جبور بك

١

كان جبور ينتظر ويفتكر، فتداعت أسراب الذكريات حتى أَمست كما قال النابغة: «عصائب طير تهتدي بعصائب.»

أصغى إلى أحاديث حوائج بيته البليغة، فذكَّرته السجادة النادرة بتلك الحصيرة المقطَّعة الموروثة عن جده … وذكَّرته المرآة الكبرى يوم كان ينحني فوق أجران «الصفوة» ليفتل شاربيه فتلًا مغارًا، ولمس طوق معطفه المجلل بفرو السمور، فتذكر العباءة البلدية القصيرة الكمين ولقب «دحدوح».

وتحرك جبور على الصفَّة فماج كرشه وترجرج، وأبرقت سلسلة ساعته الغليظة المدلدلة على صديريته، فتذكَّر «الكَمَر» العتيق الذي أعطاه إياه أبو خليل حلوانًا، فشد وسطه به سنين وألقاه عنه في فندق أنطون فارس بمرسيليا، حيث كان يحتفل بإلباس «أولاد العرب» الثياب الفرنجية.

وحكَّت جبور رجله فانطوى بعناء مزعج، وكاد ينبج بطنه، ولما تبلغ يده رجله، ذكَّره الجورب الحريري والحذاء اللماع بالمداس الذي يرى إخوتَه في أرجل معَّازة الضيعة وبقَّارتها.

وسمع جبور حسَّ رجل فقال: هذا هو. وحبس أنفاسه يتنصت، فإذا بالحس يبتعد ثم يضمحل، وعاد جبور إلى أحلام يقظته الرائعة، فجره تفكيره بالقادم إلى مئات الليرات التي أعدها برطيلا، فهز برأسه وقال: «هاي ما شا الله هاي، حصَّلت يا جبور مدير ناحية جبيل فرخ قائمقام، غدًا تضع رِجْلًا على رِجْل في العربة؛ سق يا عربجي. وحد العربجي نفر عسكري يأخذ سلامك، ويخدمك، ويقول لك: هنيئًا يا سيدي. يقول لك الناس «يا صاحب العزة»، إن لم يقولوا «سعادتك»، وبعد أن كنْتَ «دحدوح» تصير جبور بك، وإذا أمحلت جبور أفندي.» فتنحنح وأحكم قعدته، ثم أخرج ساعته الذهبية الضخمة وقلب شفته وقال: الغائب عذره معه. والتفت إلى كتفيه لفتة غريبة، فبشَّ ثم عبَّس؛ عبَّس إذ رأى كتفه اليسرى نازلة عن أُختها، فتذكر الكشة الثقيلة التي رجحتها، وحاول إصلاح ما أفسده الدهر فما قدر، فاعتصم بحمد الله، وتناسى الماضي وقال: «كثر الله خيرك يا ربي، ربيت على معجن هذا وذاك، واليوم صار بيتي مفتوحًا للرائح والجائي … أهلًا وسهلًا، كلوا يا بشر، ربك طعمك، كُلْ واطعمْ.»

ودرى المسكين أنه تمادى في تحديث نفسه فضحك ثم قهقه، لوى رأسه صوب الشمال فبص القلم الذهبي، فقال: وهذه نعمة نشكر الله عليها، صرنا نُمضي ونكتب بالهندي، الذكي لا يخاف عليه، يخلص حاله، مَن رآني يخمن أني تلميذ بولاق.

وجاءته الخادمة بالقهوة فأخذها بلا شعور، ولما اقتربت من الباب ناداها مشيرًا بأصابعه الخمس، فبدت يده كالمِذرَى: من عندنا يا ناهيل؟

– جمهور يا معلمي، الضيعة عندك. قالت هذا وأشارت بيُسْرَاها إشارة قلة اكتراث، واستقبلت الباب، فقال: «احم.» فالتفتت، فأومأ إليها، فعادت.

– قولي لهم معلمي مشغول جدًّا، عنده ناس غرباء، وإذا اهتموا، بالغي وزيدي، قولي لهم عنده ناس من قِبَل الحكومة ومعهم أوراق أوراق، اسقيهم قهوة، اعتذري عني، قدِّمي لهم سواكير.

وأشعل هو سيكارة من نوع إكسترا إكسترا، فاستطيبها على القهوة، تذكَّرَ كيف كان يشحذها من الناس، واحتار جبور كيف يعلل جمعه الثروة الضخمة وهو ذاك الرجل، بينما فلان الفلاني، وهو معلم مشهور، تركه في البرازيل وهو جوعان عريان. «سرٌّ، سرٌّ عظيمٌ، سبحان الخالق!» هكذا قال. كان يسكن بيتًا دون بيوت الضيعة جميعًا، فصار بيته قصرًا.

وهذا مِمَّنْ؟ طرح هذا السؤال ثم أجاب عليه بصوت مفخَّم: من الله، نشكرك يا رب ونحمدك.

وتذكر أنه ينتظر فانبرى يتمشى، وطال الانتظار فسئم وخرج يتنزه، مر أمام بيت الجيران فوقع اسمه في أذنيه؛ سمع امرأة وولدها يتعالجان، فتقول المرأة: جبور رجل ما كان عليه من الخام ريحه، فصار أمير زمانه، بيته قصر، الخيل مربطة قدام بابه، والحكام تزوره، بنات الضيعة ماتت عليه ونقَّى أحسنهن، كان يتنقل من بيت إلى بيت وقت الغدا والعشا حتى يأكل اللقمة، وصار أغنى الضيعة والجوار. وأنت يا بغل، قاعد على سكين ظهرك تقشط أمك البشلك والمتليك، باب البحر مفتوح، تغرَّب يا بهيم، الله يقصف عمرك، ما أبلدك! ليتني خلفت جرو كلب وما خلفتك!

فضحك الشاب ضحكة سامَّة ثارت لها أمه وهاجت، ولكن ضحكته وقعت على جبور كجلمود صخر حطه السيل من علٍ، وقال الفتى لأمه ساخرًا: ومَن يعمل مثل جبور؟ عاش بين عبيد أميركا عيشة «نوَر» وجاء يتبغدد ويتفرعن على الضيعة، هذا مال رائح، مال مولٍّ، لا تنغرِّي بالظواهر، رغوه رغوه يا أمي. فصاحت الأم: ليتني أقبرك بجاه السيدة! تفلسف يا جحش. وأتم الشاب كلامه: بعد سنة أو سنتين يعود جبور كما كان.

فصرخت الأم: وإذا صار جبور مثلنا اغتنينا نحن؟ يا حسرتي عليك! بعد يومين ثلاثة يصير جبور مدير جبيل، وتقف له الناس على الصفين.

– لو صار متصرف جبل لبنان يظل عندي أقل من دحدوح، قصريها لا تطوليها.

فامتعض جبور تحت الشباك وكاد يزفر زفرة رنانة لو لم يتذكر الموقف، سمع لقبه القديم فكاد ينشق من الغيظ.

وضاق صدر الأم فأسرعت إلى الشباك ففتحته، فاضطرب جبور، ومشى مفكِّرًا بما سمع، تنبه وحسب عن ظهر قلب ماذا صرف من مال أميركا، وبعد تعبيس دام هنيهة ضحك ضحكة استهزاء وقال: لعن الله الحسد، ما ترك بيتًا عامرًا، غدًا يعرف طنوس أين صار جبور، غدًا نكتفه ونفرك رقبته ويزور بيت خالته.

قال هذا وتمشى يتخطر كالأعيان، وأفاق من نجواه على صوت خادمته الراكضة وهي تصيح: يا معلمي، عندك ناس. فانفتل راجعًا.

وبعد عبارات المجاملة والترحيب دخل جبور وزائره الموضوع، فأجاب السمسار: مديرية جبيل أمر بسيط، تصير قائمقام كسروان إذا كنت تريد، الواسطة تعمل عجائب، خمسمائة ليرة عثمانية تعمل أكثر من مدير.

فالتفت إليه جبور التفاتة استغراب وقال: السر بيننا، أنا لا أصدق، هذا ضحك على ذقني، مدير بالكد يعلق إمضاه.

فقال الوسيط محتدًّا: بلى، صدِّق يا سيدي. ثم ضحك وقال: تريد رئاسة القلم التركي محل ناصيف بك الريس؟ ادفعْ، يا خواجا جبور أنت فيلسوف، بالنسبة إلى فلان وفلان.

فقال جبور: قالوا ننتظر «حلة».

– لا تصدقهم يا سيدي، الحلة عندك، حل عقدة كيسك تنحل ظهورهم.

فأطرق جبور ثم قال: الخمسمائة ليرة حاضرة. ثم حك رأسه وقال: نسيت أن أذكرك بواحدة، أخاف أن يحتجُّوا أن ابن عمي موظَّف.

فضحك السمسار بملء فكيه وقال: حيف عليك يا خواجا جبور، ما مت، ما رأيت من مات؟ تأمَّلْ بعينيك عيال بأسرها موظفة، تغيرت الأيام … الاستحقاق قبل كل شيء، أنت مستحق، أنت رجل رُبِّيت في بلاد العالم، تعرف كيف تحكم، الغربة مدرسة عظيمة.

فزهي جبور وتنفش كالديك على مزبلته، وتذكر هجرته ورفع رأسه بأبهة الموظف الكبير وقال: «سي، سي سنيور.»

فضحك الرجل غصبًا عنه وقال: هذا قليل عليك، أنت تستحق قائمقامية، نسيت أنك تحكي باللسان الأسبنيولي، الخير قدام إن شاء الله، هَيِّئ المبلغ، بعد ثلاثة أيام تصدر البيلوردي — المرسوم.

والتفت إليه فرأى الشك في وجهه فقال: أريد أن أفهمك بالقلم العريض، فلوسك تصيِّرك رئيس مجلس الإدارة، أفندينا مظفر باشا ينظر إلى الأهلية، أنت مستأهل، أفهمت؟ ادفع ولا تخف، صدِّقني إذا قلت لك إن الوظيفة في أيامنا خير من سفرتين إلى أميركا، من انتخاب شيخين ثلاثة، وتعيين أربعة خمسة مخاتير ورئيس بلدية تحصِّل أكثر من المبلغ، وإذا كنت صاحب بخت وسياسة تحصِّل المبلغ من جناية واحدة … الوظيفة بقرة درتها مثل الجرة، والحلاب القدير مثلك يمسطها.

حسب جبور كلام السمسار تعريضًا بماضيه يوم كان يحلب قطيعًا كاملًا لقاء رغيفين وصحن طبيخ فانقبض، وتابع الوسيط حديثه فقال: إذن الدفع غدًا، أهنِّئك سلفًا يا جبور بك.

فانبسط جبور وقال: ولقب بك أيضًا؟

– نعم إذا زدت المبلغ مئتين.

فقال جبور: أظن ذلك أليق.

– بدون شك، ومع نيشان أحسن وأحسن.

ففكَّر جبور قليلًا وقال: نؤجل النيشان لنعمل فرحة ثانية.

فقال الرجل: «طيب، أوريفوار.» فارتبك جبور، ولكنه تماسك وتذكَّر ما يقال فصاح: «آديوس.» وهز يد الوسيط هزة كادت تخلعها من الكتف.

وكانت ناهيل بمسمع من سيدها جبور، فاغتبطت حتى كادت تطلع من ثيابها، وتخيلت الناس يسألونها قضاء حاجاتهم، ويدسون في يدها الريالات المجيدية، وهي تأبى أولًا ثم ترضى، فصاحت: «آهيك، يحرز دينك يا جبور بك!»

فزأرها البك الطازج قائلًا لها: على مهل يا ناهيل، هس، لا تفسدي الطبخة، لا تقولي فول حتى يدخل المكيول.

فرقصت ناهيل ابتهاجًا وقالت: صارت في العبِّ. وزغردت: «آووها» … فهفَّ إليها جبور وسدَّ بوزها بيده.

٢

كانت مديرية جبيل — على عهد لبنان الدولي — أغلى المديريات مهرًا … لجودة مناخها وَجُودِ أهلها، يدرُّ على مرعاها اللبن، ويسمن مَن يطول له في ضواحيها فيستكمل شحمًا ولحمًا …

وكان المدير في ذلك العهد السعيد أطول باعًا من المحافظ اليوم، يشغل مناصب شتى؛ فهو مستنطق، وقاضٍ، ومدَّعٍ عام، وهو قائد «الضابطية» — الدرك — يقول لضابط المركز اليوزباشي رتبة: رح فيروح، وتعال فيأتي. يأخذ الناس بالظنة إذا شاء، ويجتاحهم كالعاصفة إذا كان قوي الظهر، لا كبير عنده إلا الجمل … يبث الضابطية في القرى للجباية، فيذبحون عنزة هذا وخروف ذاك ودجاجات تلك، وقد يذبحون البقر إذا كانت «الأوامر شديدة»، ويمسِّحون — كما يعبرون — بفروة المدير.

يتولى «عزته» التحقيق في الجرائم حتى الجنايات، وإذا أذنب «شيخ صلح» فهو المحقق، ثم يشرف على انتخاب الخلف، وإذا كرجت الليرات في الساحة ضرب «الصندوقة» بقضيبه السحري فيصير الأبيض أسود، والأخضر أحمر. وخير تعبير عن تلك السلطة الهوجاء قول العامة: كان يقضي ويمضي.

فلا بدع إذن إن تبرَّجت أسكلة جبيل — أورشليم العالم القديم — وازَّينت كالعروس يوم الزفة؛ ففي الساحة العمومية، وعند سيدة البوابة، وأمام مدخل القلعة عُقدت أقواس نصر احتفاءً بقراءة «البيلوردي» — المرسوم — لجبور بك الذي أصاب عصفورين بحجر واحد: البكوية والمديرية …

هبط المدينة شيوخ القرى، والمختارون ومن يحلمون بمشيخة الضيعة أو المختارية … كانت تُوجَّه الدعوات إلى الأعيان فيأتون من كل فجٍّ، وأكثرهم يهنِّئ عزة المدير بالمبلغ المرقوم … احتياطًا … مَن يدري فربما احتاج إلى معونته لينكي جاره أو ابن عمه أو أخاه، فالمشيخة والمختارية والناطور والوقف والمشاع والمقابر والطرقات أَجَلُّ وأعظم خطرًا عندهم من الممرِّ البولوني …

ماجت جبيل بالخلائق، فضاقت الخانات على الخيل والبغال والحمير، لم يكن في ذلك العهد طرقات ولا سيارات، فجاء أكثر المدعوين مساء السبت، ولم يتأخر إلى صباح الأحد غير وفود القرى القريبة.

كان قلب جبور يضرب مائة وما فوق، تعروه لذكرى الموعد اهتزازة العصفور بلَّله القطر، ولا غرو فالوظيفة سيدة المعشوقات … أخذت جبور رجفةٌ سمَّاها «تشة برد»، وكان ينهض كل دقيقة ليعرض «بكويته» الطريئة على المرآة، فيعادل في كل لحظة ميزان شاربيه، جاعلًا القبَّ على العاتق … وأتت الساعة فمشى يختال في أبراده إلى القلعة، والأعيان حوله وحواليه. أخذت سلامه على الدرج شرذمة ضابطية المركز فارتعد، فضحك البعض ضحكات مستورة إلا واحدة أفلتت من فم مدير قديم، فاحمرَّ وجه جبور بك … لم يرد جبور التحية، فأراح الجنود بندقياتهم ضاحكين، وقال جندي عتيق اسمه رجب: راح السلام طعام القرد!

كانت بيارق القرى تتطاول في الهواء، والقوالة يتنافسون في الحداء والهزج و«القول»، وكلمة «يا بيكنا يا عزنا» كانت أحلى «القول» وقعًا في قلب جبور، يتمنى لو ظلوا يرددونه، وجاء وفد يعطعط:

جبور متَّى يا مَلِك
من سطوتك رجَّ الفلك

فازبأرَّ جبور وقال: هذا قول! هذا طق حنك، سكِّتوهم.

وأطل المدير على الناس وعن يمينه ضابط المركز، ومن عن شماله قارئ «البيلوردي»، فقرأ ما كُتِب على الظرف بصوت بين بين: لحضرة صاحب الرفعة جبور بك متَّى مدير ناحية جبيل المحترم.

فامتعض جبور وقال له بنبرة: راجع، قوِّ صوتك.

وأخرج الكاتب البيلوردي من الظرف فاحتدم التصفيق حين لاحت الطغراء الهمايونية، وضج الناس فصاح القارئ: اسمعوا يا بشر. ومدَّ صوته في كلمة «بشر» مدًّا طرب له جبور واهتز، وقال واحد: اسكتوا. وقال ثانٍ: وحوش. فقام عراك بين وفدين من ذوي الحزازات فأخمدته الضابطية إذ صرخ جبور: كيت وكيت من … خذوهم إلى الحبس.

وساد الهدوء، فقرأ الكاتب بصوت جهوري كما يشتهي جبور: «رفعتلو بك محترم دام بقاه.»

فتطاول لها واشرأبَّ، وغمزه ليعيدها فأعادها، وجر «محترم» جرة تمنَّى جبور لو أنها «للبك»، وما تلي التوقيع: «مظفر»، حتى هتفت الضابطية: «بادشاهم جوق ياشا.» فتزعزعت أركان جبور ولا سيما حين رد الجمع: الله ينصره!

وجاء دور الشعراء، فقالوا أبياتًا لا بأس بها، فاغتبط جبور وبان الفرح في وجهه الأسمر وقال في قلبه: تقبر الليرات، ساعة مجد تسوي الدنيا وما فيها. ثم انتخى ودعا الناس إلى الأكل، فاستأنفوا الشراب والهزج.

•••

وظلت أعصاب جبور متوترة، فما ذاق طعم النوم إلا قبل الصبح بقليل، فرأى حلمًا راعه، وكان مسك ختامه خوارًا مثل خوار الثوار، هرولت ناهيل مذعورة فعثرت بالسجادة وتدحرجت، ثم نهضت وهي تقول: مديرية منحوسة، وبكويه أنحس، ما ذقنا حلاوتها بعدُ … وظلت تحبو وتتلمس حتى وقفت عند رأس جبور، فصلَّبت على وجهه وحوطته باسم الصليب المقدس فِعْلَ الأم عند سرير ابنها ساعة الكابوس، وضوأت الغرفة فرأت العرق يتقطر من جلد جبور السمين، وانفتحت عينا البك على ناهيل، فقال لها: لا تخافي يا أختي، حلم بشع، الله يستر.

فصاحت ناهيل: لا تفزع يا بك، الله معنا.

فطرب جبور لسماع كلمة بك منها. أما حرصها جدًّا على أن تخاطبه دائمًا بيا بك، وعلمها كيف تجيب الزوار، فإذا قالوا مثلًا: الخواجا جبور في البيت. فعليها أن تجيب: نعم، البك في البيت. أو: لا، جناب البك في المدينة.

وبعد تنهُّد وشهيق قال جبور: أبصرت في نومي أني على ظهر حصان مثل حصان مار جريس وأعظم. فقالت ناهيل على الفور: الخيل عِزٌّ يا بك!

– وأني في سهل مَدَّ العين والنظر، الحصان يشخر وينخر وأنا ألهث وأطحر حتى وصلنا إلى رأس جبل عالٍ، فامتدَّ قدامنا سهل جديد، ما بلغت آخِره حتى اتصل بسهل آخَر أطول منه، سهول أعرفها من قبلُ، ولكني كنت أتعجب من اتصال بعضها ببعض، وأخيرًا انفتحت هوَّة قدَّامي وانشقت الأرض وبلعتني.

فوجمت ناهيل، ثم تذكرت أن الأحلام تُعبَّر بالمقلوب، فقالت: عشت عمرًا جديدًا …

وطلعت الشمس وانصرف جبور إلى سياسة الرعية … ومرَّت شهور وما خلف الله عليه بشيء، فتذكَّر التجارة في البرازيل، رأى أن تحديد الأسعار مريح، فجعل لكل قضية سعرًا؛ ناطور لا خلاف عليه: هدية لا بأس بها، وإذا كان خلاف فالسعر من خمس ليرات فصاعدًا، والمختار من عشر إلى عشرين، والشيخ من خمسين إلى مائة، والتوقيف في حبس القلعة من خمس وما فوق، تبعًا للمدَّعِي والمدَّعَى عليه، وإحضار وجيه تحت الحفظ من عشرين إلى ما يمكن تحصيله، أما «ملحوظات المدير» فيكون سعرها حسب أهمية الدعوى، وحضور المآتم: المدير وحده خمس ذهبات، وإذا كان معه ضابطية يواكِبون النعش، فلكل نفر ذهب.

وكانت آيته الذهبية: الفصاد على قدر الدم. وكان يضحك من مكاتيب التوصية ويسميها «عملة ورق»، ويقول: جواب الورق ورق مثله …

وحدث حادث مستعجل والكاتب غائب، فأصدر أمره بخط يده فكتب: للفحص عن هذه المسألة … فكتب «الفحص» بلا حاء والمسألة مسلَّة …

وجاء دور الاستثمار والحلب، فبلَّغوا جبور أنه «مهزوز»، أوعزوا إليه بإعداد هدية إلى رئيس أحد الأقلام ليدعمه عند أفندينا، فاشترى خمسين رأسًا من الغنم وساقها راعٍ إلى بعبدا … استغرب الرئيس تلك الهدية الثرثارة وردَّها غاضبًا، فباعها جبور كما أُشير عليه، وحمل ثمنها إلى الرئيس فرحَّب به، واستضحك عند القبض قائلًا: هذي هدية لا «تمعِّق»، وطيَّب خاطر البك الطازج.

وجاءت نوبة حرم أفندينا فعوَّلت على زيارة جبيل للتفرج على آثارها؛ لم تكن الزيارة لأنتيكة جبيل بل لدار المدير، فقد بلغت مسامع عصمتها أخبار ثروته وطرفه النفيسة، فانصرفت من عنده ومعها خاتمه الألماسي، و«المضاليون» — بلغة جبور — والقرط النادر الذي أعدَّه لعروسه، وشبعت «الخانم» من اللآلئ، فحوَّلت وجهها نحو السجاد العجمي فأخذت الكبرى، وطولها سبعة وعرضها خمسة.

حلم جبور بالثروة مع الجاه، فخاب خيبة مرَّة، جمعها حبَّة حبَّة، فكانت للجمل غبَّة، ونفد ماله فأبرق إلى شريكه في «الريو»، فأجابه: «الرايش» هابط … التجارة واقفة … ثورة.

وأطلَّ السمسار بعد أيام يسأل جبور أن «يغطِّي»، فضرب يده إلى أزراره … فضحك السمسار، ثم أفهمه بعد هَدْأَة الضحك ما معنى التغطية في لغة المضاربات، فاعتذر وأراه التلغراف، فانصرف عنه متهدِّدًا.

ونام جبور على مضض فلم يصبح … واستيقظت الأسكلة على صراخ ناهيل وتفجعها، وقال طنوس حين أذاع الجرسُ نَعْيَ جبور إلى الضيعة: أُمَّاه! يسلَم رأسك، جاء خبر جبور؛ صدَّقتِ أنه مال رائح؟

فدقت أمُّ طنوس يدًا بيد، وبُهِتت هُنيهة، ثم استأنفت شغلها …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤