موعظة القيامة

خرج الخوري يوحنا عبود من الاحتفال بدفن المسيح يوم الجمعة، وصدره يكاد ينشقُّ من الحزن، وفي غضون وجهه بقية دمع لم تجفَّ بعدُ، مشى يتعكَّز على عصا سنديانية معقوفة المقبض، يجرُّ أذيال جبَّته الزرقاء وعلى رأسه قاووق الخوري الماروني العتيق الذي لم يرضَ به بديلًا طول العمر.

كاهن شيخ خدم المذبح ٦٥ عامًا، تمثلت له مأساة سيده الشاب عند مغيب شمس العمر، حتى خال أنه يراها بعينه في أورشليم سنة ٣٣ مسيحية، انفطر قلبه التياعًا فكان يحسب كل زهرة تُلقَى على الصليب الدفين من أيدي المؤمنين حربة مسمومة، وأمست كل كلمة يسمعها من «السنكسار» عن آلام الابن الوحيد ومهانته تهيج شجونه، فكَمْ صرف بأنيابه حنقًا على قيافا ويوحنان، وكَمْ آلَمَه تذبذُب بيلاطس البُنْطي، ويا لفجيعته إذ رأى السيد — وحده — بين الكهنة ورؤساء الكهنة والكَتَبَة وأذنابهم يبصقون بوجهه ويلطمونه، وتلاميذه تركوه وخذلوه، تمنَّى لو أنه كان في ذلك الزمان فينصره ويموت معه شهيدًا، فيرث الملكوت بأقرب وسيلة وأضمنها.

هكذا كان الخوري عندما برح الهيكل، كان يسير في طريق بيته منكس الرأس، مكسور الخاطر كأنه قبر أحد بنيه، وسارت رعيته خلفه صامتين كأنهم عائدون من مأتم شاب في ميعة العمر، ولا غرابة فكلهم مسيحيون تغلغل اليقين في قلوبهم حتى الصميم.

بلغ الخوري بيته وليس وراءه غير بنيه ثلاثتهم، لأَن الناس ارفضُّوا عنه شيئًا فشيئًا، فالوقت الظهر وكلهم صائمون، وبيت الخوري في رأس الضيعة. أفطر الخوري وأولاده، وودَّع الطبق إلى صباح الأحد، تلك كانت عادته في مثل ذاك اليوم كل عام، يطوي هذين اليومين زهدًا وإماتة نفس ابتغاء النعمة والأجر.

تغدَّى وعاد إلى الكنيسة ليزور قبر الفادي ويتَّعظ بفاجعة ابن الإنسان ويتألَّم لآلامه، ويشبع مجاعته الروحية قبل الرحيل، متزوِّدًا لآخِرته ما يشفع به عند الله. كان يُصلي لأَجل رعيته، ويُحاسب نفسه قبل أن يأتي السارق، ويمحو بدموع التوبة كل لطخة في كتاب أعماله قبل عرضه على ربه في الدينونة الخاصة حين يقف بين يديه حافيًا عريانَ، والموعد قريب، فالخوري يوحنا ابن ثمانٍ وثمانين وإن كان بعدُ ذا همَّة.

صرف عصارى الجمعة في الكنيسة، طورًا يُصلي جاثيًا، وتارة يقرأ متأملًا في كتاب «مرشد الخاطئ»، وحينًا في كتاب «مرشد الكاهن»، ويتبحَّر في شرح بلرمينوس للعقائد المسيحية، ثم ينتقل إلى منبر التوبة يسمع اعترافات المؤمنين والمؤمنات.

ولما غابت الشمس قرع الجرس حزنًا، ولِمَ لا، فالمسيح مات، ثم أَسرج قنديلًا وفتَّش عن صلاة المساء في «الحاش» وقلَّب صفحات السنكسار و«الريش قريان» والأناجيل والإفراميات حتى إذا عثر على الفصول الخاصة بتلك الليلة الرهيبة طوى الكتب ووضعها ناحية، وجاء دور السجدات فنيَّف عدد ركعاته على المائة.

ولما اجتمع الشعب قامت الصلاة، فمنح رعيته البركة في آخِرها وأوصاهم جميعًا أن ينقُّوا ضمائرهم، ويستعدوا لملاقاة الختن السماوي بمصابيح العذارى الحكيمات المملوءة بزيت التقوى المنبثق منها نور الإيمان وحرارة الندامة والرجاء وأشعة المحبة المسيحية الصادقة.

وعاد الناس إلى بيوتهم وظلَّ الخوري يوحنا يصلي عند القبر، يَطِيب له الرنين ويلذُّ له النُّواح الروحي المرسَل من صدرٍ عامر بالإيمان، ومن نفس قانتة ألبسها الله ثوب ندامة لم يلبس داود إِبَّان توبته أجمل منه وأبهى.

وكان يجثو بالقرب منه شقيقه الخوري موسى الضرير، يصلي ويسمع ما يقرأ عليه أخوه، وكان الخوري موسى رقيق القلب تفيض دموعه بغزارة لأقل كلمة تلامس شعوره الديني.

وقبل منتصف الليل أثلث الكهنة، انضم إليهم أخوهم بالمسيح الخوري يوحنا الحداد الذي قام برتبة دفن المسيح في مزرعة مجاورة لا خوري لها، هذا الكاهن طيب القلب اشتهر بالصراحة البريئة من الغمز واللمز، تزيِّنه السلامة المسيحية النقية، فاشترك الآباء الثلاثة في صلاة الليل وحضرها نفر من الشيوخ المتهجدين، وبعد ختام الصلاة ولَّى الكَهنة الثلاثة وجوههم نحو القبر وأخذوا يقومون ويخرُّون ساجدين إلى الأذقان أمام الضريح حتى بان التعب فيهم.

مشهد رائع: بضعة شيوخ أصغرهم ابن خمس وسبعين يقومون بهذه النافلة الدينية الشاقة، والكهنة الشباب يغطون في مضاجعهم الناعمة.

ثم ودَّعوا القبر بلثم الغطاء بعد أنْ ملئوا السرج زيتًا.

•••

كان نوم الخوري يوحنا عبود تلك الليلة متقطعًا، ينتفض بين آونة وأُخرى، واستيقظ فجر السبت على صياح الديك فتذكر جحود بطرس فتألَّم، وسار إلى الكنيسة مارًّا بأخويه الكاهنين، ومشَوْا معًا إِلى الهيكل بخُطَى الشيوخ ليقيموا صلاة الصبح والذبيحة الإلهية، وبعد إتمام واجباتهم الدينية خرجوا ثلاثتهم وجلسوا ضحى ذلك اليوم الضاحك تحت سنديانة الكنيسة، قرءوا فصلًا من كتاب «الاقتداء بالمسيح» وتذاكروا بعد تلاوته شئون القرية.

فتنهد الخوري يوحنا عبود، وتأفَّف الخوري موسى، وتنحنح الخوري يوحنا صادق، وكان حديث …

قال الخوري يوحنا عبود: خطيئتنا — نحن الكهنة — كبيرة جدًّا، ولولا ذلك ما تخلَّى ربنا عنَّا وعجزنا عن التوفيق بين أقاربنا، الخلاف خرَّب الضيعة، والشر الكبير قدامنا.

فقال الخوري موسى بنبرةٍ: أوف، أوف، ضيعة شيطانها كبير.

فأجاب الخوري يوحنا صادق: يا معلمي خوري حنا، كل الحق علينا نحن الخوارنة، يا خوري موسى، شيطاننا نحن أكبر من شيطان الضيعة؛ لو كان فينا روح الله طردناه باسم الصليب، وانطفأ خبره.

فأطرق الخوري يوحنا عبود قليلًا وأجاب: الحق معك يا أخي الخوري، ينقصنا كثير من التقوى، لو كنا كما يجب ما عجز المرسل البطريركي عن مصالحة أولاد رعيتنا.

فاحتدَّ الخوري يوحنا صادق وقال: يا معلمي، الحكيم الغريب لا يعرف المرض البلدي، نحن وحدنا نعرف كيف نطبِّب مرضانا، صدِّقني قلت لك لا تهز برأسك.

فهز الخوري موسى رأسه كعادته أيضًا وقال: مليح، هات يدك يا خوري حنا.

فلم تُعْجِبِ الخوري يوحنا صادق لهجةُ الخوري موسى فردَّد: هات يدك يا خوري حنا، يا خوري موسى، يد واحدة لا تصفِّق، المسألة بسيطة جدًّا، اسمعوا: أنا أبو ثلاثة، وأنت يا خوري موسى أبو ثلاثة، ومعلمي خوري حنا أبو ثلاثة، وعم ثلاثة، وجدُّ أربعة، وخال اثنين، «منو» بعيد عنك يا معلمي، ابني صهرك، وابن حنا بشارة صهرك، و«بو أَسعد» صهري وابن عمك، مَن بقي؟ هذي الضيعة يا خوري موسى، لو تجردنا نحن الخوارنة عن الغايات، وحتمنا على أولادنا وأحفادنا وأقاربنا انفضَّ المشكل وارتاحت عين كفاع.

فنظر الكهنة إِلى بعضهم مبهوتين كمَن حاول طويلًا حلَّ عقدة وإذا بها تنفرج بين يديه فجأة، لم يفوهوا بكلمة بعد هذا، ودخلوا الكنيسة ثلاثتهم وصلَّوا صلاة المساء ورتبة الغفران، ثم انصرفوا إلى بيوتهم، إلا الخوري يوحنا عبود فظل في ساحة الكنيسة يتمشَّى ذهابًا وإيابًا وله من نفسه رفيق يحدِّثه ويُناجيه … ودخل الهيكل بعد ذلك فخلع عن المذبح ثوب الحداد وزيَّنه لاستقبال العريس الذي غلب الموت بالموت، ووهب الحياة لمَن في القبور.

•••

وقضى الخوري يوحنا عبود ليلة السبت في الكنيسة يعرِّف ويصلي منتظرًا ساعة القيامة ليبتهج بالرب، وركع طويلًا أمام القبر يسأل الفادي النعمة للضيعة وللمؤمنين بالمسيح جميعًا، وكانت ليلة حزنه تنجلي كلما اقترب نصف الليل، كنتَ ترى وجهه يشرق رويدًا رويدًا كجبال لبنان عند دُنُوِّ طلوع القمر.

وأَزفت الساعة فهبَّ الخوري يقرع الجرس كأنه ابن عشرين، وتوارد الناس على الهيكل بيوتًا بيوتًا، كبارًا وصغارًا، فامتلأ الهيكل بمصابيحهم وفاض نورًا، وكلهم بألبسة العيد.

واشترك الكهنة الثلاثة في إقامة الذبيحة الإلهية بوجوه تفيض بشرًا، كأن هناك قيامة حقيقة وظفرًا واقعيًّا، ويا لغبطة الخوري عندما هتف بصوته الجهوري الذي ملأت اهتزازاته حنية المذبح خشوعًا ورهبة:

الْمَسِيحُ حَقًّا قَام
فَافْرَحُوا أَيُّهَا الْأَنَام

وردَّ عليه الشعب:

مَرْيَمُ كُفِّي الْبكَا
الْمَسِيحُ حَقًّا قَام

وأقام الكهنة مخلِّصهم من قبره بحسب المراسيم البيعية المارونية، وطافوا بالصليب والزهور في الكنيسة ثلاثًا، وفي أيدي الناس الشموع المضاءة، وبعد انتهاء الطواف وُزِّعَتِ الأزهار المباركة على الشعب، ثم استأنف الكهنة رتبة القداس الاحتفالي.

وشاء الخوري يوحنا عبود أن يُلقِي موعظة بمناسبة القيامة، فأطبق الإنجيل بعدما تلاه ووضعه في مكانه من عن يمين المذبح، والتفت إلى الشعب فجلسوا جميعًا بين يديه وسكتت الكنيسة، فقال:

يا إخوتي المباركين!

القيامة رمز للحياة الجديدة، فسيدُنَا يسوع المسيح له المجد قال: إن حبة الحنطة إن لم تَمُتْ لا تَعِشْ، وكذلك نحن إذا ما مِتْنَا مع الفادي وقُمْنَا بقيامته، فلا حياة لنا في ذواتنا، إن موت النفوس بالندامة مثل النار التي تنقِّي القلوب وتصيِّرها صافية نقية كالفضة الروباص.

ليست القيامة بالتخلُّص من الصوم والقطاعة والتقشف، وليست القيامة أكل بيض ولحم، بل القيامة أن تخرج من الصوم المقدَّس كأَنك جديد روحًا وجسمًا.

العيد أن يحاسِب الرعاة كبارًا وصغارًا — من الشمَّاس إلى البطرك — ضمائرهم على إهمالهم وتقصيرهم في سياسة الأوقاف والأيتام والقاصرين والقاصرات والأرامل، وأن يسعَوْا دائمًا وراء نمو الأُلفة المسيحية في الطائفة، وأن يسهروا على أعمالنا نحن الكهنة في الضياع، وينصفوا المظلومين منَّا ومنهم. أنا متأكد يا إخوتي أن أجسادكم نقَّاها الصوم والانقطاع عن «الزفر»، ولكن من يؤكد لي أن نفوسكم تجدَّدت بالمسيح وتقوَّت بنعمته؟

إن الرُّكَبَ المتخلِّعة لا يشددها إلا الإيمان، ولا يتعلم التضحية والمحبة الحقيقة إلا من حضر آلام السيد المسيح وموته يوم الجمعة العظيمة، فهل استفدتُم شيئًا من صلب المسيح وموته؟ لم يَمُتْ المسيح يا أولادي ألفًا وتسعمائة مرة، المسيح مات وقام مرة واحدة فقط، وهو جالس الآن عن يمين أبيه السماوي، نحن نحتفل بتذكار موته وقيامته كل سنة لِئَلَّا ننسى آخِر درس علَّمَنا إياه مَن على الصليب: «يا أبتاه، اغفر لهم.» أعرفتم لمَن غفر؟ غفر لصالبيه، فهل غفرتم أنتم لمَن أساء إليكم من أقربائكم؟ ألستم كما كنتم حزبين؟ فأين مسيحيتُكُم يا أولادي؟

إن الثياب الوسخة تُقلع وتُغسل كل جمعة، فلماذا لا تقلعون ثيابكم الوسخة؟ يكْفِي لبسها ثلاث أَربع سنين، اقلعوها يا أولادي، أبدلوها بثوب القيامة الأبيض النقي.

إن القِدر القذرة لا تشتهي النفسُ طعامَها، بيِّضوا قدوركم لتُقبِل نفوسُكم على الطعام الذي تطبخون، نحن حاضرون غب الطلب.

إن ما تقدِّمونه لله بأيدٍ وسخة يسد أنفه إذا رآه، ويحوِّل وجهه عنكم إذا تقدمتم إليه، فلماذا لا تغسلون أيديكم ووجوهكم لتقابلوا ربكم أطهارًا أنقياء؟ إن الماء لا ثَمَنَ له، فاقتربوا من الماء الحي تتطهروا وتنظفوا، إن دمعة واحدة تمحو ألف خطيَّة.

لا تتعجبوا يا إخوتي، إذا كلمتكم بهذا بلساني ولسان أخويَّ المشتركين بهذه «التقدِمة» التي قدمناها لأجلكم، فنحن مسئولون عنكم كأناس يؤدُّون حسابكم كما قال بولس الرسول.

وإلَّا فما معنى الوزنات الخمس في الإنجيل الطاهر؟ أنتم الوزنات الخمس، فالمسيح لم يكن تاجرًا، ونحن العبيد الذين ائتُمِنوا عليها، فإنْ ربحنا دخلنا فرح سيدنا، وإنْ دفنَّا فضته يقول لنا: أخرجوا العبد البطَّال إلى الظلمة البرَّانيَّة حيث يكون البكاء وصريف الأسنان.

وإذا أحد أوَّل وفسَّر لكم غير هذا التأويل والتفسير فهو دجَّال يكذب على المسيح وكنيسته، لا تصدقوا الذين يتفلسفون على ربهم ليحلِّلوا الربا والتجارة لأنفسهم، فهؤلاء عبيد المال وربُّنا قال: «لا يمكنكم أن تعبدوا ربَّين اللهَ والمالَ.» إن هؤلاء الناس آلهتهم بطونهم كما قال مار بولس، لا يهتمون إلا للغد، ناسين كلام ربهم ومخلِّصهم.

نحن رجال الدين متجرنا في النفوس، مخازننا كنائسنا، والأسواق والدكاكين محرَّمة علينا، نحن يجري علينا ما قال ربُّنا لآدم أبينا الأول: «بعَرَق جبينك تأكل خبزك.» نحن لا يحل لنا الكسب من الأكياس بل من خيرات الأرض أمِّنَا، فأنا أفلح وأزرع مثلكم، ومتى وضعت يدي على المحراث لا ألتفت ورائي، بل أنبسط إلى ما قدامي كما قال رسول الأمم، ومتى أويت إلى بيتي لا أفكر إلا بخيركم الروحي، ونحن وأنتم بألف خير، نشكره تعالى.

أنتم التجارة التي حلَّت لنا، وواجباتنا أن نعمل ونعلِّم حتى ندخل ملكوت السماوات، فليس كل مَن يقول يا رب يا رب يدخل ملكُوت السماوات، بل مَن يعمل إرادة أبي الذي في السماوات، هكذا قال فادينا له المجد.

قال لنا الرب يسوع: أَنتم نور العالم، فيا ويلنا إذا كان النور الذي فينا ظلامًا، يا ويلنا إذا لم نكُن مثلًا صالحًا لرعيتنا، فالابن يتبع أباه، والتلميذ معلمه، والمسيحي خوريَّه، والخوري مطرانه وبطركه، ومَن لا يعمل بما يعلِّم لا تُسمَع كلمته، أَما الحجة التي يلتجئ إليها المؤمنون إذا رأوا شكوكًا في سيرتنا — نحن الكهنة والرؤساء — فيقولون: اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم. هذا خلط، المَثَل الصالح مطلوب منَّا قبل كل شيء آخَر، فالمسيح قال: «الويل للعالم من الشكوك، والويل لمن تأتي على يده الشكوك.» ولو يرضى أن نكون كالكتبة والفريسيين والعشَّارين ما غير الناموس، وما قال لنا: «أنتم مِلح الأرض، فإن فسد الملح فبماذا يملَّح؟»

لا تتبعوا القادة العميان الذين يعفون عن البرغشة ويبلعون الجمل …

نحن السراج الذي لا يُوضَع تحت مكيال، بل على منارة ليشاهد الذين في البيت نوره، فيا ويلنا إذا كانت زجاجتنا مسودَّةً بالخطايا والذنوب وسوء السيرة.

أنا أعظكم وأعلم أني خاطئ مثلكم، فالكمال لله يا أبنائي، ولكني أغسل نفسي دائمًا بعمودية الاعتراف والندامة والتوبة لأصلح مرآة لكم، وإلى الاعتراف والندامة والتوبة دعوتكم وأدعوكم ما عِشْتُ، فاقتربوا من مائدة الخلاص تشبعوا وتملئوا عيونكم من خيرات السماء والأرض، والقلب يضحك لكم.

من يعتقد منكم يا أولادي أن يدي ملوَّثة فلا يقبِّلْها، هكذا يُصلِحُ الشعب رؤساءه، إن اليد الوسخة لا تستحقُّ أن تُلمَس فكَيف بالتقبيل، والراعي الذي يبغض غنمه يستحق لعنة الذئاب، نجنا يا رب. والأب الذي يكره أن يكون الفرح عند بنيه شيطانٌ هو، رُدَّ عنا غضبك يا الله.

فأروني يا إخوتي الأَحِبَّاء أن نعمة ربنا يسوع المسيح حلَّت فيكم، أصلِحوا كل خلل بينكم لتقوموا مع المسيح وتستحقوا فرح القيامة، اتركوا النكايات والكيد لبعضكم، اغفروا للناس زلَّاتهم ليغفر لكم أبوكم السماوي زلَّاتكم؛ بهذا تعيشون بغناء عن أبواب الرؤساء والزعماء والمقرَّبين من الحكومة الذين يحملونكم مكاتيبهم للحكام ليساعدوا هذا على ذاك، ويخربوا بيوتكم، السلام المسيحي يُغنِيكُم عن البشر كلهم، كونوا مسيحيين.

وأنا الذي صرت على حافة قبري، ربما أغمض في هذا العام عيني لأَفتحهما على عرش الدَّيَّان الرهيب، فماذا أَقول لك يا يسوعنا الحبيب إذا سألتني: كيف تركت رعيتك أهالي عين كفاع؟

هنالك لا كذب يا أولادي، أقول له تركتهم حزبين يلعب بينهم الغزال … هذا من حزب بولس، وهذاك من حزب أفلو، وفي الحزبين أولادي وأبناء أخي وبنو أختي وأحفادي وأصهاري وأقربائي، يا خيبتي! أقول له: تركت البغض في القلوب يحرق الأخضر واليابس وما قدرت أن أصالحهم، يا خجلتي منك يا يسوع! أقول له: تركت الضيعة قائمة قاعدة، والشيطان معشِّش فيها، دق رزة واستبرك، يا ويلتي من تلك الساعة! فأستحلفكم يا أولادي بجراحات وآلام سيدنا يسوع أن لا تبعثوني إلى الدينونة بهذه الخيبة.

وأنتم يا إخوتي الشيوخ، ماذا تحملون إلى القبر؟ فكِّروا في هذه الكلمة وكونوا قدوة لأبنائكم، تذكروا كلمة الرب يسوع: «من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فخلِّ له رداءك أيضًا.»

فإلى التسامح والغفران أيها الأبناء الأعزاء، إذا شئتم أن تقوموا مع المسيح وتتجددوا بروحه، اغفروا لي يا إخوتي جميع ما أخطأت به إليكم بالفكر والقول والفعل، شمسي صارت على الغياب، سامحوني وتَذَكَّرُونِي في العام المقبل وصلُّوا لأجلي.

وأخيرًا أسأل الله الذي جمعنا في هذه الدنيا ألَّا يفرِّقنا في الآخرة، بشفاعة القديس روحانا صاحب المقام، والقديسَيْن العظيمَيْن مار مارون ومار يوحنا مارون، والرسولَيْن الطاهرَيْن بطرس وبولس، فَلْتحُلَّ عليكم نعمة الثالوث الأقدس الأب والابن والروح القدس، آمين والسلام لجميعكم.

واستأنف الكهنة الذبيحة الإلهية، فصاح الشمامسة منشِدِين نشيد القيامة: سلامًا سلامًا للقريبين مع البعيدين … إلخ.

وبعد أن بخَّر الكاهن الشعب غسل يديه، ولم يستطع أن يضبط لسانه، فالتفت إلى الشعب ثانية وقال: أكثركم يرى الخوري يغسل يديه في القدَّاس ولا يعرف معنى ذلك، هذا يا أولادي، إشارة إلى عمل بيلاطس البنطي عندما سَلَّم المسيح إلى قيافا وزمرته، غسل ذلك الظالم يديه وقال: «أنا بريء من دم هذا الصِّدِّيق.»

أنا يا إخوتي لا أقول ذلك، بل أقول بالعكس، أقول ما قاله النبي داود: «امْحُ يا رب ذنوبهم وخطاياهم، انضحهم بالزوفى فيطهروا، اغسلهم فيبيضوا أكثر من الثلج، قلبًا نقيًّا اخلقْ فيهم يا الله، وروحًا مستقيمًا جَدِّدْ في داخلهم.»

وولَّى وجهه صوب المذبح ومضى في عمله، فصاح الشماس عند أخذ «السلام» من يد الكاهن: ليُعْطِ كل واحد قريبه السلام بمحبة وأمانة ترضي الله، هَلُمَّ بالسلام يا أبانا الكاهن النقي.

فَعَلَتِ الضجَّةُ في الكنيسة، فظنَّ الكهنة أنْ قد علق الشر، التفتوا فوقعت أعينهم على مشهد لم يسبق له نظير في التاريخ الكنسي، أهل القرية يتصافحون ويتسالمون في صحن الهيكل، كلٌّ يفتِّش عن خصمه ليعطيه السلام ويصافحه ويُقبِّلَه.

فرفع الكاهنان أيديهما وباركا الشعب.

واضطرب الخوري موسى لأَنه أعمى لا يرى ما وقع، فصاح به الخوري يوحنا صادق: بارِكْ يا خوري موسى، دَعَسْنَا الشيطان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤