البُستاني

كان وما زال حلمي الوردي أن أستقر بعد المعاش في بيت ذي حديقة صغيرة، وأن أُكرس بقية العمر لفِلاحة الأزهار والبساتين. ومن أجل تحقيق هذا الحلم رسمت لنفسي خطة طويلة الأمد؛ أن أبذل في عملي أقصى ما أملك من جهد؛ كي أرقى في سُلمه إلى درجة تضمن لي معاشًا محترمًا، وأن أسيطر على سلوكي ونظام معيشتي؛ كي أدخر من مرتبي ما ييسر لي بناء البيت المنشود بعد انضمامي إلى إحدى الجمعيات التعاونية، وأن أدرس دراسة متأنية فِلاحة الأزهار والبساتين. ولو أن الخطة نُفذت في كتمان وحكمة ما تعرضت لقيل أو قال، ولكنني كنت وما زلت من الآدميين الذين لا يخفون أسرار أحلامهم، فعرف جميع الصحاب حلمي الوردي وما أُعد له، وعلم به آخرون، حتى عُرِفت على مر الأيام، وعلى سبيل المزاح، بالبستاني. وجرت المقادير في مجاريها غير عابئة بحلمي الأثير، فتعرض العالَم لويلات من الحروب والأزمات، فمضت الأسعار في ارتفاع، وقِيَم النقود في الهبوط، ولم تتحقق وفرة بلا حساب إلا فيما أنتجت من بنين وبنات. والأدهى من ذلك كله أني لم أحظَ برئيس ينتفع بمواهبي، فيرشحني لدى حلول الفرصة للترقية. وكنت أقول بصوتٍ باتَت الشكوى سمة غالبة على نبرته: يا سادة، ألا يلقَى عملي المتواصل عندكم شيئًا من الجزاء؟

ولما لا أجد أُذنًا صاغية أقول: وإذا عزَّ العدل أفلا يوجد شيء من الرحمة؟

فيقول لي رئيسي: انتبه لواقعك يا بستاني، أين الإنتاج الذي تحدِّث عنه؟ ما أنت إلا مستخدَم عادي دون المستوى المطلوب.

فأقول مستميتًا في الدفاع: ولكني مجتهد، ولكل مجتهد نصيب.

فيضحك قائلًا: لم يعد العصر يحفل بالأمثال القديمة، اليوم نحن نربط الحوافز بالإنتاج.

وجعلت أغوص في الحيرة والظلام. أقلعت عن ذكر حلمي الوردي، ولكنه ظل فرجتي وحلم يقظتي. وكلما لمحت لونًا أخضر تراءت لخيالي الحديقة، فتنقلت بين ورودها وأزهارها، مُلقيًا خبرتي في خدمتها، متلقيًا منها مسرات الأريج والألوان. غير أن زوجتي لم يكن يشغلها إلا مستحقَّات البقَّال والجزَّار والدروس الخصوصية، ولا تكف عن تذكيري. وعانيت أمر تحمُّل الأعباء ومرارة الإخفاق، حتى رقَّ لي رفقاء الطريق من زملائي الخائبين، فهمس في أذني أحدهم: كيف تحتمل الحياة بلا ابتسامة؟

فسألته: خبرني كيف يروق لك الابتسام؟

فهمس بإغراء: عليك بخمارة «خذ واشكر».

كان في غاية الوقار والتعاسة، فعجبت لشأنه، وقلت بفتور: كيف تدعوني إلى مزيد من الإنفاق؟!

فضحك قائلًا: معاذ الله! هل يعزُّ عليك ادخار قرش واحد، ولو بالرجوع مشيًا على الأقدام مرة؟

تكلَّمَ بثقة ويقين، فقلت أجرب، وهكذا اهتديت إلى خمارة «خذ واشكر»، في عطفتها الأثرية «زاوية العابدين» بالباب الأخضر. وهي أشبه بمغارة في جوف جبل، تعيش في ليل دائم يغوص في عمق المبنى الضيق المُهلهل التي تقع في أسفله، يفضي إليها باب مقوَّس الهامة ولا نافذة فيها، ذات شكل بيضاوي، وفي نهاية عمقها يقوم برميل ضخم ذو صنبور سفلي، يجلس إلى جانبه على أريكة عجوز يُدعى عبد البر، وتصطفُّ على جناحيها أخْوِنَة خشبية ومقاعد من القش المجدول. ويُقدَّم الشراب في كوب صغير مضلع لا يملأ عين الظامئ، وهو شراب مجهول الهوية لا يَعرف كنهه حتى الراسخون في السُّكْر والعربدة. وسرعان ما تبين لي أن قلة من رواد الخمارة من يستطيعون تجرُّعَ الكوب حتى ثمالته، وكثرة تقنع بنصفه لشدَّة مفعوله، وبقاء أثره حتى الفجر. وما كدتُ أرشف منه رشفات، حتى أكرمني غاية الكرم، فاغتال بنفثاته الزاحفة وُحوشَ الهموم التي تطاردني ليل نهار، وأحل محلها الأُنس والرضا والبشاشة. ووجدتني وسط الحديقة أغرس جذورًا جديدة، وأقطف أزهارًا يانعة. ومال صاحبي نحوي قائلًا: هلم نناقش همومنا الملحَّة.

فقلت محتجًّا: أريد الحديث عن الورود وأنواعها.

فقال ضاحكًا: ها قد وصلت إلى الحديقة.

فسألته: ألا تسمع تغريد البلابل؟

واندفعنا نُغني معًا:

الزهر في الروض ابتسم.

وكانت تقاليد الخمارة ترحب بالغناء. ومن كلِّ ركن ترامت أغنية مشرقة، وجلس عبد البر، بلا حراك وهو يبتسم.

•••

وحرصت على كتمان السر ما وسِعَني ذلك، غير أن الخمر ذات رائحة ناطقة من المتعذر إخفاؤها إلى الأبد، من أجل ذلك افتُضح أمري، وتلقيت فيضًا من اللوم والتعنيف، وكانت زوجتي أول البادئين، فقالت لي: أكان ينقصنا هذا الداء؟

فقلت لها بصدق: إني أؤدي ثمنه مشيًا على الأقدام، ولم يمس الميزانية بسوء.

فتساءلتْ: والأولاد الذين يكبرون يومًا بعد يوم؟

فقلت بضيق: ربنا يستر.

ولكن السر انتشر في أماكن كثيرة، تعدى من لسان إلى لسان، فدعاني بالكاساتي مَن سبق أن أطلقوا عليَّ البستاني. وتجلى أثر ذلك في موسم الترقيات، فقال لي رئيسي متهكمًا: كنت ذا هم واحد فأصبحت ذا همين.

فقلت محتدًّا: يا أهل العدل والإنصاف، احكموا على عملي، ولا شأن لكم بسلوكي خارج الديوان.

فقال الرجل بامتعاض: ولكن الثقة لا تُفرق بين هذا وذاك.

فقلت محتدًّا أكثر: المسألة أنني بلا شفيع!

•••

واستجاب القدر لشكاتي الخفية فجاد عليَّ بالشفيع المنشود. كنت في خمارة «خذ واشكر» على أحسن حال. وحكيت لصاحبي حالي بيني وبين رئيسي، وأنا مغمض العينين فقال لي: سيكون لك الشفيع الذي تريد.

فالتفتُّ إليه متسائلًا، ولكنه كان قد اختفى تمامًا، وحل محله آخر لم أرَه من قبل. كان يرتدي عباءة من كتان أبيض ذات ذيل من جلد النمر وعلى رأسه عمامة خضراء. عجبت بهيئة وجهه التي تُذكِّر بوجه الأسد، رغم ميل جسده إلى القِصَر. وسألته بدهشة: من أنت؟ .. وأين جليسي؟

فأجاب بهدوء مُفعَم بالثقة: إني شفيعك.

ولم يداخلني شك في صدقه أو قدرته، وتلقَّيت ذلك فيما يشبه الإلهام الذي لا يُناقَش. من أجل ذلك قمت وأنا أقول: خير البر عاجله.

واصطحبته إلى بيت رئيسي في الزيتون، في تلك الساعة المتأخرة من الليل. وطرقت الباب بشجاعة لا أدري من أين مأتاها، ففتح الباب بنفسه، ونظر إليَّ بذهول واستياء لم يحاول إخفاءه. وجلس قبالتنا في حجرة الاستقبال متجهم الوجه، فقلت: معذرة عن زيارة في وقت غير مناسب.

فقال دون مجاملة: هذه الساعة من الليل!

فأومأت إلى رفيقي وقلت: أقدم لسيادتك شفيعي.

فلم يحول بصره عني، وقرأت في ناظريه توجسًا وقلقًا، فالتفتُّ إلى صاحبي، وقلت برجاء: تكلم يا سيدي.

فقال الشفيع بهدوئه المكين: إنه يستحق الترقية لدرجة جديدة في طريقه الطويل!

فنظرت إلى رئيسي، وهو غائص في روبه البني القاتم، فإذا به يتمادى في القلق والخوف. وأشفقت من إحراجه فنهضت قائمًا، وأنا أقول: موعدنا الغد يا سيادة الرئيس.

•••

وجاءت ثمرة الشفاعة بعكس ما قدَّرت؛ فقد تقرر إحالتي على المعاش قبل بلوغي السن القانونية بخمسة أعوام. ولم تُجْدِ الشكاوى المتلاحقة التي رفعتها إلى الجهات المختصَّة. وساء مركزي في أسرتي وفي الأماكن الأخرى. وكاد بناء أسرتي أن ينهار لولا سعيُ أهل الخير لإلحاقي بأعمال إضافية، فعملت مُصححًا بمطبعة السعادة، وكاتبًا على الآلة الكاتبة بالقطعة في مكتب توكيل. وبات حلم امتلاك البيت والحديقة خرافة، ولكني لم أكفَّ عن ممارسة أحلام اليقظة في خمارة «خذ واشكر». وجعلت أقول لصاحبي: كأنما جاء الشفيع ليخرب بيتي.

فقال الرجل: ولكن حالتك اليوم أحسن مما كانت، وأنت في الخدمة.

فقلت متشكِّيًا: ولكني أعمل كالثور في الساقية.

فقال باسمًا: الصبر مفتاح الفرج.

فقلت بحنَق: وددت لو يجيء مرة أخرى لأسأله.

فقال ساخرًا: خلِّها على الله، بلا مناقشة ولا وجع دماغ.

•••

وبلغتْ دراستي لفِلاحة الأزهار والبساتين غاية يُعتدُّ بها، فسنحت لي فكرة مثيرة، وهي أن أستثمر معلوماتي متطوعًا بلا أجر. ألا يجعل ذلك من الحلم حقيقة؟ ومن المستحيل ممكنًا؟ إن الحدائق الخاصة في حيِّنا متوفرة بكثرة تفوق الحصر، وإذا عَرضت على أصحابها خدماتي؛ فلن يرفضوها ولو على سبيل مجاملة الجار. بذلك لا يُهدر عنائي الطويل المتواصل، ولا يتلاشى سروري في الحياة. وها أنا أمضي البقية الباقية من حياتي في الخضرة بين الأزهار دون حاجة إلى تدبير أو شراء أو بناء، وكأنني أملك بدَل الحديقة الواحدة عشرًا.

هكذا حققت حلمي متجاوزًا كافة عقبات الطريق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤