الفصل الخامس

(١) بعد الخمسين

وما زال ابن يقظان ينعم (يبالغ) في النظر، ويمعن (يزيد) في الفكر، ويطيل التأمل، حتى بلغ مرتبة الفلاسفة. ولم يبلغ حالته تلك، حتى أناف (أشرف وزاد) على الخمسين. وحينئذ إنتقلت حياته من العزلة (الوحدة) إلى الإتصال. وأتاح (يسر) له حسن الحظ مصاحبة عالم تقي، ورع (مبتعد عن المعاصي)، كريم النفس، نبيل الخلق، فكان له في حياة ابن يقظان أكبر الأثر، كما ترى فيما يلي من حوادث هذه القصة العجيبة.

(٢) الصديقان

ذكروا: أن جزيرة قريبة من الجزيرة التي نشأ فيها حي ابن يقظان كان أهلها يعبدون الله سبحانه ويطيعونه. وقد ذاعت في تلك الجزيرة (إنتشرت) تعاليم الدين الصحيحة، آمن سكانها بما جاء به الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.

فما زال الدين ينتشر بتلك الجزيرة، وتقوى أواصره (روابطه) حتى قام به ملكها، وحمل الناس على إلتزامه والأخذ به.

وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فتيان من أهل الفضل والرغبة في الخير؛ يسمى أحدهما «أسال» والآخر «سلامان». فتلقيا ذلك الدين، وقبلاه أحسن قبول، وأخذا نفسيهما بإلتزام جميع شرائعه، والمواظبة على تنفيذ أوامره، والإنتهاء (الكف والإجتناب) بنواهيه وزواجره، وجعلا يتفهمان دقائقه بعناية نادرة.

فأما أسال فكان أشد غوصًا على الباطن وأعمق، وأكثر تفقهًا لأسرار الدين ودقائقه الخفية.

وأما سلامان صاحبه، فكان أكثر احتفاظًا بظاهر ألفاظ الدين، وأشد بعدًا عن التعمق في فهم أسراره، وكان لا يطيل الفكر والتأمل.

وكلاهما مجدّ في العبادة، مخلص لدينه، دقيق في محاسبة نفسه، ومجاهدة أهوائها ومحاربة نزعاتها الضارة.

وكان أسال يؤثر العزلة (يختارها)، ويميل إلى البعد عن الناس، ويرى أن في ذلك الفوز والنجاة. ولكن سلامان كان يرى في ذلك رأيًا آخر؛ فهو يؤثر المعاشرة وملازمة الجماعة، ويرى في ذلك تمام سعادته، لأنه يتيح له الفرصة في إرشاد جمهرتهم (جماعتهم) إلى طريق الخير، وتحذيرهم عواقب الشر، وإنارة سبيل الهدى، وإخراجهم من الغي والضلال.

أما أسال فقد أخذ نفسه بالعزلة، لما كان في طباعه من دوام الفكرة، وملازمة العبرة والغوص على المعاني.

وأكثر ما كان يتأتى له أمله من ذلك: بالإنفراد.

وتعلق سلامان بملازمة الجماعة، وأخذ نفسه بهذا المذهب؛ لما كان في طباعه من البعد عن التعمق، والإنصراف إلى التصفح (التأمل والتعرف). فكانت ملازمة الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس عنه ويدفعه. ويزيل الظنون المعترضة، ويعيذه من همزات الشياطين ويحفظه من وساوسهم ونخساتهم ومكائدهم.

(٣) سبب الفرقة

figure

وكان إختلاف أسال وسلامان في هذا الرأي: سبب افتراقهما. ولما سمع أسال بتلك الجزيرة التي ذكرنا أن حي بن يقظان قد حل بها، وعرف ما فيها من الخصب والهواء المعتدل، ورأى أن الإنفراد بها يتأتى لملتمسه، ويتيسر لطالبه؛ أجمع أمره (عزم وقرر) أن يرتحل إليها، ويعتزل الناس بها، بقية عمره.

(٤) مقدم أسال

فجمع أسال ما كان له من المال، وإكترى (إستأجر) ببعضه سفينة تحمله إلى تلك الجزيرة، وفرّق ما بقي من ماله على المساكين، وودع صاحبه سلامان وركب متن اليم (ظهر البحر)؛ فحمله الملاحون (النوتيون) إلى تلك الجزيرة، ووضعوه بساحلها وانفصلوا عنه (تركوه).

(٥) عيش النساك

وبقي أسال بتلك الجزيرة، يعبد الله عز وجل ويعظمه ويقدسه، ويفكر في أسمائه الحسنى، وصفاته العليا؛ فلا ينقطع خاطره ولا تتكدر فكرته.

وإذا إحتاج إلى الغذاء، تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد به جوعته. وأقام على تلك الجزيرة مدة، وهو في أتم غبطة، وأعظم أنس بعبادة ربه ومناجاة خالقه.

وكان يشاهد كل يوم من ألطافه ومزايا تحفه وتيسيره عليه في مطالبه وغذائه: ما يثبت يقينه ويقر عينه.

وكان حي بن يقظان في تلك المدة شديد الإستغراق في أفكاره الفلسفية، وتأملاته العميقة. فكان لا يبرح مغارته إلا مرة في الأسبوع لتناول ما سنح (ما ظهر له وسهل عليه أن يظفر به) من الغذاء. فلذلك لم يعثر عليه أسال بأول وهلة (بأول الأمر)؛ بل كان يطوف بأكناف تلك الجزيرة (نواحيها)، ويسبح في أرجائها؛ فلا يرى إنسيًا، ولا يشاهد أثرًا، فيزيد بذلك أنسه، وتتبسط نفسه لفرط غرامه بالعزلة، وإيثاره (إختياره) للانفراد، وتناهيه (تغاليه في بلوغ الغاية البعيدة) في طلب البعد عن الناس.

(٦) لقاء فجائيّ

وإتفق في بعض تلك الأوقات أن خرج حي بن يقظان لإلتماس غذائه، وكان أسال قد ألمّ (مر) بتلك الجهة، فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر.

فأما أسال فلم يرض إلا أن يكون من العباد المنقطعين، وقد وصل إلى تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس، فخشي إن هو تعرض لابن يقظان وتعرف به أن يكون ذلك سببًا لفساد حاله وعائقًا بينه وبين أمله.

وأما حي بن يقظان فلم يدر: من هو أسال؟ لأنه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان قد عاينها قبل ذلك.

(٧) فرار أسال

وكان على أسال ثياب من شعر وصوف؛ فظن ابن يقظان أنها لباس طبيعي أنبته جسمه، فوقف يتعجب منه مليًا (وقتًا) وجرى أسال فارًا منه خيفة أن يشغله عن حاله.

فإقتفى ابن يقظان أثره (تبعه)، لما كان في طباعه من البحث عن حقائق الأشياء. فلما رآه يشتد في الهرب، تباطأ ابن يقظان وخنس عنه (تأخر) وتوارى له (إستخفى عن ناظره)؛ حتى ظن أسال أن صاحبه الذي يقتفيه: قد إنصرف عنه وتباعد من تلك الجهة.

(٨) ورع أسال

فشرع أسال في الصلاة والقراءة والدعاء والبكاء والتضرع (الإبتهال إلى الله والتذلل له)، حتى شغله ذلك عن كل شيء. فجعل حي بن يقظان يقترب منه قليلًا وأسال لا يشعر به، حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته، وتسبيحه، وبكاءه، ويشاهد خضوعه؛ فسمع صوتا حسنًا، وحروفًا منظمة، لم يعهد مثلها من أصناف الحيوان. ونظر إلى أشكال هذا الحيّ الغريب، وتخطيطه؛ فرآه على صورته، وتبين له أن الثياب التي عليه ليست جلدًا طبيعيًا؛ وإنما هي لباس متخذ مثل لباسه هو.

figure

ولما رأى بكاءه وحسن خشوعه وتضرعه، لم يشك في أنه من الذوات العارفة بالحق. فتشوق إليه، وأراد أن يرى ما عنده وما الذي أوجب بكاءه وتضرعه؟

(٩) مطاردة

فزاد حي بن يقظان في الدنو والقرب، حتى أحسّ به أسال، فاشتد في العدو واشتد حي بن يقظان في أثره؛ حتى التحق به، لما كان أعطاه الله من القوة، والقدرة على السبق. فالتزمه (اعتنقه)، وقبض عليه، ولم يمكنه من البراح (الإنتقال والتحول). فلما نظر إليه أسال وهو مكتس بجلود الحيوانات ذوات الأوبار، وشعره قد طال حتى جلل (غطى وستر) كثيرًا منه، ورأى ما عنده من العدو (الجري) وقوة البطش والفتك والعنف؛ فرق (خاف) منه فرقًا شديدًا، وجعل يستعطفه (يسأله أن يعطف عليه ويرق له)، ويرغب إليه بكلام لا يفهمه حي بن يقظان، ولا يدري: ما هو؟ غير أنه يميز فيه شمائل الجزع (طباع القلق وعدم الصبر وسرعة الحزن).

فكان ابن يقظان يؤنسه بأصوات كان قد تعلمها من بعض الحيوانات، ويربت كتفه (يلاطفه ويضرب بيده على كتفه في رفق تسكينًا له)، ويمر يده على رأسه، ويمسح أعطافه (ما يثنيه من جنبيه)، ويتملق إليه (يتودد ويتحبب)، ويظهر البشر والفرح به؛ حتى سكن جأش أسال وإطمأن قلبه، (والجأش: فزع القلب)، وعلم أنه لا يريد به سوءًا.

(١٠) دهشة الغريبين

وكان أسال لمحبته في علم التأويل (التعرف والتفسير) قد تعلم قديمًا أكثر الألسن ومهر فيها، فجعل يكلم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه، ويعالج إفهامه؛ فلا يستطيع. وكان حي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع، ولا يدري: ما هو؟ غير أنه يظهر له البشر والقبول؛ فاستغرب كل واحد منهما أمر صاحبه.

(١١) طعام أسال

وكان عند أسال بقية من زاد، كان قد استصحبه من الجزيرة المعمورة! فقربه إلى حي بن يقظان؛ فلم يدر: ما هو؟ لأنه لم يكن شاهده قبل ذلك. فأكل منه أسال وأشار إلى صاحبه ليأكل. فتفكر حي بن يقظان في هذا، ولم يكن يدري أصل ذلك الشيء الذي قدمه له أسال، ولم يعرف ما هو؟ وهل يجوز له تناوله، أم لا؟ فإمتنع بادئ الامر عن الأكل. ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه (يستميله).

وكان حي بن يقظان قد أولع بأسال، وشغف به حبًا؛ فخشي إن دام على إمتناعه، أن يوحشه ويشعره بغرابته. فأقدم على ذلك الزاد، وأكل منه. فلما ذاقه وإستطابه، بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده وخشي أن يصيبه مكروه، بعد أن أكل من ذلك الطعام الذي لم يألفه من قبل. وندم على ما فعله، وأراد الإنفصال عن أسال، والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى مقامه الكريم. ولكنه كان شديد الرغبة في تعرف حقيقة هذا الغريب؛ فتريّث في أمره (تمهل)، ورأى أن يقيم مع أسال وقتًا قصيرًا؛ حتى يقف على حقيقة شأنه، ويتعرف جلية أمره. فإذا تم له ذلك، عاد إلى طريقته الأولى، وانصرف إلى تأملاته وتفكيره، دون أن يشغله شاغل. وثمة رأى حاجته إلى مصاحبة أسال؛ فقرر في نفسه ملازمته حتى يدرك طلبته (ينال قصده).

(١٢) معلم ابن يقظان

ولما رأى أسال أيضًا أن صاحبه ابن يقظان لا يتكلم، أمن على دينه من غوائله (شروره وفتكاته المؤذية)، ورجا أن يعلمه الكلام والعلم والدين؛ فيكون له بذلك أعظم أجر وزلفى (قربى) عند الله. فشرع أسال في تعليم صاحبه الكلام أولًا، بأن كان يشير له إلى أعيان الموجودات، وينطق بأسمائها، ويكرر ذلك عليه، ويحمله على النطق؛ فينطق بها مقترنًا بالإشارة، حتى علمه الأسماء كلها.

ولما تم له ذلك، شرع يدرجه قليلًا قليلًا، حتى تكلم ابن يقظان في أقرب مدة. فجعل أسال يسأل صاحبه عن شأنه، ومن أين صار إلى تلك الجزيرة؟ فأعلمه حي بن يقظان أنه لا يدري لنفسه ابتداء، ولا أبًا ولا أمًا، أكثر من الظبية التي ربته. ووصف له شأنه كله، وكيف ترقى بالمعرفة، حتى وصل إلى تلك المرتبة العالية من البحث والإدراك.

فلما سمع أسال منه وصف تلك الحقائق، ورأى من حسن فهمه ما أدهشه، وملأ نفسه إعجابًا به، ورفع مكانته في عينيه.

وإزداد إيمان أسال، وقوي يقينه، وإنفتح بصر قلبه، وإنقدحت نار خاطره (إتقدت)، ولم يبق عليه مشكل (ملتبس غير واضح) في الدين إلا تبين له، ولا مغلق في الشريعة إلا إنفتح، ولا غامض إلا إتضح؛ وصار من باب أولي الألباب.

وعند ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير والإجلال، وتحقق عنده أنه من أولياء الله الصالحين؛ الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالتزم خدمته، والإقتداء به، والأخذ بإشارته، وأصبح أصفى أصفيائه، وأخص خلصائه، منذ ذلك اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤