضٍ هشة، ولم أكن قريبًا بما يكفي لأيٍّ منهم حتى أستطيع أن أتأكد من أن حديثي حقَّق نتائجَ غير مرغوبة. في هذه اللحظة بالذات لم يكن أمامي أي بديل. أما عن الصبية فكانوا قد غادروا وساروا في الشارع، وذهبَت شيرلي لتحضر المزيد من القهوة لنفسها، وبعد قرابة ١٠ دقائق، تحدَّث ويل أخيرًا.

قال: «إنني لا أعرف شعور بقية الحضور، لكنني أعتقد أننا تحدَّثنا عن هذا الموضوع القديم وقتًا طويلًا بما يكفي. إن مارتي يعلم أننا نُواجِه مشكلات. ولذا عيَّن باراك. أليس ذلك صحيحًا يا باراك؟»

أومأت برأسي بالإيجاب متحفظًا.

«إن الأوضاع لا تزال سيئة هنا. ولم يتحرك ساكنٌ.» وأضاف وهو يلتفت تجاهي: «لذا فإن ما أريد معرفته هو ما سنفعله بدءًا من هذه اللحظة فصاعدًا.»

أخبرتُهُ بالحقيقة. قلت: «لا أعرف يا ويل، فلتُخبرني أنت.»

ابتسم ويل وشعرتُ أن الأزمة الحالية التي كنا نمرُّ بها قد انتهت. ووافقت أنجيلا على السماح بفرصةٍ أخرى لبضعة أشهر. وأعلنتُ عن مُوافقتي على تخصيص مزيدٍ من الوقت لألتجيلد. وقضينا نصف الساعة التالية نتحدَّث عن الاستراتيجية وتوزيع المهام. وفي طريقنا للخارج ظهرتْ مُنى وأخذتني من ذِراعي للتحدُّث معي.

«لقد أدرتَ هذا الاجتماع بصورةٍ طيبة يا باراك. يبدو أنك تعرف ما تفعل.»

«لا يا مُنى. إنني لا أعرف ما أفعل.»

ضحكَت مُنى. وقالت: «حسنًا، أعِدُك بأنني لن أقول لأحد.»

«إنني أُقدِّر لكِ ذلك. مِن المؤكد أُقدِّره.»

•••

في مساء اليوم نفسه اتصلتُ بمارتي وأخبرتُه ببعضِ ما حدث، لكنه لم يندهش حيث إن العديد من كنائس الضواحي كانت قد بدأت بالفعل في الانسحاب. أعطاني مارتي بعضَ الاقتراحات بخصوص التعامُل مع قضية التوظيف في ألتجيلد، ونصحني بعدها أن أُحسِن اختيارَ مسار الحديث في المقابلات التي أُجريها.

قال: «إنك ستحتاج يا باراك إلى بعض القادة الجدد. إن ويل رجل رائع، لكن هل تعتقد أنك ستعتمد عليه فعليًّا في تخليص المؤسسة من المصاعب المالية التي تُواجهها؟»

فهمتُ ما كان مارتي يرمي إليه. وعلى قدْر إعجابي بويل وتقديري لدعمه، كان عليَّ أن أعترف بأن بعضًا من أفكاره كانت … حسنًا … غريبة بعض الشيء وغير تقليدية. فهو يُحب تدخين سجائر الماريجوانا في نهاية يوم العمل (وكان يقول: «إن لم يكن الرب يريد منا تدخين هذا الشيء، لم يكن ليخلُقَه من الأساس.») بالإضافة إلى أنه كان يُغادر أيَّ اجتماع يرى أنه مُمل. وكلما اصطحبتُه معي في مقابلةٍ مع أعضاء كنيسته بدأ بالجدال معهم بخصوص قراءتهم غير الصائبة للكتاب المقدس، أو الأسمدة التي يختارونها لمرُوجهم، أو دستورية ضريبة الدخل (وكان يشعر أن الضريبة تتعدَّى على ميثاق الحقوق، ومن ثَم رفض عن عمدٍ دفعها).

لقد أخبرته ذات مرة: «ربما لو كنتَ تستمِع إلى الآخرين أكثرَ من ذلك لأصبحوا أكثر تجاوبًا معك.»

هزَّ ويل رأسه. وقال: «إنني أستمِع بالفعل إليهم. وتلك هي المشكلة. لأن كلَّ ما يقولونه خطأ.»

بعد فض الاجتماع في ألتجيلد لاحت لويل فكرة جديدة. وقال لي: «إن هؤلاء الزنوج المفتقِرين إلى النظام في كنيسة سانت كاترين لن يفعلوا إطلاقًا أيَّ شيء.» وأضاف: «إذا كنا نُريد تحقيق شيءٍ مُعيَّن يجب أن ننزل إلى الشوارع!» أوضح ويل أن العديد من الناس ممن يعيشون بجوار كنيسة سانت كاترين مباشرةً عاطلون وفي كفاحٍ مُستمر، وقال إن هؤلاء هم الذين ينبغي لنا استهدافهم. ولأنهم ربما لا يتقبَّلون فكرةَ حضور اجتماعٍ تستضيفه كنيسة أجنبية فإن علينا عَقْد مجموعةٍ مُتتالية من الاجتماعات في زاوية الشارع بالقرب من ضاحية ويست بولمان، مما يسمح لهم بالاجتماع معنا على أرضٍ مُحايدة.

في البداية شككتُ في هذا الأمر، لكن لأنني لم أكن مُستعدًّا لإحباط أية مبادرة ساعدتُ ويل وماري في إعداد نشرة دعائية لتُوزَّع على المباني السكنية الأقرب إلى الكنيسة. وبعد أسبوعٍ وقف ثلاثتنا في زاوية الشارع في ظلِّ رياح أواخر الخريف. ظل الشارع فارغًا في البداية، ولم تكن فيه سوى ظلال صفوف المنازل ذات الطابق الواحد المبنية من الطوب. بعد ذلك بدأ الناس في الظهور رويدًا رويدًا — واحد أو اثنان في كل مرة — وكانت السيدات ترتدي قبعات فوق رءوسهن، والرجال يرتدون قمصانًا صوفية أو سترات ثقيلة، وكانوا جميعًا يجرُّون أقدامهم فوق أوراق النباتات، ويتحرَّكون تجاه دائرة التجمُّع الآخِذة في الاتساع. وعندما بلغ عدد الحضور ٢٠ شخصًا أو ما يقرُب من ذلك أوضح ويل أن كنيسة سانت كاترين كانت جزءًا من جهدٍ تنظيمي أكبر «وأننا نريد منكم أن تتحدثوا مع جيرانكم بشأن جميع الأشياء التي تَشْكون منها في حياتكم.»

قالت إحدى السيدات: «حسنًا، إن كلَّ ما أستطيع أن أقوله الآن هو أن الأمر مُتعلِّق بالوقت.»

ولقرابة ساعة تحدَّث الناس عن الحُفر التي تملأ الطرقات، وعن البالوعات وإشارات المرور وقِطَع الأرض المهجورة. ومع اقتراب الغسق أعلن ويل عن انتقال مقر الاجتماعات إلى الطابَق الأرضي بكنيسة سانت كاترين بدءًا من الشهر التالي. وفي طريق عودتنا إلى الكنيسة سمعتُ صوتَ الناس خلفنا، يهمس في ضوء النهار المنقضي. وفي ذلك الوقت اتجه ويل نحوي وابتسم.

قال: «ألم أقُل لك؟»

كرَّرنا عقْد هذه الاجتماعات في زاوية الشارع في ثلاث … أربع … أو خمس مناطق سكنية، وكان ويل يجلس في المنتصف مُرتديًا ياقةَ القس وسترة فريق شيكاغو كابس للبيسبول، وكانت ماري تدور على الناس في الزحام وبيدِها أوراق تسجيل الحضور. وعندما نقلنا الاجتماعات إلى داخل الكنيسة كان لدَينا جمْعٌ من الناس يبلغ قرابة ٣٠ شخصًا مُستعدًّا للعمل معنا في مقابل الحصول على شيءٍ ليس أكثر من فنجان قهوة.

قبل هذا الاجتماع كنتُ قد وجدتُ ماري بمفردها في قاعة الكنيسة تُعِدُّ إبريقًا من القهوة. وكان جدول أعمال الأمسية مطبوعًا بصورةٍ مُنظَّمة على ورقةٍ مُعلَّقة على الحائط، هذا بالإضافة إلى أن المقاعد كانت جاهزة. وفي أثناء بحْث ماري في الخزانة عن السُّكَّر ومبيض القهوة لوَّحت إليَّ وأخبرتني أن ويل سيتأخَّر قليلًا.

سألت ماري: «أتُريدين أية مساعدة؟»

«أتستطيع إحضار السكَّر؟»

أحضرتُ السكر من الرَّف العلوي. وقلتُ لها: «أتريدين شيئًا آخر؟»

«لا، أعتقد أننا مُستعدون الآن.»

جلستُ وشاهدتُ ماري وهي تنتهي من إعداد فناجين القهوة. كانت ماري من الأشخاص الذين يصعُب فَهْمُهم، حقًّا كانت كذلك؛ فلم تكن تُفضِّل الكلام كثيرًا عن نفسها أو ماضيها. وعرفتُ أنها كانت الوحيدة من ذوي البشرة البيضاء في المدينة التي تعمل معنا، فكانت واحدةً من نحو خمسة أشخاص بِيض لا يزالون في ضاحية ويست بولمان. هذا بالإضافة إلى أنني عرفتُ أيضًا أن لها ابنتَين — إحداهما تبلغ من العمر ١٠ سنوات والأخرى ١٢ سنة — وكانت أصغرهما تعاني عجزًا جسديًّا تَسبَّب في صعوبةِ مشيها وتطلَّب علاجًا مُنتظمًا.

وعلمتُ أن والدَها لم يكن له وجود في حياتها، مع أنها لم تنبِس ببنتِ شفة عن هذا الموضوع. وعلى مدار عدة أشهر علمتُ أشياءَ قليلة عن كونها قد تربَّت في مدينةٍ صغيرة في ولاية إنديانا، وكانت تنتمي لعائلةٍ أيرلندية كبيرة من الطبقة العاملة. وعلى ما يبدو فإنها قابلت رجلًا من ذوي البشرة السوداء هناك ونمَت بينهما علاقة في السِّرِّ وبعدَها تزوَّجا، رفضت عائلتها التحدُّث معها بعد ذلك، ورحل الزوجان الحديثا الزواج إلى ضاحية ويست بولمان، حيث اشتريا منزلًا صغيرًا. بعد ذلك تركها زوجها ووجدت ماري نفسها وقد انجرفت إلى عالمٍ لم تكن تعرف عنه إلَّا القليل، ومن دون أي شيءٍ تملكه سوى المنزل وابنتَيها السمراوَين أصبحت غير قادرة على العودة إلى العالم الذي عرفته من قبل.

في بعض الأحيان كنتُ أزور ماري في منزلها زيارةً قصيرة لإلقاء التحية عليها فقط، وربما كان الدافع وراء ذلك هو الوحدة التي شعرتُ بأنها تملأ أرجاء المنزل هناك، والتشابُه الذي وجدتُه بينها وبين أُمي، وبيني وبين ابنتَيها؛ هاتان البنتان الجميلتان اللتان كانت ظروف معيشتهما أصعبَ بكثيرٍ من ظروف معيشتي، واللتان تهرَّب منهما جَدَّاهما وضايقهما زملاؤهما السود، إلى العديد من أنواع المعاناة الأخرى. لا يعني كل ذلك أن العائلة لم يكن يساعدها أحد، حيث إن الجيران — بعد أن هجر زوج ماري المنزل — قدَّموا الكثير من الرعاية والاهتمام بها وبطفلتَيها، فكانوا يُساعدونهنَّ في إصلاح السقف الذي كانت المياه تتسرَّب منه، ويدعونهنَّ إلى حفلات الشواء وحفلات أعياد الميلاد، بالإضافة إلى الإطراء على ماري لأي عملٍ طيب أنجزته. لكن كانت هناك حدود لمدى تقبُّل الجيران لهذه العائلة وحدود ضمنية للصداقات التي كان بإمكان ماري إقامتها مع السيدات اللاتي قابلتهنَّ، خاصةً المتزوجات منهنَّ. لم يكن لدَيها أصدقاء حقيقيون سوى ابنتَيها، والآن انضم إليهم ويل الذي أعطاهنَّ إيمانه غير التقليدي شيئًا خاصًّا شاركنه إيَّاه.

ولأنه لم يكن هناك شيء إضافي يمكن فِعْله في الاجتماع جلسَتْ ماري وشاهدتني وأنا أُدوِّن لنفسي الملحوظات سريعًا قبل انتهاء الاجتماع مباشرةً.

«هل تمانع إذا طرحتُ عليك سؤالًا يا باراك؟»

«لا، هاتي ما عندك.»

«لماذا أراك هنا؟ أقصد لماذا تعمل في هذه الوظيفة؟»

«بسبب الجاذبية.»

«لا، إنني جادةٌ في هذا السؤال. قلتَ بنفسك إنك لا تحتاج إلى هذه الوظيفة. هذا إلى جانب أنك لستَ مُتدينًا للغاية، أليس كذلك؟»

«حسنًا …»

«لماذا إذن تعمل في الوظيفة؟ ثمَّة سببٌ لعملي أنا وويل في هذه الوظيفة. إنه التديُّن. هذا العمل جزءٌ من عقيدتنا. لكنني لا أعتقد أن الأمر معك يسير على هذا النحو.»

في هذه اللحظة فُتح الباب ودخل السيد جرين. وكان رجلًا مُسِنًّا يرتدي سترة صيدٍ وقبعة، تتدلى حاشيتاها بغير انسيابيةٍ أمام ذقنه.

«كيف حالك يا سيد جرين؟»

«بخير حال. الطقس شديد البرودة لكن …»

وسرعان ما دخل السيد ألبرت والسيدة تيرنر ثم سائر المجموعة، وكانوا جميعًا يرتدون ملابس ثقيلةً في ظلِّ أحوالٍ جوية توحي بشتاءٍ مُبكِّر. كانوا يفتحون أزرار المعاطف، وأعدوا القهوة لأنفسهم، واشتركوا في محادثاتٍ قصيرة متأنية ساعدت في تدفئة جوِّ الغرفة. وأخيرًا دخل ويل مُرتديًا بنطلون جينز قصيرًا وقميصًا أحمرَ مطبوعًا على مُقدِّمته «الشماس ويل»، ثم بدأ الاجتماع بعد أن طلب من السيدة جيفري أن تقودنا في الصلاة. وبينما كان الجميع يتحدَّثون كنتُ أدوِّن ملحوظاتٍ لنفسي، ولم أكن أتحدَّث إلا عندما يبدأ الحديث يحيد عن مساره الصحيح. وفي الواقع اعتقدتُ أن الاجتماع استمرَّ فترةً طويلة جدًّا عندما أضاف ويل نقطةً جديدة إلى جدول الأعمال لمناقشتها؛ ولذا انسحب بعض الحضور بعد مرور ساعة.

أعلن ويل قائلًا: «قبل أن نُنهي الاجتماع أريد منكم أن تُجرِّبوا شيئًا.» وتابعت: «إننا هنا الآن في مؤسسةٍ اتخذت من الكنيسة مقرًّا لها، وهذا يعني أن نُخَصِّص جزءًا من كل اجتماعٍ نتأمَّل فيه أنفسنا، وعلاقاتنا بعضنا ببعض، وعلاقتنا بالرب. لذا أريد من كلٍّ منكم أن يستغرق دقيقةً واحدة للتفكير في سبب الحضور إلى هنا الليلة، وفي بعض المشاعر والأفكار الأخرى التي لم تتحدَّثوا عنها، وبعد ذلك أريد منكم أن تُشركوا المجموعة كلَّها فيها.»

أدَّى حديث ويل إلى بناء جدارٍ من الصمت استمرَّ بضع دقائق. وأخذ يُكرِّر: «هل يريد أيٌّ منكم مشاركة أفكاره مع الآخرين؟»

نظر الناس إلى الطاولة بقلقٍ وتوتُّر.

فقال ويل: «حسنًا.» وتابع: «سأُشارككم معي فكرةً عالقةً في ذهني منذ وقت. إنها ليست مهمة، لكنها مجرد ذكريات. إنكم تعلمون أن أهلي لم يكونوا أثرياء أو شيئًا من هذا القبيل. حيث كنَّا نعيش في ألتجيلد. لكنني عندما عُدتُ بذاكرتي إلى الوراء — إلى أيام الطفولة. تذكَّرت أوقاتًا طيبة بالفعل؛ تذكَّرت الذَّهاب إلى بلاكبيرن فورست مع أهلي لقطف ثمار التوت البري. وتذكَّرتُ صُنع العربات الزلاجة باستخدام أقفاص الفاكهة الفارغة وعجلات أحذية التزلُّج القديمة مع زملاءٍ نشأت بيننا صداقة عابرة، والتسابق بهذه العربات في موقف السيارات، وتذكَّرتُ الذهاب إلى الرحلات الميدانية في المدرسة، ومقابلة جميع العائلات في المتنزَّه في الإجازات، حيثما كان الجميع خارج منازلهم دون أدنى شعور بالخوف، وفي الصيف كانوا ينامون في الساحات معًا إذا كان الطقس شديد الحرارة داخل المنازل. فيض من الذكريات الجميلة … يبدو الأمر وكأنني لم أكفَّ عن الابتسام طيلةَ حياتي، أضحك …»

توقَّف ويل فجأةً عن تكملةِ حديثه وأحنى رأسه. ووقتها اعتقدتُ أنه يستعد للعطس، لكنه عندما أعلى رأسه مرةً أخرى رأيتُ دموعًا تنسال على وجنتَيه. استمرَّ في التحدُّث بنبرةٍ تنمُّ عن الحزن الشديد، وقال: «كما تعلمون فإنني لا أرى الأطفال يبتسِمون هنا على الإطلاق. فأنتم تنظرون إليهم … وتسمعونهم، يبدو هؤلاء الأطفال في حالةِ قلق، إنهم غاضبون من شيءٍ ما. فليس لدَيهم ما يثقون به، لا يثقون بآبائهم. أو بالرب. أو حتى بأنفسهم. وهذا ليس أمرًا طيبًا وليس من المفترَض أيضًا أن تأخذ الأمور هذا المسار … الأطفال لا يبتسِمون.»

توقَّف ويل عن الحديث مرةً أخرى والتقط منديلًا من جيب بنطلونه الخلفي ليمسح أنفه. بعد ذلك بدأ الحضور بالتحدُّث عن ذكرياتهم بنبرةٍ كئيبةٍ وجادة، كما لو كانت رؤية هذا الرجل الضخم وهو يبكي قد روَتْ أسطُح قلوبهم الجافة. تحدَّث الناس عن الحياة في المدن الجنوبية الصغيرة، وعن محلات البقالة الصغيرة التي كان يتجمَّع الرجال عندها لمعرفة أخبار اليوم أو مساعدة السيدات في حمل مُشترياتهن، وتحدَّثوا عن أسلوبِ عناية الكبار بأطفال الغير؛ فكانوا يقولون لهم: «لن تستطيعوا الإفلاتَ من العقوبة على أيِّ خطأ تقترفونه؛ لأن أُمهاتكم لديهنَّ أعين وآذان في البناية كلها.» بالإضافة إلى تحدُّثهم عن شعور اللياقة العامة الذي ساعدت مثل هذه الأُلفة بينهم على استمراره. لم أحسَّ في أصواتهم أنها تحمل بين جنباتها أيَّ شعور — ولو ضئيلًا — بالحنين، ولم يشتمل إلا على عناصرَ من ذكرياتٍ مختارة، لكنَّ كلَّ ما تذكَّروه كان صحيحًا وقويًّا فيما يحمله من مشاعر وأحاسيس، كان صوتهم صدًى للشعور المشترك بالخسارة. تحوَّلت الغرفة إلى ساحةٍ ارتادها خليط من مشاعر التجربة الحية والإحباط والأمل، تلك المشاعر التي أخذت الشفاه تتناقَلُها واحدةً تلو الأخرى، وعندما تحدَّث الشخص الأخير حلَّقت هذه المشاعر في الهواء وظلَّت ثابتةً وأمكن للجميع إدراكها بوضوح. تشابكت أيدينا بعد ذلك، يدي اليسرى في يد السيد جرين القوية السميكة ويدي اليُمنى في يد السيدة تيرنر الرقيقة الملمس، ودعونا جميعًا أن نُمنح الشجاعة لإجراء التغيير.

ساعدتُ كلًّا من ويل وماري في إعادة المقاعد إلى أماكنها وغسل أواني إعداد القهوة وإغلاق المكان وإطفاء الأنوار. وفي الخارج كان الطقس باردًا ليلًا، لكنه لم يكن مُلبَّدًا بالغيوم. رفعتُ ياقة السترة لأعلى وسرعان ما قيَّمتُ الاجتماع. لم يكن ويل يريد استغراق وقتٍ طويل، وكان علينا أن نبحث قضية خدمات المدينة قبل الاجتماع التالي، إلى جانب مقابلة الجميع من الحضور. وبعد أن انتهيتُ من قائمة البنود التي دوَّنتُها وضعتُ ذراعي حول كتفَي ويل وقلتُ له:

«كانت فكرة التأمُّل في نهاية الاجتماع غاية في الفاعلية يا ويل.»

نظر ويل إلى ماري وابتسما معًا. وقالت ماري: «مما لاحظناه أنك لم تشارك مشاعرك مع أيٍّ من أفراد المجموعة.»

«على المنظِّم ألا يجذب إليه الأنظار.»

«مَن قال ذلك؟»

«دليلي المختصر عن وظيفة المنظم. تعالي معي يا ماري سأُوصلك إلى المنزل.»

ركب ويل درَّاجته ولوَّح بيدِه قبل الانطلاق، وركبنا السيارة أنا وماري لتوصيلها إلى منزلها الذي يبعُد مسافة أربعة مبانٍ عن مكان الاجتماع. نزلت ماري أمام باب منزلها وشاهدتها وهي تمشي خطواتٍ قليلة قبل أن أمُدَّ يدي تجاه المقعد الذي كانت جالسة عليه لأُوصد زجاج النافذة، وفي تلك الأثناء ناديتُها.

«ماري!»

رجعَت وانحنت قليلًا لتنظُر إليَّ.

«أتذكُرين السؤال الذي طرحتِه عليَّ من قبل عن سبب عملي في هذه الوظيفة؟ إن الأمر له علاقة باجتماع الليلة. أقصد … أنني لا أعتقد أن أسبابنا للعمل في هذا المجال مختلفة اختلافًا شديدًا.»

أومأت ماري برأسها واتخذت طريقها للوصول إلى المنزل لرؤية ابنتَيها.

•••

بعد أسبوع عُدتُ إلى ألتجيلد، وبعد أن تمكَّنتُ من اصطحاب أنجيلا ومُنى وشيرلي معي في سيارتي الصغيرة جدًّا. سألتني مُنى بعد أن شكَت من صِغَر المساحة التي تجلس فيها — لأنها كانت جالسة في الخلف.

قالت: «ما نوع هذه السيارة؟»

رفعت شيرلي مقعدها لأعلى. وقالت: «هذه السيارة مُصنَّعة خصيصًا للفتيات النحيفات الصغيرات الحجم اللاتي يخرج معهنَّ باراك.»

«مع مَن سيكون اجتماعنا هذه المرة؟»

كنتُ قد خططتُ لعقد ثلاثة اجتماعات، على أملِ العثور على استراتيجية توظيف تفي باحتياجات الناس في ألتجيلد. وفي هذا الوقت على الأقل كان حدوث ازدهارٍ صناعي جديد أمرًا صعبَ المنال؛ فكبار المُصنِّعين كانوا يختارون أروقة الضواحي النظيفة، ولم يكن باستطاعة أحد — حتى لو كان غاندي — إجبارهم على نقْل مشاريعهم بالقُرب من ألتجيلد في أيِّ وقتٍ قريبٍ على الإطلاق. على الجانب الآخر كان ما زال مُتبقيًا في المنطقة جزء من الاقتصاد الذي كان يمكن أن يُطلَق عليه الاقتصاد المحلي الذي اعتقدتُ وقتَها أنه اقتصاد استهلاكي من الطبقة الثانية — وهو اقتصاد المتاجر والمطاعم والمسارح والخدمات — الذي استمرَّ في مناطقَ أخرى في المدينة باعتباره جوهر الحياة المدنية. وهذه الأماكن هي التي اتجهت إليها العائلات لاستثمار مُدخراتها وتحقيق النجاح في العمل، إلى جانب توفيرها الوظائف لعديمي الخبرة؛ إنها الأماكن التي ظلَّ فيها الاقتصاد باقيًا بالمقياس الإنساني وواضحًا بصورةٍ كافية كي يستوعِبه الناس.

كانت روزلاند هي الأقرب للمقاطعة التجارية في المنطقة؛ لذا فإننا اتخذنا مسار الأتوبيس واتَّجهنا شمالًا إلى شارع ميشيجان المشهور بمحلات بيع الشَّعر المستعار، ومحلات الخمور، ومحلات الملابس المُباعة بتخفيضات، ومحلات البيتزا، إلى أن وصلْنا أمام مخزن قديم مُكوَّن من طابَقين. دخلنا هذا المبنى من بابه المعدني الثقيل ونزلْنا على سلالمَ ضيقةٍ إلى الطابق السُّفلي المليء بقطع الأثاث القديم. وفي مكتبٍ صغير كان يجلس رجل رياضيُّ البنية إلى حدٍّ ما، بلحيةٍ صغيرة مُشذَّبة، وكان يرتدي قلنسوة ضيقةً أبرزت أُذنَيه الكبيرتَين.

«هل أستطيع مساعدتكم؟»

شرحتُ لهذا الرجل مَن نحن وأننا تحدَّثنا قبل الحضور هاتفيًّا.

قال الرجل: «نعم هذا صحيح.» وبعدها أشار لاثنين من رجاله ضخمي الجثة كانا يقفان على جانبَي مكتبه، فمشيا بعد أن أومآ برأسيهما. وقال الرجل مرةً أخرى: «أعتقد أننا مُضطرون لتقديم أنفسنا سريعًا لأنه حدث شيءٌ غير متوقَّع. أنا رفيق الشباز.»

قالت شيرلي ونحن نُصافح رفيقًا: «إنني أعرفك.» وتابع: «أنت «والي» ابن السيدة طومبسون. كيف حال والدتك؟»

ابتسم رفيق ابتسامةً مُصطنعة، وطلب منا الجلوس. وأوضح أنه كان رئيسًا لائتلاف وحدة روزلاند، وهو مؤسَّسة اشتركت في العديد من الأنشطة السياسية بهدف الترويج لقضية السود، وزعمت أن لها دورًا كبيرًا في المساعدة في انتخاب عمدة واشنطن. وعندما سألناه عن كيفية دعم كنائسنا التنميةَ الاقتصادية المحلية، أعطانا منشورًا يتَّهم المتاجر العربية ببيع لحمٍ فاسد.

قال رفيق: «هذا هو الأمر الذي يستحقُّ الاهتمام.» وتابع: «حيث إن هناك أناسًا من خارج مجتمعنا يأخذون منَّا أموالنا ويتعاملون مع إخوتنا وأخواتنا بغير احترام. وبصفةٍ أساسية فإن الكوريين والعرب هم مَن يُديرون هذه المتاجر، ولا يزال اليهود يملكون معظم الأبنية. والآن على المدى القصير، يتعيَّن علينا التأكُّد من أن مصالح السُّود يُعتنى بها، أتفهمونني؟ وعندما نسمع أن أحد الكوريين يُسيء معاملةَ أحد الزبائن، يجب أن نهتمَّ بهذا الأمر. ونُصِر على احترامهم لنا وتقديم المساعدة للمجتمع، مثل تمويل برامجنا وأي شيء آخر تقترحونه.»

«هذا على المدى القصير، وهذه …» أشار رفيق إلى خريطة لروزلاند مُعلَّقة على الحائط وبها مناطقُ مُعيَّنة مميَّزة بالحبر الأحمر. وأضاف: «وهذه على المدى الطويل. حيث إن الأمر برمَّته يتعلَّق بقضية الملكية. وهذه الخريطة شاملة لكل المنطقة. شركات السود ومراكز المجتمع وكل شيء. هذا إلى جانب بعض الممتلكات التي بدأنا بالفعل التفاوض مع المُلَّاك البِيض على بيعها لنا بسعرٍ معقول. لذا فإذا كانوا جميعًا مُهتمِّين بالوظائف فإن بإمكانكم تقديمَ المساعدة عن طريق نشر هذه الرسالة الخاصة بهذه الخريطة. والمشكلة التي تواجهنا الآن هي عدم تلقي المساعدة الكافية من أهل روزلاند. وبدلًا من اتخاذهم موقفًا فإنهم يرحلون خلف البِيض في الضواحي، لكن كما تعرفون فإن البِيض ليسوا أغبياء، حيث إنهم ينتظرون فقط خروجنا من المدينة حتى يستطيعوا العودة لأنهم يعرفون أن قيمة المبنى الذي نجلس فيه الآن باهظة الثمن.

دخل أحدُ رَجُلَيه الضخمي الجثة مرةً أخرى إلى المكتب ووقف رفيق. وقال على نحوٍ مفاجئ: «لا بد أن أذهب الآن.» لكنه استدرك قائلًا: «سنتحدَّث مرةً أخرى.» صافَحَنا رفيقٌ قبل أن يقودنا مساعده تجاه الباب.

بمجرد أن أصبحنا خارج المبنى، قلت: «يبدو أنكِ تعرفينه يا شيرلي.»

«نعم، قبل أن يتسمَّى بهذا الاسم الرائع، كان «والي طومبسون» البسيط، الذي استطاع تغيير اسمه لكن لم يكن بإمكانه إخفاء أُذنَيه الكبيرتَين. تربَّى رفيق في ألتجيلد، وفي الواقع أعتقد أنه وويل كانا في المدرسة معًا. وقبل أن يعتنق الإسلام كان أهم عضو في إحدى العصابات.»

قالت أنجيلا: «مَن عاش على شيءٍ مات عليه.»

كانت محطتنا التالية الغرفة التجارية المحلية التي كان مقرُّها في الطابق الثاني لمبنًى شبيهٍ بمحل الرهونات. وفي الداخل وجدْنا رجلًا أسودَ ممتلئ الجسم كان مشغولًا بتغليف صناديق.

قلتُ لهذا الرجل: «إننا نبحث عن السيد فوستر.»

قال لي، دون أن يرفع بصره: «أنا فوستر.»

«لقد أُخبرنا أنك كنتَ رئيس الغرفة …»

«حسنًا، هذا صحيح، كنتُ رئيسها. واستقلتُ الأسبوع الماضي فقط.»

طلب منا الجلوس وتحدَّث وهو يعمل. أوضح أنه يمتلك محل الأدوات المكتبية في آخر الشارع منذ ١٥ عامًا، وأنه ظل رئيسًا للغرفة طيلةَ الخمس سنوات السابقة. كما أوضح أنه بذلَ ما في وسعه لتنظيم التجار المحليين، لكنَّ عدم تلقي الدعم جعله في النهاية يفقد حماسه.

قال السيد فوستر وهو يكدِّس بعض صناديق قليلة بجانب الباب: «لن تسمعوني أشكو من الكوريين.» وأضاف: «هم الوحيدون الذين يدفعون المبالغَ المستحقَّة عليهم في الغرفة. هذا إلى جانب أنهم يفهمون عملهم ويعلمون جيدًا معنى التعاون، ويدَّخرون أموالهم معًا. ويُقرِضون بعضهم بعضًا. ولا نفعل نحن ذلك كما تعرفون. فالتجار السُّود هنا أشبه بالتفاح الفاسد داخل طبق الفاكهة.» وقف فوستر ومسح جبينَه بمنديل. وأضاف: «إنني لا أعرف. ربما لا تلوموننا على الوضع الذي أصبحنا عليه. وبعد كل هذه السنوات دون ظهور أية فرصة، اضطررتم إلى الاعتقاد في أنهم ينتزعون شيئًا منَّا. والأمر الآن أشدُّ قسوة مما كانت الحال عليه مع الإيطاليين أو اليهود منذ ٣٠ عامًا؛ لأنه في هذه الأيام لا بد أن يتنافس محلٌّ صغير كالذي أمتلكه مع سلاسل المحلات الكبيرة. إنها معركة خاسِرة ما لم تحذوا حذو الكوريين؛ أي أن تجعلوا عائلاتكم تعمل ١٦ ساعة يوميًّا، وسبعة أيام في الأسبوع. ولكن بوصفِنا أناسًا عاديين، فإننا لسنا مُستعدِّين لفعل ذلك مرةً أخرى. إنني أعتقد أننا عملنا لوقتٍ طويل دون جني أية ثمارٍ لأننا نشعر أننا لسنا مُضطرِّين لإجهاد أنفسنا لمجرَّد أن نعيش فقط. وهذا هو ما أقوله لأبنائي على أية حال. إنني لا أقول إنني مختلف. إنني أُخبِر أبنائي بأنني لا أريدهم أن يرثوا مِهنتي. وإنما أريدهم أن يعملوا لدى شركةٍ كبيرة يشعرون فيها بالراحة …»

قبل أن نرحل سألَتْه أنجيلا عن احتمالية قيامه بتوفير فُرَص عملٍ بدوام جزئي للشباب في ألتجيلد. فرفع فوستر بصرَه إليها كما لو كانت مجنونة.

قال: «إن كل تاجر هنا يرفض ٣٠ طلبًا من طلبات العمل يوميًّا.» وأضاف: «البالغون المواطنون الكبار. العاملون ذوو الخبرة لدَيهم استعداد لقبول أي شيءٍ يحصلون عليه. أنا آسف.»

في أثناء عودتنا إلى السيارة مرَرْنا على متجرٍ صغير مليء بالملابس الرخيصة الثَّمن والسترات ذات الألوان الزاهية، ويطلُّ من نافذته دميتان بيضاويتان قديمتان مدهونتان باللون الأسود. كانت إضاءة هذا المتجر ضعيفة، لكن في مُؤخرته استطعتُ بصعوبةٍ رؤية شابةٍ كورية تخيط يدويًّا وبجانبها طفل نائم. وفي الواقع جعلني هذا المنظر أعود بذاكرتي إلى أيام طفولتي، وإلى أسواق إندونيسيا حيث البائعون المتجوِّلون، والعاملون المشتغِلون في صناعة الجلود، والسيدات المتقدِّمات في العمر اللاتي كنَّ يمضغن التنبول ويُبعِدن الذباب بالمقشَّات عن الفاكهة التي يبِعْنها.

لقد اعتدتُ دومًا على مثل هذه الأسواق واعتبرتها جزءًا من الطبيعة. هذا مع أنني — الآن — عندما فكَّرتُ في ألتجيلد وروزلاند ورفيق والسيد فوستر أدركتُ أسواق جاكرتا على حقيقتها، حيث كانت أسواقًا جميلة ونفيسة. إن الناس الذين كانوا يبيعون بضائعهم هناك ربما كانوا فقراء، بل أكثر فقرًا من سكان ألتجيلد أنفسهم. حيث كانوا يحملون ٥٠ رطلًا يوميًّا على ظهورهم، ويأكلون القليل، وتُدركهم المنيَّة وهم شباب. وعلى الرغم من كل هذا الفقر فقد بقِيَ في حياتهم نظامٌ يمكن إدراكه وتمييزه؛ هو مزيج الأساليب التجارية، والوسطاء، والرشاوى التي ينبغي دفْعها، والأعراف التي ينبغي احترامها، وعادات جيلٍ تحدث يوميًّا تحت ستار المفاوضات والمساومات والضوضاء والإرهاق.

كان غياب مثل هذا الترابط هو الذي جعل مكانًا مثل ألتجيلد يعمُّه اليأس هكذا، وبيني وبين نفسي فكَّرتُ أن غيابَ النظام هو الذي جعل كلًّا من رفيق والسيد فوستر — كلٌّ بأسلوبه الخاص — يشعران بالمرارة البالغة. إذن كيف يمكننا حياكة الثقافة بعد أن تمزَّقت؟ وكم من الوقت سيستغرق هذا الأمر في الولايات المتحدة؟

ظننتُ أننا سنستغرق وقتًا أطولَ من الوقت الذي استغرقَتْه أية ثقافة لتنحلَّ. وحاولتُ أن أتصوَّر العمال الإندونيسيين الذين كانوا يشقُّون طريقهم في الحياة بمجهوداتهم الخاصة من خلال العمل في العديد من المصانع التي كان مقرُّها فيما سبق على ضفتَي نهر كالوميت، والعمل بالأجرة في مجال تجميع أجهزة الراديو وصُنْع الأحذية التي تُباع في شارع ميشيجان. تصوَّرتُ هؤلاء العمال الإندونيسيين بعد ١٠ أو ٢٠ سنة من الآن، عندما تُغلَق مصانعهم نتيجةَ تطبيق التكنولوجيا الحديثة أو وجود عمَّال في أماكنَ أخرى من العالم يؤدُّون عملهم بأجرٍ أقل. ويكتشفون بمرارة أن أسواقهم اختفت، وأنهم لم يعودوا يتذكَّرون كيف يصنعون سِلالهم بأيديهم أو ينحتون أثاثهم، أو يزرعون غذاءهم، وحتى إن تذكَّروا كيفية تنفيذ كل هذا فإن الغابات التي كانت تمدُّهم بالخشب أصبحت تملكها الآن شركات الأخشاب، بالإضافة إلى أن سِلالهم التي كانوا يصنعونها من قبلُ حلَّت محلها أكياس بلاستيك أكثرُ متانة. وبذلك اختفت ثقافتهم بسبب وجود المصانع وشركات الأخشاب ومصانع البلاستيك. واتضح أن قِيَم العمل الشاق والمبادرات الفردية معتمدة على منظومةٍ من المعتقدات التي تأثَّرت بفعل الهجرة والتحضُّر وتكرار عرض البرامج التليفزيونية الأجنبية. وقد تحسَّن حال بعض هؤلاء في ظل هذا النظام الجديد. في حين انتقل البعض الآخر إلى أمريكا. أما الباقون — وهم الملايين الذين ظلوا في جاكرتا أو لاجوس أو الضفة الغربية — فقد استقروا في أحيائهم الشبيهة بألتجيلد جاردنز في حالةٍ من اليأس والإحباط.

سادت حالة من الصمت في أثناء اتجاهنا بالسيارة إلى مكان الاجتماع الأخير مع مديرة الفرع المحلي لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب، الذي ساعد في توجيه العاطِلين عن العمل إلى برامج التدريب في جميع أنحاء المدينة. كنا قد واجهنا صعوبةً في العثور على المكان — الذي كان يبعُد ٤٥ دقيقة بالسيارة عن ألتجيلد وكان يقع في شارعٍ خلفي في حي فردولياك — ووقت وصولنا كانت المديرة قد غادرت. ولم يكن مساعدها يعرف متى ستعود لكنه سلَّمنا مجموعةً من النشرات الدعائية المطبوعة على ورقٍ مصقول.

قالت شيرلي وهي تتَّجِه نحو الباب: «لن يُساعدنا ذلك على الإطلاق.» واستكملت كلامها: «ربما كان من الأفضل بقاؤنا في المنزل.»

لاحظَتْ مُنى أنني تلكأتُ في المكتب. وسألت أنجيلا: «إلامَ ينظر أوباما؟»

أظهرتُ لهما ظَهْر إحدى النشرات. وكان يشتمل على قائمة بجميع برامج مكتب التوظيف والتدريب في المدينة. وفي الواقع لم يكن أيٌّ منها جنوب شارع خمسة وتسعين.

قلت: «ها قد وجدناها.»

«ما هي؟»

«وجدنا قضيةً لنعمل عليها.»

•••

بمجرد أن رجعْنا إلى الجاردنز كتَبْنا مسودةَ خطابٍ إلى الآنسة سينثيا ألفاريز مديرة مكتب التوظيف والتدريب بالمدينة. وبعد أسبوعَين وافقَتْ على مقابلتنا في الجاردنز. ولأنني كنتُ عازمًا على عدم تكرار أخطائي أنهكتُ نفسي وكذلك القيادة في إعداد سيناريو للاجتماع، وبذلتُ جهدي لإقناع الكنائس الأخرى بإرسال مندوبين عنهم، وصياغة طلبٍ واضح اعتقدنا أن مكتب التوظيف والتدريب سوف يُلبيه، وهذا الطلب هو إنشاء مركز توظيف وتدريب في أقصى الجانب الجنوبي.

على الرغم من استغراق أسبوعَين في عملية الإعداد فإنني شعرت ليلة الاجتماع باضطرابٍ شديد في معدتي. وفي الساعة السادسة و٤٥ دقيقة، ظهر ثلاثة أشخاص فقط؛ سيدة شابة ومعها طفل رضيع كان يسيل لُعابه على مِريلته الصغيرة، وسيدة أكبر سنًّا كانت قد لفَّت بعناية بعض الكعك في منديلٍ أدخلَتْه بعد ذلك في حقيبتها، ورجل ثمل غفا بمجرد أن جلس بكسلٍ شديد على مقعدٍ في الصف الخلفي. وبمرور الدقائق تصوَّرت مرةً أخرى أن المقاعد ستظل فارغة، وأن المسئول سيُغير رأيه في اللحظة الأخيرة ويعدِل عن الحضور، وتخيلتُ نظرة الإحباط التي ستعلو وجوه القادة والشعور المميت بالفشل الشديد.

وقبل أن تدقَّ الساعة السابعة بدقيقتَين، بدأ الناس في الوفود واحدًا تلو الآخر. وكان كلٌّ من ويل وماري قد أحضرا مجموعةً من الأفراد من ضاحية ويست بولمان، وبعد ذلك دخل ابنتا شيرلي وأحفادها الذين ملئوا صفًّا كاملًا من المقاعد، وبعد ذلك بعض سكان ألتجيلد ممن يَدينون لأنجيلا أو شيرلي أو مُنى بمعروف. وكانت المحصلة قرابة ١٠٠ فرد في الغرفة عند وصول السيدة ألفاريز — وهي سيدة أمريكية من أصلٍ مكسيكي ومتغطرسة إلى حدٍّ بعيد — ومعها رجلان من ذوي البشرة البيضاء كانا يرتديان حُلَّتَين ويمشيان وراءها بتثاقل.

سمعتُ أحد المساعدين يهمس للآخر عند دخولهما الباب وهو يقول: «لم أكن أعلَم حتى أن هذا كان هنا.» وعندما سألته إن كان يُمكنني أخذ معطفه هزَّ رأسه بعصبية.

«لا، لا … إنني سوف، إمممم … سوف أحمله بنفسي، أشكرك.»

أبلتِ القيادة بلاءً حسنًا هذه الليلة. وعرضَتْ أنجيلا القضية بوضوحٍ على الجمهور وشرحت للسيدة ألفاريز ما نتوقَّعه منها. وعندما تجنَّبت السيدة ألفاريز الإفصاحَ عن أي ردٍّ مُحدَّد اندفعت مُنى وطلبت منها الإجابة بنعم أو لا. وعندما وعدَت في النهاية بإقامة مركزٍ تابعٍ لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب في المنطقة خلال ستة أشهر صفَّق لها الجمهور تصفيقًا حادًّا. لكنَّ المشكلة الوحيدة ظهرت في أثناء الاجتماع عندما وقف الرجل الثمل الجالس في الخلف وبدأ يصيح ويُعرب عن رغبته في الحصول على وظيفة. وعلى الفور اتجهت شيرلي إلى هذا الرجل وهمست له في أُذنه بقولٍ جعله يعود أدراجه إلى المقعد مرةً أخرى.

وبهذا الخصوص سألتُ شيرلي لاحقًا: «ماذا قلتِ له؟»

«إنك صغير على أن تعرف.»

انفض الاجتماع بعد ساعة، وأسرعَتِ السيدة ألفاريز ومساعداها في الخروج، وركب ثلاثتهم سيارةٌ زرقاء فارهة، وذهب الحضور لمصافحة مُنى وأنجيلا، وعند تقييم الاجتماع ابتسمت السيدات.

وقالت أنجيلا وهي تُعانقني بشدة: «لقد أنجزتَ عملًا عظيمًا يا باراك.»

«أرأيتِ، ألم أَعِدْ بأننا سنفعل شيئًا ذا أهمية؟»

قالت مُنى وهي تغمز بعينها: «بالتأكيد فعل باراك هذا الشيء.»

بعد ذلك أخبرتهنَّ بأنني سأتركهنَّ بمفردهنَّ على الأقل لمدة يومَين، وذهبتُ إلى سيارتي وأنا أشعر بعضَ الشيء بدوارٍ في رأسي. وقلتُ لنفسي إن باستطاعتي القيام بهذه الوظيفة وتنظيم هذه المدينة بأكملِها عند انتهائي من هذا العمل. أشعلتُ سيجارة بعدَها وتصوَّرت، وأنا أُهنئ نفسي على هذا الإنجاز، الانتقال بالقيادة إلى وسط المدينة للجلوس مع هارولد ومناقشة مصير المدينة. وبعد بضعة أقدامٍ وأسفل عمود نور رأيتُ الرجل الثمل الذي كان في الاجتماع، وهو يمشي في خطواتٍ دائرية بطيئة وينظر إلى ظلِّه المتطاول على الأرض. فخرجتُ من سيارتي وسألته إن كان في حاجةٍ إلى المساعدة للذهاب إلى منزله.

صاح الرجل وهو يحاول الوقوف بثباتٍ قائلًا: «إنني لا أحتاج إلى مساعدة من أحد!» واستكمل كلامه: «أتفهمني! يا لك من أحمق بغيض … يقول لي أشياء مُزعجة …»

خبا صوته. وقبل أن أقول شيئًا آخر استدار وبدأ يسير مُترنحًا في عرض الشارع ثم اختفى في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤